وضع داكن
29-03-2024
Logo
الحج - الدرس : 15 - زيارة المدينة المنورة
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠5الحج
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .

الأحكام الفقهية لزيارة النبي عليه الصلاة و السلام :

أيها الأخوة الأكارم، بقي معنا زيارة النبي عليه الصلاة والسلام، ومهما قيل في حُكْم الزِّيارة فهناك من ينْفي وُجوبها، ومن يجْعلها من لوازم الحجّ، مهما قيل في حكمها، فما من حاجٍّ يحجّ البيت الحرام إلا ويزور النبي عليه الصلاة والسلام .
فالحديث عن مَشْروعِيَّة الزِّيارة، وعن حكمتها حديثٌ دقيقٌ ومهمّ، إلا أنَّنا نبْدأ بالأحكام الفقْهِيَّة في الزِّيارة، وبعدها ننتقل إلى بعض الحكم التي يمكن أن تُسْتنبط من زيارة النبي عليه الصلاة والسلام .
الأحكام الفقهية للزيارة:
أوَّلاً: ما يُشاع بين الحُجاج أنَّهُ لا بدّ أنْ تُقيمَ ثمانِيَةَ أيامٍ في المدينة المنوَّرة، لِتُصَلي أربعين فرْضًا في الحرم النبوي الشريف، فهذا ليس من الأشياء الثابتة في الدِّين، وهذا هو الكلام الدقيق، فأنت بِإمكانك أن تمْكثَ في المدينة أربعة أيام، أو خمْسة، أوثلاثة، وذلك بِحَسَب الاسْتِطاعة والقدْرة والتَّيْسير، وبحسَب الظروف التي تطْرأ، أما أن تعْتَقِد أنَّه لا بدَّ أن تُقيم ثمانية أيامٍ في المدينة المنوَّرة فهذا كلامٌ ليس له أساسٌ من الصِّحَّة، إلا أنَّهُ كلَّما مَكَثْتَ هناك كان أفْضل، أما أنْ تعدّ هذا من أحكام الدِّين، والأحكام الشرعِيَّة فهذا ليس له أصل .
هناك نقطة دقيقة، وهي أنَّ الله عز وجل قال:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾

[ سورة النساء : 64]

يا ترى هذه الآية هل هي في حَياة النبي صلى الله عليه وسلم أم تنطبق بعد وفاته صلى الله عليه وسلَّم ؟ فَهُم ظلموا أنفسهم حينما لم يُطَبِّقوا السنّة، جاؤوك، لماذا ؟ كأنَّهم ما صَدَّقوا النبي عليه الصلاة والسلام إذْ جاء بِهذا الوحْي العظيم، وحينما بيَّن هذه السنَّة، فَتَكْريماً للنَّبيّ عليه الصلاة والسلام، وتنْويهاً لشأنه العظيم، وتعْظيماً لِمَقامه العالي، لا يقبل الله منك توْبَةً، ولا اسْتِغفاراً، ولا اصْطِلاحاً إلا إذا اصْطَلَحْتَ مع نبِيِّهِ، لأنَّك حينما لم تُطَبِّق سنَّتَهُ صلى الله عليه وسلم كأنَّ لسان الحال يُكَذِّبُ هذا النبي، فالله تعالى قال:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾

[ سورة النساء : 64]

نحن ليس عندنا إشراك بالله، فَمِن الثوابت أنَّك إذا زُرْتَ مقام النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن تشْعر أَّنك أمام قبْر، تشْعر أنَّك في حَضْرته، فإذا خاطَبْته تشْعر أنَّك تُخاطبه وكأنَّهُ حيٌّ أمامك، فتُخاطبهُ بأدَبٍ جَمٍّ، وتقف بأدٍب رفيعٍ فتَشْعر وكأنَّهُ أمامك، هذا من علامة المؤمن، ولهذا كان بعض العارفين وهو الشيخ بدْر الدِّين الحَسَني لِهَيْبة مقامه الجليل وقف في أوَّل باب السلام ولم يجْرؤ أن يتخَطَّى باب السلام، أما هؤلاء الذين ينْكَبُّون على مقام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ويؤذون المسلمين، ويتَمَسّحُون بالحديد الذي على النافذة، هؤلاء أقلّ أدَباً مما ينبغي، فيجب أن تقف أمام مقامه الشريف كما لو كان حيًّا، فالاقْتِراب الشديد ليس من الأدب .

بعض الخِبْرات الشَّخْصِيَة في موضوع الزيارة :

إليكم الآن بعض الخِبْرات الشَّخْصِيَة في موضوع الزيارة، ماذا الذي يحْصل أيها الأخوة ؟ الذي يحْصل أنَّك مُشْتاق لِمَقامِ النبي عليه الصلاة والسلام، وما أن تَصِل إلى المدينة حتَّى تتَوَجَّه إلى الحرم الشريف، وغالباً ما يكون الوقْت وقْت صلوات، فَتُصلي الفريضة وتنْطلق إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا بك أمام زِحامٍ لا يُعْقَل، ولا يُحْتَمَل، وأمام تيارٍ من البشر تكاد تنْسَحِقُ بين أفْراده، وكلُّهم يدْفعك نحو الأمام، ويحْشُرُك في أضْيَقِ الأمْكِنَة إلى أن تجد نفْسك فجْأةً في الطريق، ففي القديم كنت أمام المقام النَّبوي تنحرف نحو اليسار وتدور حوْل المقام، والسلطات السعودِيَّة - وأنا معهم في هذا - خافوا أن يطوف الناس حوْل مقام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنَّهُ بِدْعة، فأغْلقوا الطريق من الجِهَة التي حول المقام، وصار الطريق إجْباريًّا إلى خارج الحرم، فأنت لو ذَهَبْتَ في وقْتٍ غير مناسب لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقول لكم: تكون لك نكْسة في هذه الزِّيارة ولا أُبالغ، فتجد نفسك مُضْطربًا، ولم تشْعر بِحَال تِّجاه هذا النَّبي العظيم، ولم تدْمع عَيْناك، وتجد نفْسك تُدْفع من كُلِّ الجهات، إلى أن تصير خارج الحرم النَّبوي، ماذا ينبغي أن تفْعل ؟ أنا أنصح أخواننا الكرام ورُؤساء الأفواج حفظهم الله تعالى الذين عندهم خبرات أن يذْهبوا إلى بيوتهم وهم في المدينة، ويسْتريحوا ساعات إلى أن يشْعروا أنَّهم عادوا إلى أعلى درجات النَّشاط، لأنَّ أثر السَّفر أثرٌ سلبي لزيارة النبي عليه الصلاة والسلام، فأنتم عليكم أن تسْتريحوا، وكُلوا واخْلَعوا ثيابكم، وبعد أن تشْعروا بالنَّشاط اغْتَسِلوا، فهو من آداب الزِّيارة، والْبَسوا أجْمل ثِيابكم، ولا بدَّ من ثَوْبٍ أبيَض خاص لأوَّل زيارةٍ للنبي عليه الصلاة والسلام، وأن تتعَطَّر، لأنَّك أنت مُتَحَلِّل الآن، واذْهَب إلى المقام النبوي الشريف إن تَمَكَّنْت عند صلاة الفجْر، وصَلِّ الفجْر مع الجماعة، وإياك أن تقْترب من المقام ! لماذا ؟ لأنَّ كُلَّ الناس بل مُعظمهم يَتَوَجّهون إلى المقام الشريف، بازْدحام ودفع شديد ومنازعة تجْعلك لا تشْعر بأيِّ حال، ولقد رأيْتُ أصْحاب الخِبْرات الطويلة يجْلِسون في الباحة السَّماوِيَة التي أرى منها القبَّة الخضْراء

هذا المنظر الذي لا يُنْسى، وهذه القبَّة التي ضَمَّت جسد النبي عليه الصلاة والسلام وحقيقته النَّبَوِيَّة، وكنت أقرأ القرآن إلى ساعة من الزَّمن، وبعد ساعةٍ من صلاة الفجْر تجد معظم الناس قد انْصَرَفوا إلى بُيوتهم، لماذا ؟ لأنَّهم جاؤوا إلى مقام رسول الله مع الأذان الأوّل، وهو قبل أذان الفجْر بِساعة، وحينها يتسنى لك البقاء ما تشاء، وتَوَجَّه للنبي عليه الصلاة والسلام وَسَلِّم عليه، وقل له: أشْهد أنَّك قد بَلَّغْتَ الرِّسالة، وأدَّيْتَ الأمانة، ونصَحت الأمّة، وكشَفْتَ الظُّلْمة، وجاهَدْتَ في الله حقّ الجهاد، وهَدَيْتَ العباد إلى سبيل الرَّشاد، وأنا أنْصحك أيّ شيء تذْكره عند مقام النبي عليه الصلاة والسلام خاطِبْهُ به، يا من وقفت في الطائِف، وقلتَ كذا وكذا، فأيّ حديث تذْكره عن رسول الله، وأيْ قِصَّة تذْكرها قلْها، وليس المقْصود أن تبْقى برْهة من الزَّمن، وتذْهب بعدها، ليست هذه هي زيارة النبي عليه الصلاة والسلام، يجب أن تبْكي هناك، وتجْهشَ بالبُكاء، وأن تشْعر أنَّك في حضْرة أعْظم مخْلوقٍ في الكَوْن، وأنَّك في حَضْرة إنسان أنْقذ البَشَرِيَّة من الضَّلال، وفي حضْرة إنسانٍ حريصٍ على المؤمنين وغيرهم، قال تعالى:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة التوبة : 128]

ويجب أن تُخاطبه وكأنَّك بين يديه، ويجب أن تسْتغْفِرَهُ، فالمفروض هنا أن تُسْكب العَبَرات، ويُناجى النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم، ولا بدّ أن تبْقى ساعة أو ساعة ونِصْف، فإذا تعِبْتَ اجْلِسْ، فلك أن تُصَلي وأن تُواجه النبي عليه الصلاة والسلام، ولك أن تدْعو، افْعَل هذا كُلَّ يوم وأنت في المدينة، وهذا أنْسب وقْت، ولو سألتَ الخُبراء الذين حَجُّوا ثلاثين حَجَّةً أفضل الوقْت بعد صلاة الفجْر بِسَاعة، تقريباً خمْسون بالمئة أو سبعون ينْصَرِفون إلى بيوتهم وبإمكانك أن تقف الوَقْفة الطويلة والجَلْسة المُتأنِّيَة، وأن تُناجيه المناجاة الحارَّة، وأن تعْتَذِرَ إليه، فحالك بين أن تُصلي للقبلة إذْ هي عكْس المقام، وبين أن تقرأ القرآن، وبين أن تكون واقفاً، أو أن تكون جالساً، سوْفَ تَرَوْن في هذه الزِّيارة أنّ أعْظم مَشْروع تَكْييف في العالم هو عند النبي عليه الصلاة والسلام، فالناس قديماً كانوا يزورون ويعودون إلى بيوتهم حيث المُكَيِّفات، أما الآن فقد انتهى هذا الأمر، التَّكْييف أرقى في الحرم المدني، وأنت مُتَّجِهٌ إلى باب الحرم النبوي الشريف قبل خمْسين متْرًا تهُبّ عليك نسَمات عليلة من التَّكْييف الشديد، لأنَّ مساحة المُكَيِّفات مئتان وسبعون ألف متْر مربَّع، والتَّبْريد مُساق بأنابيب ماءٍ بارد، ثمَّ مُحَوَّلة إلى ماءٍ بارِدٍ في أسْفل الأعْمِدَة، والأعمدة أعتقد أنها ألفان وأربعمئة عمود بالحرم النَّبوي، فَيُصْبح البيت لا طعْم له إطْلاقاً، البيت للطعام والنَّوْم، وهي نصيحة لِوَجْه الله، وإذا أراد الواحد منكم أن يُطالع فَلْيَتَوَجَّه إلى مكْتبة الحرم النَّبوي الشَّريف، سَيَجِد مكْتبة مُتواضعة، فإذا كان لك الوقْت يمكنك أن تتعَرَّف على معالم المدينة، هنا حينما كان حَيًّا كان مسْجده بِهذا الحجْم، فالأعمِدَة لها لون خاص، وكانت فسْحته السَّماوِيَة إلى هذا الحجْم، ثُمَّ مُدِّدَ وتَوَسَّع إلى هذا الحجْم، فهذا قبْر النبي، وهذا مُصَلاه، وهذا منْبره، ولديْك الرَّوْضة الشريفة، "ما بين منبري وقبري روْضة من رياض الجنَّة" أشْواقك وأحْوالك تظْهر بهذا المكان، فالمُكوث في البيت غير مُجْد، ولا طعْم له، فالمدينة لا طعْم لها دون الحرم النَّبوي، وواللهِ كنتُ أُشاهد أناساً أتألَّم من أعْماقي، يصلون الصبح في البيت وكذا باقي الصلوات، ما الذي جاء بك إلى هذا المكان إذا آثَرْتَ البيْت على مقام النبي عليه الصلاة والسلام؟ فَعُذْر الحرّ انْتفى الآن، فالحرم مُكَيَّف بأعلى طرق التَّكْييف، فكما قلتُ أنا أنْصَحُكَ أن تبْقى في الحرم المدني، عدا الطعام والراحة والنَّوْم .

زيارة مكتبة الحرم المدني للإطلاع على معالم المدينة :

لو أنَّ أحدكم زار المكْتبة سيأخذ منها معْلومات قَيِّمَةً، وأذْكر في السَّنة الماضِيَة ذهبْتُ لِمَكْتبة الحرم المدني وسألْتُ أين كتب معالم المدينة ؟ فَدَلَّني أحدهم، وأمْضَيْتُ ساعات لم أجِدْ أمْتَعَ منها، ثمَّ هناك بالمدينة زيارة المعالم الأثَرِيَّة ؛ جبل أُحد، وموْقعة الخَنْدق، وقباء والقبلتين، وكُلّ النخْل الموجود هو الذي كان في عَهْد النبي عليه الصلاة والسلام، فالنَّخْلة عُمْرها ستَّة آلاف عام ! فهذا الذي تَرَوْنَهُ هو النَّخْل نفْسه الذي كان على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، شَهِدَ الله تعالى أنَّني وَقَفْتُ في ساحَةٍ في قباء، حالتْ مِنِّي الْتِفاتَةٌ فرأيْتُ في وسط هذه الساحة عموداً، وفي نِهاية العمود كرة 

مُضاءة، وكُتِبَ على هذه الكُرة: طلع البدْر علينا

ووالله الذي لا إله إلا هو يمكن أنَّ هذا النَّشيد سَمِعْتُهُ في حياتي عَشَرات ألوف المَّرات، ما أعْرِفُ أنَّني اقْشَعَرَّ جلْدي واضْطَرَبْتُ وبكيتُ إلا ذلك الوقْت الذي كان مُؤَشِّراً أنّ الصحابة اسْتَقْبلوا النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك البقيع، هذه كُلُّها معالم ينبغي أن تزورها، وتقرأ عنها، هناك كتاب لمحمّد حُسين هيْكل اسمه معالم التنزيل، لو أنَّ رؤساء الأفواج أخذوه معهم، وطالعوا فيه ليكونوا على عِلْم، فأنا أحبّ أن تكون الزِّيارات فيها عُمْق، كما أنَّني آسف أشَدَّ الأسف على المسؤولين في السَّعودِيَّة على إلْغائِهم جميع المعالم، بيت النبي أين هو ؟ كُلَّه مُلْغى، فرُؤساء الأفواج كلَّما اطَّلعوا على معالم المدينة، وأطْلعوا الحجاج عليها يكون لهم الأجر.
إذاً الجَلْسة بالمدينة جلْسة روحانِيَّة، فأنت بِمَكَّة تشْعر بالجلال، لكِنَّك في المدينة تشْعر بالجمال، لذلك الآيات الكريمة المُتَعَلِّقة بذات الله تعالى تقْرؤها في مَكَّة المكرَّمة فَيَقْشَعِرّ جلدك، لكن بالمدينة أنْصحك أن تقْرأ الآيات المُتَعَلِّقَة بالنبي عليه الصلاة والسلام، كَسُورة المزَّمل والمدّثر والجنّ والمنافقون و التوبة والحجرات، فهذه السور لو قرأتها أمام النبي صلى الله عليه وسلَّم لا تسْتطيع أن تتَحَمَّل . وأنت مُتَّجِهٌ إلى المدينة تقرأ كتاباً عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأنا فعلْتُها فكانت أجْمل رحْلة في حياتي، ولن أنْساها أبداً، لأنَّ في المدينة هناك ما يُحَرِّكُكَ، فأنت أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فَيَلْزَمُكَ كتاب عن أخْلاق النبي، وعن شمائِلِه، فهي تُفيد في الطريق إلى المدينة، والطريق إلى المدينة أربعمئة وخمسون كيلومتراً !

