وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0234 - أحاديث شريفة - موضوع علمي عن مكونات الحليب .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

النهي عن أن يحدث الإنسان الآخرين بكلِّ ما سمع :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ من أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تبدأ جميعها بكلمة كفى ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع))

[أبو داود عن أبي هريرة ]

 أي هذا الإنسان يا أخوة الإيمان الذي يحدث بكل شيءٍ استمع إليه ، كل شيءٍ وصل إلى أذنه نطق به لسانه ، هذا الذي يستمع الإنسان إليه ربما كان صدقاً أو ربما كان كذباً، فإذا لم يمحص ، ولم يدقق ، ولم يتحقق ، ولم يتبصر ، ولم يكن حكيماً ، بل بادر إلى النطق بكل ما استمع إليه ، فقد وقع في إثمٍ ، وأي إثم ، أي حسبه إثماً ، يكفيه إثماً ، أن يحدث الناس بكل ما سمع ، هذه الكلمة تقال وهذه لا تقال ، هذه ليست من الحكمة أن تقال ، وهذه الكلمة إذا قيلت أفسدت بين الزوج وزوجته ، وهذه إذا قيلت أفسدت بين الشريك وشريكه ، وهذه إذا قيلت أفسدت بين الأم وابنها ، وبين الجار وجاره ، ليس كل ما يعلم يقال ، ليس كل كلمة تستمع إليها تصلح أن تنطق بها ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :

 

((كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع))

 

[أبو داود عن أبي هريرة ]

 هذا المهزار الذي يملأ المجلس حديثاً ، ومن كثر كلامه كثر خطؤه لكن المؤمن وقاف عند كتاب الله .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾

[ سورة الحجرات : 6]

 وقاف عند هذه الآية ، لا يتلقف الكلمة بلسانه ، كما قال الله عز وجل بل يتلقفها بأذنه ، ويعمل بها فكره ، يوازن الأمور ، يقيم محاكمة صحيحة ، فإذا كان في إلقاء هذه الكلمة الخير تكلم بها ، وإن كان في إلقاء هذه الكلمة تفريق بين الناس ، إشاعة لبلبلة ، إشاعة للمخاوف ، إذا كان في إلقاء هذه الكلمة تيئيس للناس ، إدخال الحزن على قلوبهم ، لا يقولها ، ولا يسمح للسانه أن يتفوه بها .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ فلو وقف الناس عند هذا الحديث النبوي الشريف ، كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع ، أي هذا المرء لو لم يكن له من الإثم إلا أن يحدث الناس بكل ما سمع لكفاه إثماً ، لكان هذا العمل إثماً يقتضي أن يحاسب عليه ، ويقتضي أن يدفع ثمنه، كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع ، أية قصة استمعت إليها ، أي حديثٍ ، أية رواية، اعرضها على كتاب الله ، اعرضها على قواعد الشرع ، هل ينبغي أن أنطق بها ؟ هل ينبغي أن أبثها بين الناس ؟ هل ينبغي أن أنقلها لمن قيلت فيه ؟ إذاً هي النميمة .

 

الابتعاد عن الغيبة والنميمة لما تخلفاه من أذى :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ بعض العلماء الذين فسروا هذا الحديث يقولون : هذا الذي استمعت إليه ، إذا كان صدقاً مئة في المئة ، وتحققت من صدقه ، فإذا نطقت به فلا شيء عليك ما لم يكن غيبة ، فإذا قال فلان عن فلان كذا وكذا ، وفي فلان كذا وكذا ، فهذا كلام صحيح ، وهذا كلام صادق ، لكن هذا الكلام يعد في نص هذا الحديث إثماً لأنك تكلمت عن أخيك بما هو فيه ، والغيبة أن تتكلم عن أخيك بما هو فيه ، ولو كانت صدقاً محرم عليك أن تنطق بها لقول الله عز وجل :

﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾

[ سورة الحجرات :12]

 فإذا كنت قد تحققت من صدق هذه الكلمة ، هناك أشياء كثيرة تمنعك من أن تنطق بها ، قد تكون غيبة ، وقد تكون نميمة ، والغيبة والنميمة شيئان وقعا فعلاً ، فالغيبة كلام قيل عن شخص ، وفي هذا الشخص ما قيل فيه ، والنميمة نقل هذا الكلام من شخص إلى شخص بقصد الإفساد بين الناس ، والإيقاع بينهم ، لذلك ربنا عز وجل يقول في محكم آياته :

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾

[ سورة الأنفال : 1 ]

 أي أصلحوا ما بينكم من علاقات ، بعض العلماء فهموا من هذه الآية ، أي أصلحوا نفوسكم بتزكيتها ، وبعضهم فهمها أن أصلحوا ما بينكم وبين الناس ، من علاقات ، وبعضهم فهمها أي أصلحوا ما بين الناس من علاقات ، فالغيبة والنميمة تفسدان العلاقة بين الناس ، يقول عليه الصلاة والسلام : " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع ". فإذا تأكدت أن هذا الذي استمعت إليه كذباً ، فإنه محرم عليك أن تنطق به ، إن كان صدقاً لك أن تنطق به ما لم يكن غيبة أو نميمة ، وإن كان كذباً فهو محرم عليك أن تنطق به ، لأنك تقع في أشدّ أنواع الكذب ، وإن كان الذي استمعت إليه بين بين ، أي تشك في صدقه ، لست متأكداً من صدقه ولا من كذبه ، قال بعض العلماء : لك أن تنسب هذا القول إلى صاحبه ، لك أن تقول : فلان حدثني كذا وكذا ، وأعلم من فلان الصدق أو أعلم منه الكذب ، إذا فعلت هذا فقد برأت نفسك من تبعة الإثم التي تلحق لمن يحدث الناس بكل ما سمع .
 شيء آخر : يقول بعض العلماء يا أيها الأخوة في تعريف الكذب بأنه كلمة الإثم التي يقع بها الضرر ، لمجرد أن يقع الضرر في كلام صادق كان أو كاذب فهو عند رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذب لأن هذا الحديث الشريف الذي نحن بصدده له رواية أخرى :

((كَفَى بالمَرْءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ ))

[ مسلم‏ عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ ]

 أي إذا تكلمت بكلام لست متأكداً من صحته ، أو أنت متأكد من صحته ، لكنه يوقع الضرر ، ويوقع الفرقة ، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، فهذا الكلام على صدقه ، وعلى واقعيته مصنف مع الكذب .

 

المسلم وقاف عند حدود الله :

 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا اللسان يرتكب أكثر المعاصي من حيث العدد .

 

(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ))

 

[ أحمد عن أنس بن مالك]

 أحد أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسمه معاذ بن جبل قال :

((يَا نَبِيَّ اللهِ ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ قَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وَجَوهِهِمْ فِي النَّارِ ، إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ...))

[ ابن ماجه عن معاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ ]

 المسلم في أغلب الأحوال وفي معظم الأوقات وقاف عند حدود الله ، في العالم الإسلامي ، السرقة والزنا والكبائر هذه يبتعد عنها معظم المسلمين ، ولكن الذي يقعون فيه صباحاً مساء ، ليلاً نهاراً ، كل يوم معاصي هذا اللسان ، لهذا قال النبي العدنان عليه أتمّ الصلاة والسلام : " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع " محص ، دقق ، حاكم ، ادرس ، تأمل ، اعرض هذا الكلام على كتاب الله ، اعرضه على سنة رسول الله ، تأكد من صحته ، تأكد من صحة نقله ، تأكد من حكمة قوله ، وبعدئذ انطق به كي ترجو ثوابه وتخشى من الله عز وجل كتمان العلم ، أما هذا الذي ينطق على هواه من دون حساب ، من دون محاسبة ، ولا رقابة ، ولا تدقيق ، ولا تمحيص ، ولا تأمل ، ولا موازنة ، ولا محاكمة ، هذا الإنسان الذي يلقي الكلام على عواهنه ، لا ينتمي إلى المؤمنين ، لأن المؤمنين يقفون عند حدود الله عز وجل .

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون : 1-3 ]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع ، هذا الحديث الشريف الذي شرحت بعض أغراضه قبل قليل ، لا ينبغي أن يبقى في أذهاننا ، ينبغي أن ينتقل إلى مشاعرنا ، وينبغي أن نمارسه كل يوم فور سماع تفسيره ، لأن الإنسان من سعادته أن يطبق ما يسمع ، وفي الدعاء الشريف :" اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً، واجعلنا مما يسمعون القول فيتبعون أحسنه " فما لم يطبق هذا الحديث في الحياة اليومية ، في الحياة التي يحياها المؤمن ، فإنه لن يستفيد منه ، لأن بعضهم يقول : العلم ما عمل به ، فإن لم يعمل به ، كان الجهل أفضل منه .

 

مسؤولية الآباء مسؤولية كبيرة تجاه الله وتجاه المجتمع :

 ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر يبدأ بكلمة كفى :

((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت‏ ))

[أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر]

 هذا الذي تقوته من زوجتك ، أو ولد ، أو أم ، أو أخ ، أو أخت ، أو يتيم ، هذا الذي تقوته ، بمعنى تطعمه ، بمعنى تتولى أمره ، ‏كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت‏ ، ما هو التضييع ؟ جاء في القاموس التضييع هو الإهلاك ، أي إذا أهلكته ، إما جوعاً ، أو جهلاً ، هذا الذي تقوته أنت موكل بأمر تربيته ، تربيته الجسمية ، وتربيته النفسية ، وتربيته العقلية ، وتربيته الخلقية ، وتربيته الدينية ، فينبغي أن تربي هذا الذي تقوته ، في جسمه بأن تطعمه مما تأكل ، وفي عقله بأن تعلمه ، وفي نفسه بأن تهذبه ، وفي خلقه بأن تعطيه من التوجيهات ما تصلح بها أخلاقه ، ومن التعليمات الدينية ما تصلح بها دينه .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ‏كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت‏ ، قد يأتي الابن يوم القيامة وقد استحق دخول النار ، فيقول : يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي لأنه ضيعني ، أطعمني لكنه ضيعني ، كساني لكنه ضيعني ، يجب أن تبذل جهداً لا حدود له في تهذيب ابنك ، وفي تأديبه الأدب الحسن ، وبعدئذٍ دع الأمر لله عز وجل ، إذا كان هناك تقصير فلا بد من المحاسبة ، فإن لم يكن هناك تقصير فالأمر عائد بعد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى .

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

[ سورة القصص : 56 ]

﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾

[ سورة الغاشية :22-23]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ‏كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت‏ ، التضييع ليس معناه التجويع ، التضييع معناه أن يكون هذا الإنسان جاهلاً ، أن يبقى جاهلاً ؛ التعليم ، والتوجيه ، والتربية ، والتأديب ، والتهذيب ، والإطعام ، هذا كله مما يعينه هذا الحديث النبوي الشريف .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مسؤولية الآباء مسؤولية كبيرة ، مسؤولية تجاه الله عز وجل أولاً وتجاه المجتمع ثانياً .

 

المؤمن لين يألف ويؤلف :

 وحديث ثالث يقول عليه الصلاة والسلام :

((كَفَى بِكَ إثْماً ألا تَزَال مُخَاصِما‏ ))

[ ‏الترمذي‏ عن ابن عباس ]

 المخاصمة ، والشحناء ، والبغضاء ، والمماراة ، وافتعال المشكلات هذه ليست من أخلاق المؤمن في شيء .

((رحم الله عبداً سمحاً إذا باع ، سمحاً إذا اشترى ، سمحاً إذا قضى ، سمحاً إذا اقتضى))

[ البخاري وابن ماجه عن جابر ]

 المؤمن لين العريكة ، يألف ويؤلف ، المؤمن يسامح ، فهذا الذي لا يزال مخاصماً ، لا يزال الحقد يأكل قلبه ، لا يزال نفسه طويلاً في المشاحنة ، والمماراة ، والبغضاء ، وإشاعة الكراهية ، هذا ليس من المؤمنين في شيء ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ‏" كَفَى بِكَ إثْماً ألا تَزَالَ مُخَاصِما‏ً" . بعضهم يقول : المخاصمة مع رجل واحد ، أي الخصومة دامت ، لم يسامح ، لم يعف ، لم يتجاوز ، لم يصفح ، لا زال حقده هو هو ، هذا ليس من المؤمنين في شيء ، هذا أقرب إلى المنافقين . وبعضهم قال : هذا الذي يخاصم كل يوم إنساناً إنه لغوي مبين ، خصومة مع زيد ، خصومة مع عبيد ، خصومة مع جاره ، خصومة مع زبائنه ، خصومة مع زوجته ، مع أولاده ، هذا إنسان شرير ، هذا الذي يخاصم كل الناس طبعه منفر ، نفسه مستعلية ، لسانه حاد في ألفاظه : " ‏كَفَى بِكَ إثْماً ألا تَزَال مُخَاصِما‏ ".

 

من أخلاق المؤمن ألا ينتقد ما قدم له من طعام اقتداء بالنبي الكريم :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام في سلسلة هذه الأحاديث الشريفة التي تبدأ بكلمة كفى ، وما ذكرت هذه الأحاديث في مناسبة عيد المولد النبوي الشريف إلا كي نعتقد اعتقاداً جازماً أن الاحتفال بعيد المولد يعني تطبيق سنة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تطبيق سنته في أقواله ، وفي أفعاله ، وفي أخلاقه ، وفي صفاته ، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما عاب طعاماً قط ، كان لا يذم الطعام ولا يمدحه ، لا هذه ولا تلك ، ولكن يحمد الله عليه يقول عليه الصلاة والسلام :

((كفى بالمرء شراً أن يتسخط ما قرب إليه‏ ))

[ ابن أبي الدنيا و أبو الحسين بن بشران عن جابر‏ ]

 قدم لك طعام ، ليس من أخلاق المؤمن أن تنتقد هذا الطعام ، أو أن تقيّم هذا الطعام ، أو أن تشمئز من هذا الطعام ، أو أن تلقي باللائمة على صانع هذا الطعام ، أو على مقدم هذا الطعام ، ليس هذا من أخلاق المؤمن في شيء ‏ ، " كفى بالمرء شراً أن يتسخط ما قرب إليه‏ " علمنا النبي عليه الصلاة والسلام أنه لم يذم طعاماً قط في حياته كلها ، حتى أن الطعام الذي كانت نفسه تعافه كان يقول : ولكن تعافه نفسي ، أي لم يكن في أهل قومي فلم تألفه نفسي ، ولكن نفسي تعافه ، قرب له لحم ضب فقالوا : أهو حرام يا رسول الله ؟ قال : لا لكن تعافه نفسي ، لم يكن في أرض قومي ، فأجد نفسي تعافه ، هذا الكلام الذي قاله به النبي عليه الصلاة والسلام .

 

المسامحة و العفو و التساهل في الحقوق :

 ويقول عليه الصلاة والسلام في معرض هذا الإثم الذي يكفي الإنسان كي يدان به ، وكي يحاسب عليه ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( كفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئا‏ ))

[ الحاكم في المستدرك عن أبي أمامة‏ ]

 أي إذا قال العبد : لا أدع من حقي شيئاً ، أين المسامحة ؟ أين التجاوز ؟ أين العفو؟ أين قول الله عز وجل :

﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾

[ سورة البقرة : 280 ]

 أين هذا من ذاك ؟
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ علمنا النبي عليه الصلاة والسلام المسامحة ، علمنا العفو، علمنا أن نكون متساهلين في حقوقنا ، طبعاً الحقوق عن طيب خاطر ، فلان لك عليه دين وتعلم أنه معسر ، وأنه ينوي إعطاءك هذا الحق بكامله ، وأنت في بحبوحة ، فإذا تساهلت بشيء من حقك فكأنما تصدقت به .

 

التفكر بالموت :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

((كفى بالموت واعظاً ، وكفى باليقين غنى‏ ))

[ الطبراني في الكبير عن عمار‏]

 الموت وحده ، معاينة الموت ، التفكر بالموت ، التفكر في القبر ، فيما بعد الموت، في زوال الدنيا ، هذا الموضوع وحده يكفي أن يكون أكبر واعظ للإنسان ، ‏كفى بالموت واعظاً ، لو لم يكن من أدلة الوعظ إلا الموت لكفى ذلك ، لو لم يكن هناك دعاة ، ولا تعليم ، ولا توجيه، ولا كتاب منزل من الله عز وجل ، لو لم يكن في الأرض إلا الموت لكفى بالموت واعظاً للإنسان ، يقول عليه الصلاة والسلام ‏ : " ‏كفى بالموت واعظاً وكفى باليقين غنى‏ " أي إذا أيقنت بما بعد الموت ، و كما قال الإمام علي كرم الله وجهه :" الغنى والفقر بعد العرض على الله " ، إذا أيقنت بأن ما بعد الموت جنة يدوم نعيمها ، أو نار لا ينفد عذابها ، هذا اليقين بما يناله المؤمن بعد الموت يكفيه غنى في الدنيا ، لو لم يكن له درهم ولا دينار ولكن كان له هذا اليقين بما سوف يناله بعد الموت ، لهذا يقول الله في الحديث القدسي : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر" .

 

تذكير بما سبق :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ أعيد على أسماعكم نصوص هذه الأحاديث فلعل الله سبحانه وتعالى ينفعنا جميعاً بها . يقول عليه الصلاة والسلام :

 

((كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكلِّ ما سمع))

 

[أبو داود عن أبي هريرة ]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

 

((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت‏ ))

 

[أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

 

((كَفَى بِكَ إثْماً ألا تَزَال مُخَاصِما‏ ))

 

[ ‏الترمذي‏ عن ابن عباس ]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

 

((كفى بالمرء شراً أن يتسخط ما قرب إليه‏ ))

 

[ ابن أبي الدنيا و أبو الحسين بن بشران عن جابر‏ ]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

 

(( كفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئا‏ ))

 

[ الحاكم في المستدرك عن أبي أمامة‏ ]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

((كفى بالموت واعظاً ، وكفى باليقين غنى‏ ))

[ الطبراني في الكبير عن عمار‏]

وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زال الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
 وفد أعرابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يتعلم الإسلام منه ، ولم تكن له معرفة سابقة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، ولا بما يدعو إليه ، فقال هذا الأعرابي : رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه ، ولا يقول شيئاً إلا صدر الناس عنه ، قلت : من هذا !؟ قالوا : هذا رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقلت له : عليك السلام يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا تقل عليك السلام ، عليك السلام تحية الميت ، قل : السلام عليك ، قلت : أنت رسول الله ؟ قال : أنا رسول الله ، الذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك ، أي رسول الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ؟ رسول خالق السموات والأرض ، رسول رب العالمين ، قال أنا رسول الله الذي - هذه الذي اسم موصول تعود على لفظ الجلالة - إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ، وإذا أصابك عام - أي سنة جدباء - فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفر فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك ، ذلكم الله رب العالمين . ما منا واحد إلا وهو مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى ، فالمؤمن إذا أصابه ضر ، إذا أصابه همّ ، إذا أصابه حزن ، إذا ألمت به ملمة ، إذا حلت به نازلة ، إذا ضاقت به الأمور، ليس له إلا الواحد القهار ، يدعوه فيكشف عنه . فقال : يا رسول الله اعهد إلي ؟ - أي أوصني - قال النبي عليه الصلاة والسلام : لا تسبن أحداً ، فيقول هذا الأعرابي : فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة ، بعد أن عهد إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال : يا أعرابي لا تسبن أحداً ، قال : فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة ، وقال عليه الصلاة والسلام : ولا تحقرن شيئاً من المعروف ولو أن تكلم أخاك وأنت منبسط الوجهِ ، أي إذا كلمت أخاك المؤمن ، وقد جعلت وجهك منبسط الأسارير فهذا معروف ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ، ولو أن ترحب به ، ولو أن تبتسم في وجهه ، ولو أن تصافحه بحرارة ، هذا من المعروف ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن ذلك من المعروف، ثم قال : وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه وصية من رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

ضرورة تذكير الآخرين بالحياة الأبدية :

 في ختام المطاف رجل اشترى بيتاً ، وذهب إلى سيدنا علي كرم الله وجهه ، وقال له : اشتريت بيتاً وأريد أن تكتب لي عقد الشراء بيديك ، فنظر إليه الإمام فوجد أن الدنيا قد تربعت على سويداء قلبه ، رأى حبّ الدنيا متمثلاً به ، وحجبته عن ذكر الله ، فأمسك بالقلم وكتب على الرقعة بسم الله فقد اشترى ميتٌ من ميت داراً في بلد المذنبين ، وسكة الغافلين لها أربعة حدود ، الحد الأول ينتهي إلى الموت ، والحد الثاني ينتهي إلى القبر ، والحد ينتهي إلى الحساب ، والحد الرابع ينتهي إما إلى الجنة وإما إلى النار ، أي أراد هذا الإمام العظيم أن ينبه هذا الإنسان الذي تربعت الدنيا على سويداء قلبه ، أراد أن يذكره بالآخرة ، أراد أن يذكره بالحياة الأبدية التي لا ينفع فيها مال و لا بنون :

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

 وكان هذا الإمام - سيدنا علي كرم الله وجهه - يقول : يا دنيا غري غيري ، أإلي تعرضتِ أم إليّ تشوفتِ ؟ هيهات هيهات لقد طلقتك بالثلاث ، لا رجعة فيها ، فعمرك قصير ، وخطركِ حقير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ومشقة الطريق ".
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني . والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

مكونات الحليب :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قرأت قبل أيام أن الحليب الذي خلقه الله ، وتفضل به علينا مركب وفق النسب الآتية ، وقفت عند هذه النسب فرأيتها نسب في غاية الحكمة ، وفي غاية العلم ، وفي غاية القدرة ، ما علاقة هذه النسب بحاجة الإنسان إليها ؟ فيه ماء من 87 إلى 91% على اختلاف أنواع الحليب ، وفيه من الدسم جسيمات صغيرة هي التي تطفو على سطحه فتسمى الدسم ، وفيه من السكريات من نوع أمثل في الهضم ، إنه سكر العنب ، وفيه ثلاثة أو أربعة أنواع مهمة جداً من البروتينات ، وفيه من المعادن الكالسيوم والفوسفور ، وفيه من الفيتامينات فيتامين أ ـ ب ـ س ـ د ـ وفيه غازات منحلة كغاز الفحم ، والأكسجين ، والنشادر ، هذا الحليب الذي نشربه ، هذا تركيبه ، وهذه نسبه ، بحيث أن الله سبحانه وتعالى جعله غذاء كاملاً للإنسان ، فسبحان الله خالق السموات والأرض ، خالق ما على الأرض من حيوانات ، ومن نباتات ، ومن أحياء ، هذه النسب لو تأملنا فيها ، الله الذي خلقنا هو الذي خلق لنا هذا الغذاء ، أفلا نشكره ؟ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾

[ سورة عبس : 24]

 ماء من 87 إلى 91% ، وجسيمات صغيرة من الدسم تعلق في وسطه السائل ، وسكريات من النوع سهل الهضم لا يتعب المعدة والأمعاء ، وبروتينات مفيدة جداً عليها قوام نمو الخلايا وترميم ما تلف منها ، ومعادن تفيد الأسنان ، وتفيد العظام ، لذلك تنصح الأمهات بتناول الحليب كي يعطين الأجنة التي في بطونهن ما يحتاجون له من كالسيوم ، من كلس وفوسفور ، وفيه من الفيتامينات أنواع منوعة ، وفيه غازات منحلة ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول : " فلينظر الإنسان إلى طعامه " هذا موضوع كبير للتفكر .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كلما تناولتم طعاماً ، كلما شربتم كأساً من الحليب ، إذا قلتم : بسم الله الرحمن الرحيم ، أي تذكروا الذي صنعه ، تذكروا الذي خلقه ، تذكروا الذي سخره لكم ، هذه الحيوانات التي تعطينا الحليب مذللة ، ربنا عز وجل قال :

﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾

[ سورة يس : 72 ]

 فالتذليل آية ، والحليب آية ، ونسب المواد فيه آية ، وكمال هذه النسب آية ، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد .

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور