وضع داكن
18-04-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 22 - توجيه المربون للتائبين.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 أيها الأخوة المستمعون ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم في مستهل حلقة جديدة من برنامج : "منهج التائبين" ، أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي معنا ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ، افترقنا أمس عبر الأثير ، ووعدنا الأخوة المستمعين أن نتناول موضوعاً آخر في منهج التائبين ، وأخلاق التائبين ، ألا وهو كيفية التعامل مع الأبناء في منهج التوبة ، كيف نأمرهم بالتزام منهج الله سبحانه وتعالى ؟ بأي طريقة ؟ كيف ننصحهم ونوجههم لترك المعاصي ؟

الاتصال بالله يملأ القلب رحمة وليناً :

الدكتور راتب :
 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 لابد من أن ننطلق من آية محكمة في القرآن الكريم من أجل هذا الموضوع ، قال تعالى :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[ سورة آل عمران: 159 ]

 هذه الآية تكاد أن تكون معادلةً رياضية ، أي يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك كنت ليناً لهم ، فلما لنت لهم التفوا من حولك ، وأحبوك ، ولو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوةً، ولانعكست القسوة غلظةً وفظاظةً ، فانفضوا عنك ، وكأن المعادلة اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض .
 هذا الكلام موجه لكل أب ، ولكل معلم ، ولكل مرشد ، ولكل داعية ، ولكل قائد ، ولكل من يعمل وتحت إمرته أناس كثر ، حينما يتصل العبد بربه يمتلئ القلب رحمةً على من حوله ، قال تعالى :

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾

[ سورة الأنبياء: 107]

 فإذا رحمهم كان ليناً معهم ، انعكست الرحمة ليناً ، يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم ، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها ، أنا لا أفهم موعظةً لا يسبقها إحسان ، لأن الإحسان قبل البيان ، لا يستطيع الأب الذي أهمل ابنه ، لم يؤدِ ما عليه تجاهه ، لم يحسن اسمه ، ولا تربيته ، ولم يعلمه القرآن ، ولم يعطه حاجاته الأساسية ، وأهمله ، وتركه لرفاق السوء ، مثل هذا الأب لا يستطيع أن ينتظر من ابنه أن يكون باراً ، كأن الأب عقّ ابنه قبل أن يعقه ابنه ، فلذلك حينما يؤدي الأب الذي عليه ينتظر من ابنه أن يكون باراً ، وحينما يؤدي الابن الذي عليه ينتظر من الأب أن يكون باراً ، فالإحسان قبل البيان ، والقدوة قبل الدعوة ، فكل أب اتصل بالله ، وامتلأ قلبه رحمةً فانعكست ليناً ، التف أولاده حوله ، وأحبوه .
 ومن مفارقات الحياة أن الأب البخيل - لا سمح الله - يضن على أولاده بحاجاتهم الأساسية ، يتمنون موته ، فإذا ألمَّ به مرض ، وجاء الطبيب ، وقال : القضية بسيطة ، يتألمون ، يتمنون أن يكون المرض عضالاً ليستريحوا من بخله ، بينما الأب الكريم الرحيم المحسن الحكيم يتمنى أولاده أن يموتوا ويبقى ، هذه حقيقة ثابتة في العلاقة بين الآباء والأبناء ، الأب المؤمن يعرف واجباته تجاه أولاده ، والابن المؤمن يعرف واجباته تجاه أبيه وأمه ، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تكون العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة منضبطة فيها إحسان ، وفيها رحمة ، وفيها عطاء ، وفيها تضحية ، إلا إذا عرف الأب واجباته تجاه أولاده ، وإلا إذا عرف الابن واجباته تجاه أبيه وأمه ، هذا هو المنطلق ، المنطلق أن نعرف الله ، وأن نتصل به ، عندئذ نعرف ما لنا وما علينا .
المذيع :
 لنتأمل صورةً أخرى ، فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، رجل تاب إلى الله سبحانه وتعالى بعد سنوات من الغفلة والمعصية ، وقبِل اللهُ - والعلم عند الله- توبته ، يأمر أولاده وأبناءه بالتزام منهج الله ، ويصر على ذلك ، ويعمل جهده ليكونوا كذلك ، ويطلب منهم أن يكونوا أولياء ، بادئ ذي بدء أين الحكمة ؟ كيف يتصرف ؟ كيف يتعامل ؟