ما يستحب للزائر عند الاتجاه للمدينة المنورة :

يُسْتَحَبُّ للزائر أن يُكْثِرَ في طريقه إلى طيبة من الصلاة على الحبيب، ولا سيَّما إذا بدتْ له معالم المدينة، وأشْجارها، وأبْنِيَتُها، وما شَعَرْتُ بِمَديح النبي حق الشعور إلا هناك، وتشْعر بِشُعور لا تشْعره في بلدك إطْلاقاً . وأنت ذاهب إلى روْضة من رياض الجنَّة ! لي أخٌ مُقيم بالمدينة لما أخذني إلى موقعة بدر، والطريق طويل ومُعَقَّد، ويبعد حوالي مئة وسِتُّين كيلو متراً عن المدينة، الجبال التي كنا نمرّ عليها قلتُ في نفْسي: سبحان الله ! هذه الجبال التي أراها الآن هي التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ! أصْبح هناك قاسم مشْترك في الرؤْية، فعلى الزِّيارة أن تكون ممْتِعَة ومُسْعِدة وروحانِيَّة وعِلْمِيَّة، فالأكل والشرْب ضَعْهُ على جنب، والْتَفِت إلى طاعة الله عز وجل .
ويُسْتَحَبُّ للزائر أن يُكْثِرَ في طريقه إلى طيبة من الصلاة على الحبيب ولا سيَّما إذا بدتْ له معالم المدينة وأشْجارها وأبْنِيَتُها، وأن يسأل الله تعالى أن ينفعه بِزِيارته، وأن يتقَبَّلها منه، ويُسْتَحَبّ الاغْتِسال قبل الدُّخول إلى مسْجِدِه صلى الله عليه وسلَّم، وأن يُنَظِّفَ نفْسه، وأن يلْبس أحْسن الثِّياب، ويتطَيَّب، وعلى المرْء أن يسْتشْعر في نفْسه أنَّهُ على أشْرف بِقاع الأرض، لما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام قال: " اللهمّ خرجْتُ مِن أحَبِّ الدِّيار إليّ - من مكَّة - فأسْكِنِّي أحبَّ الدِّيار إليك" فالعلماء اسْتنْبطوا أنَّ المدينة المُنَوَّرة أحبُّ البلاد إلى الله تعالى، وأنت تشْعر بِهذا، هدوءٌ تام، لا خِناق، ولا جدال، وسلام تامّ، لأنَّ أكثر المَدَنِيِّين المُجاوِرين جاؤوا حُبًّا بِرَسول الله، وتجد تعاملهم لطيفًا، وأكثر شيء يدْعوك للتَّعَجُّب أنَّ هؤلاء ما رأوْهُ، وما سَمِعوا كلامه، ولا أخذوا من عطائِه، لماذا يبْكون ؟! ما الداعي للبكاء ؟ هذا من سرِّ النُّبُوَّة، كما يُسْتَحَبّ أن يقول عند دُخول المسْجد النَّبَوي ما ذَكَرْناهُ عند دُخول المسْجد الحرام، وأن يدْخل مُقَدِّماً رجْله اليُمْنى، ثمَّ يقْصِد الرَّوْضة الشريفة، فهذه الرَّوْضة صلى فيها أبو بكر وعمر بن الخطاب، وكبار الصَّحابة، فيَجوز أن تُصلي في مكانٍ صلى فيه هؤلاء الخيرة، فإذا أتيح لك أن تُصلي في مِحْراب النبي الذي صلى بأصْحابه فيه تشْعر حقيقةً أنَّك في رَوْضة، ووالله إنَّ هذا الكلام ليس فيه مُبالغة إطْلاقاً، وأنت في الروضة تشْعر أنّك في رياض الجنَّة . أُسْطوانة الوُفود، أحد الصحابة ارْتَكَب خطأً فَرَبَط نفْسه بأُسْطوانة اسمها أُسْطوانة التوبة، وهي عبارة عن عمود، ثمَّ إنَّ الألوان مختلفة فالبيْضاء للرَّوْضة، والحمْراء خارجها، وهناك مُؤَشِّرات مكتوبة في الأولى: أنَّ هذه حدود المسجد النبوي في عهْده، وهذه في عهْد عمر، فهذه العلامات لها أثر بالغ في نفْسِكَ المُنيبة إلى الله تعالى .
والرَّوْضة هي ما بين المِنْبر والقبْر الشَّريف، المُحاط بالحُجْرة الشَّريفة، وهي مُتَمَيِّزة بِسِواريها ذات الرُّخام الأبْيَض، ويُصلى في الرَّوْضة سُنَّة تَحِيَّة المَسْجد، فبِالحَرَم المكي الطواف هو التَّحِيَّة، ويشْكر الله تعالى على النِّعْمة، ويسْأله القبول، ثمَّ يأتي القبْرَ الشريف حيث مثوى نبِيُّنا محمد صلى الله عليه وسلَّم، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلاً القَبْر، والقِبْلة خلْفهُ، ففي الدعاء اِتَّجِه نحو القبلة، ولا تتَّجِه نحو القبْر، وأخواننا السَّعوديِّون يظنون أنَّك تتَوَسَّل بالنبي عليه الصلاة والسلام ناظِراً إلى أسْفل المُواجهة الشريفة، غاضًّا الطَّرْف، ممتلىء القلب هَيْبَةً وإجْلالاً، لِمَنْزلة مَن أنت في حَضْرته، ثمَّ تُسَلِّمُ بِصَوْتٍ مُعْتَدِل قائِلاً: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نَبِيَّ الله، السلام عليك يا خيرة خلْق الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نذير، السلام عليك يا بشير، السلام عليك يا طُهْر السلام، السلام عليك يا نبِيَّ الرحمة، السلام عليك يا نبِيَّ الأمة السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا رسول ربِّ العالمين، السلام عليك يا سيِّد المرسلين ويا خاتم النَبِيِّين، السلام عليك يا خير الخلائق أجْمعين، السلام عليك يا قائِد الغرّ الميامين، السلام عليك وعلى آل بيْتك وأزواجك وذُرِّيَّتِك وأصْحابك أجْمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وجميع عباد الله الصالحين، وإن لم يحْفظ هذا الدُّعاء فلا مانع، جزاك الله يا رسول الله أفضل ما جزى نبِيًّا عن أُمَّتِه، وصلى الله عليك وسلَّم كلَّما ذَكَرَك ذاكر، وغفل عن ذِكْرك غافل أفْضل وأطْيَبُ من صلى على أحد من الخلْق أجْمعين، أشْهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشْهد أنَّك عبدك ورسوله، وخيرته من خلقه، وأشْهد أنَّك قد بَلَّغْتَ الرِّسالة وأدَّيْت الأمانة، ونصحْتَ الأمَّة، وجاهَدْتَ في الله حق جهاده، اللهمّ آته الوسيلة والفضيلة، وابْعَثْهُ مقاماً مَحْموداً الذي وَعَدْتَه، وآته نهاية ما ينْبغي أن يسأله السائِل، اللهمّ صلِّ على سيِّدنا محمدٍ عبْدك ورسولك ونبِيِّك، النبِيّ الأميّ وعلى آل سيّدنا محمّد، وأزواجه وذُرِّيَّتِه كما صَلَّيْتَ على سيِّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم، وبارك على سيِّدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم في العالمين إنَّك أنت الحميد المجيد .
وهذه الصِّيغة مُسْتَحَبَّة، وللزائر أن يقْتَصِرَ على بعْضِ ما يحْفظه، وأنا لا أُفضِّل أن تفْتح كتاباً، فالكتاب يُذْهب الحال، فأن تقرأ ربعها وتبكي أحسن من أن تقرأ كلّ الكتاب وعينك جامدة ! فالقصْدُ الشُّعورُ بالقرب، لا أن تقرأ الدعاء . ويُبَلِّغُ سلاَم من أوْصاهُ بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلّم، السلام عليك يا رسول الله من فلان ابن فلان . ويتأخَّر من اليمين فَيُسَلِّم على سيِّدنا الصِّديق، يا خليفة رسول الله، ويا من قال النبي في حقِّه: ما ساءني قطّ، وزوَّجني ابنته، ويا من قال النبي في حقِّه: "ما طلعتْ شمْس على رجل بعد نبِيٍّ أفْضل من أبي بكْر "، كل شيء تحْفظه عن هذا الصِّديق العظيم ناجه به، وتَذَكَّر أقواله، وأفعاله، ومَحَبَّته للنبي عليه الصلاة والسلام . ثم يسلم على عمر بن الخطاب، ويُثني عليه بما هو أهله، ثمَّ يعود إلى مواجهة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث وقف أوَّل مرَّة فيتَوَسَّل به ويتشَفَّع به إلى الله عز وجل، سائِلاً الله تعالى المَغْفرة والهُدى والصلاح والتَّقْوى، وحُسْن الخِتام، ويدْعو لنفْسه ولِوالِدَيه والمُسْلمين أجْمعين، مَكْتوبٌ على المقام:

يا خير من دُفِنَتْ بالقـاع أعْظمــه فطاب من طيبِهِنَّ القاع و الأكــمُ
نفسي الفداء لِقَبْر أنـت ساكنـــــــه فيه العفاف وفيه الجود و الكــرم
أنت الشَّفيعُ الذي تُرْجى شفاعته على الصِّراط إذا ما زَلَّت القـــــــدمُ
وصاحِباك فلا أنْساهمـــــــــــــا أبـــداً مِنِّي السلام عليكم ما جرى القلـم
***

فإذا انتهى تأخَّر، فوقف مُسْتَقْبِلاً القبلة حيث أمْكنه من الرَّوْضة، والأفضل إنْ تَيَسَّر بين القبر والسارِية، فَيَحْمَدُ الله تعالى، ويُمَجِّدُه ويدْعو لنفْسِهِ، ولوالديه، وإخوانه المؤمنين، ولْيَحْرَص على الصلاة في الرَّوْضة الشَّريفة :

(( مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ ))

[ البخاري عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رَضِي اللَّه عَنْهم]

ولا يجوز الطواف بالقبر النبوي الشريف، ويُكْرَهُ التَّمَسُّحُ به، أو بالمُواجهة الشريفة والتَّقْبيل، بل الأدب أن يبْتعد كما لو حضر أمامه في حياته، كما ينبغي أن يحرص على الصلوات كلِّها في مسْجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأن ينْوِيَ الاعْتِكاف فيه.

الخروج إلى البقيع كل يوم بعد السلام على النبي :

ويُسَنُّ الخروج إلى البقيع كُلَّ يوم، ولا سيما يوم الجمعة، وذلك بعد أن يُسَلِّم على النبي صلى الله عليه وسلَّم، ويقول عندما يَصل إلى البقيع: " السلام عليكم دار قوْمٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحِقون، اللهمّ اغْفر لأهل البقيع، اللهم اغْفِر لنا ولهم" وحبَّذاَ لو صَحِبَ إلى البقيع عالماً ثِقَةً، ويُسْتحبّ زيارة شهداء أحد، ويبْدأ بحمزة عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
ويُسْتحبّ اسْتِحباباً مؤَّكداً أن يأتي مسْجد قباء، والأوْلى أن يأتِيَهُ يوم السّبت :

((عن أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ))

[ الترمذي عن أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّ]

ويُسَنّ أن يأتي بئر أريس، ويشرب من مائه، ويتوضَّأ منه، ولا بدّ أن يتخَلَّق في المدينة بالأدب، والخلق الرفيع، ويُسَنُّ أن يُكْثِرَ التَصَدُّق على الفقراء . ويُحْرَمُ صَيْدُ المدينة، وقطع شَجَرها، قال النبي:

((ما بين لابتيها حرام))

[عوالي مالك بن أنس رواية الكندي عن أبي هريرة ]

واللابتان هما الحرَّتان ؛ منطقة بُرْكانِيَّة .

ما يستحب عند العودة إلى الوطن :

وإذا أراد العوْدة إلى وطنه يُسْتَحَبُّ الصلاة في مسْجده النبوي الشريف ركْعتين ويدعو بهما لِمَن أحَبَّ، ثمَّ يأتي قبْر النبي عليه الصلاة والسلام، ويُعيد السلام على النَّحْو الذي فعله في قُدومه، ويقول: " اللهمّ لا تجْعل هذا العهْد آخره بِرَسولك، ويَسِّر لي العودة إلى الحرمين سبيلاً سَهْلاً، وارزُقني العفْو والعافِيَة في الدنيا والآخرة، ورُدَّنا سالمين غانمين".

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور