وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0271 - الشرك - التوحيد هو الفطرة - النية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيّدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومَن والاه ومَن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

مهمة الأنبياء والمرسلين تصحيح الوجهة إلى الله عزَّ وجل :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى ، الاتجاه إلى الخالق جلَّ وعلا مركوزٌ في الفطرة البشرية ، نابعٌ من أعماق النفس ، هكذا فطرها الله عزَّ وجل..

﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾

[ سورة الروم : 30]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الشعور الأصيل بالاتجاه إلى الله عزَّ وجل قد يخطئ الطريق ، فيَعْبُد غير الله ، من هنا يأتي الشرك ، الاتجاه إلى الخالق ، الاتجاه إلى الله عزَّ وجل مركوزٌ في فطرة الإنسان ، نابعٌ من أعماقه ، فإذا اتجه الإنسان لغير الله فقد ضلَّ الطريق ، وأخطأ الهدف ، مهمة الأنبياء والمرسلين ، والعلماء العاملين ، والدعاة المخلصين تصحيح الوجهة إلى الله عزَّ وجل ، لفت الإنسان إلى ربّه الذي خلقه من قبل ولم يكُ شيئاً .
 ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حدَّثنا عن أقوامٍ عبدوا غير الله ، فقال تعالى متحدِّثاً على لسان الهُدْهُد :

﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾

[ سورة النمل : 24]

 في آيةِ أخرى :

﴿ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة سبأ : 41]

 وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه : أن ودَّاً ، وسواعَاً ، ويغوثَ ، ويعوقَ ، ونسرَاً، كانت صوراً لبعض موتاهم الصالحين ، اتخذوها لتذكِّرهم بالله عزَّ وجل ، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوها .
 في فطرة الإنسان اتجاهٌ إلى الله ، اتجاهٌ إلى الخالق ، هذا الشيء مركوزٌ في فطرتك ، نابعٌ من أعماقك ، فإذا ضلَّ الطريق ، أو أخطأ الهدف ، عبد غير الله .
 مهمة الأنبياء والمرسلين ، والعلماء العاملين ، والدعاة المخلصين توجيه النفوس إلى الله عزَّ وجل ، بحسب الفطرة التي فطر الناس عليها .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ابن اسحاقٍ يروي في تاريخه أنه في الجاهلية ، وقبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كان كل أهل دارٍ يتَّخذون صنماً يعبدونه مِن دون الله ، فإذا أراد الإنسان سفراً تَمَسَّح به ، وإذا آب من السفر تمسَّح به بحثاً عن أمنه وسلامته .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حتى أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله .
 والنبي عليه الصلاة والسلام لمَّا فتح مكة ، وجد في فناء الكعبة ثلاثمئةٍ وستين صنماً ، كسَّرها جميعاً ، وكان يتلو قوله تعالى :

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾

[ سورة الإسراء : 81]

الدّين كله إياك نعبد و إياك نستعين :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ بحسب الفطرة التي فُطِرْنا عليها ، بحسب ما أودعه الله في أعماق نفوسنا ، لابدَّ مِن أن نعبد الله وحده . لذلك قال بعض العلماء : جمع الدين كله في القرآن ، وجمع القرآن في الفاتحة ، وجُمِعَت الفاتحة في :

﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾

﴿ إياك نعبد﴾

[ سورة الفاتحة : 5]

 لو أن الله عزَّ وجل قال : نعبد إياك . هذا التركيب لا يفيد القصر ، نعبد إياك ونعبد غيرك ، ولكن إذا قدَّمنا المفعول به على الفعل ، هذا التقديم يفيد القصر ، إيَّاك نعبد ولا نعبد أحداً سواك . .

﴿ وإياك نستعين ﴾

  أيها الأخوة الأكارم ؛ الدين كله . .

﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾

  واللهُ سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول :

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾

[ سورة آل عمران : 64 ]

 والمشكلة أن الإنسان إذا لم يعبد الله لابدَّ مِن أن يعبد سواه ، فشيئان لا ثالث لهما: إما أن تعبد الله وحده ، وإما أن تعبد سواه ، فكل ما سوى الله عزَّ وجل سمَّاه الله في القرآن الكريم الطاغوت .

 

البشر نوعان أناسٌ يعبدون الله وأناسٌ يعبدون الطاغوت :

 فالبشر نوعان أناسٌ يعبدون الله ، وأناسٌ يعبدون الطاغوت ، فكل مَن استكبر عن عبادة الله سقط في عبادة غير الله ، أما أن تكون هناك حالةٌ أخرى - لا عبادة - فهذا شيءٌ مستحيل ، إما أن يعبد ذاته ، وإما أن يعبد شهوته ، وإما أن يعبد صنماً ، وإما أن يعبد شيئاً ، وإما أن يعبد شخصاً . إما أن تعبد الله وإما أن تسقط في عبادة غير الله . .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الكلام مُلَخَّص الأديان كلها :

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الأنبياء : 25]

 فحوى دعوة الأنبياء جميعاً ، مضمون الرسالات السماوية كلِّها . .

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾

[ سورة الأنبياء : 25]

﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾

[ سورة النساء : 48]

﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً ﴾

[ سورة النساء :116]

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾

[ سورة النساء : 48]

 قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري ، عن ابن مسعود أنه قال :

(( من مات وهو يدعو من دون الله ندَّاً دخل النار ))

[البخاري عن ابن مسعود]

 وقد جاء في صحيح مسلم ، عن سيدنا جابر رضي الله عنه ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( مَن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ، ومَن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ))

[مسلم عن جابر]

 وفي الحديث القدسي :

(( عبدي لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ))

[ من الدر المنثور ]

الشرك انحطاط و فِسْق :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الشرك انحطاط ، الشرك فِسْق ، أي أنه يؤدي إلى الفسق، يؤدي إلى الانحطاط ، يؤدي إلى المعصية ، يؤدي إلى المخالفة ، يؤدي إلى السقوط .
 الشرك أيها الأخوة المؤمنون فضلاً عن أنه انحطاطٌ وقذارةٌ هو كذبٌ على الحقيقة، لأن هذا الذي يشرك يعتقد شيئاً لا أصل له ، يعتقد وهماً ، يعتقد شيئاً خلاف الواقع ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم جمع بين الشرك وبين كلمة الزور ، فقال تعالى :

﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾

[ سورة الحج : 30]

 أي مَن عبد غير الله فقد عبد شيئاً لا أصل له ، تماماً ككلمة الزور . .

﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾

[ سورة الحج : 31]

العبادة نوعٌ من الخضوع لا يستحقه إلا الله عز وجل :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عودةٌ إلى موضوع العبادة ، العبادة نوعٌ من الخضوع لا يستحقه إلا الله سبحانه وتعالى ، غاية الخضوع مع غاية المحبة ، هذا النوع من الخضوع لا يستحقه إلا المُنْعِم بأعلى أجناس النعَم ، الذي أنعم عليك بنعمة الوجود هو وحده يستحق العبادة، الذي أنعم عليك بنعمة الحياة يستحق العبادة ، الذي أنعم عليك بنعمة الإمداد يستحق العبادة ، الذي أنعم عليك بنعمة السمع والبصر ، والعقل والإدراك ، يستحق العبادة .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله تعالى مخاطباً الإنسان :

﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾

[ سورة مريم : 9]

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان : 1]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كلُّ ما في الكون مُسَخرٌ للإنسان ، والمسخر له أعلى شأناً ، وأعلى مقاماً ، وأعلى رتبةً مِن المُسَخَّر . .

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾

[ سورة الإسراء :70]

 فيا أيها الإنسان كيف تخضع لما هو مُسَخَّرٌ لك في الأصل ؟ الشرك أن تخضع لغير الله ، أن تخضع خضوعاً تامَّاً لما هو في الأصل مسخرٌ لك .

 

الذرائع التي سدَّها النبي عليه الصلاة والسلام تفادياً للوقوع في الشرك :

1 ـ نهي الناس عن المبالغة في مدحه :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الآن ننتقل في هذه الخطبة إلى الذرائع التي سدَّها النبي عليه الصلاة والسلام تفادياً للوقوع في الشرك . . . النبي عليه الصلاة والسلام رفض كل مبالغةٍ في تعظيمه تظهره في غير مظهر العبودية لله عزَّ وجل ، بدأ بشخصه ، النبي عليه الصلاة والسلام سيِّد الخلق وحبيب الحق ، سيد الأنبياء والمرسلين ، سيد ولد آدم ، على ما هو عليه مِن جلال القَدْر ، ومِن عظيم الأمر ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( لا تطروني - أي لا تمدحوني - كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله ))

[ متفقٌ عليه عن عمر ]

 أي رواه البخاري ومسلم ، أي اتفق عليه البخاري ومسلم .

(( لا تطروني - أي لا تمدحوني - كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله ))

[ متفقٌ عليه عن عمر ]

 النبي عليه الصلاة والسلام خشي أن يعظِّمه الناس تعظيماً يصلون به إلى الشرك؛ إنه عبدٌ لله ، إنه سيِّد العابدين ، ومع ذلك :

(( . . . قولوا : عبد الله ورسوله ))

 نحن في الصلاة ؛ في كل فريضةٍ ، وفي كل سُنَّةٍ نقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله .
 جاء النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً ، فقال للنبي الكريم : ما شاء الله وشئت .
 فقال عليه الصلاة والسلام :

(( أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده ))

[مختصر تفسير ابن كثير ]

 منافقٌ كان يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم للآخر : تعالوا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم مِن هذا المنافق . فحينما سمع النبي مقالَتَهُم قال عليه الصلاة والسلام :

(( إنه لا يستغاث بي ، إنما يستغاث بالله ، العبد عبدٌ والرب ربٌ ))

[ من مجمع الزوائد ]

 روى النَسَائيُّ عن أنسٍ رضي الله عنه أن نفراً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جاؤوا رسول الله ، فقالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، يا سيدنا وابن سيدنا . فقال عليه الصلاة والسلام :

(( يا أيها الناس قولوا بقولكم ، ولا تقولوا فوق ما أنزلني الله به ، السيِّد هو الله عزَّ وجل ))

[النَسَائيُّ عن أنسٍ]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ بهذه الأحاديث الشريفة النبي عليه الصلاة والسلام سدَّ باب الذَريعة إلى الشرك ، أي أن العبد عبدٌ والرب ربٌ ، الناس يميلون إلى تعظيم مَن يعلِّمونهم، إما تعظيم إخلاص ، أو تعظيم مَلَق ، أو تعظيم مَنْفَعَة ، النبي عليه الصلاة والسلام وضع حداً لتعظيم الإخلاص الذي أساسه الجهل ، وتعظيم المال ، وتعظيم المنفعة وقال :

(( إنما أن عبد الله ورسوله ))

[النَسَائيُّ عن أنسٍ]

2 ـ النهي عن عدم اتباع سنته صلى الله عليه وسلم :

 شيءٌ آخر : عن علي بن الحسين زين العابدين ، رأى رجلاً يجيء إلى فُرْجَةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخل فيها ، فيدعو النبي عليه الصلاة والسلام ، فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته مِن أبي ، عن جدي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن تسليمكم عليَّ ليبلغني أينما كنتم ".
 أي أن هؤلاء الذين لا يتَّبعون السُنَّة في زيارة النبي عليه الصلاة والسلام ، يجب أن تقف بأدبِ ، وخشوعٍ ، وأن يكون بينك وبينه مسافة كما لو أنك واقفٌ أمامه حياً . أما التعلُّق بالنافذة ، والتمسُّح بها ، فهذا شيءٌ ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام ، فأينما كنت فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد تكفَّل الله أن يُبْلِغَهُ سلامك ، وصلاتك ، وتحيَّتك ، ودعاءك.
 أحد أصحاب سيدنا عمر رضي الله عنه ، قال : صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح ، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب شتَّى ، فقال رضي الله عنه :
 أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل له : إنهم يذهبون ليصلّوا في مكانٍ صلَّى فيه النبي . فقال عمر بن الخطاب : إنما هَلَكَ مَن كان قبلكم بمثل هذا ، مَن أدركته الصلاة مِنكم في هذه المساجد فليصلِّ بها ، ومَن لا ، فليمض ولا يتعمَّدها . وماذا فعل عمر بن الخطاب ؟ أمر بقطع الشجرة التي بايع أصحاب النبي نبيهم عندها ، البيعة الشهيرة التي رضي الله عنهم بها ، لماذا قطعها ؟ خاف أن تُعْبَد مِن دون الله ، خاف أن تُتَّخَذَ صنماً يعبد من دون الله .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيدنا أبو بكرٍ رضي الله عنه ، وهو أول المؤمنين بعد النبي عليه الصلاة والسلام . . .

(( ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ))

[ كنز العمال عن أبي الدرداء]

 قال : " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت ".

3 ـ النهي عن الذبح أو النذر لغير الله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر يؤدي إلى الشرك ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( لا ذبح ولا نذر إلا لله ))

 فمن ذبح لغير الله أو نذر لغير الله فقد أشرك .
 قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري :

(( لعن الله من ذبح لغير الله ))

[الحاكم عن ابن عباس ]

 أي كمن يقول : هذا يذبح على شرفكم ، لا . يجب أن يذبح لله عزَّ وجل ، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام من الأطعمة المحرَّمة طعامٌ أهلَّ به لغير الله . أي حينما ذبح هذا الخروف ، رفع الصوت عند ذبحه باسمٍ غير اسم الله ، هذا الطعام حرامٌ أكله لأن الشِرْك قد خالَطَه .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك شركٌ أكبر ، وهناك شركٌ أصغر ، وهناك شركٌ جليّ ، وهناك شركٌ خفي ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وتبغض على شيء من العدل ))

[الحاكم عن عائشة أم المؤمنين ]

 أي أن تحب إنساناً مُتَلَبِّساً بمعصية الله ، أن تحبه لا لله ولكن لما يأتيك منه مِن نفع ، هذا أحد أنواع الشرك ، أو أن تكره نصيحةً وجِّهت إليك ، في الحالة الأولى : إنك تعبده وأنت لا تدري ، تتغاضى عن معصيته ، وفي الحالة الثانية : إنك تعبد ذاته وأنت لا تدري .

(( الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وتبغض على شيء من العدل ))

[ أخرجه الحاكم عن عائشة أم المؤمنين ]

 النبي عليه الصلاة والسلام عَدَّ الرياء شركاً ، الرياء ؛ أن تعمل عملاً ليراك الناس، أن تعمل عملاً من أجل فلان ، أن تقيم هذه الوليمة من أجل زيد أو عُبَيْد ، أن تبتعد عن هذا المكان إرضاءً لزيدٍ أو عبيد ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله ، أما إني لست أقول تعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ، ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية ))

[ أحمد و ابن ماجه عن شداد بن أوس ]

(( من أقسم بغير الله فقد أشرك ))

[ورد في الأثر]

 لأن في القَسَم تعظيماً ، ومَن يُقْسم بغير الله فهو يعظم غير الله ، وهذا نوعٌ مِن الشرك .
 من قال : هذه لله ولك - استخدم واو العطف- الذي تفضل عليّ هو الله وأنت، يجب أن يقول : ثم أنت ، إذا استخدم الواو فقد أشرك . هذا الذي يجمع مع الله نداً ، فقد وقع في الشرك وهو لا يدري ، لذلك قال الله عزَّ وجل في الحديث القدسي :

(( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ))

[ورد في الأثر]

4 ـ النهي عن اتباع الهوى :

 وهناك شيءٌ آخر يغفل عنه الناس ؛ إنهم يتخذون الهوى إلهاً مِن دون الله يعبدونه..

﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾

[ سورة الفرقان : 43]

 أي حينما تفعل هذا بدافع الهوى ، وتعصي الله عزَّ وجل ، فهذا الهوى الذي استحوذ على قلبك أغلى عندك مِن الله عزَّ وجل ، لقد عبدَّته وأنت لا تدري ، حينما تصرُّ على معصيةٍ ، حينما تفعل شيئاً يرضي شهواتك ، أو يحقق مَيْلَك ، وهو في معصية الله ، فهذا أحد أنواع الشرك .
 وفي الخلاصة : أن كل شيءٍ تعبده ، تتوجه إليه ، ترجو خيره ، تخشى شره مِن دون الله ، فهو شركٌ كما أجمع عليه العلماء .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة يوسف :106]

 مَن اعتمد على الأسباب فهو مشرك ، لكن الشرك - كما قلت قبل قليل - شركٌ كبير ، وشركٌ صغير ، وشركٌ جليّ ، وشركٌ خفي .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

النّية :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ من فضل الله علينا أن الله سبحانه وتعالى يحاسبنا على النيّة ، وعلى القصد ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( إنما الأعمال بالنيات ))

[ البخاري عن عمر ]

 أي لو أن إنساناً رأى في الطريق مبلغاً من المال ، فانحنى عليه وأخذه ، وإنسانٌ آخر رأى مبلغاً من المال ، فانحنى عليه وأخذه ، إن هذين العملين متشابهان تشابهاً تامّاً ، ومع ذلك قد يكتب للأول أجرٌ ، وقد يلقى الثاني عقاباً على هذا العمل . هذا الذي انحنى على هذا المبلغ ليأخذه ، وفي نيته أن يبحث عن صاحبه ليرده إلى صاحبه ، مع أنه انحنى وأخذه ، فهذا عند الله عملٌ طيِّب ، وهذا الذي انحنى على هذا المبلغ ، وأخذه ليأخذه اغتصاباً ، من دون أن يبحث عن صاحبه ، فهذا عملٌ سيئ .
 لذلك الأعمال أحياناً في صورها تتشابه ، ولكن تختلف في مضمونها ، تختلف في نية صاحبها ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :

(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى ...))

[ البخاري عن عمر ]

 أردت من هذا الكلام أنه أحياناً تحتاج أن تتخذ الأسباب ، واتخاذ الأسباب واردٌ شرعاً ، فتذهب إلى فلان ، وترجوه أن يحل لك هذه القضيَّة ، لا يعلم إلا الله ما إذا كنت معتمداً عليه أو على الله . إذا ذهبت إليه وأنت معتمد عليه ، وأنت متكلٌ عليه ، وأنت ترى أنه يفعل ، وأنه بإمكانه أن ينفعك ، وأنَّه إذا أراد نَفَعَك ، فهذا شرك . .

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾

[ سورة فاطر : 2 ]

(( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك))

[ من مختصر تفسير ابن كثير ]

 فالأخذ بالأسباب وارد ، اتخاذ الأسباب وارد ، ولكن بين أن تعتمد عليها ، فهذا هو الشرك ، أو أن تتخذها وأن تعتمد على الله عزَّ وجل ، فهذا هو التوحيد ، لذلك :

(( إنما الأعمال بالنيات ))

[ البخاري عن عمر ]

 لا يعقل أن يكون الإنسان مجمداً مخافة الشرك ، لك أن تسعى ، ولك أن تسأل ، ولك أن تتخذ الأسباب ، ولك أن ترجو زيداً ، ولك أن تسترضي عُبَيداً مِن دون أن تعتمد على الأشخاص ، إنك تتخذ الأسباب وتعتمد على رب الأرباب .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور