وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0071 - بر الوالدين - قصة زوجة عُثمان بن مظعون.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً بمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذُريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهمَّ ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

تمهيد :

أيها الإخوة المؤمنون ؛ ورد في الأثر أنه : مِن ساعة أن يوضَع المِّيت على الجنازة إلى أن يوضع على شَفير القَبر ، يسأل الله بعظمته أربعين سؤالاً ، ويقول الله عزَّ وجل :

(( عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة ، وكل يومٍ أنظر إلى قلبِك وأقول : ما تصنعُ لغيري وأنت محفوفٌ بخيري ؟! أما أنت فأصم لا تسمع ))

[ ورد بالأثر]

أيها الإخوة المؤمنون ؛ يُطَهِّر الإنسـان منظرُ الخلق ، يُحسِّن بيته ، يعتني بهندامه ، ينظِّف متجره ، يطلي بيته ، يشتري أثاثاً جديداً ، يتعطَّر ، يتطيَّب ، هذا مَنْظر الخَلق ، فماذا فعلت بمنظر الحَق ؛ وهو القلب ؟ أفيه غِل ؟ أفيه حسد ؟ أفيه ضغينة ؟ أفيه شرك ؟ أفيه حقد ؟ أفيه بغضاء .

((طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة ، وماذا تصنع لغيري وأنت محفوفٌ بخيري ؟! أما أنت فأصمُّ لا تسمع ))

[ ورد بالأثر]

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾

[سورة الشعراء الآية:88-89]

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾

[سورة الأعلى الآية:14-15]

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

[سورة الشمس الآية:9-10]

أيها الإخوة الأكارم ؛ طهِّروا مَنظر الله عزَّ وجل ، ألا وهو القلب ، لأن الله ينظرُ إليه في كل حين ؛ قد يرى محبوباً غيره فيُعرض عنه ، قد يرى شِركاً ، قد يرى تعلُّقاً بالدنيا ، قد يرى الدنيا أكبر همِّ القلب ومبلغ علمه .

(( ما استرذل الله عبداً إلا حظر عليه العلم والأدب ))

[ ورد بالأثر]

(( طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة))

[ ورد بالأثر]

ماذا تصنع ؟ ماذا تنتظر ؟ ما الذي سيأتي بعد أيام ؟ أليس الموت هدفَ كلّ إنسان ؟ أليس الموت نهاية كل مخلوق ، ماذا بعد الموت ؟ أيكون الموت نهاية الحياة ؟ ليته ذلك ، ولكنَّ الموت بداية حياةٍ أبديَّة ، بداية حياةٍ سرمديَّة .

﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾

[سورة الأعلى الآيات:13-16]

(( طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة))

[ ورد بالأثر]

وتطهير القلب يحتاج إلى صلةٍ مُحْكمةٍ بالله عزَّ وجل ، والصَّلة المحكمة بالله عزَّ وجل تحتاج إلى استقامةٍ على أمره وفعلٍ للصَّالحات .

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[سورة الكهف الآية:110]

ولا يشرك بعبادة ربه أحداً هي الاستقامة

﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾

[سورة الكهف الآية:110]

هي العمل الصالح ، شرطان أساسيَّان كي يحقِّقا الصِلة التي بها تشفى القلوب ، وتُمحى بها الذنوب ، وتذهب الأدران ، ويصبغ القلب بصبغة الله الكريم .

 

أيها الإخوة المؤمنون ... لا تنسوا هذا القول :

(( عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة ، وكل يومٍ أنظر إلى قلبك وأقول : ما تصنع لغيري وأنت محفوفٌ بخيري ))

[ ورد بالأثر]

برُّ الوالدين :

أيها الإخوة المؤمنون ؛ في الخُطبة موضوعان ، الأول : برُّ الوالدين ، فالله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾

[سورة الإسراء الآية:23]

الآية واضحةٌ كالشمس ، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ، العبادة لله وحده ، ولا مخلوق في الأرض ـ كائناً من كان ـ يُطاع بمعصية الخالق ..

﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾

[سورة الإسراء الآية:23]

الطاعة لله والإحسان للوالدَين ، ولكنَّ الحالات الصَعبة التي ينبغي أن يحتَمِلَها المؤمن .

﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾

[سورة الإسراء الآية:23]

بلغ الأب مِن الكِبَرِ عتيَّا ؛ ضعفت ذاكرته ، ضاقت نفسه ، صارت طلباته كثيرة ، وهو عندك في البيت ، عندك وقد كبرت سِنه ، عندك وقد ضاقت نَفسه .

﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾

[سورة الإسراء الآية:23]

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( ما برَّ أباه من شدَّ طرفه إليه ))

[أخرجه الطبراني]

نظر إليه هكذا ، ما برَّ أباه .
لو أنَّ فـي اللغة كلـمةً أقلَّ من كلمة "أفٍ" لقالها الله عزَّ وجل ، أقل كلمة تبرُّم في اللغة كلمة " أف " هي حرامٌ ، نهى الله عنها ، فما قولك يا أخي المؤمن بما فوقها ؟ فما قولك بمَن يُقيم دعوى على أمه أو على أبيه ؟ ما قولك بمن يسُبُّ والديه ؟ ..

﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾

[سورة الإسراء الآية:23-24]

قال عليه الصلاة والسلام :

(( إذا ترك العبد الدعاء للوالدين فإنه ينقطع عنه الرزق ))

[ من كنز العمال : عن أنس ]

وقال عليه الصلاة والسلام :

(( من هجر أحد والديه ساعةً من نهار ))

لا يوماً بكامله ، لا أسبوعاً بكامله ، لا شهراً بكامله بل ساعةً من نهار .

(( كان من أهل النار حتى يتوب ))

[ ورد بالأثر]

عن أبو بكرة رضي الله عنه قال : كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :

(( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلاثًا ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

هناك صغائر ، وهناك كبائر ، وهناك أكبر الكبائر

(( قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلا وَقَوْلُ الزُّور ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

هذه أكبر الكبائر ، كيف أن الله سبحانه وتعالى قَرَنَ الإحسان إلى الوالدين مع عبادة الله عزَّ وجل ..

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾

[سورة الإسراء الآية:23]

كذلك النبي صلى الله عليه وسلَّم قال :

((الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلا وَقَوْلُ الزُّور ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( ليعمل العاقُّ ما شاء أن يعمل فلن يغفر له ))

(( ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ))

[ من كنز العمال : عن معاذ ]

عن أبو هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

واجب الآباء اتجاه أبنائهم :

أيها الإخوة المؤمنون ، هذا الكلام نقولُه للأبناء ، فماذا يجب أن نقول للآباء ؟ قال عليه الصلاة والسلام :

(( رحم الله والداً أعان ولده على برِّه ))

عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة رحمه الله :

(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ))

[أخرجه مسلم وأبو داود]

أن يضيع من يقوت من أولاده ..

(( ليس منَّا من وسَّع الله عليه ثم قتَّر على عياله ))

عليك إذا وسَّع الله عليك أن توسِّع على عيالك ، عليك أن تتعاهد أولادك ، أن تُراقب سيرتهم ، أن تُراقب اتجاهاتهم ، أن تراقب مَن يصحبون ، عند مَن يسهرون ، مَن يزورون ، مَن يرافقون لأن الرفيق السيئ خطرٌ وبيلٌ على الابن .
صحابيٌ سـأل النبي عليه الصلاة والسلام قال :
يا رسول الله ما حقُّ ابني هذا ؟
قال :

(( أن تحسن اسمه وأدبه وأن تضعه موضعاً حسناً ))

ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( لاعب ولدك سبعاً ، وأدِّبه سبعاً ، وراقبه سـبعاً ثم اترك حبله على غاربه ))

لاعبه سبعاً ، وأدِّبه سبعاً ؛ من واحد إلى سبعة لا يُجدي معه التأديب ، من السابِعة حتى الرابعة عشر أدِّبه ، علِّمه الأمانة ، والصِدق ، والاستقامة ، من الرابعة عشر وحتى الواحدَ والعشرين راقبه ، لا هو شابٌ فيكونُ حكيماً ، ولا هو طفلٌ فيرضى أن يؤنَّب ، وبعد الواحدَ والعشرين اجعله صديقاً لك لأنه قد عرف الخير من الشر ، وبلغ رشده .
ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( من قبَّل ولده كتب الله له حسـنة ، ومن فرَّحه فرَّحه الله يـوم القيامة ))

ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( أحبُّوا الصبيان وارحموهم فإذا وعدتموهم ففوا لهم ، فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم ))

وينبغي للرَجل أن ينزل عن بُرْجِهِ العاجيّ إلى مستوى أولاده الصغار ، فيقول عليه الصلاة والسلام :

(( من كان عنده صبيٌ فليتصاب له ))

[ من الجامع الصغير : عن معاوية ]

ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلادِكُمْ ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

(( وسـووا بين أولادكم في العَطية ، فلو كنتُ مفضلاً أحداً لفضَّلت النساء ))

[ من كنز العمال : عن ابن عباس ]

ويقول عليه أتم الصلاة والتسليم :

(( ميراث الله عزَّ وجل من عبده المؤمن ولدُه يعبده من بعده ))

ماذا يرث الله منك ؟ هل يرث الله بيتَك ؟ أم أثاث بيتِك ؟ أم المبلغ الذي تركته في الصندوق ؟ الله سبحانه وتعالى يرثُ مِنك ولدك الصالح المؤمن ، الذي يعبده من بعدك . فإذا خَلَّفت عالِماً فالأجر أكبر ، ومن نعمة الله على عبده أن يشبَهَهُ ولده ، إن كنت أخلاقياً وأنعم الله عليك بولدٍ أخلاقي ، إن كنت ديِّناً وأنعم الله عليك بولدٍ ديِّن ، إن كنت مستقيماً وأنعم الله عليك بولدٍ مستقيم ، إن كنت محباً لله ورسله وأنعَم الله عليك بولدٍ محبٍ لله ورسوله ، إن كُنت تحب القرآن وأنعم الله عليك بولدٍ يحب القرآن فهذه نعمةٌ لا تقدَّر بثمن .
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال :

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالا وَوَلَدًا وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي فَقَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ ))

[أخرجه أبو داود]

هذا حُكْمُ الشرع ، لكنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم وجَّه الآباء توجيهاً لطيفاً ، قال :

(( يأكل الوالدان من مال ولدِهما بالمعروف ))

[ من كنز العمال : عن جابر ]

لأن هذا الشاب يعمل وسوف يبني مُستقبله ؛ عليه أن يشتري بيتاً ، عليه أن يتزوَّج ، أن يدفع مهرَ زوجته ، خُذ من دخله ما يسمح له بتأسيس أسرةٍ في المستقبل ..

(( يأكل الوالدان من مال ولدهما بالمعروف ، وليس للولد أن يأكل من مال والديه إلا بإذنهما ))

[ من كنز العمال : عن جابر ]

العكس غير صحيح ، أنت ومالُك لأبيك صحيح ، أما أن تقول : مال أبي لي . لا !!؟

(( ليس للولد أن يأكل من مال والديه إلا بإذنهما ))

[ من كنز العمال : عن جابر ]

عن أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))

[أخرجه الترمذي]

فهذا الكلام موجَّه للزوجات ، أحياناً تريد أن تَسْتَأثر بزوجها وتحرمه من أمه ، وتحرم أمّه منه . قُل لهذه المرأة العاتية ، الظالمة .

(( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))

[أخرجه الترمذي]

منزلة الخالة والأخ :

من متَمِّمات هذا الموضوع قال عليه الصلاة والسلام :

(( الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ ، والأخ الأكبر بمنزلة الأب ))

[ من سنن أبي داود : عن علي ]

هذا هو الأدب . لذلك :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ))

[أخرجه الترمذي]

الخالة بمنزلة الأم ، والعم والد ، والأخ الأكبر بمنزلة الأب .
أيها الإخوة الأكارم ؛ وجِّهوا أبناؤكم الصغار أن يوقِّروا إخوتَهُم الكبار توقيراً يُشبه توقير الآباء ، لأن الأخ الأكبر بمنزلة الوالد ، فإذا غاب الأب ـ مسافراً ـ أتيح لهذا الأخ الأكبر أن يوجِّه إخوته ، وأن يُرشدَهم إلى الطريق الصحيح .
روي عن أبي أمامة أن رجلاً قال :

(( يَا رَسُـولَ اللهِ ! مَاحَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهمَا ؟ قَالَ : هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ ))

[ من سنن ابن ماجة : عن علي بن يزيد ]

إما أن تدخل ببرهما الجنة ، وإما أن يدخُل بعقوقهما النار .
وهذا الحديث قاله النبي عليه الصلاة والسلام للزوجة ، قال :

(( انظري أين أنتِ منه ، إنما هو جنَّتكِ ونارك ))

[ من كنز العمال عن سعد ]

إن أطعته وأحسنت تبعُّله فهو جنتكِ ، أيْ أنَّ طاعتك له وحسن تبعلك له يدخلكِ الجنة ، وإذا عصيته وخرجتِ من غير إذنه ولم تحسني معاشرته قد تدخلين النار بسبب هذا ..

(( انظري أين أنتِ منه ، إنما هو جنَّتكِ ونارك ))

[ من كنز العمال عن سعد ]

عن عبد الله بن مسعود سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال :

(( أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

أحب الأعمال إلى الله الصلاة في وقتها وبَرُّ الوالدين .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

((إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه . قال : هل بقى من والديك أحد ؟ قال : أمي . قال قابل الله في برها ، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد ))

[أخرجه أبو يعلى والطبراني]

عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :

(( يا رسول الله شَهِدُّتُ أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصلَّيت الخمس ، وأدَّيت زكاة مالي ، وصُمت رمضان ، ما ليَ ؟ أي مالي من الأجر هل بقي شيء ؟ ـ فقال عليه الصلاة والسلام - اسمعوا ودقِّقوا -ـ مَن مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا ، وشابك بين أصابعه ، ما لم يعقَّ والديه ))

[أخرجه الطبراني]

فإذا عَقَّ والديه لا تنفعه لا صلاته ، ولا صيامُه ، ولا حجُّه ، ولا زكاته ، ولا شهادته .
وروي عن أبي بكرِ الصِدِّيق رضي الله عنه ، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :

(( كل الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة ))

[أخرجه الحاكم]

أيْ أنَّ هناك ذنوب يؤخِّر الله عزَّ وجل عقابها إلى يوم القيامة

(( إلا عقوق الوالدين فإن الله سبحانه وتعالى يعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات ))

[أخرجه الحاكم]

أيها الإخوة المؤمنون ؛ روي عن عبد الله رضي الله عنه بن أوفى قال :

(( كنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلَّم فأتاه آتٍ قال : يا رسول الله شابٌ يجود بنفسه - أي أنه ينازع - فقيل له : قل لا إله إلا الله فلم يستطع . فقال عليه الصلاة والسلام : أكان يُصلي ؟ قالوا : نعم . فنهض النبيُّ الكريم ونهضنا معه فدخل على الشاب ، وقال : قل لا إله إلا الله . فقال: لا أستطيع . قال : لِمَ ؟ قيل له : كان يَعُقُّ والدته ، فقال النبيُّ : أحيَّةٌ والدته ؟ قالوا : نعم . قال : ادعوها . فدعوها فجاءت فقال النبيٌّ الكريم: أهذا ابنكِ ؟ قالت : نعم . قال لها : أرأيتِ إن أُجِّجَت نارٌ ضخمة فقيل لكِ إن شفعت له خلَّينا عنه ، وإلا أحرقناه بهذه النار ، أَكُنتِ تشفعين له ؟ قالت : يا رسول الله إذاً أشفع له . فقال : فأشهدِ الله وأشهديني أنكِ قد رضيت عنه . قالت : اللهمَّ إني أشهدك وأشـهد رسولك أني قد رضيت عنه . فقال عليه الصلاة والسلام : يا غلام قُل لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله . فقالها الغلام . فقال عليه الصلاة والسلام : الحمدُ لله الذي أنقذه من النار ))

[أخرجه الطبراني]

ربَّما كان عقوق الوالدين يُفْضِي بصاحبه إلى النار .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
* * *

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم .

قصة سيدنا عثمان بن مظعون مع نفسه .

أيها الإخوة المؤمنون ؛ قالت أُمهات المؤمنين : دخلت علينا زوجة عُثمان بن مظعون ، وكان عثمان بن مظعون أغنى رجلٍ في قريش ، فرأَيْنَها في هيئةٍ لا تُرضي ـ هيئةٍ رثَّة ـ فسألنها كيف حالكِ على هذا وأنتِ زوجة أغنى رجلٍ في قريش ؟ قالت هذه الزوجة لهن : وماذا أفعل بغناه إنه قَوامٌ في الليل صَوامٌ في النهار .
إنها عبارةٌ مهذبة ، وشكوى مؤدَّبة ، وكنايةٌ لطيفة ، وفي التلميح ما يُغني عن التصريح ـ وماذا أفعل بغناه إنه قوامٌ في الليل صوامٌ في النهار ـ لقد أدرَكت أمهات المؤمنين أن أحد بيوت المؤمنين فيه اضطرابٌ وشكوى ، فشكَوْنَ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فلقيه النبي الكريم وقال :

(( يا عثمان ))

وكان عثمان أخاه من الرضاعة .

(( أليس لك فيَّ أسوةٌ حسنة ؟ ))

قال عثمان :
نفسي لك الفِداء يا رسول الله .

(( يا عثمان فماذا أنت فاعل ؟ ))

فقال :
يا رسول الله نفسي تُحَدِّثني بأشياء ـ لم يفعلها بعد ـ
قال :

(( وما هي يا عثمان ؟ ))

قال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أختصي ؛ أيْ أَن أبتعد عن هذا الموضوع كُلياً .
فقال عليه الصلاة والسلام :

(( مهلاً يا عثمان فإنَّ خِصِيَّ أمتي الصيام ))

كان النبي الكريم يصوم يوم الاثنين والخميس ، ويقول للشباب :

(( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ))

[ من الجامع الصغير : عن ابن مسعود ]

والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾

[سورة النور الآية:33]

هذه واحدة .. قال :

(( ماذا أنت فاعلٌ يا عثمان ؟ ))

فقال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض ؛ أَظل ماشياً حتى يدركني الموت .
فقال :

(( مهلاً يا عثمان فإن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله والحج والعمرة ))

هذه سياحة أمته

(( وماذا أنت فاعلٌ أيضاً يا عثمان ؟ ))

قال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أعتكف في الجبال ؛ آوي إلى مغارةٍ أتعبَّد الله فيها .
فقال :

(( مهلاً يا عثمان فإنَّ رهبانية أمتي ))

فقال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أهجر زوجتي .
قال :

(( مهلاً يا عثمان فإن خيركم من أتاني يوم القيامة وله زوجة ، وإن شراركم عذابكم ، وأراذل موتاكم عذَّابكم فبما تحدثك نفسك يا عثمان أيضاً ))

قال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلِّق زوجتي .
قال :

(( مهلاً يا عثمان تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتزُّ منه عرش الرحمن ))

ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( ملعونٌ من حلَّف بالطلاق أو حلف به ))

[ من كشف الخفاء ]

(( فبما تحدثك نفسك يا عثمان ؟ ))

قال :
نفسي تحدثني ألا آكل اللحم .
فقال :

(( مهلاً يا عثمان إني أحب اللحم وآكله . فبما تحدثك نفسك يا عثمان ؟ ))

قال :
نفسي تحدثني ألا أستعمل المسك .
قال :

(( مهلاً يا عثمان فإن جبريل أمرني أن أستعمله . يا عثمان لا ترغَب عن سنَّتي ، فإنه من رغب عن سنتي فمات قبل أن يتوب صَرَفَت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة ))

[ من تخريج أحاديث الإحياء ]

عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))

[أخرجه البخاري ومسلم]

* * *

تزوج ، واسكن في بيت ، واعمل عملاً ينفع عباد الله ، وفكِّر في خلق السماوات والأرض ، اعمل أعمالاً صالحة تَرقى بها عند الله ، ماذا يفعل أن تسكن في رأس الجبل ؟ ماذا تفعل للناس ؟ هذا موقفٌ سلبي ، هذا هروبٌ من المجتمع ، المؤمن يواجه مصاعب الحياة ، المؤمن عنصرٌ إيجابيٌ في المجتمع ، المؤمن يفعل الخيرات ، يعمل الصالحات ، يأمر بالمعروف ، ينهى عن المُنكر ، يعطي الفقير ، يواسي المسكين ، يعودُ المريض ، يحسن إلى الزوجة ، يربِّي أولاده ، هذا هو المؤمن . النبي صلى الله عليه وسلَّم نهى عن هذا كلِّه ، وإن صَحَّت هذه القصة عن عثمان بن مظعون فهذا موقف النبي الكريم عليه الصلاة والسلام .

الدعاء :

اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنا .
اللهمَّ إننا بالعلم ، وزينا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى ، وجمِّلنا بالعافية ، وطهِّر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء ، وألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة ، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
اللهمَّ اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفُكَّ أسرنا ، واحسن خلاصنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا يا أكرم الأكرمين .
اللهمَّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رَخياً وسائر بلاد المسلمين .
اللهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين ، اللهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين ، اللهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين يا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسـلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحِب وترضى إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور