وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0424 - الإسراء والمعراج - معجزة الإسراء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أحداث الإسراء والمِعراج عِبَر لا أخبَار :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ مناسبة عزيزة على كلّ مسلم ؛ إنّها مناسبة الإسراء والمعراج، وقد درَجَ الخطباء والدعاة إلى الله عز وجل أن يتحدّثوا عن وقائع الإسراء والمعراج في مثل هذه المناسبات .
 أيها الأخوة ؛ أوّل حقيقة في الموضوع ، أنّ الأحداث التي وقَعَت في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام ما وقعَتْ لِتَكون خبرًا ، بل وقعَتْ لِتَكون عِبْرةً ، وفرْقٌ كبير بين الخبَر وبين العِبْرة . ما أكثر الأحداث التي تقع في العالم ، قد نسْتمعُ إلى روايتها ، فإما أن نُعْجَب ، وإما أن نسْخط ، وإما أن نفرح ، وإما أن نحزَن ، وإما أن تسلِّيَنا هذه الأخبار ، ولكنّ الوقائع التي وقعَت في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام هي أعظم بِكَثير من أن تكون أخبارًا ، أعظمُ بِكَثير من أن تكون أحداثًا ، إنّما وقعَتْ لِتَكون عِبْرةً ، ولِتَكون نبْراسًا ، ومِشْعلاً ، لِتَكون علامات على طريق الهدى ، ومعالم للطريق .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما من مسلمٍ على وجْه الأرض ، وهو يحضر خُطبًا واحْتِفالات في مناسبة الإسراء والمِعراج إلا سَمِعَ عن وقائع الإسراء والمِعراج ، فماذا عن العِبَر ؟ وماذا عن الدلالات ؟ وماذا عن الحقائق التي يمكن أن تُستنبط من الإسراء والمعراج ؟
 مرَّةً ثانية ؛ الأحداث التي وقعَتْ في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام لمْ تقع لِتَكون خبرًا ، بل وقعَت لِتَكون عبْرةً ، ما وقعَتْ إلا كي نستنبط منها القوانين .
 أُوضِّحُ لكم هذه الحقيقة بآيةٍ قرآنيَة ، ربّنا عز وجل حدّثنا عن سيّدنا يونس ، وكيف أنّه وقع في مشكلةٍ تهون أمامها كلّ المُشكلات ، وقع في مشكلةٍ وفي مصيبةٍ تهون أمامها كلّ المصائب ؛ إنَّه دخل في ظلماتٍ ثلاث ، دخل في بطْن الحوت ، ففيه ظلمة ما بعدها ظلمة ، ودخل في أعماق البحر ، وفي أعماق البحر ظلمةٌ ما بعدها ظلمة ، ودخل في ظلمة الليل ، ونادى في هذه الظلمات الثلاث ، قال تعالى :

﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء :87]

 وانتَهت القصّة ولكنّ الله جلّ جلاله ما أرادها أن تكون قصّة ، ما أرادها أن تكون حدَثًا يُتْلى ، وخبرًا مُسَلِيًّا ، أرادها أن تكون قانونًا ، وأن تكون حقيقةً ، قال تعالى :

﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 88]

 يا أيها المؤمن ، أَعِنْدكَ مشكلة ؟ لا تقل لي إنَّها كبيرة ‍! مهما تكن كبيرة فلَيْسَت أكبر من مصيبة هذا النبي الكريم ، أعِنْدَكَ قَضِيّة ؟ مهما تكن هذه القضيّة ضاغطة ، ليْسَت أشدّ ضَغْطًا من أن يجد الإنسان نفسه فجأةً في بطن الحوت ، لُقْمةً سائغة ، في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة الليل البهيم ، وفي ظلمة البحر الداكن ، وكذلك ننجي المؤمنين ، إذًا هذه القصّة جاءتْ في القرآن لا لِتَكون قصّة ، بل لِتَكون قانونًا ، تُلِيَت على مسامعنا لا لِنَطْربَ لها ، ولا لِنُعْجَب بها ، ولا لِنُمْضِيَ بها وقتًا ، تُلِيَتْ على مسامعنا لِتَكون عِبْرةً ، ودليلاً ، وحقيقةً في التعامل مع الله عز وجل ، هذا مثَل قرآني ، وكذلك الإسراء والمِعراج ما وقعَتْ أحداثُه لتَكون أخبارًا ، إنَّما وقعَتْ لِتَكون عِبَرًا .

 

العبر المستنبطة من الإسراء و المعراج :

1 ـ المِحَن للمؤمن يعْقبها المِنَن والعطاءات :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ العِبرة الأولى من الإسراء والمعراج أنّ المِحَن للمؤمن تنتهي بالمِنَن ، فطبيعة الحياة فيها ابتِلاء ، إنّ هذه الدنيا دار التِواء لا دار اسْتِواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرحٍ ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لِشَقاء ، قد جعلها الله دار بلْوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لِعَطاء الآخرة سببًا ، وجعل عطاء الآخرة من بلْوى الدنيا عِوَضًا ، فيأخذُ لِيُعطي ، ويبْتلي لِيَجزي .
 من أسماء الله جلّ جلاله ؛ الضارّ ، ولكنّ علماء التوحيد نَهَوا عن ذكر هذا الاسم وحْدهُ ، هذان اسمان متكاملان ؛ الضارّ النافع ، وكذا المانع المعطي ، والخافض الرافع ، المُذِلّ المعزّ ، القابض الباسط ، لماذا نهى علماء التوحيد على أن تذكر هذا الاسم وحدهُ ؟ لأنّ الشرّ المجرّد ، والشرّ الذي ليس وراءهُ خير ليس موجودًا في الكون ، الشرّ المحض لا وُجود له في الكون هذا يتنافى مع كمال الله ، يتنافى مع أسمائه الحسنى ، لكنّ الشرّ إذا وقع فلِيَأتِي بالخير ، إذا أضرّ الله فلِيَنفع ، وإذا خفض فلِيَرفع ، وإذا أخذَ فلِيُعْطي ، وإذا أذلّ فلِيُعِزّ ، وإذا قبضَ فلِيَبْسُط ، حدّثنا ربّنا عز وجل في سورة القصص ، فقال تعالى :

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾

[ سورة القصص : 5]

 أليْسَ المسلمون اليوم مستضعفين في الأرض ؟ فقال تعالى :

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾

[ سورة القصص : 5-6]

 ولكن إذا كانوا غافلين فلابدّ من شيءٍ يدْعوهم إلى الصَّحْوَة ، إذا كانوا شاردين في معاصيهم ، لا بدّ من صدْمةٍ عنيفة تُعيدهُم إلى جادّة الصَّواب ، إذا كانوا متساهلين في أمْر دينهم لا بدّ من شِدّة تجْعلهم يُنيبون إلى الله ويصْطلحون معه .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ قاعدة أولى تُسْتنبطُ من الإسراء والمِعراج أنّ المِحَن للمؤمن لا بدّ أن يعْقبها المِنَن والعطاءات . الزوجة الوفيّة المخلصَة ؛ خديجة رضي الله عنها ، سنَدُه الداخلي ، تُوُفِيَت ، هذه مصيبة كبيرة ، أن يفْقدَ الإنسان سكَنَهُ ، أن يفْقدَ مؤْنسَه ، أن يفْقَد شريكة حياته ، سنَدُه الخارجي ؛ عمّه أبو طالب توُفّي ، فقَدَ النبي عليه الصلاة والسلام في العام العاشر للبِعْثة سنَدَهُ الداخلي ، وسنَده الخارجي ، وعندئذٍ تنكَّرَت له مكَّة المكرّمة ، تنكَّر له زعماؤُها ، ضيَّقوا عليه ، وشدّدُوا عليه ، حملهُ ذلك على أن يتوجَّه إلى الطائف ، وتوقّع في الطائف أن يستجيبوا لِدَعوتِهِ ، وأن يؤمنوا به ، وأن ينْصُروه ، وأن يحْموه ، فكان عكْس ما توقّع، إنَّهُ بشرٌ لا يعلم الغيب ، كذَّبوه ، وسَخِروا منه ، وآذَوْه ، وفي روايةٍ ضربوه ، حتى ألْجؤوه إلى حائط بستان ، إذا كان للدعوة الإسلاميّة خطّ بياني ، قد وصل الخطّ في هذه اللّحظة إلى النهاية الصغرى ؛ زوجتهُ توفِّيَت ، عمّه توُفي ، تنكَّرَت له مكّة ، أخْرجوه إلى الطائف ، تأمّل في الطائف النّصْر والمنَعة ، فخيَّبُوا ظنَّه فرفَعَ يديه إلى السماء وقال : " اللهمّ إنِّي أشْكو إليك ضَعف قوّتي " ولا بدّ للمؤمن أن يمرّ - إذا أراد الله للمؤمن أن يُنَقِّيَهُ - بِمَضائق ، أو اختناقات، إنْ في صحّته ، أو في عمله ، أو في زواجه ، أو في علاقاته ، إذا مرّ المؤمن بهذه الاختناقات، وهذه الشدائد ، فلْيَذْكُر مصيبة النبي عليه الصلاة والسلام ، هذه المِحْنة أثْمَرت مِنَّة، قال : " اللهمّ إنِّي أشْكو إليك ضَعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على الناس " وقد رُوي في بعض الآثار أنّ المؤمن في آخر الزمان يصبحُ أذلّ من شاته ! لماذا ؟ ضَعُف شأنهُ ، وقعد عن نشْر دينه ، فقَوِيَ أعداؤُه وفرضوا عليه أوامرهم ، قال : " اللهمّ إنِّي أشْكو إليك ضَعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا ربّ الناس إلى من تكِلُني ؟ إلى صديق يتجهّمني أم إلى عدوّ ملَّكْتهُ أمري ؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أُبالي ، ولك العتبى حتى ترضى لكنّ عافيَتك أوْسَعُ لي " .

