وضع داكن
16-04-2024
Logo
مختلفة- لبنان - المحاضرة : 43 - طرابلس - جمعية مكارم الأخلاق - دروس الهجرة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 إقامة هذا الاحتفال لهذه المناسبة، ومما يضاعف سعادتنا وجود صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور والمربي الكبير محمد راتب النابلسي حفظه الله ورعاه وباسم جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية بطرابلس نرحب بفضيلته ترحيباً بليغاً بقاعة مجلس الوفاء وفي مدينة العلم والعلماء لاسيما أن طرابلس لم تحمل غير الوفاء في ذاكرة أبنائها لعلماء بلاد الشام الذين يقف فضيلة الدكتور النابلسي في مقدمتهم وقد حظي فضيلته بمحبة غامرة في طرابلس حين تكرم واستجاب لدعوة استضافته من قبل جمعيتنا في رمضان الماضي، ولا عجب بذلك فالدكتور النابلسي كما صرح فضيلته أحد تلامذة سماحة الدكتور صبحي الصالح رحمه الله فإذا بالعلم يضفي بعضه بعضاً فيتجاذب العلماء من حيث النتيجة والحصيلة النهائية أبناء نسب واحد، يغدق موسوعة هائلة من المؤلفات الإسلامية القيمة التي عالجت حقيقة الإسلام في ذاته وبصرت أبناءه بما ينتظرهم في حاضرهم من تغيرات وما يتهددهم من تحديات وذلك على هدي من الكتاب والسنة.
 وهذا ما أكد فضيلته أسلوباً مميزاً للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ودخل إلى القلوب، ونحن في هذه المناسبة النيرة حيث انبلج نور الحق عالياً وخسئ طرف الباطل خاسئاً هذه الهجرة القمة التي كانت ميلاد أمة، من أجدر من العلامة النابلسي أن يستقرئ من وحيها الدروس ويستنبط من شذا وهجها العبر، وقد بلغ الشوق الحاضرين ذروته للاستماع إليكم وإلى صاحب الفضيلة وينهلوا من فيض فكركم المتوقد، صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي تفضل.
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين و على آله و صحبه أجمعين و بعد: أيها الإخوة الأحباب إنه لا يسعني إلا أن أشكركم من أعماق قلبي على هذه الدعوة الكريمة وعلى هذه الثقة الغالية وكلي رجاء أن أكون عند حسن ظنكم فالمؤمنون بعضهم لبعض نصحة متوادون ولو ابتعدت منازلهم والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون ولو اقتربت منازلهم.
 الحقيقة أيها الإخوة الكرام: أن وقائع الهجرة يعرفها جميع المسلمين لأنها تتكرر كل عام ولكن الذي يعنينا في هذا اللقاء الطيب أن نستنبط من حدث الهجرة الذي يأتي من حيث الأهمية بعد حدث الرسالة أن نستنبط الدروس والعبر لأن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى هذه الدروس التي تمليها علينا هجرة سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
 أيها الإخوة الكرام: الهجرة بمعناها الضيق هجرة النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة ولكن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( لا هجرة بعد الفتح.))

 أي أن باب الهجرة أغلق من مكة إلى المدينة بعد الفتح ولكن الحقيقة الصارخة أن كل بلدين يشبهان مكة والمدينة إلى يوم القيامة مفتوح بينهما باب الهجرة، هي حدث وقع ويمكن أن يقع إذا جاءت المبررات لما وقع، هذه الحقيقة الأولى ولكن المعنى الموسع للهجرة أن الهجرة حركة بكل ما فيها من معنى والدليل قوله تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

 

[ سورة الأنفال: الآية 72]

 ما لم تتحرك ما لم تصل ما لم تقطع ما لم ترض ما لم تغضب ما لم ترض ما لم تتخذ موقفاً ما لم تعط ما لم تمنع ما إن تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن إلا وتعبر عن نفسها بحركة، أما هذا السكوني الذي لا يتحرك يجب أن نعتقد أنه لا إيمان في قلبه وإذا كان هناك من إيمان فهو كإيمان إبليس الذي قال ربي فبعزتك أقر بالله عزيزاً و أقر به رباً وأقر به خالقاً وذكر يوم القيامة أنظرني إلى يوم يبعثون، فإذا ادعينا أننا مؤمنون ولم نتحرك ولم نلتزم لا قيمة لهذا الإيمان إطلاقاً.
 أيها الإخوة الكرام: من أولى حقائق هذا اللقاء الطيب أن الأنبياء لهم مهمتان كبيرتان، مهمة التبليغ ومهمة القدوة وربما يستطيع التبليغ أي إنسان أوتي ثقافة وفصاحة وطلاقة لسان لكن المهمة الكبيرة التي ينفرد بها الأنبياء هي مهمة القدوة فمن أدق تعريفات السنة أنها أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله وإقراره وصفاته، فالنبي لأنه مشرع أعماله وحركاته وسكناته و إقراره تشريع، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو سيد البشر لكنه بشر ولولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، هو سيد البشر لأنه انتصر على بشريته، أما من يصدح ويقول إن الكون خلق من أجل محمد هذه شطحة صوابها إن البشر خلقوا ليكونوا على شاكلة محمد هو قدوة لهم.
 أيها الإخوة الكرام: كما قلت في بداية هذا اللقاء الطيب ما لم تتحرك، لماذا تتحرك ؟ من أجل أن تحقق الهدف الذي من أجله خلقت، لماذا خلقنا القرآن الكريم يبين لنا:

 

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

 

[ سورة الذاريات: الآية 56]

 العبادة علة وجودنا على سطح الأرض لا بمعناها الضيق ولكن بمعناها الواسع المعنى الواسع للعبادة أن تخضع له غاية الخضوع وأن تحبه غاية الحب، وما عبد الله من أطاعه ولم يحبه وما عبد الله من أحبه ولم يطعه، غاية الحب وغاية الخضوع إنها طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، في هذا التعريف الدقيق الجامع المانع للعبادة كليات ثلاث، كلية معرفية وكلية سلوكية وكلية جمالية، فالكلية الجمالية هي الأصل والكلية المعرفية هي السبب والكلية الجمالية هي النتيجة.

 

فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي  رأوه لمـــا وليت عنا لغيرنا
و لو سمعت أذناك حسن خطابـنا  خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
و لو ذقت من طعم المـحبة ذرة  عذرت الذي أضـحى قتيلاً بحبنا
و لو نسمت من قربنا لـك نسمة  لمت غريباً و اشتيـــاقاً لقربنا
***

 أيها الإخوة الكرام: البشر جميعاً مفطورون على حب الجمال والكمال والنوال، البشر جميعاً على اختلاف مللهم ونحلهم وانتماءاتهم مفطورون على حب الجمال والكمال والنوال، ولأن الله جل جلاله هو أصل لكل جمال ولكل كمال ولكل نوال، إذاً العبادة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية، كلمة الحب أيها الأخوة أقدس كلمة في الدين بعد كلمة الإيمان لكنها مسخت في عيد الحب إلى علاقة آثمة بين شاب وفتاة.
 أن تحب الله عز وجل ومن فروع محبة الله عز وجل أن تحب رسوله، ومن فروع محبة الله عز وجل أن تحب قرآنه وأن تحب بيوته وأن تحب المؤمنين وأن تحب الأعمال الصالحة وأن تحب كل ما يقربك إلى الله عز وجل هذا هو الحب الذي بني عليه الدين لو أن الله أرادنا أن نعبده قسراً لهدانا جميعاً قسراً، قال تعالى:

 

 

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾

 

[ سورة يونس: الآية 99]

 لكنه ما أراد أن نحبه قسراً ولا أن نطيعه قسراً قال:

 

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾

 

[ سورة البقرة: الآية 256]

 هو أرادنا أن نأتيه طائعين محبين مشتاقين، فالحب جوهر الدين وحينما ينزع الحب من الدين يمكن أن يشبه الدين بجثة هامدة لأن الحب روح الدين فإذا خلا الدين من الحب أصبح ثقافة ليس غير وأصبح فلكلوراً وأصبح عادات وتقاليد.
 أيها الإخوة الكرام: العبادة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية خلقنا الله ليسعدنا لكن الناس يشقون لجهلهم، فالجهل أعدى أعداء الإنسان والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، الدليل أزمة أهل النار في النار قال تعالى:

 

﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

 

[ سورة الملك: الآية 10]

 ذلك لأن الإنسان مفطور على حب وجوده وعلى حب سلامة وجوده وعلى حب كمال وجوده وعلى حب استمرار وجوده هذه الجبلة التي جبلنا عليها هذه الفطرة التي فطرنا عليها لكن العقبة الكؤود بين الإنسان وسعادته هو الجهل والجهل أعدى أعداء الإنسان والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به.
 أضرب لكم مثلاً طريفاً عامل تنظيفات في أحد المطارات أثناء تنظيف الطائرة رأى غرفة العجلة كبيرة جداً ويمكن أن يجلس فيها وأن يسافر بلا أجور وبلا فيز فقبع في هذه الغرفة بعد أن أقلعت الطائرة بدقائق من أجل أن ترفع العجلة إلى مكانها المكان الذي يجلس عليه هوى ونزل ميتاً، هل أراد أن يموت ؟ أراد أن يصل إلى بلد أخر من دون ثمن ومن دون وثائق ومن دون موافقات، ما الذي قتله ؟ جهله.
 طبعاً هذا مثل صارخ لكن الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، الجاهل عدو نفسه لذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.
 العلم العلم ولنحذر الجهل الجهل.
 أيها الإخوة الكرام: النبي عليه الصلاة والسلام هاجر ولكن هل تصدقون أن هناك فرائض لا تقل عن الصلاة أهملها المسلمون هناك قاعدة أصولية تقول دققوا في هذا القول ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، أرأيتم إلى الوضوء أيمكن أن تصلي من دون وضوء ؟ فكما أن الصلاة فرض الوضوء فرض، ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، في عندنا قاعدة ثانية كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، هناك أمر تهديد قال تعالى:

 

﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 29]

 هناك أمر ندب قال تعالى:

 

﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ً﴾

 

[ سورة النور: الآية 32]

 هناك أمر إباحة قال تعالى:

 

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾

 

[ سورة البقرة: الآية 187]

 لكن ما لم تقم قرينة على خلاف الأمر فكل أمر يقتضي الوجوب يقول الله عز وجل:

 

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

 

[ سورة الحشر: الآية 7]

 كيف نأخذ ما آتانا وكيف ننتهي عما عنه نهانا إن لم نعرف ماذا آتانا وعن ماذا نهانا، قضية بديهية أنت متى تعالج ضغطك المرتفع ؟ إذا علمت أنه معك ضغط مرتفع، الضغط أحياناً ليس له أعراض إلا بالقياس فلا يمكن أن تعالج الضغط المرتفع إلا إذا علمت أنه معك ضغط مرتفع لا سمح الله، فأنت كيف تأخذ ما آتاك الرسول الكريم وكيف تنتهي عما عنه نهاك ؟ بعد أن تعرف ماذا آتاك وعن أي شيء نهاك، إذاً معرفة سنة النبي القولية فرض عين من أجل أن تنفذ هذا الأمر قال تعالى:

 

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾

 

[ سورة الأحزاب: الآية 21]

 ومن أجل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أسوتك في الحياة الدنيا يجب أن تعرف سيرته الآن من سيرته أنه هاجر، لماذا هاجر ؟ ليعبد الله.
 أول حقيقة المكان إذا حالك بينك وبين عبادة الله ينبغي أن تتركه وأن تهاجر إلى بلد آخر، لكن قبل أن تتركه إذا سمح لك أن تعبد الله لك أن تبقى فيه أما إذا منعت من عبادة الله وحاولت فلم تستطع ولأنك مخلوق لعبادة الله لابد من أن تهاجر لذلك أجمع العلماء على أن الإنسان المسلم لا يجوز أن يبقى في بلد يحول بينه وبين عبادة الله عز وجل والآية الكبرى في هذا الموضوع قوله تعالى:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾

 

[ سورة النساء: الآية 97]

 لنقف قليلاً عند كلمة مستضعفين، الاستضعاف نوعان إما أن تكون في مكان يقمعك ولا تستطيع أن تعبد الله فيه وإما أن تكون في مكان تضعف أمام شهواتك هذا معنى آخر، إذا كنت في مكان تضعف فيه أمام شهواتك والمعاصي ترتكب من حولك على قارعة الطريق ولا تستطيع أن تقاوم بل تغدو في هذا البلد المقاومة هشة جداً فالاستضعاف إما أنه قسري أو طوعي في كلا الحالين ينبغي أن تهاجر.
 أيها الإخوة الكرام: المعنى الأول أن الهجرة تعني الحركة معناها الضيق هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من مكة إلى المدينة معناها الأوسع هجرة بين كل مدينتين تشبه مكة والمدينة، المعنى الأعم عبادة في الهرج كهجرة إلي.
إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فالزم بيتك وأمسك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة هذه هجرة.
 أيها الإخوة الكرام: الدرس الثاني الدقيق جداً أن الهجرة تعلمنا أن نأخذ بالأسباب، أقول لكم هذه الحقيقة الدقيقة الموقف الصحيح الكامل للمؤمن أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وأن تتوكل على الله وكأنها ليس بشيء، هذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، قد يقول أحدكم سيدنا عمر هاجر من دون أن يأخذ بالأسباب تحدى المشركين هذا موقف شخصي إن نجح نجح وإن لم ينجح هو المسؤول لكن النبي أشجع من سيدنا عمر بآلاف المرات لكنه مشرع، اتجه مساحلاً بعكس هدفه وهيأ من يأتيه بالأخبار وهيأ من يمحو له الآثار وقبع في غار ثور أياماً ثلاثة واستأجر خبيراً بالطريق رجح فيه الخبرة على الولاء، خبير مشرك أخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم توكل على الله وكأنها ليست بشيء، قد يسأل أحدكم ما الحكمة من أن المطاردين وصلوا إليه ؟ وصلوا إليه ليعلمنا الله عز وجل أنه أخذ بالأسباب تعبداً واتكل على الله توحيداً فلما وصلوا إليه ما تأثر أبداً قال يا أبا بكر:

 

((ما ظنك باثنين الله ثالثهما ))

 نحن الآن كمسلمين في أمس الحاجة إلى هذا الدرس الطرف الآخر أخذ بالأسباب فتملك الدنيا والإسلام أيها الإخوة الكرام: منهج موضوعي دققوا في هذه الكلمة منهج موضوعي لو أن ملحداً أخذ بهذا المنهج لقطف ثماره في الدنيا، فالطرف الآخر أخذوا بأسباب الدنيا، الطائرة بي 52 صنعت في عام 1960 م وهي مهيأة لعام 2040 م أعددنا لهم أم أعدوا لنا ؟ أخذوا بالأسباب فتملكوا ناصية العالم والمسلمون حينما قال الله عز وجل لهم:

 

 

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

 

[ سورة الأنفال: الآية 60]

 لم يأخذوا بالأسباب، أكاد أقول الطريق الصحيح طريق ضيق عن يمينه واد سحيق وعن يساره واد سحيق إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها كالغرب وألهتها وقعت في وادي الشرك وإن لم تأخذ بها وقعت في واد المعصية وكأن الغرب يأخذ بالأسباب ويؤلهها ويعتمد عليها وكأن بالشرق الإسلامي لا يأخذ بها متواكلاً ومدعياً أنه يتوكل على الله وكلا الفريقين على خطأ كبير، الكلام الدقيق الذي ينبغي أن يستنبط من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء في كل يوم تقول الله يتولاك الله تقول أنا، أنا ابن فلان أنا أحمل الدكتوراه أنا خبراتي متراكمة أنا من أسرة عريقة، إذا قلت أنا تخلى الله عنك سيد الخلق وحبيب الحق ومعه نخبة البشر قالوا في حنين لن غلب من قلة فلم ينتصروا وقالوا في بدر يا ربي نحن أذلة فنصرهم الله، هذا درس يومي درس ساعي يعني كل ساعة درس لحظي تقول الله يتولاك تقول أنا يتخلى عنك ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه وقطعت أسباب السماء بين يديه.
 المسلمون مقصرون بالأخذ بالأسباب متواكلون ينتظرون أن تقع المعجزات فيدمر اليهود من عند الله عز وجل مباشرة وأن تطرد القوات المحتلة من كل البلاد من عند الله مباشرة هم قابعون متفرجون لا يتحركون لذلك هم يعصون الله في هذه الآية وأعدوا ما استطعتم، لكن الفضل الإلهي أنه ما كلفنا أن نعد القوة المكافئة بل كلفنا أن نعد القوة المتاحة فقط قال تعالى:

 

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

 

[ سورة الأنفال: الآية 60]

 هذه المن تفيد استغراق جزئيات القوة، الإعلام قوة ومعنويات المجتمع قوة والرد على الشبهات قوة والتصوير الجوي قوة والجيوش قوة كل أنواع القوى لكن الله عز وجل عطف الخاص على العام توضيحاً للعام أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وقتها رباط الخيل بعدها المنجنيق بعدها المدرعات بعدها الطيران بعدها الذرة لذلك حدثني أخ كريم من الهند قال لي والله نحن مضطهدون أشد الاضطهاد في اليوم الذي استطاعت الباكستان أن تمتلك سلاحاً نووي عملنا معاملة أخرى من قبل الجهات المسؤولة ترهبون به عدو الله وعدوكم، كلمة إرهاب لا تعني الذي يفهم الآن أن تمتلك سلاح رادع فقط هذا هو الإرهاب في القرآن الكريم.
 أيها الإخوة الكرام: درس الهجرة يعني أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وأن نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، درس الهجرة يرفض التواكل، التوكل محله القلب والسعي محله الأعضاء فنحن بجوارحنا توكلنا وبقلوبنا خفنا كلانا على خطأ، أول درس من دروس الهجرة أن نأخذ بالأسباب والغرب سبقنا لأنه أخذ بالأسباب والإسلام موضوعي معنى موضوعي أنه لو طبقه ملحد لقطف ثماره في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، هذه يقودنا إلى أن مصدر قوة أعدائنا أكثرها إسلامية، هم بشكل موضوعي وجدوا أن الإنسان إذا أعطوه حاجاته وكرامته أصبح قوة في أيديهم فينبغي أن نأخذ بالأسباب، لكن قد يقول أحدكم سيدنا عمر هاجر ولم يعبأ وقال بل أراد أن تثكله أمه فليلحق بي إلى هذا الوادي، عمر ليس مشرعاً، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل مثل عمر لعد اقتحام الأخطار واجباً ولعد أخذ الحيطة حراماً لهلكت أمته من بعده.
 الهجرة أن نأخذ بالأسباب، يعني إنسان يركب مركبةً وتوقفت وتعطلت فنزل ورفع يديه إلى السماء يا رب أعنا، هذا استهزاء بالله عز وجل، افتح غطاء المحرك ابحث، سيدنا عمر رأى أعرابياً أو أخاً عربياً معه جمل مصاب بالجرب قال يا أخا العرب ماذا تفعل من أجل هذا الجمل ؟ قال ادع الله له، قال هلا جعلت مع الدعاء قطراناً.
 نحن بصراحة والحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، في حرب العراق هل هناك مسجد في العالم الإسلامي إلا دعا الله عز وجل يا ربي دمرهم يا ربي شتت شملهم يا رب اجعل تدميرهم في تدبيرهم، لم يستجب الله لنا لأن الدعاء من دون عمل لا قيمة له، هذه حقيقة مرة مهما كنت فصيحاً في الدعاء ومهما كنت بليغاً في الدعاء ومهما أتيت بالأدعية النبوية ومهما رفعت الصوت بالدعاء الحياة تحتاج إلى سعي قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)﴾

 

[ سورة الإسراء: الآية 19]

 ما هو المستحيل أيها الإخوة الكرام ؟ من أجمل ما قرأت في المستحيلات أن المستحيل ليس الشيء الذي لا تستطيع أن تفعله لا المستحيل هو الشيء الذي لا تريد أن تفعله، هذا المستحيل وأنا أعلق تعليقاً دقيقاً على من يقعد لأن الأهداف الكبرى للأمة ليست محققة هذا هو الهروب بعينه بإمكانك أن تفعل ألف شيء وشيء إيجابي وأهداف الأمة ليست محققة يعني أخ كريم غال علي قال لي قبل ساعة إن الذي يعلق حركته على تحقق أهداف الأمة الكبرى هو في الحقيقة يبرر كسله فقط، أما يمكن أن نفعل كل شيء قبل أن تحقق أهداف الأمة الكبرى وهذا مرض في المسلمين، صار المسلم سلبي يتابع الأخبار ويوزع تهم فقط ولا يفعل شيئاً هذا النموذج مرفوض هذا ليس متحركاً هذا لم يهاجر بالمعنى الواسع بالمعنى الحركي لأن عبادة الله في الهرج كهجرة إلي.
 بالمناسبة أنت حينما تطلب من الله أن يهبك قوة أو مال أو قدرة بيانية الله عز وجل سميع مجيب لكنك عجزت عن أن تدعو الله فقط، فالذي لا يفعل شيئاً هو عاجز عن أن يدعو الله فقط لأن الله ينتظرك.
 أيها الإخوة الكرام: هذا هو البند الأول في موضوع الهجرة أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وأن نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
 شيء آخر الهجرة من بين الأشياء التي تعلمنا الثقة بالله عز وجل فالنبي عليه الصلاة والسلام في أثناء الهجرة تبعه سراقة قال النبي عليه الصلاة والسلام لسراقة طبعاً النبي الكريم مهدور دمه مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً في هذا الخوف الشديد وفي هذا الحرج الشديد يلحق به سراقة ليأخذ المئة ناقة، يقول له يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ ما هذا الكلام ؟ أي أنني سأصل وسأؤسس دولة وسأحارب أكبر دولتين في العالم وسأنتصر عليهما وستأتيني كنوز كسرى ولك يا سراقة سواري كسرى.
 هذه الثقة بالله عز وجل، الثقة بالله عز وجل شيء كبير جداً ولكن تحتاج إلى توحيد.
 أيها الإخوة الكرام: أن نؤمن أن الله خلق الكون هذا الإيمان لا قيمة له إطلاقاً ولكن المعول عليه هو التوحيد وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، قال تعالى:

 

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

 

[ سورة هود: الآية 123]

 ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك إليه يرجع الأمر كله ولو فرضاً أن الله أسلمك إلى غيره لا يستحق أن تعبده قال تعالى:

 

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

 

[ سورة هود: الآية 123]

﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾

[ سورة طه ]

 أن تشعر أن الله موجود وبيده كل شيء وإليه يرجع الأمر كله وبيده مقاليد السماوات والأرض قال تعالى:

 

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾

 

[ سورة فاطر: الآية 2]

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

[ سورة الزخرف: الآية 84]

﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)﴾

[ سورة الكهف: الآية 26]

﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر: الآية 62]

 حينما نؤمن أيها الإخوة الكرام: أن الأمر بيد الله لا نتضعضع أمام الزلازل والبطولة ألا نهزم من الداخل قد نخسر معركةً أو معركتين وهذا شأن المتحاربين في تاريخ البشرية ولكن البطولة أن نثق بالله لأنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، لكننا يجب أن نقدم لله عز وجل أسباب نصرته لنا، مشكلتنا أيها الإخوة الكرام: في ضعف التطبيق أنا ذكرت قصة البارحة وطلب مني أن أعيدها اليوم القصة وصلتني رسالة بالبريد الإلكتروني عن إمام مسجد في بريطانيا نقل إلى بلدة في ظاهر لندن فاضطر أن يركب المركبة العامة كل يوم ويبدو نظام دوامه مع نظام السيارات دقيق جداً وتوافقا فكان يركب المركبة نفسها كل يوم ومع السائق نفسه، في أحد المرات صعد المركبة وأعطى السائق قطعة نقدية كبيرة رد له البقية جلس في مقعده وعدها فإذا هي تزيد عشرين سنتاً عن حقه، هو إمام مسجد قال هذا المبلغ ليس لي ينبغي طبعاً قال بنفسه حوار ذاتي قال هذا المبلغ ليس لي هو لصاحب هذه الشركة وعلي أن أعيده إلى السائق، هو جالس جاءه خاطر آخر قال هذه شركة عملاقة ودخلها فلكي وهذا المبلغ لا يقدم ولا يؤخر وما علي أن آخذه فهو هدية من الله لي، طبعاً هذا خطأ كبير لكن أروي لكم ما قرأت، لكن حينما أراد أن ينزل من المركبة وقف أمام السائق ودون أن يشعر مد يده إلى جيبه ونقده العشرين سنتاً وقال هذه زيادة، السائق تبسم قال له ألست إمام هذا المسجد ؟ قال بلى قال والله إنني حدثت نفسي قبل أيام أن أزورك في المسجد لأتعبد الله ولكنني أردت أن أمتحنك قبل أن آتي إليك، هذا الإمام أخذ بل صعق بل وقع مغمي عليه لماذا ؟ لأنه لو فعل وأبقى المبلغ معه باع الإسلام فبعد أن صحا وتماسك توجه إلى الله وقال يا رب كدت أبيع الإسلام بعشرين سنتاً.
 ويا أيها الإخوة الكرام: كل يوم ملايين المسلمين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، هذا سبب تخلي الله عنا، هذا السبب عدم انتصارنا.
 النبي عليه الصلاة والسلام أرسل عبد الله بن رواحة ليقيم تمر خيبر فأرادوا أن يغروه بحلي نسائهم كرشوة فقال والله جئتكم من عند أحب الخلق إلي ولأنتم عندي أبغض من القردة والخنازير ومع ذلك لن أحيف عليكم قالوا بهذا قامت السماوات والأرض وبهذا غلبتمونا.
 والله الذي لا إله إلا هو لا نشم رائحة النصر إذا كان بعضنا يظلم بعضنا الآخر، بهذا قامت السماوات والأرض وبهذا غلبتمونا.

 

((عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ... فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا... َ))

 

[ متفق عليه ]

 أيها الإخوة الكرام: المشكلة الآن كيف نستفيد من درس الهجرة ؟ البشر كفروا بالكلمة لماذا؟ لأنهم يستمعون كل يوم إلى كلمات أحلى من العسل في مختلف الأصعدة ويرون فعلاً أمر من الأثل، ما في تطابق بين الكلام والعمل لذلك كفر الناس بالكلمة، يعني الكلمة اليوم شك بلا رصيد ما له قيمة أبداً ورقة لكن الكلمة التي جاء بها الأنبياء مدعومة بمصداقية تفوق حد الخيال لذلك الأنبياء جاءوا بالكلمة والناس اليوم كفروا بالكلمة، كيف أن الكون قرآن صامت وأن القرآن كون ناطق وأن النبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، نحن الآن في أمس الحاجة إلى مسلم يمشي إن حدثك فهو صادق وإن عاملك فهو أمين وإن استثيرت شهوته فهو عفيف، بهذه الطريقة نعيد للكلمة مصداقيتها.
 بالمناسبة أيها الإخوة الكرام: أنت كمهاجر بمعنى كملتزم بمعنى كعابد لله في زمن الهرج هذا أوسع معنى عبادة الله في الهرج كهجرة إلي، المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، هذا أوسع معنى للهجرة وهذا متاح لكل واحد منا من دون استثناء، طاعتك لله هجرة يعني هجرت أهل المنكر، هجرت أصحاب السوء هجرت العصاة هجرت المستكبرين هجرت المنحلين وانضممت إلى المؤمنين هذه هجرة.
 يا أيها الإخوة الكرام: شيء آخر أريد أن يكون واضحاً إليكم أن الإنسان أحياناً يستوعب حقائق الدين ولكن لأنه لا يعرف الآمر تضعف همته على التطبيق، إذاً كيف نحمل أنفسنا على طاعة الله ؟ ينبغي أن نعرف الآمر قبل الأمر إذا عرفت الآمر خضعت له فلذلك يمكن أن يفسر ضعف التدين وضعف الطاعة بضعف معرفة الله.
 كلكم يعلم أن الله عز وجل له خلق كونهم وله أمر كلف عباده له فهناك أمر تكويني وأمر تكليفي وفي قصة سيدنا موسى مع الخضر، سيدنا موسى مختص بالأمر التكليفي بينما الخضر مختص بحكمة الأمر التكويني لذلك كان الصدام بينهما، فالله عز وجل له أمر تكويني وله أمر تكليفي فأنت ممكن أن تعرف أمره التكويني عن طريق الجامعات في العالم الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والفلك هذا كله علم أمره التكويني لكنك إذا دخلت إلى كليات الشريعة يمكن أن تعلم علم أمره التكليفي، أما أن تعرف الله عز وجل شيء آخر الله عز وجل لا تدركه الأبصار ولكن العقول تصل إليه، تصل إليه ولا تحيط به بمعنى أن الله عز وجل لا نهاية له فالإنسان لمجرد أن يتجه إليه فهو في شباب دائم أما إذا اختار هدفاً محدوداً ينتهي مع الهدف، لذلك الإنسان يبقى شاباً ما دام هدفه الله عز وجل ويشيخ قبل الأوان إذا اتخذ أهدافاً محدودة تنتهي في حياته لذلك الناس الآن يعيشون اللذائذ الحسية ولا يعيشون السعادة أبداً السعادة شيء واللذائذ شيء آخر اللذائذ تأتي من الخارج اللذة تحتاج إلى مال إلى بيت فخم إلى مركبة فارهة إلى طعام طيب إلى امرأة جميلة إلى إلى... هذه اللذائذ لكن السعادة هي القرب من الله عز وجل، ففي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ماذا يفعل أعدائي بي بستاني في صدري إن أبعدوني فإبعادي سياحة وإن حبسوني فحبسي خلوة وإن قتلوني فقتلي شهادة فماذا يفعل أعدائي بي ؟ هذه الجنة التي هي جنة القرب هي التي أرادها الله عز وجل لعباده في الدنيا:

 

﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾

 

[ سورة العلق: الآية 19]

 هذا الذي قاله أحد كبار العارفين وكان ملكاً قال: والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف. أراد الله عز وجل أن نحيا هذه الجنة، جنة القرب وهي في قوله تعالى:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾

 

[ سورة النحل: الآية 97]

 هذه جنة القرب تحتاج إلى معرفة الرب، معرفة الرب شيء ومعرفة منهجه وأمره التكليفي شيء آخر.
 أيها الإخوة الكرام: بين أيدينا آيات لا تعد ولا تحصى عن عظمة الله عز وجل وعن خلق الله عز وجل، الإنسان في رأسه ثلاثمئة ألف شعرة لكل شعرة وريد وشريان وعصب وعضلة وغدة دهنية وغدة صبغية بكل شعرة، في عين الإنسان مئة وثلاثين مليون عصية ومخروط في مساحة لا تزيد عن حبة العدس بالشبكية، في جهاز الشم عند الإنسان عشرين مليون نهاية عصبية لكل نهاية سبعة أهداب مغمسة بمادة لزجة تلتقط الرائحة وتتفاعل معها وتشكل رمزاً هندسياً يشحن إلى الدماغ ويعرض على عشرين ألف بند شمي فحيثما توافق الرمزان عرفت نوع الرائحة.
 أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر، أنا أريد أن نعرف الله فإذا عرفنا الله تفانينا في طاعته أما إذا لم نعرفه تفننا في التفلت من أمره، هذه مشكلة المسلمين الأولى، إذا عرفنا الله تفانينا في طاعته، الحديث عن الكون حديث لا ينتهي.
 أيها الإخوة الكرام: الأرض تدور بمسار إهليلجي حول الشمس، المسار الإهليلجي يعني البيضوي له قطران أصغر وأكبر، الأرض إذا انتقلت من القطر الأكبر إلى القطر الأصغر ماذا يحصل ؟ اقتربت من الشمس وقانون الجاذبية يؤكد أنه إذا قلت المسافة ازدادت الجاذبية فالأرض يمكن أن تنطلق إلى الشمس وإذا انطلقت إلى الشمس تبخرت في ثانية واحدة لأن مركز الشمس حرارته عشرين مليون درجة، تتبخر الأرض في ثانية واحدة لأن مركز الشمس حرارته عشرين مليون درجة. ما الذي يحصل ؟ قال العلماء الأرض تزيد من سرعتها لينشأ من زيادة السرعة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة هذا فعل من ؟ وصلت الأرض إلى أقرب نقطة إلى الشمس وتلافت الانجذاب إليها حينما رفعت سرعتها لأنه نشأ عن رفع السرعة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة، الآن ابتعدت مع سرعتها العالية يمكن أن تتفلت من مسارها حول الشمس وإذا تفلتت من مسارها حول الشمس انتهت الحياة للتجمد المميت، إما أن تتبخر في ثانية وإما أن تنتهي الحياة لتجمدها تصبح الحرارة على سطح الأرض الصفر المطلق مئتين وسبعين تحت الصفر فالدمار والهلاك في الحالتين في الانجذاب إلى الشمس وفي البعد عنها، ما الذي يحصل ؟ قال الأرض في هذا المكان تخفف من سرعتها لينشأ من ضعف سرعتها ضعفاً جديداً للقوة النابذة ليكافئ الضعف في القوة الجاذبة فعل من ؟ هل المادة تعقل بربكم ؟
 شيء آخر لو أن الأرض رفعت سرعتها فجأةً لانهدم كل ما عليها ولو خفضت سرعتها فجأةً لانهدم كل ما عليها ولكن لطف الله أن التسارع بطيء وأن التباطؤ بطيء الآن دققوا في قوله تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾

 

[ سورة فاطر: الآية 41]

 والزوال هنا الانحراف عن المسار.

 

﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾

 

[ سورة فاطر: الآية 41]

 هو الذي يمنع انحراف الأرض عن مسارها برفع السرعة بشكل تدريجي وخفضها بشكل تدريجي من أجل أن تنشأ قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة ومن أجل أن تنشأ قوة جديدة ضعيفة تكافئ ضعف الجديدة.
 قال بعض العلماء الملحدين لو أن الأرض تفلتت كيف نرجعها ؟ قال نحتاج إلى مليون مليون حبل فولاذي قطر كل حبل خمسة أمتار، والميليمتر من الفولاذ يحمل مئتي كيلو، إذا عندنا خيط فولاذ مسحوب على قطر ميليمتر يحمل مئتي كيلو، الفولاذ أمتن عنصر على وجه الأرض فلذلك قال الأرض تحتاج إلى مليون مليون حبل فولاذي قطر كل حبل خمسة أمتار هذا الحبل الذي قطره خمسة أمتار يستطيع أن يتحمل مليون مليون طن إذاً مليون مليون طن ضرب مليون هذه قوة جذب الشمس إلى الأرض من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمتر كل ثانية من أجل أن تسير في مسار مغلق حول الشمس لذلك هذه الحبال لو زرعت لكان بين كل حبلين مسافة حبل واحد لأصبحنا في غابة من الحبال تحول بين الزراعة والتجارة والحركة والسفر والنشاط وحركة الطائرات وسير السفن الله عز وجل يقول:

 

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾

 

[ سورة الرعد: الآية 2]

 يعني بعمد لا ترونها هي قوى الجذب.
 أيها الإخوة الكرام: الآيات الدالة على عظمة الله لا تعد و لا تحصى قال تعالى:

 

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾

 

[ سورة فصلت: الآية 53]

 أريد بهذه العجالة أن أبين لكم أيها الإخوة الكرام: أنه لا بد من معرفة الآمر حتى ننصاع إلى أمره وهذه نقطة ضعف عند المسلمين، ضعف طاعتهم لله بسبب ضعف معرفتهم بالله، وألف وثلاثمئة آية في كتاب الله عز وجل عن خلق الله دليل أن معرفة الله من هذا الطريق والدليل قوله تعالى:

 

﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)﴾

 

[ سورة الأعراف: الآية 185]

 يعني لا طريق إلى الإيمان بالله إلا عن طريق الإيمان بآياته الكونية.
 أيها الإخوة الكرام: من دروس الهجرة أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وأن نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، من دروس الهجرة أن نعبد الله فلو حال مكان بيننا وبين عبادة الله علينا أن نذهب إلى مكان نعبد الله فيه، لكن بقي موضوع صغير أنا أسميه الهجرة المعاكسة يعني إنسان يقيم في بلد بإمكانه أن يعبد الله فيه أن يحضر درس علم أن يأتي إلى محاضرة أن يدخل إلى مسجد بإمكانه أن يحجب بناته إذا كنت في بلد تستطيع أن تعبد الله فيه وتركته إلى بلد ضعيف أن تعبد الله فيه إما قمعاً أو إغراءً بالضبط، إذا في مكان تضعف أمام الشهوات المستعرة إذاً أنت هنا ضعيف أيضاً ضعيف أمام شهواتك أو في مكان منعك أن تعبد الله وتركت بلداً إسلامياً يمكن أن تعبد الله فيه ويمكن أن تخدم أمتك فيه وتركته إلى بلد آخر أقمت فيه وقدمت كل خبرتك للطرف الآخر الذي يناصب المسلمين العداء فهذه هجرة معاكسة.
 كنت في مؤتمر أيها الإخوة الكرام: في بلد بعيد في أمريكا وقال بعض العلماء هناك إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك مسلماً لا ينبغي أن تقيم في هذه البلاد، المشكلة أن الإنسان إذا نشأ على طاعة الله بإمكانه أن يحافظ على طاعة الله بقية حياته ولكن مصير أولاده في خطر، والله عز وجل يقول:

 

﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)﴾

 

[ سورة طه: الآية 117]

 نحن تعلمنا في اللغة العربية أن المثنى يثنى هو بحسب القواعد ولا يخرجنكما من الجنة فتشقيا، قال علماء التفسير هذه بلاغة الإيجاز لأن شقاء الرجل شقاء حكمي لامرأته قال تعالى:

 

﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)﴾

 

[ سورة طه: الآية 117]

 الآن الإنسان إذا شقي أولاده ببعدهم عن الله وبعدهم عن الدين وبعدهم عن أمتهم وخسر أولاده كلهم ألا يشقى بشقائهم ؟ فلذلك الموضوع الثاني الهجرة المعاكسة لكن أتمنى أن تصدقوا الله عز وجل حينما يقول:

 

﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾

 

[ سورة النساء: الآية 100]

 ومن أجمل ما قاله المفسرون في كلمة مراغماً أي أن الله يوفقه في هدفه ويغنيه بحيث يرغم أنوف أعدائه.
 أيها الإخوة الكرام: أشكر لكم حضوركم واهتمامكم وأسأل الله أن ينفعني بدعائكم وإلى لقاء آخر إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

إخفاء الصور