وضع داكن
25-04-2024
Logo
مختلفة- لبنان - المحاضرة : 13 - طرابلس - مقومات حمل الأمانة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد....
 أيها الأخوة الأكارم: أيتها الأخوات الكريمات: يسعدنا في هذه الأمسية الرمضانية أن نستمع وإياكم لفضيلة العلامة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي حفظه الله، الذي وفد إلينا عصر هذا اليوم من الشام الحبيبة وآثر أهل طرابلس عى درسه الذي هو منتظم بعد صلاة التراويح كل يوم في شهر رمضان، وها نحن الآن كلنا شوق لسماع هذه الكلمات العطرة التي خبأها لنا، ونبقى الآن مع فضيلة الشيخ راتب تفضل مشكوراً.
 الأستاذ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد...
 أشكر لكم هذه الدعوة وأشكر لكم حضوركم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا جميعاً ويلهمنا التطبيق.
أيها الأخوة الأكارم: ورد في الحديث القدسي الصحيح:

((حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ))

(سنن الترمذي)

 فأسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الزيارة وذاك الحضور وهذا التواصل في سبيل الله، ويكون في ميزان أعمالنا جميعاً يوم القيامة، فإن مثل هذه المجالس هي مجالس إيمان، وقد قال بعض الصحابة الكرام لأخيه: (اجلس بنا نؤمن ساعة.)
 أيها الأخوة الكرام: قيل أنه من عرف نفسه عرف ربه، فمن أنت أيها الإنسان ؟ هل تصدق أنك المخلوق الأول ؟ أول مخلوق في الكون ! والدليل:

 

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)﴾

 

(سورة الأحزاب)

 إن لم يحسن حمل هذه الأمانة لأن الإنسان قبل حمل الأمانة

 

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾

 

(سورة الجاثية)

 أيهم أكرم على الله ؟ المسخر له أم المسخر ؟ المسخر له، فالإنسان هو المخلوق الأول والمخلوق المكرم.

 

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾

 

(سورة الإسراء)

 والإنسان هو المخلوق المكلف، كلف حمل الأمانة وقد أشار العلماء إلى أن الأمانة التي كلف حملها إنما هي نفسه التي بين جنبيه.

 

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

 

(سورة الشمس)

 في مقياس البشر يفلح الإنسان إذا كان غنياً أو قوياً أو وسيماً أو ذكياً أو صحيحاً، ولكن في مقياس خالق البشر يفلح الإنسان إذا زكّى نفسه، ويخفق ويشقى إذا هو دساها، يفلح إذا عرفها بربها وحملها على طاعته فزكت واستحقت الجنة التي خلق من أجلها، ويشقى ويهلك إذا غفلت نفسه عن ربها وشقيت بغفلتها وإساءتها وتفلتها.
 أيها الأخوة: البشر جميعاً على اختلاف مللهم ونحلهم وانتماءاتهم ومذاهبهم وأعراقهم وألوانهم وأجناسهم لا يزيدون عن رجلين ! رجل عرف الله وعرف منهجه فانضبط بمنهجه وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة، ورجل غفل عن الله وعن منهجه وتفلت من منهجه حكماً وأساء لخلقه فشقي في الدنيا والآخرة، ولن تجد إنساناً ثالثاً !

 

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾

 

(سورة الليل)

 صدق أنه مخلوق للجنة، واتقى أن يعصي الله، وجعل ركيزة حياته العطاء، عطاء مطلق يعطي من علمه ووقته وماله وجاهه، والثاني:

 

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)﴾

 كذب بالجنة وآمن بالدنيا، عندئذ استغنى عن طاعة الله، عندئذ بنى حياته على الأخذ، فالإنسان هو المخلوق الأول والمكرم والمكلف أن يعرف نفسه بربها.
 أيها الأخوة: ما كلف الله الإنسان حمل الأمانة إلا وقد أعطاه مقوماتها، من مقومات حمل الأمانة الكون، هذا الكون مسخر تسخير تعريف وتسخير تكريم، مهمة المخلوقات الأولى أن تعرف الله من خلالها، والمهمة الثانية أن تنتفع بها من كان دخله محدوداً جداً لا يتاح له أن يلعق لعقة عسل واحدة لكنه قرأ عن العسل كتاباً فخشع قلبه تعظيماً لهذه الآية، هذا الإنسان الذي خشع قلبه حينما تعرف على دقائق النحل حقق الهدف الكبر من خلق النحل مع أنه لم يذق لعقة عسل، والذي كان دخله كبيراً جداً وجعل العسل مادته الأساسية ولم يأبه بسعر العسل ولم ينتفع منه في معرفة الله فقد عطّل أكبر هدف من خلق هذه الحشرة النافعة وهي النحل، فالكون مسخر تسخيرين تسخير تعريف وتسخير تكريم، ينبغي أن يكون رد فعل التعريف الإيمان، وأن يكون رد فعل التكريم الشكر والعرفان، فلمجرد أن تؤمن وتشكر فقد حققت الهدف الذي من أجله خلقت، والدليل:

 

 

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

 

(سورة النساء)

 إن شكرتم وآمنتم حققتم الهدف الذي من أجله خلقتم، أولى مقومات التكليف هذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، في القرآن الكريم ما يزيد عن ألف وثلاثمائة آية تتحدث عن الكون وعن المجرات وعن الشمس والقمر وعن الليل والنهار.

 

﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾

 

(سورة الفجر)

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) ﴾

(سورة الشمس)

﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾

(سورة الغاشية)

 هذه الآيات الكونية مهمتها الأولى أن تجعلها رؤوس موضوعات للتفكر، أضرب لكم بعض الأمثلة الله عز وجل يقول:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾

 

(سورة البقرة)

 بعوضة ! لا أعتقد أن في حياتنا مخلوقاً ضعيفاً صغيراً هيناً على الناس كالبعوضة، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى ذلك قال:

 

((عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))

 

(سنن الترمذي)

 هذه البعوضة وزنها ميليغرام واحد، واحد على ألف من الغرام، وهذه البعوضة التي تلدغ الإنسان هي الأنثى، وهل تستطيع أيها الإنسان أن تفرق بين الذكر والأنثى قال تعالى:

 

﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾

 مؤنث ! هذه البعوضة في رأسها مائة عين وفي فمها ثمانية وأربعون سنً، هذه البعوضة تملك جهاز رادار لا يملكه أي إنسان ولا أية آلة، ترى الأشياء لا بأشكالها وأحجامها بل بحرارتها، هذا الجهاز يعتمد على الأشعة تحت الحمراء هي في غرفة في ظلام دامس، ترى الشيء الحار، والإنسان حرارته سبعة وثلاثين، لذلك يسمى هذا الجهاز بالمصطلحات العلمية مستقبلات حرارية، حساسية هذه المستقبليات واحد على ألف من الدرجة المئوية، فلمجرد أن ينام في الفراش إنسان تتجه إليه فوراً لأنها لا ترى غيره ! ترى بالمستقبلات الحرارية، وحساسيتها واحد على ألف من الدرجة المئوية، فإذا وقعت عليه ما كل دم يناسبها، لابد من أن تحلل دمه عندها جهاز تحليل للدم، قد ينام أخوان على جهاز واحد يستيقظ أحدهما وقد ملئ من لسع البعوض أما الثاني فلا لسعة فيه ! لأن دم الأول يناسب البعوض والثاني لا يناسبه كيف عرفت ؟ من جهاز التحليل، عندها جهاز رادار وعندها جهاز تحليل للدم لكن هذا الإنسان إذا قفت على جلده لتلدغه ربما قتلها، عندها جهاز تخدير، تخدره، والذي يضرب يده عقب لسع البعوض يضربها والبعوضة في جو الغرفة، يضربها بعد أن ينتهي فعل المخدر عندها هاز رادار مستقبلات حرارية، وجهاز تحليل وجهاز تخدر لكن خرطومها دقيق جداً لدرجة أن الدم لا يجري في خرطومها إلا إذا كان مائعاً، عندها جهاز تمييع للدم، من جهاز تحليل لجهاز تخدير لجهاز تمييع لجهاز رادار، كيف تحدث في جلد الإنسان جرحاً ؟ عن طريق الخرطوم، ماذا في خرطومها ؟ في خرطومها ست سكاكين، أربع سكاكين تحدث جرحاً مربعاً والسكينان الأخريان يلتئمان على شكل أنبوب، ويغرس الأنبوب في جلد الملدوغ حتى يصل للوعاء الدموي، وتأخذ الدم في صدر البعوضة، ففي صدرها ثلاثة قلوب، قلب مركزي وقلب لكل جناح وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان، ير جناحا البعوضة ستين رفة في الثانية فتحدث الطنين، ويمكن أن تشم هذه البعوضة رائحة عرق الإنسان من ستين كيلو متر، ولها مخالب إذا وقفت على سطح خشن ولها محاجم إذا وقفت على سطح أملس.

 

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾

 

 فهذا الكون بسماواته ومجراته بشمسه وقمره ونجومه وكازاراته بمذنباته بثقوبه السوداء والأرض وما فيها من جبال وبحيرات ومحيطات وسهول وصحارى وهضبات وما فيها من أسماك وأطيار وحيوانات ونباتات كل ما في الكون يدل على الله ! من هنا قال الله عز وجل:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

(سورة آل عمران)

 أيها الأخوة: آية من آيات الأرض، وآية من آيات السماء الله عز وجل يقول:

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾

 

(سورة الرعد)

 بعمد لا ترونها، الحقيقة أن هذه العمد التي لا نراها هي قوى التجاذب، فالأرض تدور حول الشمس في مسار إهليلجي بيضوي، هذا المسار مغلق، وللشكل البيضوي كما تعلمون قطران قطر أعظمي وقطر أصغر، فإذا وصلت الأرض للقطر الأصغر رفعت من سرعتها من أمرها أن ترفه سرعتها؟ لأنها إن لم ترفع سرعتها جذبتها الشمس، وإن جذبتها الشمس تبخرت الأرض في ثانية واحدة لأن حرارة الشمس على سطحها ستة آلاف درجة وفي أعماقها عشرين مليون درجة، وحجم الشمس يتسع لمليون وثلاثمائة ألف أرض، حجم الشمس يكبر حجم الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، فإذا وصلت الأرض إلى القطر الأصغر رفعت سرعتها، إذا رفعت سرعتها ينشأ عن هذه السرعة الزائدة قوة نابذة زائدة، هذه القوة تحول بينها وبين أن تنجذب إلى الشمس، أما إذا وصلت إلى القطر الأكبر هناك احتمال أن تتفلت من جاذبية الشمس، وإذا تفلتت سارت في الفضاء الكوني حيث تصبح درجتها مائتين وسبعين درجة تحت الصفر، عندئذ تتوقف الحياة كلياً، هذه قوى التجاذب حينما ترتفع سرعة الأرض وتنخفض ترتفع بتسارع بطيء وتنخفض بتباطؤ بطيء، لو أن التباطؤ سريع لانهدم كل ما عليها، ترتفع السرعة لينشأ قوة نابذة، تكافئ القوة الجاذبة فتبقى على مسارها حول الشمس ثم تنخفض السرعة لتضعف قوة النبذ فتبقى في مسارها.
 الآن فرضاً وافتراضاً لو أن هذه الأرض تفلتت من مسارها حول الشمس وأردنا أن نرجعها قال: نحتاج إلى مليون حبل فولاذي ! قطر كل حبل خمسة أمتار، وأمتن معدن في الأرض (تحمل قوى الشد) وأقصى تحمل قوى الضغط، أقصى شيء في الأرض الألماس بعده ميناء الأسنان وأمتن شيء في الأرض الفولاذ المضفور، فالتلفريك يصنع حباله من الفولاذ المضفور، والمصاعد من الفولاذ المضفور، لو أن الأرض تفلتت من الشمس وأردنا أن نعيدها إليها لاحتجنا لمليون حبل قطر كل حبل خمسة أمتار، ينبغي أن نغرسها في الوجه المقابل للشمس، يبقى بين كل حبلين مسافة حبل واحد، نحن أمام غابة من الحبال الفولاذية، تتعطل الزراعة والصناعة والبناء ولا مواصلات وتحجب أشعة الشمس، دقق قي قوله تعالى:

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾

 أي بعمد لا ترونها، هذا الكون أكبر مشير ومجسد ومظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، إن عبادة التفكر تكاد تتعطل في العالم الإسلامي.

 

 

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

 

 الكون هو المقوم الأول، العقل أداة التكليف ومناط التكليف أداة معرفة الله، مبادئه كمبادئ الكون، من مبادئه السببية والغائية وعدم التناقض والكون مبني على نظام السببية والغاييتي وعدم التناقض، فالعقل مقوم ثاني، لكن العقل في علم العقيدة له مهمتان مهمة قبل النقل ومهمة بعد النقل، التي قبل النقل التأكد من صحة النقل، والتي بعد النقل فام النقل، ولا يسمح للعقل أن يكون حكماً على النقل لأن النقل وحي الله لا يمكن للعقل أن يحكم على النقل، لكنه يتأكد من صحته ويفهمه هذه مهمة العقل، لأن الدين في الأصل نقل، ثم إن الله أودع في الإنسان فطرة هذه الفطرة تكشف له خطأه.

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾

 ألهمها انفجرت، وإن اتقت ألهمها أنها اتقت، هذه الفطرة.

 

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾

 

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾

(سورة الروم)

 أعطانا كوناً وعقلاً وفطرة وشهوة قوى محركة، كالمحرك في المركبة هذه الشهوة لولاها لما رأيت شيئاً في الأرض، أعطاك شهوة للطعام والشراب لتحافظ على شخصك أعطاك شهوة النساء لتحافظ على جنسك، أعطاك شهوة تأكيد الذات لتسعى إلى خلودك في الجنة، فأنت إلى حاجة إلى الطعام والشراب وحاجة إلى الزواج وحاجة إلى تأكيد الذات.
 أودع الله في الإنسان الشهوات التي هي محركات له، كيف أن هذا الوقود السائل في المركبة إذا وضع في مستودعاته المحكمة وسال في الأنابيب المحكمة وانفجر في الوقت المناسب وفي المكان المناسب ولد حركة نافعة إنها الشهوة، قوى مدمرة أو قوى دافعة، سلم نرقى به أو دركات نهوي بها، حيادية، تشتهي المرأة تتزوجها يأتيك منها أولاد طيبون تعيش حياة غاية في السعادة، تشتهيها من دون منهج فتزني ! وتستحق النار، تشتهي المال وفق المنهج فتعمل في الكسب المشروع، تشتهي المال من دون منهج فتسرق ! فالشهوات حيادية سلم نرقى بها أو دركات نهوي بها، وما أودع الله فينا الشهوات إلا لنرقي بها إلى رب الأرض والسماوات، ما قيمة إنفاق المال إن لم تحب المال ؟ ما قيمة غض البصر إن لم تحب النساء ؟ ما قيمة ضبط اللسان إن كنت تريد أن تخوض في أعراض الناس ؟ ما قيمة صلاة الفجر إن كنت تحب النوم ؟ هناك طبع وهناك تكليف، ومن تناقض الطبع مع التكليف يكون ثمن الجنة، طبعك يميل أن تملأ عينيك من محاسن النساء، والتكليف يأمرك بغض البصر طبعك يقتضي أن تنام والتكليف يأمرك أن تستيقظ لتصلي، طبعك يقتضي أن تأخذ المال والتكليف يأمرك أن تنفق المال، الشهوات أودعت فينا لنرقى بها مرتين، مرة صابرين ومرة شاكرين، ثم أعطينا حرية الاختيار ليثمن عملنا، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة.
 أيها الأخوة:

 

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾

 

(سورة الإنسان)

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾

(سورة البقرة)

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾

(سورة الأنعام)

 أيها الأخوة: فوق أن الكون مسخر لك تسخير تعريف وتكريم وفوق أن الله أودع فيك العقل الذي هو مناط التكليف وفوق أن الله أعطاك فقرة سليمة تكشف لك خطأك ذاتياً، وفوق أن الله أودع فيك الشهوات لترقى بها مرتين صابراً وشاكراً إلى رب الأرض والسماوات وفوق أن الله أعطاك حرية الاختيار ليثمن عملك أعطاك منهجاً تسير عليه، إنه الشريعة فالشريعة عدل كلها رحمة كلها مصلحة كلها حكمة كلها، فأية قضية خرجت من العدل إلى الجور ومن الحكمة إلى خلافها ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الرحمة إلى القسوة ليست من الشريعة ولو أدخلت عليها ألف تأويل وتأويل.
 أيها الأخوة: هذه الحقائق هي مقومات التكليف، وأنت مكلف أن تعبد الله، وعبادة الله طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية.
 أما نحن في رمضان، ورمضان من أجلّ العبادات، أطرح عليكم ملمحاً واحداً من آيات الصيام هذا الملمح هو أن الله جل جلاله ذكر آيات الصيام فإذا في ثنيات آيات الصيام آية تبدو للوهلة الأولى لا علاقة لها بالصيام:

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ﴾

 

(سورة البقرة)

 الحقيقة ليست هذه الآية مقحمة في آيات الصيام، ولكنها تشير إلى ملمح عظيم أي أن ثمرة الصيام أن تدع الخلق وتتجه إلى الخالق، أن تدع التوكل على الخلق وتتوكل على الخالق، أن تدع تعليق الأمل على الخلق وتعلق الأمل على الخالق قال تعالى:

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾

 إذا صاموا صياماً صحيحاً مقبولاً وكما أراد الله لابد من أن يسألوا عني.

 

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾

 كنت مع الخلق فأصبحت مع الحق، كنت مع المخلوقين الضعاف فأصبحت مع الخالق القوي، إذا كان الله معك فمن عليك، إذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك ؟

 

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾

 إذا تفيد تحقق الوقوع بينما إن تفيد احتمال الوقوع.

 

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾

 إن صاموا صياماً صحيحاً لابد من أن يسألوا عني ويتجهوا إلي.

 

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾

 أما عبادي جمع عبد، والعبيد جمع عبد، ما الفرق بين العبد الذي جمعه عباد وبين العبد الذي جمعه عبيد ؟ قال علماء التفسير: العبد الذي جمعه عبيد هو عبد القهر، الملحد عبد قهر، دسامات قلبه بيد الله، ونبض قلبه وكهرباء قلبه والخثرة بالدماغ والفشل الكلوي كل هذا بيد الله، فـي أية ثانية هو في قبضة الله هو عبد القهر، جمع عبد القهر عبيد.

 

 

﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾

 

(سورة فصلت)

 أما عبد الشكر هو العبد الذي عرف الله ابتداءً، عرفه وأحبه وأطاعه وتقرب إليه، جمع عبد الشكر عباد.

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾

 قريب منهم، الله عز وجل يحول بين المرء وقلبه، لو أنك تمشي في طريق وخطر في بالك أن تذهب لبيت أختك أنت تمشي في طريق خاطر جاءك الله عز وجل مطلع على هذا الخاطر، يحول بين المرء وقلبه.

