وضع داكن
16-04-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 46 - الخطبة 2 - طرق الخطبة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

مقدمة:

أيها الإخوة المؤمنون، لازلنا مع الموضوعات الفقهية التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، والموضوع الذي طرح شطره في الدرس الماضي موضوع الخُطُوبَة، وقد قلت لكم في درس سابق: ما من بيت فيه فتيات في سن الزواج إلا وهذا البيت في أمسّ الحاجة إلى هذا الموضوع، وما من بيت فيه فتيان في سن الزواج إلا وهم في أمسّ الحاجة إلى هذا الموضوع، وهذا الموضوع يشمل الفتيان والفتيات، ويشمل الأولياء آباءً وأمهات.
تحدثنا في الدرس الماضي عن الخطوبة، عن تعريفها، وعن مراحلها، ووصلنا إلى موضوع دقيق، وهو التعرف على المخطوبة، أي رؤيتها.

ليست رؤية الخاطب المرأة المخطوبة في أول لقاء:

وبادئ ذي بدء، أكثر الأسر في أول زيارة قبل أن يبحثوا في أي شيء يطلبون رؤية الفتاة، والحقيقة أن رؤية الفتاة ينبغي أن تكون آخر مرحلة، فإذا كان هناك موافقةٌ مبدئية على الشاب، وإذا كان هناك موافقةٌ مبدئية على الشروط، أين تسكن هذه الفتاة، في بيت مستقل، مع أهله، في بلد خطبتها، في بلد آخر

هذه موضوعات حساسة، أين تسكن ومع من تسكن، ومن هو الخاطب، ما سنه، ما مؤهلاته العلمية، ما مؤهلاته الاقتصادية، ما مؤهلاته الاجتماعية، مباشرةً من أول لقاء يطلبون رؤية الفتاة، ليست الفتاة سلعةً ترى، وتقلب، ثم يبحث في أسعارها وأثمانها، هذا ليس وارداً إطلاقاً، الإنسان له كرامته، له قيمته، وفضلاً عن ذلك هناك من يأتي ليخطب فتاةً، يأتي الخاطب والأب والعم والخال ليروا المخطوبة، ما هذا ؟ هذا كله خلاف الشرع.
التعرف على المخطوبة يجب أن يأتي في مرحلة أخيرة، الشاب مقبول، السكن مقبول، المستوى الاجتماعي مقبول، المستوى الاقتصادي مقبول من الطرفين، هو قبل وهي قبلت بقيت عقبة وهي أساسية أن تكون هذه المخطوبة مما يرغب بها الخاطب، لذلك أتمنى على كل الأخوة الأكارم في موضوع الخطبة أن يرجئوا موضوع النظر إلى المخطوبة إلى آخر مرحلة بعد أن يتفقوا على كل شيء.
ما الذي يحدث في الأسر غير المنضبطة ؟ أن هذا الشاب يرى هذه الفتاة تتزين له، ويراها في أبهى زينة، وتعلق آمالاً عريضة، ثم يكتشف أن الزواج ليس في بلدها، بل في بلد آخر، يرفضون، وكان قد رآها، يأتي خاطب آخر يرى الفتاة، ثم يختلفون على المهر، ويأتي خاطب ثالث، يرى الفتاة، ثم يختلفون على السكن، يطلبون سكنًا في بيت مستقل، وأهل الخاطب يلزمونها أن تسكن معهم، لا ينبغي أن تكون الشروط الأساسية لاحقة للرؤية، يجب أن تكون سابقةً للرؤية، فإذا تم الاتفاق على كل شيء، وتوضح كل شيء، وصار كل فريق يقبل الفريق الآخر بكل الشروط التفصيلية فلابد عندئذ من الرؤية، ومن حق الخاطب أن يرى مخطوبته، ومن واجب ولي الأمر أن يسمح له برؤية مخطوبته، وهناك أحاديث كثيرة تؤكد ذلك سوف نستعرضها.

مرحلة ما قبل الخطوبة والرؤية:

لكن هناك نقطة مهمة جداً، وأرجو الله عز وجل أن تكون واضحةً عندكم: هناك مرحلة تسبق الخطوبة، ما رأيكم ؟ لأنه حينما يأتي بيت فلان ليخطبوا من بيت فلان ، وبيت فلان معروفون، وبيت فلان معروفون، فإذا جاؤوا ليخطبوا، ولسبب أو لآخر لم تعجبهم الفتاة، ماذا يقال بعد ذلك ؟ والله ما أعجبتهم الفتاة، فالذي لا يرى الفتاة يتوهم شيئًا آخر، إنها ليست في المستوى المطلوب، أو لسبب اجتماعي، أو لسبب أخلاقي، لذلك يوجد مرحلة قبل الخطوبة، لا ينبغي أن يعرف من الخاطب، ولا من الأسرة، لذلك ورد في الفقه أنه يمكن أن تتعرف على من ستكون مخطوبتك قبل أن تتعرف مخطوبتك من أنت، هذا ما تفعله بعض الأسر في دمشق، تأتي امرأة أم الخاطب، تدخل البيت، وتتكتم عن اسم الأسرة، أو تعطي اسماً خلبياً، فإذا كانت الشروط المطلوبة مقبولة أخبرت الخاطب، وعندئذ تقدموا بشكل رسمي لخطبة الفتاة، لا الأسرة التي رفضت محرجةٌ، ولا الأسرة المخطوبة محرجة، ما عرفوا من خطب، ولا من طلب، ولا من استنكر، هذه مرحلة في الفقه تسبق الخطوبة، لأن الخطوبة مرحلة تقريباً فيها موافقة بين الطرفين، فكيف توافق إذا ذهبت إلى أن ترى، لذلك قالوا: يجوز التعرف على المخطوبة مباشرةً، أو عن طريق جهةٍ ثانية، الطريقة الأولى أن يرسل الخاطب امرأة يثق بها، وقد تكون المرأة أمه، أو أخته، وقد تكون خالته أو عمته، وقد تكون امرأة إنسان يثق بدينه وعلمه، فهذه المرأة لا تقول من الخاطب، ولا من الأسرة تنظر إلى الفتاة، فإن كانت في الحد المطلوب أعلنت ذلك، هذا كله حفاظاً على كرامة الأسر، وحفاظاً على مشاعر الفتاة، حفاظاً على قدسية الزواج.
إذاً يجوز للخاطب أن يرسل امرأة يثق بها تنظر إلى مخطوبته، وتخبره بصفاتها، فإن كانت صفتها على خلاف ما يريد طوي الأمر، وكأنه لم يكن، وإن كانت المخطوبة في الصفة التي يرغب فيها الخاطب عندئذ جاؤوا مرةً ثانية، وسموا الأسرة، وقالوا: نحن بيت فلان، نريد التقدم لخطبة ابنتكم، طبعاً كل الكلام من الشرع.
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ))

[ الترمذي، ابن ماجه، النسائي ]

طرق الخطبة:

1 – إرسال المرأة الموثوقة جلبا للمصالح ودفعا للمفاسد:

النبي عليه الصلاة والسلام بعث أم سليم، وقال: انظري إليها، أن يرسل الخاطب امرأة يثق بدينها، هناك حالات الأهل لهم اتجاه، والشاب له اتجاه، فإذا أرسل هذا الشاب ليخطبوا له، فالفتاة التي تعجبه بدينها وخلقها قد لا تعجب أهله، لذلك يبخسون بها، قد يتناقض الخاطب مع أهله، فلذلك لابد من أن يرسل الخاطب امرأة يثق بدينها، يثق بصدقها، يثق بنصحها، يثق بأنها لا تحيد، لا تبالغ، لا تطمس الميزات، أنا أعلم علم اليقين أن هناك حالات كثيرة من الزواج لم تنجح، لا لأن الفتاة ليست بالمستوى المطلوب، بل لأن أهل الشاب لا يرغبون أسرةً متدينة، الأسرة التي تعجب الشاب يضعون العلل كثيراً في فتيات هذه الأسرة، فالشاب يجب أن يرسل امرأة قد تكون أمه، أخته، عمته، خالته، أو امرأة أخ مؤمن يثق بدينه وعلمه، لابد من أن تكون المرأة صادقةً موثوقةً حتى تنقل له الصورة الصحيحة، فإن جاءت الصورة مطابقةً لطموح الشاب الآن أعلنا الخطوبة.
إنّ هذه مرحلة يجب أن تسبق الخطبة، وللمرأة أن تفعل مثل ذلك، هل في الإسلام عدالة أدق من هذه العدالة ؟ كما أن للشاب له الحق أن يرسل من تخبره عن صفات الشابة قبل إعلان الخطبة كذلك للفتاة أن تكلف أخاها أو أباها أو قريباً لها من محارمها أن ينظر إلى حال الشاب، وأن يخبرها عنه، وهذا من أين استنبط ؟ من قول الله عز وجل:

﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

( سورة البقرة )

إنّ المرأة لها شخصيتها، ولها اختيارها، ولها استقلالها، كما أن الشاب يجب أن يتأكد من مستوى مخطوبته، كذلك للمرأة أن تفعل ذلك بإرسال أحد محارمها لينظر إلى خاطبها، فإن أعجبه نقل إعجابه لمخطوبته فتمت الخطبة.
اتضح لكم الآن أنه قبل أن تعلن الخطبة بشكل رسمي، وقبل أن تتقدم الأسرة لتخطب فتاة من بيت فلان ينبغي أن تسبق هذه المرحلة مرحلة فيها تكتم شديد، فيها بُعد عن إظهار الأسماء حفاظاً على كرامة الأسر، وحفاظاً عن القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة الوقت، لماذا لم يأخذوا ؟ من الرافض ؟ هم يدعون أنهم رفضوه، وهي تدعي أنها لا تعجبه، هذا كله نهش في أعراض المسلمين لا يرضي الله عز وجل أبداً.
أنا أعلم علم اليقين أنه ما من خطبة لم تنجح إلا سمعت رأيين متناقضين، سمعت من أهل الفتاة أنه شاب سيئ جداً، رفضوه، ولن يلتفتوا إلى مثل هذا الشاب، وإذا سألت أهل الشاب يقولون: هذه امرأة تصاب بالدوار، ومعها مرض، ومعها كذا، هذا لا يجوز، هذه أسرار المسلمين، هذه معلومات لا ينبغي أن تنشر، لذلك عندما يتكلم الإنسان فيما لا يعنيه يتحمل مغبة عمله.

2 – نظر الخاطب إلى مخطوبته وأدلة ذلك:

الطريقة الثانية: أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته فوراً، ينظر إلى الوجه والكفين والقامة، إذ يدل الوجه على الجمال والكفان على الخصوبة والنحافة، والقامة على الطول والقصر، الوجه له دلالة، والكفان لهما دلالة، والقامة لها دلالة، وقد دل الشرع الحنيف على جواز من يريد الرجل خطبتها.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ، قَالَ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا، وَتَزَوُّجِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا ))

[أبو داود، ابن ماجه ]

رؤية الخاطب لمخطوبته حق شرعي له، جاءت به السنة المطهرة، فلا يحق للأب أن يمتنع، ولا يحق للشاب أن يرفض، لأن الزواج قضية مصيرية، وليست قضية سهلة، لذلك كل إنسان يتسرع بالزواج هذا الزواج ينتكس، وكل إنسان تزوج بعد دراسة متأنية أغلب الظن أن هذا الزواج ينجح، لذلك الآية الكريمة في قوله تعالى:

﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾

( سورة النور )

يفهمها بعض المؤمنين فهماً خطأً، هذه الآية لا تعني أنه بالضرورة كل مؤمن زوجته مؤمنة، ولا كل مؤمنة زوجها مؤمن، هذه آية جاءت بصيغة الخبر، لكنها تفيد الإنشاء، كما قال المفسرون: ينبغي أن يكون الطيبون للطيبات.

الكفاءة:

هذا ينقلنا إلى موضوع في الفقه، وهو موضوع الكفاءة، الإنسان له مستويات عديدة له مستوى معاشي، له مستوى ثقافي، له مستوى علمي، له مستوى في التدين، فلا ينبغي أن تزوج فتاة دينةً صالحةً حافظةً لكتاب الله عز وجل أن تزوجها لشاب بعيد عن الدين، إن هذا الزواج جحيم، هي في مستوى وهو في مستوى، هي يعنيها حفظ القرآن، وتعنيها صلواتها وعبادتها، وطاعتها لربها، وهو يعنيه منها ما يشيع بين الناس من اختلاط وفساد، ونزهات مختلطةٍ، لذلك تنشأ الخصومات، والشقاق، وهذا الزواج لن ينظر فيه إلى الكفاءة بين الزوجين، يوجد كفاءة دينية، ثقافية، اقتصادية، اجتماعية.
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ))

يؤدم بينكما، أي أن يوفق بينكما.
وقد أرسل النبي صلى الله المغيرة إلى رؤية خطيبته قبل الخطبة، لكن أحياناً هناك مَن يقول لك: مشكلة الزواج أن كل الخبرات التي يحصلها الزوج من زواجه لا يستفيد منها، لأن الزواج مرة واحدة في الأعم الأغلب، فترى كل رجل يقول لك: لو عملت كذا، لذلك إذا سأل الإنسان، وبحث، وكون خبرات قبل الزواج هذه يستفيد منها، أما أن يستفيد من خبراته الشخصية فأغلب الظن أنه لا يستفيد، منها لأن الزواج مرة واحدة، وهذا المزواج المطلاق هذا إنسان مجروح العدالة، يتزوج ويطلق لأسباب تافهة، ويتزوج ليذوق امرأة أخرى، لعن الله الذواقين والذواقات، كما قال عليه الصلاة والسلام، الزواج عملية مقدسة جداً، وهي أقدس عملية في الأرض، قال تعالى:

﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ﴾

( سورة النساء )

هو أقدس عقد، وأخطر حدث في حياة الإنسان، يولد، ينشأ، ثم يتزوج، هذه امرأة ستكون معه طوال حياته، في خلوته وجلوته، في مسراته وأتراحه، في ارتفاعه وانخفاضه، في قوته وضعفه، ملازمة له، فالمرأة التي لا تستطيع أن تعيش معها كيف تخطبها ؟
عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ حُمَيْدَةَ الشَّكُّ مِنْ زُهَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لا تَعْلَمُ ))

هنا نقطة مهمة سأوضحها لكم، أحياناً يطرق خاطب باباً من أبواب المسلمين فلا يعود، وخاطب آخر لا يعود، وخاطب ثالث لا يعود، فهذه الفتاة ربما تأثرت لهذه الإخفاقات المتتالية، فإن جاء خاطب رابع بإمكان ولي الأمر أبًا كان أو أخًا، أن يسمح للخاطب أن يرى مخطوبته من دون أن تشعر، من دون أن تعلم، وهذا يغطي حالة أخرى ، هذه الفتاة حدثت معها مشكلة، أول خاطب وثاني خاطب، والثالث.
مرة كنتُ في ندوة في إذاعة عربية، ندوة دينية، وهذه الندوة كانت تتلقى أسئلة على الهاتف، وهناك مفتٍ في بلد عربي مسلم، جاء هاتف من فتاة، والله أنا بكيت، قالت لهذا المفتي: كلما جاء خاطب لا يعود وأجهشت بالبكاء، معنى هذا أن الإنسان عندما يخطب، ويقلب هذا كسر للفتاة، الفتاة لها كرامتها، لها مشاعرها، هذه البنت كلما جاءها خاطب ولى مدبراً ولم يعقب، معنى هذا أنه لا يجب أن نضيف الحالات الكثيرة، الأولى في مثل هذه الحالة أن نسمح للخاطب أن يرى هذه الفتاة دون أن تشعر، هذا يغطيه حديث لا يرقى إلى مستوى الصحة: 

(( إذا أراد أحدكم أن يتزوج فليولج بصره )) 

[ورد في الأثر]

معنى يولج بصره أنه أن يرى دون أن يُرى.
وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام:

((... فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لا تَعْلَمُ ))

فإذا تتالى الخطاب ربما يورث إحراجاً للفتاة، وجرحاً لها، فالأولى أن نسمح للخاطب الجديد أن يرى مخطوبته من دون أن تشعر.

مقدار ما يباح النظر إليه في الخِطبة:

يرى أكثر الفقهاء، وأنا أقول لكم دائماً: يجب أن نكون مع مجموع الفقهاء، مع الجمهور لا مع رأي الفرد.
مرة حدثني أخ كريم أنه كان طالباً بمدرسة، فقال لهم أستاذ التربية الإسلامية: يجوز للخاطب أن يرى مخطوبته كما خلقها الله، قلت: من قال هذا ؟ قال: هكذا قال أستاذنا، قلت: ما دليله، فسأله فقال: قول النبي

(( انظر إليها ))

والمطلق على إطلاقه، شيء جميل، ما هذا الاستنباط المضحك، قلت له: لو عرضت هذا الأمر على ألف ملحد لا يقبل واحد أن يرى الخاطب مخطوبته كما خلقها الله، هذا الكلام مستحيل، ونحن لا نريد أن نتبع الآراء الشاذة، ولا الآراء الأحادية، نريد أن نتبع جمهور الفقهاء، قال أكثر الفقهاء:

((على أن للخاطب أن ينظر إلى من يريد خطبتها إلى الوجه والكفين فقط))

وأنا أعلم، صدقوني عدة حالات رفض الخاطب مخطوبته لأنها بدت له في أبهى زينة، فعد هذا ضعفاً في دينها، هي ماذا أرادت، أو ماذا أراد أهلها ؟ أن تظهر فتاتهم بأبهى زينة أمام الخاطب، لعل هذا يؤكد قبولها، الذي حدث هو العكس، أن الخاطب حينما رأى مخطوبته ليست ملتزمةٍ رفضها لضعف التزامها.
لهذا أيها الإخوة الأكارم، لا تنسوا هذا الحديث الشريف، وأنا أعد هذا الشريف مقياس:

(( من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى ))

[ ورد في الأثر ]

أنت أردت هذا الشيء بهذه المعصية، ابتعد منك هذا الشيء، أنت أردت بهذا الشيء، وخفت من هذا الشيء، سلكت طريق المعصية، هذا الشيء الذي تخافه اقترب منك، لذلك الأهداف النبيلة لها وسائل نبيلة، اعلم علم اليقين أن كل شيءٍ، وهنا نقطة دقيقة جداً ، عندما يعيش الإنسان مع الناس يستنبط قواعد، هذه القواعد ربنا عز وجل أحياناً يعطلها إذا أنت أردت أن تستخدمها من دون طاعةٍ لله.
أحد إخواننا الكرام تعاقد مع شركة أجنبية ومعه سيارته، أول ما قام بالعمل أو يوم، هؤلاء الخبراء اشتروا خمراً، فلما شعر أن هؤلاء يستخدمون سيارته لنقل المشروبات، والأجر كبير جداً وضخم جداً، قال: لا أسمح لأحدٍ أن يستخدم مركبتي للمشروبات، فمنطق الناس، ومنطق العصر أن هذا يرفض، والذي حدث هو العكس أن هذه الشركة وثقت بهذا الموظف إلى أعلى درجة، ومنحته تعويضات وإضافات وميزات ما كان يحلم بها، لأنه وقف الموقف الشريف.
هناك نقطة أرجو الله أن أوضحها لكم، البشر يخططون، البشر لهم قواعد تحكم تحركاتهم، وهذه قواعد مستنبطة من الحياة الاجتماعية، لما يؤثر المؤمن جانب الله عز وجل، فالله عز وجل له خطة أخرى، قد يعطل بها قواعد البشر، أنت بحسب منطق الأحداث، إذا رفضت معصية، ورب العمل أقوى منك يطردك، لكن من قال لك: إن الله عز وجل يسمح له بذلك، ربما رفضك لهذه المعصية كما جاء بالحديث أن الله عز وجل يزرع في نفسه توقيرك وتعظيمك، فهذه النقطة غير موضوع الخطبة في التجارة والصناعة والعلاقات الاجتماعية، في الصفقات، في كل شيء، حينما تؤثر جانب الله عز وجل يغير ربنا لك القواعد المألوفة في التعامل، وهذه كرامة لك، وإذا كنت مع الله كان الله معك، كان الله معك بالتأييد، والنصر، والتوفيق، والحفظ.
يرى الفقهاء للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته إلى وجهها وكفيها فقط، لأن رؤيتها تحقق المطلوب من الجمال، وخصوبة البدن وعدمها، فالوجه يدل على الجمال، والكفان تدلان على خصوبة البدن، والقامة تدل على الطول، والحنابلة أجازوا إلى ما يظهر عند القيام بالأعمال، أجازوا الوجه والرقبة واليد والقدم والساق، هذا رأي الحنابلة، نحن إذا كان هناك آراء عديدة نأخذ بالأحوط، أليس كذلك ؟ أما عند الضرورة فنأخذ بالأسهل، وعند عدم الضرورة نأخذ بالأحوط.

شروط الرؤية ووقته

ينبغي أن يكون نظر الخاطب إلى مخطوبته قبل الخطبة، إما مباشرةً أو عن طريق امرأةٍ يثق بها، ويرجح أن تكون بغير علم المرأة ـ كما قلت في مستهل الدرس ـ مراعاةً لكرامة المرأة، ولكرامة أسرتها، فإن أعجبته تقدم لخطبتها من غير إيذاء لها، ولا إحراج لأسرتها، وهذا هو المعقول.
ماذا يحدث في بعض الأحيان ؟ تقام زيارة لأقاربها، في حضور مجلس علم، هناك من ينظر إلى أدبها، إلى ورعها.
مرة أخ كريم قال لي: لا يوجد فتاة تحضر في هذا المسجد إلا خطبت، قلت له: الحمد لله، عندنا نعمة ثانية غير الهدى، فتاة في مجلس علم، طبعاً الحاضرة هذه لها أخ، هذه أخت، هذه ابن أخ، ورأى البنت مناسبة محجبة، فيها حياء، خجل، تسأل عنها، يمكن أن يكون اللقاء في مجلس العلم مناسبة أيضاً، يمكن في زيارات الأقارب أيضاً مناسبة، فهذه المرحلة تسبق الخطبة النظامية الرسمية، وأنا أعتقد أن كل أم في ذهنها، وتبحث عن فتاة لابنها، فإن رأت فتاة في أي مكان مناسبة من حيث الأخلاق والشكل تبحث عن أهلها، ثم تقصد بيتها.
فقلت لهذا الأخ: والله لقد سررت بهذا الخبر، لأن بنات إخواننا الكرام بناتنا ، وهذه نقطة مهمة جداً، إذا لم يكن هناك حب، ومحبة الآباء تستوجب محبة الأبناء، هذه قاعدة، الأخ في المسجد له حق على هذا المسجد، ابنه يجب أن يتعلم، ابنته أن تتزوج، هذا من حقه، نحن في معهد تحفيظ القرآن الهدف منه أن يحفظ أطفال إخواننا القرآن، نحاول أن نرغبهم بنزهات، وبأشياء إسلامية مشروعة، حتى هذا الأخ ينشد إلى المسجد، ابنه ابننا، وابنته ابنتنا، والله يدخل إلى قلبي فرح لما أشعر أن أخاً كريماً له بنت تزوجت من شاب مؤمن، أشعر براحة كبيرة، وهذا شيء طبيعي جداً، والحد الأدنى من الإيمان أن المؤمن للمؤمن أخ له يفرح لفرحه، ويتألم لألمه، وإذا كان لأخ ابنة ما خطبها أحد أشعر بألم، وأبحث بكل طاقتي، وهذه الأشياء نصيب، وليس باليد، ولا شيء أملكه، فهذا الأخ الذي أخبرني أن كل الفتيات خُطبنَ قلت له: الله يجبر بخاطرك.

تحريم الخلوة بالأجنبية:

عندنا موضوع دقيق جداً، وهو تحريم الخلوة بالمخطوبة، الخطبة ليست زواجاً، نحن مسلمون، نحن يحكمنا شرع الله عز وجل، مرجعنا كتاب الله وسنة رسوله، عندنا منهج نسير عليه، عندنا قانون نتبعه، قانون هو الله عز وجل، ترى إنسانًا متفرنجًا، والاسم مسلم، ونمط حياته نمط غربي، من عادات الغرب أن الخطوبة تستمر سنوات وسنوات، حتى يتعرف على أخلاقها، ويأخذها عدة سنوات، حتى ينفرد بها عدة مرات، وحتى يفعل كل شيء ثم لسبب تافه يتركها.
سمعتم مرة في الشام بجريمة وقعت، أن شابًا خطب فتاة أربع أو خمس سنوات، وهي طالبة في الطب، ولما تخرجت يظهر أنها وجدته دون مستواها، والخطبة طويلة جداً، فهذا الشاب امتلأ حقداً فقتل أباها وأخاها وأختها وأمها ومخطوبته، وقتل نفسه.
هذه كلها مخالفات للشرع، فالخطبة لا ينبغي أن تطول، وينبغي أن تعلم أن النبي الكريم قال: أخفوا الخطبة، وأعلنوا النكاح، وبالإعلان الشديد والصارخ للخطبة أقاويل، والعقد لم يتم، يأتي إنسان تافه يقول له: ماذا نريد بهذا البيت ؟ ليس من مزاجك، ما هو الدليل ؟ هكذا رأيت، هذا الكلام فيه خراب بيوت.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ))

أنا سمعت أن مَخبر جاءه تحليل حمل، فيظهر أن هذه العينة كسرت، وهذا الموظف خاف من صاحب العمل، وأحضر عينة ثانية، وحللها فجاء الأب، وقال له: هنيئاً، ابنتك حامل، والأب ابنته لها مشكلة، وهي مخطوبة، ولم يحدث عقد ، فعندما قال له حامل قتل ابنته، والأب جاهل، هل تعلمون من قتلها حقيقةً ؟ المَخبر هو الذي قتلها حقيقةً، فالذي يهمل، ويراقب موظفيه يخسر، هذا الموظف مهمل، أحضر عينة أخرى، وقال له: مبروك، البنت حامل.
هناك أشياء خطيرة جداً، فلذلك كان تحريم الخلوة بالمخطوبة، لأن الخطبة ليست زواجاً، إنما هي وعد بالزواج، كما أسلفنا في الدرس الماضي في تعريف الخطبة: وعد بالزواج، فلا يترتب عليها شيء من أحكام الزواج، لا الخلوة، ولا المعاشرة بالانفراد، لأنها ما تزال أجنبيةً عن الخاطب، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة عن الخلوة بالأجنبية، وعن الجلوس معها إلا مع محرمٍ، كأبيها، أو أخيها، أو عمها، ومن تلك الأحاديث:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَامِرٍ يَعْنِي ابْنَ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَنْ مَاتَ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ طَاعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، فَإِنْ خَلَعَهَا مِنْ بَعْدِ عَقْدِهَا فِي عُنُقِهِ لَقِيَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَيْسَتْ لَهُ حُجَّةٌ، أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، إِلا مَحْرَمٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ وَسَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ))

لم يقل: مؤمن، كافر، قال رجل، أيّ رجل لا يجوز أن يخلو رجل بامرأة لا تحل له، والمخطوبة امرأة لا تحل لك، هذا وعد بالزواج، الشرع أباح لك أن تنظر إليها في حضرة محرم، إذا رآها في حضرة أمها، وأمها أجنبية عنه، أخي هذه حماتي، لا، هي حماتك في المستقبل، ينبغي أن تنظر إلى مخطوبتك فقط، من المحرم والدته، يأتي هو ووالدته، ويرى المخطوبة، يمكن أمام أبيها، إما امرأة من محارمه هو، أو رجل من محارمها.
وأما المعاشرة والذهاب معها إلى أماكن عامة فلا يجوز، وهناك كثير ممن يخطب، ويعقد، ويطلبها إلى نزهة، فيرفض الأهل، ما هو الجواب ؟ إذا تم العقد فهي زوجته، لكن لماذا يرفض الأهل ؟ هناك عرف، والعرف كما تعلمون أحد مصادر الشرع، العرف أن هذه الفتاة كتب كتابها، ولكن لم تدخل، فإن نشب خلاف عنيف في أثناء الفترة بين العقد والدخول، وكانت قد ذهبت معه في نزهات كثيرة، وأماكن كثيرة، والأمر قضي، معه حجة قوية جداً، أنها ليست بنتاً، أما حينما لا يسمح له بأن ترافقه إلا بعد الدخول، ومعروف أنه عند الدخول يتأكد أنها فتاة عفيفة طاهرة، كذلك العرف يأخذ به، إذا انفرد بها دائماً قبل الدخول يمكن أن يحدث الأمر النهائي، إذا حدث هذا الأمر، وصار خلاف يقول لك: هذه ليست فتاةً، هناك مجال أن يكيد كيداً كبيراً للأسرة، فلذلك نحن مع الشرع، ومع العرف الذي أقره الشرع، أما المعاشرة قبل الزواج، والذهاب معاً إلى الأماكن العامة فهذا كله ممنوع شرعاً، بل إنه لا يحقق الغاية المرجوة، إذ كل منهما يظهر بغير حقيقته، هؤلاء النساء القدامى عندهم خبرات، الآن كل شاب يخطب فتاة يأتي، ويمدحها لأمه، يا أمي ما هذه البنت، هذه ملَك، فهذه الأم تعرف الحقيقة، تقول له: على رسلك، بعد سنتين تعرفها كما هي، لا يوجد إنسان في الخطبة إلا ويظهر في أعلى درجة من اللطف والأناقة واللين والحلم، الخاطب والمخطوبة، لكن بعد الزواج يظهر الوضع الحقيقي، فالشاب يندفع اندفاعاً شديداً، ويكيل المديح جزافاً لمخطوبته، وهي بالمقابل تكيل المداح جزافاً لمخطوبها، لكن بعد الدخول يصبح الزواج عاديًا، مثله مثل أي زواج، فالإنسان له ميزات، وله نقائص، له إيجابيات، وله سلبيات، إنسان كله سلبيات غير موجود، وإنسان كله إيجابيات غير موجود.
كان هناك ملِك من ملوك الأندلس اسمه المعتمد بن عباد، كان مرة يتنزه في حديقته، فنظم شطر بيت، ثم سمع صوتاً من خلف يكمل له شطره الآخر، هي جارية، وشاعرة، أعجب بها، وتزوجها، وأكرمها إكراماً ما بعده إكرام، مرةً حنّت هذه الجارية إلى حياتها الفقيرة، يوم كانت تمشي في الطين، وتحمل الحاجات، فلما طلبت منه ذلك جاء بالمسك والعنبر، وجبله كالطين، من أجل أن تدوس فيه، فسمي هذا اليوم يوم الطين، فلما نحي عن منصبه، وجاء ابن تاشفين، وأزال ملوك الطوائف جميعاً، وتولى عنهم قيادة البلاد ضد الإسبان، فهذا الملك ابن عباد دخل السجن، وافتقر، فمرة قالت له هذه الجارية التي أكرمها إكراماً ما بعده إكرام، قالت له: لم أرَ منك خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين، هكذا بعض النساء يكفرن العشير، إذا أحسنت إلى إحداهن الدهر كله الملك ابن عباد ثم رأت منك شيئاً قالت: لم أرَ منك خيراً قط.

العدول عن الخِطبة:

بما أن الخِطبة ليست زواجاً، وإنما هي وعد بالزواج فيجوز في رأي أكثر الفقهاء للخاطب أو المخطوبة العدول عن الخطبة، هي ليست زواجاً، ولكنها وعد بالزواج، إذاً يجوز، لكن المؤمن الراقي يقول: لا يوجد نصيب، أسرة كريمة، وهم أفضل مني، ولكن الظروف قاهرة، أنا عندي دراسة، وأهلها قالوا: إنها صغيرة، وأحبوا أنها تكبر، المؤمن يختار سبباً لطيفاً جداً، إذا سئل: لماذا لم تتابع ؟ وكلما كان مستواك أرقى لا تخلق مشكلة، ولا تتهم، ولا تشير، بالاتهام إليهم، وهم بريئون منه، فأجمل كلمة: لا يوجد نصيب، وهذه الأسرة طاهرة وكريمة، ولكن يوجد ظروف خاصة، يوجد عندي سفر، هكذا المؤمن، أما أهل الدنيا المتفلتون من شرع الله عز وجل فيقول أحدهم ما يحلو له بحق أو بباطل، وهذا كله محاسب عليه.
هناك حديث:

(( قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة ))

[ مسند الفردوس ]

الإنسان قبل أن يغلط في أعراض الناس، قبل أن ينهش، أنا لم أقل شيئاً سوى أني هززت القميص، هذا قذف محصنة، أحيانا يرفع حواجبه، هذا أيضاً اتهام، أحيانا يغمز بإشارة، كل هذه اتهامات.
هناك تعليق لطيف، وأكثر الناس يستخيرون الله عز وجل، يقول لك: استخرتُ ولم أجد شيئًا، ماذا تريد أن ترى ؟ هل تريد وحياً أن يقول لك شيئًا ؟
بعضهم لم يفهم ما هي الاستخارة، لما يستخير الإنسان الله عز وجل يقول: يا رب، إن كان هذا الأمر خيرًا لي في ديني ودنياي، وعاجل أمري فيسره لي، إذاً ما هو الجواب ؟ عندما يتيسر الأمر معنى هذا أن الله يريد هذا الأمر، خطبت، وقلت: أنا عندي بيت غرفة واحدة فقط، فقالوا: نحن نريد بيتًا كبيرًا، معنى ذلك أنهم رفضوا، وهذا الزواج، لن يتم، وعندما قبلوا فقبولهم تيسير من الله عز وجل، فلا أحد ينتظر منامًا.
الآن هناك طريقة جديدة، أنا كلفت فلاناً أن يصلي لي الاستخارة، من قال لك: إنه يجوز لإنسان آخر أن يجري استخارة لك، هذا ما ورد إطلاقاً، وما فعلها النبي، تستخير أنت لنفسك، والدعاء معروف، تصلي ركعتين وتقول: اللهم إن كان هذا الأمر فيه خير لي في ديني ودنياي، وآجل أمري وعاجله فيسره لي، وإن لم يكن كذلك فاصرفه عني، واصرفني عنه، أما أروع ما في الدعاء: واصرفني عنه، لا أبقى معلقًا به، كمن خطب فتاة، ولا يوجد فيها خير، وبقي قلبه معلقًا بها، هذه مصيبة، من كرم الله عز وجل أن الشيء الذي لا خير فيه أن يصرفك عنه، لكن أطمئنكم هناك حديث: 

(( ما كان الله ليعذب قلباً بشهوة تركها صاحبها في سبيل الله )) 

[ ورد في الأثر]

إذا تركت شيئاً في سبيل الله إكراماً لك من الله عز وجل لن يعذبك بهذه الشهوة.
رجل خطب في الجاهلية فتاة في أعلى درجة من الجمال، فلما اهتدى إلى الله، واصطلح معه رآها لا تليق به، مع أنها في غاية الجمال، ثم خطب فتاةً مؤمنة أقلّ منها جمالاً، فإكرامًا له لا يمكن أن يتعلق قلبه بهذه الفتاة، لماذا ؟ لأنه آثر جانب الله عز وجل.
لذلك إذا لم يكن العقد فلا إلزام ولا التزام، لا يستطيعون أن يلزموك، وأنت لا تلتزم، ولكن يطلب خُُلقاً أي ديانةً، كمالاً ألاّ ينقض أحدهما وعده إلا لضرورة أو حاجة شديدة، كامرأة بعد أن خطبها رجل أصلحت سنًّا في فمها، يتركها لأسباب تافهة، هذا لا يجوز، مراعاة لحرمة البيوت وكرامة الفتاة، لا ينبغي للخاطب أن يعدل عن خطبته إلا لسبب وجيه.
هناك أمر آخر متعلق بالعدول، إذا أردت أن تعدل عجل بالعدول، كمن خطب وبعد يومين قال: لا يوجد نصيب، لا مشكلة، بعد أسبوع أصعب، بعد أسبوعين لا تنام المخطوبة، أين سوف نسكن ؟ أريد أن آخذ غرفة نوم لونها زهر، تجعلها تسير في خيالات، أما إذا رفضت فبلّغهم ثاني يوم، ولا تتركهم شهرًا، في هذا الشهر تكون قد بنت قصوراً شاهقة، فالسُّنة إذا أردت أن تعدل فليكن إبلاغك لعدولك سريعاً جداً حتى لا تتأزم الأمور.

الآثار المترتبة على فسخ الخطبة:

1 – لا أثر لانفساخ الخطبة:

لا يترتب على انفساخ الخطبة أي أثر مادام لم يحصل العقد، و يكونون قد قدّموا خاتم خطبة.

2 – حكم رد الهبات والهدايا:

أما ما قدمه الخاطب من مهر فله أن يسترده، سواء أكان هذا الشيء الذي قدمه قائماً أم هالكاً أم مستهلكاً، قائماً كخاتم، هالكاً كالعطر، وتعطرت به، وتبخر، وبقيت الزجاجة فارغة، وهو أريدها، أو مستهلكاً.
هنا في هذه المسألة اختلاف في المذاهب، ففي حال الهلاك أو الاستهلاك يرجع بقيمته إذا كان قيمياً، وبمثله إذا كان مثلياً، أياً كان سبب العدول هذا رأي.
هناك رأي ثانٍ، السادة الأحناف قالوا: هدية الخطبة هبة، وللواهب أن يرجع بهديته إلا إذا وجد مانعاً من موانع الرجوع بالهبة، كهلاك الشيء أو استهلاكه، أساس الشيء هبة.
والمالكية قالوا: إذا كان العدول من جهة الخاطب ينبغي أن لا يسترد شيء، وإذا كان من جهة المخطوبة له أن يسترد كل شيء هذا رأي المالكية.
أمّا رأي الشافعية والحنابلة ليس فللخاطب الرجوع في شيء مما أهداه، سواء أكان موجوداً أو هالكاً، لأن الهدية حكمها حكم الهبة، ولا يجوز عندهم للواهب أن يرجع في هبته، إلا إنسان واحد يحق له أن يسترجع هبته، والنبي الكريم قبح استرداد الهبة:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ))

انظر هذه إلى هذه الصورة التي نفرنا النبي منها، رجل وهب شيئًا، ثم استرده كمن قاء، ثم أكل قيئه، هذا شيء بشع جداً، إلا أن الوالد فقط إذا وهب ابنه مركبة، ثم اكتشف أن هذه المركبة تعينه على الضلال، تعينه على الفجور، لا يستخدمها بالحق، يستخدمها بالباطل، فيجوز للأب أن يسترد هذه الهبة، الأب وحده، لأن رحمته تغلب عليه، فإذا استرد هبته فالمصلحة راجحة، أما سوى الأب فإنه:

((... كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ))

3 – حكم التعويض عن الضرر:

عندنا آخر بحث في الخطبة، هو التعويض عن الضرر، هذا البحث مستجد ، أحياناً يكون من العدول ضرر كبير، كامرأة عندها مشغل خياطة، وتعيش منه هي وأهلها، وخُطبت، فقال لها: أنا لا أريد مشغل خياطة، فباعت الآلات، وباعت البضاعة بأبخس الأسعار، وبعد هذا عدل الخاطب عن رأيه، فحدث ضرر، يجب أن يتحمل الضرر، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(( قَضَى أَنْ لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ ))

أو مثل امرأة لها حصة في بيت، فقال لها: أنا لا بيت لي، وإذا بعت هذه الحصة لأهلك، ونشتري بيتًا في الحي الفلاني، فأهلها أعطوها هذه الحصة بأبخس الأثمان ، الحصة تساوي ثلاثمئة ألف، وأعطوها مئة ألف فقط، هذه من فرحها بالزواج قالت لهم:؛ قبلت، أعطوني مئة ألف، وبعد هذا قلب هذا الشاب لها ظهر المجن، فإذا سبب العدول خسارة كبيرة أو ضررًا فلها أن تطالبه بتعويض هذا الضرر.
أعرف شابًا خطب من أسرة، وهذه الأسرة نمطها تحب الظهور، فاشتروا ملابس العرس من فوق الخمسين ألفًا، والأب دخله محدود، ثم قلب هذا الشاب خطبته، هذه الألبسة لها ذهبت، فقبْل أن يتحرك الإنسان الله كبير، فانتبهوا، قبل أن يعدل عن خطبته ينبغي أن ينظر إلى وضع المخطوبة، فإذا أحدث في عدوله ضررًا يجب أن يعوض.
على كلٍ، الخطبة ليست بعقد ملزم، فللخاطب أن يعدل عن خطبته، لكن مجرد العدول لا يكفي ليكون سبباً للتعويض، إلا إذا اقترن العدول بضرر ألحق بالمخطوبة أو بالخطيب.
أحيانا تلغي المرأة إقامتها، وهي تعيش مع أهلها في بلد خليجي، فألغت إقامتها، وجاءت إلى بلد الخاطب، وبعد ذلك عدل عن الخطبة، فصارت تحتاج إلى إقامة جديدة ، هناك ظروف صعبة جداً، فكلما كان الإنسان أرجح عقلاً كان أكثر حكمةً، وقد قال الله عز وجل:

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾

( سورة البقرة )

أرجو الله سبحانه وتعالى أن يتزوج كل إخواننا الشباب والفتيات، بالطريق الصحيح، وبالأسلوب الشرعي، من دون مغامرات، ومن دون إخفاق، وهذا مما يعود عليهم بالخير، والله عز وجل يقول في آية يجب أن تكون في أذهانكم:

﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾

( سورة الأعراف )

تحميل النص

إخفاء الصور