الإحسان قبل البيان والقدوة قبل الدعوة :

الدكتور راتب :
 الحكمة يا سيدي هي توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم ، علموا أولادكم ولا تعنفوهم ، فإن المعلم خير من المعنف .
 أنت حينما تجد في ابنك انحرافاً - لا سمح الله - فأنت أمام شيئين ، إما أن تضربه بقسوة ، وإما أن تأمره أن يفعل كذا وكذا بلا تعليل ، وبلا رقة ، وبلا رحمة ، إنه يزداد نفوراً من هذه التوجيهات ، والله أعرف أباً قمع بناته في حياته على ارتداء الحجاب ، قمعهن قمعاً ، ولم يعلمهن حكمة الحجاب ، ولا فضل الحجاب ، ولا ثواب المرأة المحجبة ، ولا ماذا ينتظرها من زوج صالح ، قمعهن بارتداء الحجاب ، فلما مات هذا الأب تفلتت بناته تفلتاً لا يعقل ، لأنه سلك معهن أسلوب القمع ، ولم يسلك معهن أسلوب الموعظة الحسنة ، فأنا أؤمن أن الأب لا يستطيع أن يقنع ابنه أن يلتزم الصواب والحق والخير إلا إذا كان قدوةً له أولاً ، وكان محسناً له ثانياً ، أما إذا قصر الأب في أداء ما عليه فالابن لم يستفد من هذه النصائح ، فالإحسان قبل البيان ، والقدوة قبل الدعوة .
المذيع :
 إذاً التوجيه بأن يكون قدوةً .

التوجيه بالقدوة لا بالتعنيف :

الدكتور راتب :
 التعليم لا في التعنيف ، التعنيف قمع ، أخطأ أضربه ، وأعنفه ، وأسبه ، هذا سلوك فيه خطر كبير ، يعود عليك بالشر في الدنيا والآخرة ، أبين له ، والأب لا ينجح مع أولاده بتربيته إلا إذا حاسبهم على واحدة ، وغض بصره عن عشرة ، لو أنه أثقل عليهم بالنصائح لكرهوا وجوده، وكرهوا نصيحته ، لابد أن تكون النصيحة من حين إلى آخر ، أغض البصر عن واحدة ، وأدقق في واحدة .
المذيع :
 أسمح لنفسي أن أقول : إن هذا القول قد يأخذه بعض المتشددين بأنه تفلت وتفريط ولين في غير موضعه ، ما القول في ذلك ؟

لزوم الأولاد والانتباه لتربيتهم :

الدكتور راتب :
 أنا - اعذرني فيما أقول - أعدّ أن أكثر أخطاء الأبناء سببها الآباء ، في الأصل ما الذي يحصل ؟ ينجب الأب ابناً يهمله لسنوات طويلة ، ثم يصحو ، وقد بلغ سن المراهقة ، أهمله من سن الخامسة ، لم يكن معه ، لم يألف أباه ، لم يألف مجالسه ، لم يألف حركاته الطيبة ، أبعده عنه ، ارتاح من دونه ، هذه مشكلة ، الزموا أولادكم ، أنا دعيت إلى نزهة ، شيء مريح لي أن أدع ابني في البيت ، وفي غيبتي سيعيش مع أصدقاء السوء ، يتعلم منهم من بذاءتهم ، من انحرافهم ، من قصص ماجنة ، أنا مرتاح مع أصدقائي في نزهة ، أما حينما آخذ ابني معي ، ويتمتع بما أتمتع ، ويرى أدبي في السلوك والمعاملة ، فأنا أكون قد نقلته إلى مستوى راقٍ ، فالزموا أولادكم ، تحتاج إلى جهد ، لكن ثمارها يانعة جداً ، أما لو أنك تخليت عن ابنك الذي يحصل أن الآباء يهملون أبناءهم ، وهم صغار ، يتعلمون من أصدقائهم ، ومن رفقائهم كلمات وسلوكاً لا يرضي الله عز وجل ، فلذلك حينما يفاجأ الآباء بانحراف أولادهم لا يحتملون ، فيكونون قساةً عليهم ، أنا أطمئنهم أن انحراف أبناءهم في البداية سببه الآباء ، أما حينما يستيقظ بعد فوات الأوان فيكون قد انتهى كل شيء .
 أنا أتمنى على الأخوة المستمعين وعلى الآباء والأمهات بالذات أن ينتبهوا إلى أولادهم في سن مبكرة جداً ، وإلا بعد أن يعوج الابن بسبب إهمال والديه لن يستطيع أن يقومه أبوه بكلمة قاسية ، ولا بضرب مبرح ، انتهى الأمر .
المذيع :
 هناك قواعد على قدر كبير من الأهمية في التربية ، قواعد إسلامية تربوية ، أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنهجه ، بقوله ، بفعله ، هل لنا من بعض هذه الأمور وخاصةً كما ذكرتم يصحو هذا الأب من غفلته ، ويرى أبناءه على هذا التفلت عن منهج الله ؟

تربية الأولاد مسؤولية كبيرة تحتاج إلى علم وفهم ودراية وحكمة :

الدكتور راتب :
 كان عليه الصلاة والسلام في بيت أحد أقربائه فصاحبة البيت نادت ابنها ، وقال : تعال هاكَ ، أي تعال خذ ، ولم يظهر ما في يديها ، فالنبي عليه الصلاة والسلام سألها : ماذا أردت أن تعطيه ؟ قالت : تمرة ، وأرته إياها ، قال : أما إنك لو لم تفعلِي ذلك لعدت عليك كذبة .
 مرة جاءني صديق قريب من أمريكا ، ومعه ابنه ، فيبدو أن ابنه كان صعب الانقياد ، أزعج جدته ، قالت له جدته : اسكت ، و مساءً سآخذك إلى مكان جميل ، فصدقها ، وسكت ، وانتظر المساء ، فلم تأخذه معها ، فهو ابن صغير ، قال : أنت كاذبة .
 نحن نعطي وعوداً ، انتظر ، اسكت ، سوف أعطيك ، سوف آخذك إلى مكان جميل، الأب الذي وفقه الله في تربية أولاده لا يمكن أن يعد أولاده شيئاً إلا ويلبيه لهم ، وإلا فقد مصداقيته .
 فهذه تربية الأولاد مسؤولية كبيرة تحتاج إلى علم ، وتحتاج إلى فهم ، وتحتاج إلى دراية وحكمة حتى يغدو هذا الابن ملتصقاً بأبيه ، معجباً به ، يمشي بهديه .
المذيع :
 لنقل : استجاب هذا الولد لأبويه بالتزام منهج الله ، هل يشقان عليه بمنتهى الطاعات والنوافل وصورة العبادة التي يريدونها له بأسمى حللها ؟

بدء التكاليف الشرعية في سن البلوغ :

الدكتور راتب :
 هذا من عدم حكمتهم ، تعلم أيها الأخ الكريم جزاك الله خيراً أن التكاليف الشرعية تبدأ في سن البلوغ ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نكلف أبناءنا تكاليف تربوية ، ندربه على الصيام في وقت مبكر ، فإذا صام نصف النهار قبلناه منه ، نعلمه الصلاة ، فإذا صلى الفرض قبلناه منه ، فلابد من التدرج ، خالق الأكوان حينما حرم الخمر حرمها بالتدريج مع أصحاب رسول الله ، قال :

﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾

[ سورة النساء: 43 ]

 لم يحرمها دفعةً واحدة ، مع أنها منسوخة كلها ؟ بقيت كي تعلم الدعاة إلى الله ، وتعلم الدعاة كيف يربون أبناءهم ، لابد من مرحلة فيها حل وسط بين التفلت والتمسك ، إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، سددوا وقاربوا ، هذا السلوك ناجح جداً مع الأبناء ، حينما يرى الابن أن الدين ليس شيئاً ثقيلاً عليه فالأب يعظ ، وينصح من حين إلى آخر ، ويغض بصره من حين إلى آخر ، حتى يملك قلب ابنه ، أما إذا قسا عليه ، وطالبه بأوامر هو لا يفعلها هذه المشكلة ، أحياناً الأب يطالب ابنه بأوامر هو لا يفعلها .

يا أيها الرجل المعلم غيـــــــــــره  هلا لنفسك كـــــــــــان التعليــم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيــها  فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأت مثلــــه  عار عليك إذا فعلت عظيــم
***

 هذه كلمة صادقة للآباء ، الأب لمجرد أن يكون قدوةً ويكون رحيماً يفعل في أولاده المعجزات ، يجب أن يكون قدوةً ، وأن يكون حكيماً ، ورحيماً ، ومحسناً ، إن أدى هذا صار كلامه يسري في أبنائه كالسحر .
المذيع :
 وهناك نقطة دقيقة جداً ، أن يلزم أولاده ، البعض يلزم المسجد ، يلزم مجلس علم ، والبعض الآخر يلزم المقاهي ، ويلزم ما يلزم ، ويهمل أبناءه ، أين الحكمة ؟ أين الميزان في هذا ؟

الأطفال أحباب الله فعلينا العناية بهم ورعايتهم :

الدكتور راتب :
 والله حينما يهمل أولاده سواء أكان الأب في المسجد ، وقد أهمل أولاده ، أو كان في ملهى - لا سمح الله- وأهمل أولاده فإهمال الأولاد ذنب كبير لا يغفره أن تكون في المسجد ، الأمر سيان ، خذه معك إلى المسجد ، أنا والله عقب خطبة الجمعة أقدم لأي طفل جاء مع أبيه قطعة حلوى ثمينة ، وقد يكلفنا الشيء الكثير ، لكن هذا نوع من الترغيب .
 ما معنى المسجد ؟ أي فيه طعام طيب ، بتعبير الأطفال قطعة حلوى ، وفي العيد أقدم لكل طفل جاء مع أبيه إلى المسجد قطعة حلوى ، ومبلغاً من المال ورقاً جديداً ، أنا أريد أن أدع خبرةً مريحةً عند الطفل إذا أتى إلى المسجد ، وأمنع أحداً أن يضعه في الصف الآخر ، أسمح له أن يقف في الصف الأول ، وأسأله عن اسمه ، وعن حاله ، وعن دراسته ، وعن معلمه، لأن هؤلاء الأطفال أحباب الله ، ولا تأتي هذه النفس إلا بالإحسان ، المحسن حكيم ، أما الواعظ القاسي فغير حكيم ، ولن يستطيع أن يصل إلى شيء .
 وهناك حكمة كبيرة من سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يؤدي الفرض في المسجد ، ويؤدي ركعتي السنة في المنزل ، كي لا يكون البيت قبراً ، الفرض في المسجد ، والسنة في البيت ، يكون قد أحيا هذا البيت بذكر الله كي يتعلم الأبناء ، ويألفون هذا .
 لو أن إنساناً صلى مع زوجته وأولاده في البيت ، لو تركهم وصلى في المسجد لا يصلون ، بعض العلماء يعد هذه الصلاة صلاة جماعة ، إذا أيقظت زوجتك وأولادك وصلوا معك فبعض العلماء يعد هذا من صلاة الجماعة .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 نتابع غداً بإذن الله منهج التائبين ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، وأشكر الأخوة المستمعين لحسن إصغائهم ومتابعتهم ، حتى الملتقى في الغد عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من لبنان ، لكم التحية ، سلام من الله عليكم ورحمة من لدنه وبركة .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور