وضع داكن
26-04-2024
Logo
مختلفة- لبنان - المحاضرة : 48 - أزهر البقاع - عيتا الفخار .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 فضيلة الداعية الكبير السيد محمد راتب النابلسي الذي أصبح أسمه علماً، وهو غني عن التعريف، حيث إن وقته كله ممتلئ بالإرشاد، والتوجيه، والتعليم، ناهيك عن الإجابة على الأسئلة التي ترد عليه عن طريق الرسائل الإلكترونية، ناهيك عن فرد خطاباته في الجمعة والمناسبات، والفقهيات التي يتناولها، كل على موقع معروف www.nabulsi.com هذا العمل العظيم من عالمنا يحدُ بنا إلى ألا أن لا نطيل عليكم، فتتشرف دائرة رقاب البقاع وبالتنسيق مع لجنة الوقف في هذه البلدة الكريمة، وعلى رأسها صاحب الفضيلة الشيخ محمد ياسين الخطيب الذي له أيادٍ بيضاء كريمة على هذه البلد الكريمة، ونحن على هذا الصعيد صعيد طاعة ملحقة بالمسجد، يدل على أن الإسلام وحد في ما بين مكان العبادة ومكان العلم ليكون كل ما يلحق بالمسجد، وكل من يجاور المسجد له حكم المسجد، فالعلم يكون في المسجد وفي خارجه، وفي أي مكان كما تعلم آبائنا تحت السنديانة، وكما تعلم آبائنا وأجدادنا فكان في المساجد منارة علم ومعرفة.
 أكرر ترحيبي بكم جميعاً في هذا اللقاء الكريم، ونأمل من الفضيلة الداعية الكبير أن يتقدم ويتفضل على المنصة وبارك الله بكم جميعاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
 أيها الإخوة الكرام:
 بادئ ذي بدءٍ أشكر لكم هذه الدعوة الكريمة التي إن دلت على شيء فعلى حسن ظنكم بي، وأسأل الله جل جلاله أن أكون عند حسن ظنكم، وأن أقدم لكم في هذا اللقاء الطيب شيئاً ثميناً يكون أداة اتصال بيننا في المستقبل.
 أيها الإخوة الكرام:
 على وجه الأرض 6000 مليون إنسان، ما منهم واحد إلا وهو مجبول على حب وجوده، وعلى حب سلامة وجوده، وعلى حب كمال وجوده، وعلى حب استمرار وجوده هذه جبلة جبلنا عليها، بشكل مختصر ما من إنسان على وجه الأرض إلا وحريص على سلامته وسعادته، من أين يأتي الشقاء ؟ من الجهل، الجهل أعدا أعداء الإنسان، الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به.
 إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعلك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطيك شيئاً.
 أيها الإخوة:
 سؤال كبيرٌ كبير، لماذا نحن هنا على سطح الأرض ؟ لو أن إنساناً سافر إلى بلد بعيد ونزل في أحد الفنادق، وتناول طعام الإفطار، وارتدى ثيابه وسأل إلى أين أذهب ؟ نسأله نحن لماذا أتيت إلى هنا ؟ إن جئت طالب علم اذهب إلى المعاهد والجامعات، وإن جئت سائحاً اذهب إلى المقاصف والمتنزهات، وإن جئت تاجراً اذهب إلى المعامل والمؤسسات ماذا نستنبط من هذا المثل ؟ أنه لا تصح حركة الإنسان على سطح الأرض إلا إذا عرف سر وجوده فيه، هذا أكبر سؤال ينبغي أن نجيب عليه، ماذا أخبرنا ربنا في وحيه العظيم، في القرآن الكريم ؟ قال:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

( سورة الذاريات )

 فالعبادة بمعناها الواسع طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، علة وجودنا على سطح الأرض أن نعبد الله، لا بالمفهوم الضيق بل بالمفهوم الواسع، العبادة غاية الخضوع لله، وغاية الحب وغاية السعادة، في تعريف العبادة:
 جانب سلوكي ـ وجانب جمالي ـ وجانب معرفي ـ.
 الجانب السلوكي: هو الأصل، والجانب المعرفي هو السبب، والجانب الجمالي هو الهدف، فالدين حركة، وانضباط، ومعرفة، وسعادة.

 

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

 

( سورة طه )

 لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه.

 

﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾

 

( سورة البقرة )

 أيها الإخوة الكرام:
 لو أخذنا الجانب المعرفة.

 

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾

 

( سورة العلق )

 اقرأ ؛ أي تعلم، أودع الله في الإنسان قدرة إدراكية، وأمر أن يلبي هذه الحاجة فالذي يلبي حاجته العليا وهي طلب الحقيقة، طلب العلم يحقق إنسانيته، لذلك أول آية في القرآن الكريم:

 

﴿اقْرَأْ﴾

 اقرأ أي تعلم ولكن بمفهوم واسع، فقد تقرأ في كتاب، وقد تقرأ في الكون، الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام يمشي ولكن دققوا أيها الأخوة:

 

﴿اقْرَأ﴾

 مقيدة بمعرفة الله.

 

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾

 

﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾

( سورة البقرة الآية: 21 )

 الله عز وجل يخاطب المؤمنين بفروع الدين، لكنه يخاطب عامة الناس بأصول الدين.

﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾

﴿اقْرَأْ﴾

 تعني أي تعلموا، حققوا الحاجة العليا بالإنسان.

﴿اقْرَأْ﴾

 أي تعرفوا إلى سر وجودكم، وإلى غاية وجودكم، تعرفوا إلى حقيقة الكون، تعرفوا إلى حقيقة الحياة الدنيا، هذا معنى كلمة:

﴿اقْرَأْ﴾

 اقرأ من أجل أن تؤمن بالله وأن تتعرف إليه، وأن تسعد بقربه في الدنيا وفي الآخرة.
 أيها الإخوة:
 هذه القراءة الأولى يمكن أن نسميها قراءة إيمانية، قراءة بحث وإيمان، لكن هناك قراءة ثانية، القراءة الثانية هي قراءة الشكر والعرفان.

 

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) ﴾

 

( سورة العلق )

 منحك نعمة الإيجاد، ومنحك نعمة الإمداد، ومنحك نعمة الهدى والرشاد، أنت من فضل الله عز وجل، أوجدك من عدم، وأمدك بما تحتاج، وهداك إليه، فهذا العطاء الكبير يقتضي الشكر.

 

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ﴾

 

( سورة العلق )

 هذا البيان الذي امتن الله به علينا.

 

﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾

 

( سورة الرحمن )

 هذا البيان أيها الأخوة من أكبر النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، هذا البيان من خلاله تتعرف إلى الله، من خلاله تنقل هذه المعرفة إلى من حولك، بيان شفهي تنطق ويسمع كلامك، وبيان كتابي تكتب ويقرأ، ثم بيان مترجم من أمةٍ إلى أمة، نعمة البيان نعمة اختص بها الإنسان.

 

﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾

 

 القراءة الثالثة:
 قراءة الوحي والإذعان.

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾

 قراءة الإيمان.

 

﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)﴾

 قراءة الشكر والعرفان.

 

 

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾

 قراءة الوحي والإذعان.
 أيها الإخوة:
 الشيء الذي يعجز العقل عن إدراكه أخبرك الوحي به، فهناك دائرة المحثوثات أداة اليقين بها ـ الحواس الخمس ـ وهناك دائرة المعقولات أداة اليقين بها ـ العقل ـ وهناك دائرة الإخباريات أداة اليقين بها ـ الخبر الصادق ـ.
 إذاً قراءة بحث وإيمان، وقراءة شكر وعرفان، وقراءة وحي وإذعان، وبقيت قراءة رابعة هي:
 قراءة العدوان والطغيان، قد يطلب العلم بالسيطرة على الدنيا، قد يطلب العلم لقهر الشعوب، يقول الله عز وجل:

 

 

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) ﴾

 

( سورة العلق )

 هذه قراءة اختص بها أعداء الأديان، الذين آمنوا بالدنيا ولن يعبئوا بشيء آخر، ما صفات هذه القراءة الرابعة التي تعاني منها البشرية ما تعاني، هذه القراءة الرابعة تمثلت في قوم هو قوم عاد، قال تعالى:

 

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) ﴾

 

( سورة الفجر )

 تفوق في شتى المجالات، قوم عاد، صفة ثانية:

 

﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) ﴾

 

( سورة الشعراء )

 تفوق عمراني:

 

﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)﴾

 

( سورة الشعراء )

 تفوق آخر:

 

﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) ﴾

 

( سورة الشعراء )

 تفوق عسكري:

 

﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) ﴾

 

( سورة العنكبوت )

 تفوق علمي، تفوق في شتى المجالات، تفوق عمراني، صناعي، عسكري.

 

﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾

 تفوق علمي، ومعها غطرسة.

 

 

﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾

 وتفوق وغطرسة، ماذا فعلوا ؟

 

 

﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) ﴾

 

( سورة الفجر )

 قصفوا البلاد بأسلحتهم، وأفسدوا الأخلاق بأفلامهم.

 

﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) ﴾

 وما أهلك الله قوماً إلا ذكرهم أنه أهلك من هو أشد منهم قوة، إلا عاداً حينما أهلكها قال:

 

 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾

 

( سورة فصلت الآية: 15 )

 يعني ما كان فوق عاد إلا الله، بقيت إشارة رابعة قال تعالى:

 

﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50)﴾

 

( سورة النجم )

 هذه إشارة إلى أنه هناك عاداً ثانية نعيش معها الآن.

 

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)﴾

 أيها الإخوة الكرام:
 كيف أهلكهم الله عز وجل ؟

 

 

﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)﴾

 

( سورة الحاقة )

 إذاً أدبهم بالأعاصير التي تزيد سرعتها عن 800 كم بالساعة، هذه عاد الثانية تفوقت بعلم العدوان والطغيان، فبين أن نقرأ قراءة بحث وإيمان، وبين أن نقرأ قراءة شكر وعرفان وبين أن نقرأ قراءة وحي وإذعان، وبين أن نقرأ قراءة عدوان وطغيان.
 أيها الإخوة الكرام:
 يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع ))

 

[ أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو والنسائي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة النسائي عن أنس ]

 أيها الإخوة:
 هذا الإنسان ما حقيقته ؟ ما تعريفه ؟ ما من تعريف جامع مانع للإنسان كتعريف الإمام الحسن البصري، إنه بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، ما من يوم ينشق فجره إلى وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، هو بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
 أيها الإخوة:
 النقطة إذا حركتها شكلت خطاً، والخط إذا حركته شكل سطحاً، والسطح إذا حركته شكل حجماً، والحجم إذا حركته شكل زمناً، الزمن هو البعد الرابع للأشياء، ولأن الإنسان كائن متحرك نحو هدف ثابت إذاً هو زمن، أو رأس ماله هو الزمن، أو أثمن شيء يملكه هو الزمن، لذلك أقسم الله لهذا المخلوق الأول الذي هو في حقيقته زمن، فقال تعالى:

 

﴿وَالْعَصْرِ (1) ﴾

 

( سورة العصر )

 العصر مطلق الزمن.

 

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ﴾

 

( سورة العصر )

 الإنسان خاسر لا محال.

 

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ﴾

 جواب القسم.

 

 

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ﴾

 لأن مضي الزمن يستهلكه، كل إنسان يعيش عمر محدد، يمكن أن تعد أيامه، وأن تعد أفراحه، وأن تعد أحزانه، وأن تعد رحلاته، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، لماذا هو خاسر ؟ لأنه مضي الزمن وحده يستهلكه وينهيه هل من سبيل إلى تلافي هذه الخسارة ؟ يمكن، قال تعالى:

 

 

﴿إِلَّا ﴾

 

( سورة العصر )

 رحمة الله تبدأ من كلمة إلا.

 

﴿إِلَّا الَّذِينَ﴾

 

( سورة العصر )

 يعني هل عرفنا الله عز وجل ؟ هل عرفنا الله عز وجل عن طريق البحث والإيمان وعن طريق الشكر والعرفان، وعن طريق الوحي والإذعان.

 

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾

 

( سورة العصر )

 حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح، والعمل الصالح يزداد قيمة باتساع رقعته والعمل الصالح يزداد قيمة بامتداد أساليبه، والعمل الصالح يزاد قيمة بعمق تأثيره، والعمل الصالح يصبح عملاً خالداً إذا استمر بعد موت صاحبه، أعظم الأعمال التي تستمر بعد موت صاحبها، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ))

 

[ أخرجه البخاري وصحيح مسلم والثلاثة أبو داود، الترمذي، النسائي عن أبي هريرة ]

 أيها الإخوة:
 متى نتلافى الخسارة ؟ حينما نستهلك الوقت استثماراً لا استهلاكاً، حينما ننفق الوقت استثماراً لا استهلاكاً، كيف ننفق الوقت استهلاكاً كما يفعل معظم أهل الأرض ؟ نأكل ونشرب، وننام، ونعمل، ونكسب المال، ونستمتع بالحياة إلى أن يوافينا الأجل، وإذا جاء الأجل انتقلنا من كل شيء إلى لا شيء.
 كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت والليل مهما طال فلابد طلوع الفجر، والعمر مهما فلا بد من نزول القبر، وكل ابن أنثى وإن طال سلامته يوماً على آلة حدباء محمول، فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم أنك بعدها محمول.
 أيها الأخوة:
 أنت حينما تنفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً خاسر لا محال، وكل إنسان مفطور على حب الربح، متى تربح ؟ إذا أنفقت الوقت إنفاقاً استثمارياً، سأوضح لكم:
 لو ذهبت إلى نزهة، ونزلت في فندق، وأقمت فيه عشرة أيام، وقيل لك المبلغ الذي ينبغي أن تدفعه 100 ألف، تدفع هذا المبلغ، المبلغ ضاع منك، استهلكته بهذه الأيام العشر أما إذا نقدت المبلغ إلى شركة استثمارية تعطي أرباحاً طائلة هذا المبلغ في المرة الثانية أنفقاه استثماراً، ولم تنفقه استهلاكاً.
 الآن البطولة كيف أنفق الوقت إنفاقاً استثمارياً ؟ القرآن أرشدني قال:

 

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾

 

( سورة العصر )

 حينما تطلب العلم من أجل أن تعرف خالق السماوات والأرض، حينما تطلب العلم من أجل أن تعرف منهج الله الذي ينبغي أن تسير عليه، حينما تطلب العلم من أجل أن تعرف حقيقة الكون، حينما تطلب العلم من أجل أن تعرف حقيقة الدنيا، حينما تطلب العلم من أجل أن تعرف حقيقة الإنسان، حينما تطلب العلم من أجل أن تعرف أسباب السعادة، وأسباب الشقاء، أنت بهذا قد حققت ربع النجاة، طلبت العلم.
 ثانياً: وعملت به.

 

﴿إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾

 طلبت العلم وعملت به.
 ثالثاً: وعوت إليه.

 

 

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾

 رابعاً: وصبرت على طلبه، والعمل به، والدعوة إليه.
 أنت حينما تطلب العلم تحقق الحاجة العليا في الإنسان حينما تؤكد إنسانيتك، حينما تطبق ما تعلمت، حينما تنصح الآخرين بالذي تعلمته، حينما تصبر على طلب العلم، وعلى تطبيقه، وعلى الدعوة إليه، تتلافى الخسارة، لأنك أنفقت الوقت إنفاقاً استثمارياً، لأنك أنفقت الوقت بطريقة تجعلك تنتفع بالذي فعلته بعد مضي الوقت.
 إذاً السورة القصيرة الجامعة المانعة التي قال عنها الإمام الشافعي لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.

 

 

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾

 أيها الإخوة:
 الإنسان حينما يسلك طريق الإيمان ينبغي أن يتعرف على الواحد الديان، الله جل جلاله كيف نعرفه ؟ العبادة طاعة طوعية، لو أنها طاعة قسرية لا تعد عبادة، لو أنها طاعة طوعية ليست ممزوجة بمحبة قلبية، لا تعد عبادة، لا تعد الطاعة عبادة إلا إذا كانت طوعية ومزجت بمحبة قلبية، من أين يأتي هذا ؟ من معرفة يقينية، طلب العلم، وماذا ينتج عن هذا سعادة أبدية، لذلك قال بعض العلماء: بستاني في صدري ماذا يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعلوا أعدائي بي ؟ قال بعض العلماء: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، والدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة بعد أن يدخلوها:

 

 

﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ﴾

 في الآخرة:

 

 

﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾

 في الدنيا.

 

 

( سورة محمد الآية: 6 )

 أذاقهم طعمها في الدنيا، هي جنة القرب، لذلك من الأدعية اللطيفة:
 اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات، إلى جنات القربات.

 

 

فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه  لما وليت عنا لــــــغيرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنــــا  لخلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحبـــــة ذرة  عذرت الـذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمت من قربنا لك نسمـــــة  لمت غريباً واشتياقاً لـــقربنا
فما حبنا سهل وكل من ادعـــــى  سهولته قلنا له قد جهلـــــتنا
فأيسر ما في الحب بالصب قــــتله  وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
***

 الإنسان أيها الأخوة ذاق الطعام والشراب، وذاق الزواج، وذاق النزهات، وأكل من أطايب الطعام، فهل ذاق طعم القرب من الله عز وجل، هل ناجاه في الليل ؟ إذا كان الثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا، يقول هل من تائب فأتوب عليه، هل من طالب حاجة فأقضيها له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له.
 الدين أيها الأخوة سره الاتصال بالله، الصلاة نور، ترى به الخير خيراً والشر شراً الصلاة طهور، تطهر النفس من أدرانها، الصلاة حبور، مسعدة لصاحبها، الصلاة قرب.

 

 

﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾

 

( سورة العلق )

 الصلاة ذكر.

 

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

 

( سورة طه )

 الصلاة انضباط.

 

﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

 

( سورة العنكبوت الآية: 45 )

 أيها الإخوة:
 العبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، ولكن كيف نعرف الله ؟ ثلاث طرق سالكة لمعرفة الله ؟ الطريق الأول:
 طريق التفكر في خلق السماوات والأرض، والآيات التي وردت في القرآن والتي تتحدث عن خلق السماوات والأرض لا تعد ولا تحصى، ولكن أقتطف في هذا اللقاء الطيب بعض المقتطفات من آيات الله الدالة على عظمته، هل منا واحد من كل الأخوة الحاضرين لا يعرف البعوضة لقد ذكرت في القرآن الكريم قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً ﴾

 

( سورة البقرة الآية: 26 )

 بعوضة ؟! في القرآن الكريم ؟! في كتاب الله ؟! هذه البعوضة يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم:

 

((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء ))

 

[ أخرجه السيوطي والضياء عن سهل بن سعد ]

 بعد أن اكتشفت المجاهر الالكترونية التي تكبر الشيء آلاف المرات، من أربع آلاف إلى أربعين ألف إلى أربع مئة ألف، وصورت البعوضة من خلال هذه المجاهر وجد أن في رأسها 100 عين، وأن في فمها 84 سناً، وأن في صدرها 3 قلوب، قلباً مركزياً، وقلباً لكل جناح، وأن في كل قلب أذينان، وبطينان، ودسامان، وأن البعوضة تملك جهازاً لا تملكه الطائرات، تملك جهاز استقبال حراري، بمعنى أنها لا ترى الأشياء لا بأشكالها ولا و لا بأحجامها ولا بألوانها ولكن ترى الأشياء بحرارتها، هذا الجهاز بالغ التعقيد، جهاز رادار أو جهاز استقبال حراري، حساسيته واحد على ألف من الدرجة المئوية، في البعوضة! ومعها جهاز آخر هو جهاز التحليل، لأنه ما كل دم يناسبها، إذا وقعت على يد إنسان حللت دمه فإن وافقها امتصت منه وإلا تركته، لذلك ينام أخوان على سرير واحد يستيقظان وقد ملء أحدهما بلسع البعوض والثاني لم يصب بشيء، معها جهاز تخدير لئلا تقتلها وهي على يدك، ولا تضرب يديك إلا بعد أن تطير في سماء الغرفة لأنه انتهى مفعول التخدير، فمن جهاز تحليل، إلى جهاز تخدير، إلى جهاز تمييع للدم، لأن لزوجة الدم لا تسري في خرطوم البعوضة، وفوق جهاز الرادار والتحليل والتخدير والتمييع في خرطومها ستة سكاكين، أربع سكاكين لأحداث جرح مربع، وسكينان تلتئمان على شكل أنبوب لامتصاص الدم، وفي أرجلها مخالب إذا وقفت على سطح خشن، ومحاجم إذا وقفت على سطح أملس.

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾

 وفي آية ثانية يقول الله عز وجل:

 

 

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) ﴾

 

( سورة الذاريات )

 المرأة حينما تلد ينزل مع المولود قرص من اللحم يسميه العامة الخلاص، ويسميه الأطباء المشيمة، هذه المشيمة يجتمع فيها دم الأم ودم الجنين، ودم الأم من زمرة ودم الجنين من زمرة، ولو اختلط دمان من زمرتين مختلفتين لمات الإنسان من توه، بسبب انحلال الدم، لكن دم الجنين يلتقي مع دم الأم في المشيمة ولا يختلطان، لوجود غشاء بينهما هذا الغشاء سماه الأطباء الغشاء العاقل، سماه الغشاء العاقل لأنه يقوم بأعمال لا يستطيعها أطباء الأرض مجتمعين، ولو ترك هذا الغشاء لطبيب لمات الجنين في ساعة واحدة، ماذا يفعل هذا الغشاء ؟ يأخذ من دم الأم الأوكسجين ويطرحه في الجنين من أجل حرق السكر ثم يأخذ من دم الأم عوامل المناعة التي اكتسبتها في حباتها ويطرحها في دم الجنين، فالجنين لا يصاب بالأمراض التي حصنت منها أمه، وهذا الغشاء العاقل يأخذ الأنسولين من دمها ويطرحه في دم الجنين كي يحترق السكر، وهذا الغشاء العاقل يأخذ من دم الأم ما يحتاجه الجنين من غذاء، المواد الدسمة، والنشوية، والبروتينية، والفيتامينات، والمعادن وأشباه المعادن، بكفاءة عالية جداً لا يستطيعها أكبر طبيب نسائي، وهذه النسب التي يأخذها ويطرحها في دم الجنين تتبدل كل ساعة، بحسب نمو الجنين، يعني أعظم وظيفة للغشاء العاقل أنه يأخذ من دم الأم حاجة الجنين من الغذاء بكل تفاصيله، مع التبدل الساعي والغشاء العاقل يمنع مرور المواد المؤذية والسامة من دم الأم إلى دم الجنين وقاية له، ثم إنه يأخذ من دم الجنين ثاني أوكسيد الكربون ويطرحه في دم الأم كي يخرج مع نفسها، ويأخذ من دم الجنين حمض البول الناتج عن الاستقلاب يطرحه في دم الأم حتى يخرج من كليتيها هذا الغشاء العاقل يقوم بأعمال لا يستطيعها الأطباء، قال تعالى:

 

﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾

 

( سورة السجدة الآية: 7 )

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

 فيمكن أن نتعرف إلى الله من خلال التفكر بأجسامنا ويمكن أن نتعرف إلى الله من خلال التفكر بطعامنا، ويمكن أن نتعرف إلى الله من خلال التفكر بما حولنا، من كائنات، ومخلوقات، ويمكن أن نتعرف إلى الله إذا نظرنا إلى السماوات والأرض، فالشمس تكبر الأرض بمليون وثلاث مئة ألف مرة، وبين الأرض والشمس 156 مليون كم، يقطعها الضوء في 8 دقائق، جوف الشمس يتسع لمليون وثلاث مئة ألف أرض وبينهما 156 مليون كم.
 وفي برج العقرب نجم صغير أحمر اللون اسمه قلب العقرب يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما.

 

﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾

 

( سورة لقمان الآية: 11 )

 هذا الإله العظيم يعصى ؟! هذا الإله العظيم ألا يُطاع ؟! ألا يُخطب وده ؟! ألا يجعل هدفاً لعمل الإنسان ؟! هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
 أيها الأخوة الكرام:
 الجانب الأول من العبادة أن نعرف الله، والجانب الثاني أن نستقيم على أمره والجانب الثالث أن نتقرب إليه بالعمل الصالح، والجانب الرابع أن نتصل به، ولكن:

 

(( ليس كل مصل يصلي، إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب وآوى الغريب كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلما، والظلمة نورا يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها.))

 

[ رواه الديلمي عن حارثة بن وهب ]

 أيها الأخوة الكرام:
 سؤال دقيقٌ دقيق يراود كل الأخوة الكرام الله عز وجل وعدنا في القرآن الكريم فقال:

 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾

 

( سورة النور الآية: 55 )

 هذه الوعود هل هي محققة الآن ؟ هل نحن مستخلفون ؟ هل نحن ممكنون ؟ هل نحن آمنون ؟ لا والله، هذه الحقيقة المرة وهي أفضل ألف مرة من الوهم المريح، كيف نفوق بين هذا الوعد الإلهي وكلكم يعتقد معي أن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، هذه الوعود ليست محققة، ما تفسير ذلك ؟ قال تعالى:

 

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) ﴾

 

( سورة مريم )

 ولقد لقي المسلمون ذلك الغي، أجمع العلماء على أن إضاعة الصلاة لا يعني تركها ولكن يعني تفريغها من مضمونها، قال تعالى:

﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

 فإن لم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر معنى ذلك أننا ضيعنا الصلاة.

 

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾

 وقد ورد في القرآن الكريم أن الله عز وجل يقول:

 

 

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

 

( سورة الشعراء )

 ما القلب السليم ؟ القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، القلب السليم الذي لا يقبل خبراً يتناقض مع وحي الله، والقلب السليم القلب الذي لا يعبد غير الله، والقلب السليم الذي لا يحتكم إلا لشرع الله.

 

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

 

 إذاً: لسنا ممكنين، ولسنا مستخلفين، ولسنا آمنين، لأننا أضعنا الصلاة واتبعنا الشهوات.
 شيء آخر:

﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾

 فإن لم يمكنهم معنى ذلك أن دينهم الذي هم عليه بفهمهم السقيم لم يرتضيه لهم، لذلك لم يمكنهم، فالكرة في ملعبنا، وفرق كبير أيها الأخوة بين أن تتوهم أننا مقهورون، ومع القهر يأس وموت، أو أن تعتقد أن الأقوياء قد سُلطوا علينا، تأديباً لنا ورحمةً بنا، مبدأ التصديق معناه أن الكرة في ملعبنا وإن تعودوا نعد.

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

 

( سورة الرعد الآية: 11 )

 يعني إن كنا في ضائقة علينا أن نغير حتى يغير الله ما بنا، وإن كنا في بحبوحة علينا ألا نغير حتى لا يغير الله ما بنا، هذه قاعدة أساسية.
 فلذلك أيها الأخوة نحن لا نخرج من هذه الأزمة التي أحدقت بالمسلمين وبشعوب الشرق الأوسط إلا إذا اصطلحنا مع الله، وعدنا إليه، واعتصمنا بمنهج الله عز وجل حتى نستحق أن تتحقق وعود الله فينا.
 أيها الأخوة الكرام:
 العبادة التي تحدثت عنا قبل قليل لها مفهومات واسعة، من أدق مفهوماتها عبادة الهوية، أنت من ؟ أنت غني، أول عبادة إنفاق المال، أنت قوي ؟ أول عبادة إحقاق الحق أنت عالم أو عبادة تعليم العلم، أنت امرأة ؟ أول عبادة رعاية الزوج والأولاد.

 

(( اعلمي أيتها المرأة وأعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله ))

 فنحن إذا أردنا أن نعبد الله لأن العبادة سر وجودنا، ينبغي أن نفهم العبادة على مستويات واسعة، أول عبادةٍ عبادة الهوية، أنت من ؟ إن كنت غنياً أنفق من مالك، وإن كنت قوياً أقم الحق في دارته، وإن كنت عالماً انشر العلم، وإن كنتِ امرأة أحسني رعاية الزوج والأولاد.
 هناك عبادة الظرف عندك أب مريض أول عبادة رعاية الأب، عندك ضيف أول عبادة إكرام الضيف، عندك ابن صغير أول عبادة العناية بدروسه وإيمانه واستقامته وسلوكه.
 أما العبادة الثالثة:
 عبادة الوقت، وقت الفجر، هذا وقت الصلاة والذكر، لأن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، ولله عمل في النهار لا يقبله في الليل.
 أما عبادة العصر: إذا أراد الطرف الآخر إفقارنا فكسب المال الحلال، وحل مشكلات المجتمع العبادة الأولى، وإذا أرادوا إضلالنا فترسيخ معالم الدين، ودعمه بالأدلة القوية أول عبادة، وإذا أرادوا إفسادنا فتحصين أبناءنا بمدارس منضبطة أول عبادة، وإذا أرادوا إذلالنا فأن نضحي بالغي والرخيص والنفس والنفيس أول عبادة.
 أيها الإخوة الكرام:
 العبادة سر وجودنا وغاية وجودنا.
 شيء أخر: هو أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول:

 

 

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ﴾

 

( سورة طه )

 لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه.

 

﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ﴾

 

( سورة البقرة )

 لو جمعنا الآيتين أن الذي يتبع هدى الله عز وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت.
 أيها الأخوة:
 أروي لكم قصتين مؤثرتين الأولى:
أن إمام مسجد في بلد غربي نُقل إلى مسجد آخر، فاضطر أن يركب في السيارة العامة كل يوم، ومع السائق نفسه، مرةً صعد إلى المركبة، وأعطى السائق ورقة نقدية كبيرة، ورد السائق له الباقي، عد الباقي فإذا المبلغ الذي أعطاه إياه السائق يزيد عن حقه بعشرين سند، القصة في بريطانيا، فقال هذا الإمام إمام المسجد أنا كمسلم ينبغي أن أرد هذا المبلغ الزائد لسائق السيارة، هذا شيء طبيعي، وشيء يمليه عليه منصبه الديني وورعه واستقامته، ثم جاءه خاطر آخر ولعله شيطاني، أن الشركة عملاقة، وأن دخلها فلكي، وأن المبلغ زهيد، وأنه بحاجة إليه، وأن هذا المبلغ لا يقدم ولا يؤخر، ولعله هبة من الله جاءتني ولكن حينما نزل من المركبة دون أن يشعر مد يده إلى جيبه وأعطى السائق العشرين سند التي بقيت له في ذمته، فقال له السائق: ألست إمام هذا المسجد ؟ قال بلا، فقال له السائق والله حدثت نفسي أن أزورك في هذا المسجد لأتعبد الله قبل يومين، ولكنني أردت أن أمتحنك قبل أن آتي إليك، هذا الإمام وقع مغشياً عليه، صاح وقال بعد أن صحا، قال يا رب كدت أبيع الإسلام كله بعشرين سند.
 نحن أزمتنا أيها الأخوة أزمة تطبيق، كم من مسلم يبيع دينه وأخرته بعرض من الدنيا قليل، لنه في آخر الزمان لم يبقَ من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، فنحن حينما نطبق هذا الدين العظيم نستحق عندئذٍ أن ينصرنا الله عز وجل.
شيء آخر:
 لبنت فرعون ماشطة، يعني كوافيرة، في أثناء تمشيط شعرها وقع من يدها المشط فقالت بسم الله، بنت فرعون قالت ألكِ رب غير أبي ؟ فقالت هذه الماشطة ربي وربك الله قالت إذاً سأخبر أبي، أخبرت أباها أن هذه الماشطة تعتقد بإله غيرك، فاستدعاها، واستدعى معها أولادها الأربعة، جاء ببقرة من نحاس وأضرم فيها النار حتى احمرت، وأمسك بولدها الأول، وقال لها ألكِ رب غيري ؟ فقالت ربي وربك الله، فألقاه في النار حتى تفحم، ثم أمسك الثاني وقال لها ألكِ رب غيري قالت ربي وربك الله، ألقاه في النار حتى تفحم، أمسك بالثالث قال ألكِ رب غيري ؟ قالت ربي وربك الله، ألقاه في النار حتى تفحم، الابن الرابع كان رضيعاً فلما أمسكته تضعضعت، قال ألكِ رب غيري ؟ فسكتت، وردت هذه القصة عن رسول الله، الله عز وجل أنطق هذا الغلام الصغير قال يا أمي اصمدي أنت على حق، فقال ألكِ رب غيري ؟ قالت ربي وربك الله، ألقاه في النار حتى تفحم، ثم ألقاها في النار.
 وفي أثناء الإسراء والمعراج شم النبي رائحة لم يشم من طيبها قط، قال يا جبريل ما هذه الرائحة ؟ قال هذه رائحة ماشطة بنت فرعون.
 القصتان الأخيرتان نحن بأمس الحاجة إليهما، أن نعتقد بعظمة الله وأن نكون عند اعتقادنا، وأن نضحي من أجل اعتقادنا بكل شيء، والقصة الأولى هي أن الإنسان لا يستطيع أن يؤثر فيما حوله إلا إذا كان صادقاً في تطبيق ما يعلم.
 فيا أيها الأخوة الكرام:
 نحن في أمس الحاجة إلى أن نتعرف إلى الله، وأن نتعرف إلى منهجه، وأن نبادر إلى التوبة، وإلى الطاعة، حتى نسعد بقربه في الدنيا والآخرة.
 وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى، وأشكر لكم حضوركم، واهتمامكم، وإصغائكم وأسأل الله أن أكون عند حسن ظنكم.
 والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
 سنفتح المجال لطرح الأسئلة:
 الأستاذ راتب:
 الصحابة الكرام كانوا مع سيد الأنام، فلما عصوه في أحد لم ينتصروا، ولو أنهم انتصروا لسقطت طاعة رسول الله.
 والصحابة الكرام وهم نخبة الخلق، ومعهم سيد الخلق في حنين لم ينتصروا، لأنهم وقعوا في ذنب شركي لن نغلب من قلة، فغلبوا مرة لمعصية، ومرة بالشرك الخفي، فإذا كانت معصية واحدة، وشرك خفي واحد منعا نصرين كبيرين، فإذا كان المجتمع الإسلامي يزخر بآلاف المعاصي، وبآلاف الشبهات والشهوات، شيء طبيعي جداً، يعني من السذاجة أن نسأل ربنا شيئاً من دون دفع ثمنه.

 

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾

 

( سورة الأنفال الآية: 10 )

﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) ﴾

( سورة الروم )

﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾

( سورة غافر )

 وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، ولكن النصر له سبب لذلك الحرب بين حقين لا يكون، لأن الحق لا يتعدد، والمعركة بين حق وباطل لا تطول لأن الله مع الحق، أما بين باطلين لا تنتهي إلى قيام الساعة.
 في سؤال أنه لقد تحدثت عن العلم فما رأيك في العلم الذي لا يندرج تحت الأطر الأربعة ؟
 الأستاذ راتب:
 العلم الذي لا يندرج تحت هذه الأطر الأربعة هو علم من نوع حرف الدنيا، إنسان يتقن اختصاص يكسب منه رزقه، أما العلم الذي يسمو بالإنسان أي يتعرف إلى الله عز وجل أن يتعرف إلى منهجه، أن يتعرف إلى سر وجوده وغاية وجوده، أن يتعرف بعلمه إلى الله وأن يشكره على نعماءه، وأن يتلقى من وحي السماء ما عجز عقله عن إدراكه، أما هناك علم بخلق الله جامعات الأرض متخصصة بهذا العلم، وعلم بأمر الله كليات الشريعة متخصصة بهذا الأمر، وهناك علم بالله العلماء الذين يسلكون الطلاب إلى الله عز وجل متخصصون بهذا العلم.

 

﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ﴾

 

( سورة النحل )

﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59) ﴾

( سورة الفرقان )

 أما العلوم الأخرى إنسان يتقن الرياضيات والفيزياء والكيمياء مدرس في الجامعة يتقاضى راتب جيد، هذه علوم تبقى في ذهنه، ولا تسمو بها نفسه إلا إذا عبرها إلى الله عز وجل، البطولة أن تخترق هذه العلوم التي قد تدل بشكل صارخ على الله عز وجل لكن إذا أردت منها أن تعرف الله، أما إن أردتها صنعة وحرفة تكتسب منها رزقاً فهي لا تؤدي الغرض.
 ورد أن بعوضة فما فوقها ؟
 الأستاذ راتب:
 في بعض البحوث الحديثة تؤكد أن فوق البعوضة كائن آخر، الحقيقة:

 

﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾

 

( سورة النمل الآية: 18 )

 ثبت أن بنية جسم النملة زجاجي فإذا ديس عليها تحطمت، والأشياء المرنة لا تتحطم الأشياء الزجاجية تتحطم، يعني كلما تقدم العلم كشف عن جانب من عظمة هذا القرآن الكريم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وأرضى عنا، أصلح لنا ديننا، الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسينا ذكرك يا رب الـعالمين.
 اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين يا رب العالمين.
 اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده معصوما، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما.
 وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

إخفاء الصور