وضع داكن
19-04-2024
Logo
محفوظات - مقدمات الكتب : 30 - مقدمة كتاب مقومات التكليف.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، سيد المربين وإمام المعلمين، المبعوث رحمة للعالمين، وبعد... فمن الثابت أن أخطر شيء في الدين العقيدة، فإنها إن صحت صح العمل، وإن صح العمل... سلم الإنسان في الدنيا، وسعد في الآخرة، فالذي يهتدي بهدي القرآن لا يضل عقله ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت.
 والعقيدة الصحيحة ينبغي أن نستقيها من القرآن الكريم، وما صح من السنة النبوية وفق قواعد علم الأصول، وبحسب فهم الصحابة الكرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للقرون الثلاثة الأولى بالخيرية، ولا يقبل ولا يعقل أن نستقيها من علوم هجينة على وحي السماء، ولا أن نقيس حقائقها بأقيسة أمم أخرى، فنحن في أمس الحاجة أن نؤصل حقائق الدين، وينبغي أن نبسطها، وأن نوائمها مع مبادئ العقل والفطرة، فالحق دائرة تتقاطع فيها خطوط أربع ؛ خط النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، وخط الفطرة السليمة، وخط الواقع الموضوعي , وينبغي أن نجسدها في حياتنا، فكما أن الكون قرآن صامت، وكما أن القرآن كون ناطق، وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، كذلك نحن في أمس الحاجة إلى إسلام متحرك نراه بأعيننا موافقاً لما نسمعه بآذاننا.
وبما أن علة وجودنا في الدنيا أن نعبد الله، والعبادة في أدق تعاريفها طاعة طوعية، ممزوجة بحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فالجانب السلوكي هو الأصل، والجانب المعرفي هو السبب، والجانب الجمالي هو الثمرة.
 وهذا الكتاب يتصل بالجانب المعرفي من العبادة، لكنه يتناول العقيدة من زاوية جديدة، فالإنسان هو المخلوق الأول رتبة، والمكرم تفضلاً، والمكلف بعبادة ربه مهمــة ؛ لأنه قبل حمل الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال فاستحق أن يسخر الله له ما في السماوات وما في والأرض جميعاً منه.
 لهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ففي الكتب المنزلة تعريف للإنسان بخالقه ومربيه، تعريف بحقيقة الكون، وتعريف بحقيقة الحياة الدنيا، وتعريف بمهمة الإنسان فيها، وقد ورد في البيان الإلهي أن البشر مخلوقون لجنة عرضها السماوات والأرض تجري من تحتها الأنهار، أُكلها دائم وظلها، لهم فيها ما يشاؤون خالدين فيها أبداً، ذلك الفوز العظيم.
 وشاءت حكمة الله أن يجعل لهذه الحياة العليا الأبدية، حياة دنيا إعدادية، وخلق الإنسان فيها ليزكي نفسه، ولتكون هذه التزكية ثمناً لتلكم الجنة، لهذا منح الله الإنسان مقومات هذه التزكية ؛ كوناً مسخراً تسخير تعريف وتكريم، وعقلاً هو أداة المعرفة ومناط التكليف، وفطرةً تكشف للإنسان خطأه وانحرافه، وشهوةً يرقى الإنسان بها صابراً وشاكراً وحرية اختيار تثمن العمل وتقي الزلل، ومنهجاً يصحح المسار، كل هذا على مسرح مكاني هو الأرض، وفي ظرف زماني هو العمر، فالعمر رأسمال الإنسان في حياته الدنيا، إذا أنفقه الإنسان في تزكية نفسه كان ثمناً لجنة ربه .

 ولهذا الكتاب قصة بدأت منذ أن تمنى علي أخ كريم أكن له كل محبة وتقدير أن أفرغ خطابي الإسلاميِّ بكل أُطُرِه وأنماطِه , وأشكالِه وألوانِه , سواءٌ في المساجدِ، أو في الجامعاتِ، أو في المؤسّساتِ الدعويةِ، أو في المراكزِ الثقافيةِ، أو في وسائلِ الإعلامِ المحليةِ، والعربيةِ، والإسلاميةِ، والدوليةِ، على الحاسوب، ليكون موسوعة ليزرية ينتفع بها طلاب العلم أولاً، ولتكون مادة دعوية لموقع النابلسي على الإنترنيت ثانياً، وقد نفذ هذا العمل فريق عمل كبير بجهده وإخلاصه، قليل بعَدده وأدواته، أشكرهم جميعاً، وأخص منهم بالذكر الأستاذ بلال نور الدين الذي كانت له مساهمة مشكورة في إخراج هذا الكتاب.
 ولا يَسَعُني هنا إلا أنْ أدعوَ فأقولَ: جزى اللهُ عنا سيدَنا محمداً  ما هو أهلُه، وجزى عنا أصحابَه الكرامَ ما هم أهلُه، وجزى عنا والدِينا، وأساتذتنا، ومشايخَنا، ومَن علّمنا، ومَن له حقٌّ علينا ما هم أهلُه.
 أعوذ بك يا رب أنْ يكونَ أحدٌ أسعدَ بما علّمتني منّي، وأعوذُ بك أنْ أقولَ قولاً فيه رضاك، ألتمس به أحداً سواك، وأعوذُ بك من فتنةِ القولِ، كما أعوذُ بك من فتنةِ العملِ، وأعوذ بك أنْ أتكلّف ما لا أحسنُ، كما أعوذُ بك من العُجبِ فيما أحسن.

دمشق في 29 / 5/ 2005
الدكتور محمد راتب النابلسي

إخفاء الصور