 

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾

 إذا دعان حقيقة، وثق من إجابتي، وثق من أنني معه وأنني أسمعه وأنني قادر على أن ألبيه وأنني أحب أن ألبيه، إذا كان الدعاء هكذا:

 

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ﴾

 أيها الأخوة: علامة صحة صيامك أن تتوجه إلى الله، وتعقد الصلح معه، وأن تتوكل على الله وتعتمد عليه وتفوض أمرك إليه، أن تصل لله وتقطع لله وتعطي لله ومنع لله وتتودد لله وتعادي لله وتسالم لله وتحارب في الله، هذه علامة صحة الصيام، الصيام دورة ثنوية مركزة شحنة تكتيكها إلى عام قادم، وصلاة الجمعة شحنة أسبوعية، والصلوات الخمس شحنات يومية، والحج شحنة العمر، كلكم يستخدم جهازاً نقال اسمه خلوي وموبايل وخليوي أسماء كثيرة هذا الجهاز إن لم تشحنه لا ينطق ! والمؤمن إن لم يشحن بعبادة وبعلم يسكت ويصبح كهؤلاء الشاردين عن الله عز وجل.
 فالصيام عبادة سنوية ينبغي أن تشحن بها وتنتقل من وحول الشهوات إلى جنات القربات، من مدافعة التدني إلى متابعة الترقي، يجب أن تنتقل من أن تعتمد على العباد إلى أن تعتمد على رب العباد، ينبغي أن تنتقل من النعمة إلى المنعم، من الخلق إلى الخالق من النظام إلى المنظم من التسيير إلى المسير من الحكمة إلى الحكيم، أن تخترق الكون لتصل إلى الله عز وجل، هذه حكمة الصيام.
 أيها الأخوة: وكان عليه الصلاة والسلام جوداً وكان أجود ما يكون في رمضان !
 الله عز وجل طمأن المنفقين فقال: ما تنقوا من خير يعلمه الله ويوفى إليكم، وهل يحتاج المنفق إلا لهذين المعنيين ؟ أن الله يعلم إنفاقه، وأن الله سيعوض عليه أضعافاً مضاعفة.

 

 

(( ابن آدم أَنفق أُنفق عليك ))

 

((أنـفق بـلال ولا تخـشى مـن ذي الـعرش إقـلال))

 لكن الزكاة شيء آخر قال تعالى:

 

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾

 

(سورة التوبة)

 خذ فعل أمر، الزكاة تؤخذ ولا تعطى، لأن بالزكاة تتعلق مصالح الأمة، والمال قوام الحياة، ينبغي أن تؤخذ لا أن تترك لمزاج المزكي يدفع أو لا يدفع.

 

﴿خُذْ ﴾

 والنبي لم يخاطب في هذه الآية على أنه بني هذه الأمة، خوطب على أنه ولي أمر هذه الأمة.

 

 

﴿خُذْ ﴾

 وقال:

 

 

﴿مِنْ ﴾

 من للتبعيض، ليس في الإسلام أن تصادر أو تأخذ المال كله.

 

 

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾

 خذ بعض أموالهم، ودع لهم كرائم أموالهم، وأموال جاءت جمعاً لأن الزكاة تجب في النقدين الفضة والذهب والأوراق النقدية وفي عروض التجارة وفي الإنتاج الزراعي وفي الأنعام والركاز، تجب في كل ما أنبتته الأرض.

 

 

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾

 

 جاءت الأموال جمع، وهم أيضاً جمع، أي لا يعفى منها أحد ولا تطوى عن أحد، ولا يسامح بها أحد، إنها فريضة.

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾

 سميت الزكاة هنا صدقة لأنها تؤكد صدق الإنسان، فالله عز وجل حبب المال إلينا قال:

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾

(سورة آل عمران)

 فالمال محبب، حينا تنفقه في سبيل الله تعاكس نفسك، العبادات التي فيها معاكسة للطبع ترقى بها كثيراً، والعبادة التي فيها موافقة للطبع ترقى بها ولكن قليل، يقول أحدهم الزواج سنة! طبعاً سنة ! شيء مريح أم تدخل لبيت ترى زوجة لك تنتظرك، طهت لك الطعام وغسلت لك الثياب هو سنة، لكن شيء محبب، ترقى أنت بما يخالف فطرتك وطبعك أكثر مما يوافق طبعك، فإنفاق المال فيه رقي، المال محبب، لذلك: سمى الزكاة في هذه الآية صدقة، أي تؤكد صدق الإنسان.
 أيها الأخوة: هذه الصدقة: تطهرهم، فتطهر الغني من الشح، والشح للغني مرض خبيث، كيف أن السرطان مرض خبيث قاتل ميؤوس من شفائه بالنسبة للجسد، ذلك الشح مرض قاتل وبيل عضال ميؤوس من شفائه، قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾

 

(سورة الحشر)

 فلذلك برء من الشح من أدى زكاة ماله، برء من الكبر من حمل حاجته بيده، برء من النفاق من أكثر من ذكر الله، مقاييس جعلها النبي مقياس لنا، برئ من الشح من أدى زكاة ماله، وكل مال أديت زكاته ليس بكنز، أما الذي يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله فبشره بعذاب أليم.

 

﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾

 

(سورة التوبة)

 أيها الأخوة: أي مال مهما عظم إذا أديت زكاته ليس بكنز، وأي مال مهما قل إن لم تؤدى زكاته فهو كنز ! هذه واحدة.
 بقي شيء آخر:

 

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾

 الصدقة أو الزكاة تطهر الغني من الشح والفقير من الحقد والمال من تعلق حق الغير به، والحجر المغصوب في دار رهن بخرابها، فلو أن بين مالك مال هو من حق الفقير لم ينفق للفقير هذا المال الذي من حق الفقير ربما أتلف المال كله !
فالزكاة تطهر، من أدى زكاة ماله أذهب الله عنه شر المال، ما تلف مال في بر أو بحر إلا بحبس الزكاة، وحصنوا أموالكم بالزكاة.
 أعرف قصة لا تصدق ! في الحازمية: معملان لشخصين من دمشق، المعمل الأول صاحب المعمل لا يؤدي زكاة ماله فحسب بل هو هكذا اجتهد يؤدي زكاة ماله عن كل شيء يملكه عن بيته وعن أساس بيته ومركباته وآلات المعمل اجتهاد منه، والمعمل الثاني لا يؤدي الزكاة، عقب الأحداث المعمل الثاني صار على الهيكل لم يبق فيه شيء، والرجل والله تلميذي في دمشق ابن صاحب المعمل ! أقسم بالله بعد الجولات التي جرت في الحرب الأهلية في لبنان من بعد الجولة الثالثة فتح المعمل فإذا هو كما تركوه ! ما تلف مال في بر أو بحر إلا بحبس الزكاة، كما ترك ! الخيطان في أماكنها، المعملين ببناء واحد، المعمل الثاني لم يبق فيه شيء إلا سرق عاد على الهيكل، والثاني كما هو.
 الله عز وجل يحفظ مال المزكي، لذلك الزكاة تحصن المال، وتبعد عنه التلف، الزكاة تطهر الغني من الشح والفقير من الحقد، والمال من تعلق حق الغير به، أما:

 

 

﴿وَتُزَكِّيهِمْ ﴾

 الزكاة تزكي نفس الغني، يشعر أنه عمل عملاً عظيماً، يشعر أنه في قلوب من أحسن إليهم، أصبحوا يحبونه وحراساً لماله بعد أن كان يخاف منهم !
 الزكاة تنمي نفس الغني، يشعر بعمله العظيم، يشعر أنه محسن وأن الله يحبه، والفقير تنمو نفسه كان متطامناً يائساً، رأى نفسه غير منسي، اهتم المجتمع به، أعطوه الطعام والشراب، أعطوه كل شيء، تنمي تنفس الفقير، وتنمي نفس الغني، ثم إن الزكاة تنمي المال بالقانون الاقتصادي عن طريق القوة الشرائية التي يتملكها الفقير فتعود على دافع الزكاة دخلاً إضافياً، أو تنمي المال بطريقة العناية الإلهية.
 أيها الأخوة: هذه الآية أصل في فرضية الزكاة، خذ لها معنى من لها معنى أموال لها معنى هم لها معنى صدقة لها معنى و:

 

 

﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾

 لكن هناك كثيرون كثيرون يتوهمون أنهم لمجرد أن يدفعوا الزكاة في أي مكان رفع عنهم التكليف ! لا لا فيما أظن واعتقد لا تكون محققاً لكمال هذه العبادة إلا إذا وضعت المال في مكانه الصحيح.

 

 

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ﴾

 

(سورة التوبة)

 إذا اجتمعا تفرقا، وإذا افترقا اجتمعا، إذا قلت فقراء تعني فقراء ومساكين، إذا قلت مساكين تعني فقراء ومساكين، أما إذا قلت للفقراء والمساكين ليس الفقير الذي ترده اللقمة واللقمتان، لكن الفقير هو الذي لا يجد حاجته، وقد أشار الفقهاء إلى أن الزكاة ينبغي أن تغني الفقير عاماً بأكمله على مذهب، وطوال حياته على مذهب آخر، يجب أن توفر له فرصة عمل، لا تطعمني سمكاً علمني كي أصطاد السمك، حقيقة الزكاة لا أن تعطيه مبلغاً يكفيه أياماً معدودة، ينبغي أن تعطيه مبلغاً يكفيه عاماً بأكمله، أو تعلمه حرفة أو تشتري له آلة، أو تهيئ له عملاً، فلذلك:

 

﴿الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ﴾

 الذين لا يملكون تغطية حاجاتهم.

 

 

﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾

 من أصبح عاجزاً عن كسب الرزق.

 

 

﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

 

(سورة التوبة)

 الحقيقة هناك جهاد النفس والهوى، وهو كالتعليم الأساسي، ما لم تكن منتصراً على نفسك لن تستطيع أن تقابل نملة، وهناك الجهاد الدعوي وهو الأصل.

 

﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52)﴾

 

(سورة الفرقان)

 وهناك الجهاد القتالي، وهو وسيلة للجهاد الدعوي، فحينما قال بعض العلماء المعاصرين وأنا معه في هذا الاجتهاد:

 

﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

 تعني أن ينفق المال في سبيل نشر هذا الدين ! في تمويل مؤسسات تعليمية ومراكز إسلامية وطبع كتب أساسية وتوزيع أشرطة.

 

 

﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

 أي في سبيل نشر الحق إما عن طريق الجهاد القتالي إذا كان متاحاً أو عن طريق الجهاد الدعوي، إذا كان الجهاد القتالي غير متاح، أما هذا المصرف الكبير من مصارف الزكاة من أجل نشر الحق.
 أيها الأخوة الكرام:
 كأن الله سبحانه وتعالى جعل الضمان الاجتماعي جعله على أساس جغرافي ونسبي، فحدثنا النبي عن حقوق الجار، وعن حقوق الرحم، لا بد من أن تصل رحمك، والذي يعطي زكاة ماله لأحد أقربائه له أجران، أجر الزكاة وأجر صلة الرحم.
 أيها الأخوة الكرام: أرجو الله سبحانه وتعالى أن لا أكون قد طلت عليكم وأنا على استعداد للإجابة عن أسئلتكم، لأن الحوار مما كان يفعله النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوضح الأمور، والحمد لله رب العالمين.
 المذيع: جزاكم الله خيراً، قبل أن نبدأ بالأسئلة هناك سؤال يطوف ببال كثير من الإخوة والأخوات تعلقاً على ما تفضل به فضيلة الدكتور الآية القرآنية التي وردت في سياق آيات الصيام قول الله عز وجل:

 

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ﴾

 فضيلة الدكتور هناك العديد من الإخوة والأخوات يصرون على السؤال الآتي نحن نؤمن بالله وبفرضية الدعاء، إلا أنه ما هو العلاج الأنزع والأنجح لما يطوف بأذهاننا من استبقاء الإجابة، إذ كثير من الناس يواظبون على دعاء الله عز وجل بحاجة معينة ولغاية مواظبة معينة مما هو مشروع في الدنيا والآخرة، لكن يتسارع الناس إلى قلوبهم فنرجو الله سبحانه وتعالى أن تفيد علينا بالإجابة جزاك الله خيراً.
 الأستاذ: بارك الله بك - أيها الأخوة - الآية الكريمة:

 

 

﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾

 الشرط إذا دعان حقيقة، أحياناً يصبح الدعاء من عاداتنا وتقاليدنا كلما جلسنا في مجلس ندعو، لكن لسنا واثقين من الأمر بيد الله، ندعو دعاء كعادة أو كتقليد أو كتراث، ليس هذا الدعاء هو المطلوب.

 

 

﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾

 إذا علق الأمل علي، وثق من إجابتي وقدرتي ورحمتي وعلمي به.

 

 

﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾

 

 شيء آخر قال:

﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾

 ما الذي يحول بين الدعاء والإجابة ؟ يقول العبد: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له ؟
 إخواننا الكرام: لما الإنسان يدعو وهو متلبس بالمعصية يدعو دعاء شكلياً أجوفاً وبعيداً عن الحرارة والثقة.

 

﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾

 تؤمن بالله فتستجيب له فتخلص في الدعاء عندئذ تجاب، فإذا لم تجاب عندئذ هناك حكمة بالغة بالغة لو اطلعت عليها لذبت شوقاً إلى الله عز وجل وشكراً له، أنت إذا حققت شروط الدعاء من إيمان بالله يحملك على طاعته ومن استجابة لأمره ونهيه ومن إخلاص في الدعاء كانت الإجابة محققة إلا في حالات قد تستعجل أمراً ليس من الحكمة أن يعطيك الله إياه في وقت معين.
 مثل للتقريب: لو أن ابن للتقريب طلب من أبيه لعبة يتسلى بها قبل الامتحان بيومين، مع الأب يحب ابنه حباً جماً والابن واثق من قدرة أبيه المالية لكن ليس من الحكمة أن يشتري له لعبة تصرفه عن الامتحان، فحينما لا يجاب دعائك هناك حكمة بالغة بالغة، ينبغي أن تستسلم يدخر لك أجر هذا الدعاء يوم القيامة.
 شيء آخر: إلا أن هناك شخصين مستثنيين من شروط الدعاء المضطر، المضطر يجيبه الله لا بحسب أهليته بل بحسب رحمة الله عز وجل، والمظلوم يستجيب الله له لا بسبب أهليته للدعاء ولكن باسم العدل، فهناك شخصان أولهما المضطر وثانيهما المظلوم يستجاب لهما ولو لم يكونا أهلاً لاستجابة الدعاء.
 أما الأصل إذا آمنت بالله حق الإيمان واستجبت له ودعوته مخلصاً الإجابة محققة ما لم يكن هناك حكمة تقتضي أن لا تجاب، هذه حقيقة !
 قال تعالى:

 

 

﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)﴾

 

(سورة الأعراف)

 أنت حينما تعتدي على أخيك الإنسان وتكذب عليه وتغشه وتقيم علاقات لا ترضي الله مع الناس، وتطلق بصرك في الحرام، وتحلف أيماناً كاذبة وتأخذ ما ليس لك، وتستمتع بمن لا تحل لك أنت عندئذ لا تستطيع أن تدعو الله، هناك حجاب بينك وبين الله.

 

﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)﴾

 الدعاء مخ العبادة، بل هو العبادة، ولا يستطيع الدعاء الذي يمكن أن يجاب إليه إلا من كان مستقيماً لذلك:

 

 

﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ﴾

 إذا طالب لم يدرس يا رب تنجحني ليس لي غيرك يا رب أنت نصيري، مهما على صوته ومهما بالغ بالدعاء ومهما جاء بعبارات رنانة ودعاء مسجوع لا ينجح لأن الأخذ بالأسباب واجب ديني.
 الغرب والشرق، الغرب أخذوا بالأسباب واعتمدوا عليها فوقعوا في الشرك، والشرق لم يأخذوا بها فوقعوا في المعصية، والكمال أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا هو الكمال ! كأنك تمشي في طريق عن يمينه وادي سحيق وعن يساره وادي سحيق، إن أخذت بالأسباب كما يفعل الغرب واعتمدت عليها.

 

 

﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾

 

(سورة الحشر)

 أحداث تسعة من حيث لم يحتسبوا، أخذوا بالأسباب وبنوا الدرع الصاروخي فضربوا في عقلي دارهم ! أخذوا بالأسباب واعتمدوا عليها وألهوها واعبدوها من دون الله، الآن تتفجر الأرض في أي مكان منهم! أخذوا بالأسباب واعتمدوا عليها وألهوها ونسوا الله عز وجل.

 

﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾

 أما نحن في الشرق لم نأخذ بها نحن نتواكل على الله، مر سيدنا عمر بجماعة قال لهم من أنتم وكان في الحج ؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله.

 

 

((عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))

 

(سنن أبي داود)

 سيدنا عمر مر برجل معه ناقة جرباء، قال له: ماذا تفعل من أجل هذا الجرب ؟ قال: أدعو الله أن يصفيها قال له: هل جعلت مع الدعاء قطراناً ؟
 أجمع العلماء على أن الدعاء من دون سعي صاحبه آثم، يا رب تنجحني لا يوجد غيرك، لن تنجح لو كنت تدعوه ليل نهار، يجب أن تأخذ بالأسباب وبعدها تتوكل على الله.

 

((سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ))

 

(سنن الترمذي)

 ملخص الملخص: العالم الإسلامي لا ينقذ من محنته إلا أن يأخذ بالأسباب ويعتمد على الله عز وجل، يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ويعتمد على الله وكأنها ليست بشيء.
 مر سيدنا عمر ببلدة كل الفعاليات فيها من النصارى فعاتبهم عتاباً شديداً فقالوا: لقد سخرهم الله لنا، فقال رضي الله عنه: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم ؟ إن لم تأخذوا بالأسباب أنتم عبيد عندهم ! هذا التواكل في العالم الإسلامي كله ترتيب سيدك، لا إله إلا الله، يعصي الله ثم يقول: طاسات معدودة بأماكن محدودة ! هذا أن تعزو المعصية إلى الله عز وجل هذا جرم آخر، وقاحة ما بعدها وقاحة، أن تعزو أخطاءك إلى الله، أن تستخدم القدر باستخدام سيء حينما تقصر فهناك جزاء التقصير.
 لأن الله علم أن سيكون هناك تواصل في آخر الزمان جاءت بعثة النبي آخر بعثة، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

((عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ))

 

(مسند الإمام أحمد)

 الدعوات الآن في كل مكان في الأرض، سافرت لأستراليا والله لي في إذاعتهم ألف وثلاثمائة شريط ! والله الجالية أربعمائة ألف لبناني وألف سوري واحد، والله التأثر بالإذاعة يفوق حد الخيال، وعندما زرتهم كأنني أعرفهم من خمسين عام، فالإسلام يصل كل مكان !
 زرت أمريكا ولوس أنجلوس لا يوجد مكان لم أزوره وجدت الإسلام في كل مكان ومحاضرات علماء في كل مكان، فالله عز وجل في آخر الزمان علم أن سيكون الكون الأرض كانت خمس قارات، اليوم الأرض كلها غرفة واحدة، تفتح الأخبار يوجد حدث صار بتنزانيا، وحدث هنا و هنا خطف طائرة، هنا عمل فدائي، هنا تصريح، هنا تعليق، هنا حرب أهلية، الأرض كلها أصبحت غرفة واحدة، والحق منتشر في كل مكان.

 

﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) ﴾

 

(سورة فاطر)

 أما الآية الثانية:

 

﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾

 

(سورة هود)

 الله إذا علم وعلمه قطعي أن هذا الإنسان لن يؤمن أخذه أخذ عزيز مقتدر، هذا من الحكمة..

 

إخفاء الصور