 

النبي عليه الصلاة والسلام قُدْوَة لكلّ البشر :

 يا أيها المؤمن الكريم ؛ حياتُك سلسلة امتحانات ، إذا مررْت بامتحانٍ ، إذا مررْت بشِدَّة ، إذا مررْت بِتَضيق ، إذا مررْت بِعُدوانٍ ، إذا مررْت بِضَعف ، وكنت مسْتضعفًا ، النبي عليه الصلاة والسلام هو قُدْوَة لك في هذا الموقف ، ألم يقل الله عز وجل :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب : 21]

 تأسّ بِرَسول الله ، اقْتَدِ به ، أعْلِنْ ضَعفَك لله عز وجل :" اللهمّ إنِّي أشْكو إليك ضَعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا ربّ الناس إلى من تكِلُني ؟ " ماذا كان الجواب ؟ أو متى جاء الجواب ؟ إنَّك إذا خاطبْت ربًّا سميعًا بصيرًا ، يعلمُ السرّ وأخفى ، يعلم خائنة الأعْيُن وما تخفي الصّدور أقربُ إليك من حبْل الوريد ، يحول بينك وبين قلبك ، إنَّك إذا ناجيْتَهُ ، وسألْتهُ ، إنَّك إذا طلبْت إليه ، إنَّك إذا أعْلنْت توبتك إليه ، ألا تسمع الجواب ؟ ألا يأتي الجواب ؟ يأتي الجواب بِطريقة أو بأُخرى ، ماذا كان جوابُ السماء لهذا النبي الضعيف ؟ الجواب كان الإسراء والمِعراج . أسْرى به الله إلى بيت المقدس ، جسمًا وروحًا ، وعرجَ به إلى السماء جسمًا وروحًا ، وفي السماء تكشّفَتْ له الحقيقة ، أطْلعهُ الله على مَلكوته ، وعلى ما كان، وعلى ما سيكون ، في نظرة واحدة رأى كلّ شيءٍ ثمّ دلى فتدلّى كما قال تعالى :

﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾

[ سورة النجم : 8-12]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما عرف النبي أنّه سيّد الأنبياء ، وأنّه سيّد ولد آدم ، وأنّ الأرض إذا تنكَّرَت له فقد احْتفَتْ به السماء ، وأنّ الناس إذا كذَّبوا دعوتهُ فقد رفعهُ الله عز وجل إلى أعلى عِليّين ، هذه الحقيقة الأولى التي يمكن أن نستفيد منها في الإسراء والمعراج ، إذا سلكْت طريق الإيمان ورأيْت المعارضة والخِذْلان ، ورأيْت أقرب الناس إليك يتنكّرون لك ، رأيْتَ نفسَك غريبًا وسْط أناس سوءٍ كثير ، رأيْت نفسكَ وحيدًا ، ومعزولاً لأنّ الناس آثروا الدنيا ، وآثروا الشّهوات ، آثروا الكسْب الحرام ، آثروا العاجلة على الآجلة ، إذا مررْت في مضائق واختِناقات ، وفي صعوبات وأنت في طريق الإيمان تذكّر النبي العدنان عليه أتمّ الصلاة والسلام ، تذكَّر أنَّه مرَّ بصُعوبةٍ ما بعدها صُعوبة ، ولكن ماذا أعْقبها ؟ أعقبها أكرامٌ ما بعدهُ إكرام ، أعْقبها أنّ الله سبحانه وتعالى رفعَهُ فوق الأنبياء جميعًا ، وجعلهُ سيّد ولد آدم ، أليْسَ النبي هو القائل : "سَلُوا لي الوسيلة فإنّها مقامٌ لا ينبغي إلا لواحدٍ من خلقه ، وأرجو أن أكون أنا " فالنقطة الأولى أنّ الأحداث التي وقعَت في عهْد النبي ما وقعَتْ لِتَكون خبرًا ، بل وقعَتْ لِتَكون عِبَرًا . النقطة الثانيَة أنَّ المِحَن تأتي بالمِنَن ، قال تعالى :

﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾

[ سورة الزمر : 10]

 إذا كنت مع الله لا تخشى أحدًا ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ يا ربّ ماذا فقَدَ من وَجَدك ؟ وماذا وَجَد من فقَدَكَ ؟

2 ـ المِحَن والعقَبات لا ينبغي أن تصُدَّنا عن متابعة السَّيْر في استقامة وثبات :

 شيءٌ آخر ؛ هناك بعض المؤمنين حينما يُعانون بعض الصّعوبات تقْعُد بهم الهِمَم ، يسْتقرّون ويسكنون ، ينصرفون عن طريق الحقّ ، الفائدة الثانيَة من دروس الإسراء والمعراج أنَّ النبي كان مُصَمِّمًا على بُلوغ هدفه مهما تكن العقبات ، لذلك القاعدة الثانيَة ؛ لا ينبغي أن تصُدَّنا المِحَن والعقبات عن متابعة السَّيْر في استقامةٍ وثبات ، ما من إنسانٍ يُحقّق نجاحًا كبيرًا إلا اتّصفَ بِقُوّة الإرادة ، وعزْم التّصْميم ، والجَلَدَ ، والصَّبْر ، النبي عليه الصلاة والسلام ما نالَ هذه المكانة العَلِيَّة وهو في رخاء ، ما نالها وهو في بَحبوحة ، ما نالها وهو في أمْنٍ ، قال عليه الصلاة والسلام : "أوذيتُ في الله وما أوذِيَ أحدٌ مثلي ، وخفْتُ وما خافَ أحدٌ مثلي ، ومضى عليّ ثلاثون يومًا لم يدْخل جوفي إلا ما يُواريهِ إبْط بلال " إذًا المِحَن والعقَبات لا ينبغي أن تصُدَّنا عن متابعة السَّيْر في استقامة وثبات ، والعوام يقولون : الثَّبات نبات ، قال تعالى :

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[ سورة الأحزاب : 23]

 أما هذا الذي يعبدُ الله على حرْف ، فإنْ جاءتْ الأمور كما يشتهي حَمِدَ الله وشكرهُ ، وإن جاءَتْ على خِلاف ما يشْتهي انْتكسَ على عقبِهِ ، خسر الدنيا والآخرة ، وهذا من ضَعْف الإيمان .
 بعضهم قال في غزوة الخندق : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا ! لكنّ الصادقين قالوا : هذا ما وعدَ الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، المؤمن مُبْتَلى ، والمؤمن بالمِحَن يرْقى ، والمِحن تأتي بالمِنَن .

3 ـ الله هو الآمر و الضامن و الحافظ و الناصر :

 شيءٌ آخر يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يُستنبطُ من أحداث الإسراء والمِعراج أنّه هو الآمِر ، فلا شكّ هو الضامن والحافظ والناصِر ، هذا الذي كلّما دَعَوْتهُ إلى طاعة الله يقول لك: أخشى على مركزي ، أخشى على مالي ، أخشى على سلامة أسرتي ، أخشى . . .! هذا ضعفٌ في التوحيد ، فما دام الله هو الآمِر ، فهو الضامِن والحافظ والناصر ، إذا أردْت أن تكون أقوى الناس فتوكّل على الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكُن بما في يدي الله أوْثقُ منك بما في يديك ، إذا أردْت أن تكون أكرم الناس فاتّق الله .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ في سورة القصص وجَّه الله لَوْمًا شديدًا لِهَؤُلاء الذين يقولون كما قال تعالى :

﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾

[ سورة القصص : 57]

 أهكذا يفعل الله بعِباده المؤمنين ؟‍ اُنْظر إلى الذين عادَوا النبي عليه الصلاة والسلام أيْن هم ؟ النبي خاطبهم واحدًا واحدًا في معركة بدْر ؛ يا عُيَيْنة يا شيْبَة يا أميّة بن خلَف هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقًّا ؟ فإنّي وجدْتُ ما وعدني ربّي حقًّا ، لقد كذَّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وخذلْتُموني ونصرني الناس ، قالوا : يا رسول الله أَتُخاطِبُ قومًا جيَّفوا ؟‍! فقال : ما أنتم بِأسْمع لما أقول منهم . إذًا هؤلاء الذين وقفوا في طريق الحقّ ماذا حلّ بِهِم ؟ أصبحوا في مزبلة التاريخ ، أصبح الناس يلعنونهم صباح مساء ، قال تعالى :

﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾

[ سورة غافر : 46]

 من سِتَّة آلاف عام ، ويوم تقوم الساعة أدْخِلوا فرعون أشدّ العذاب ، لكنّك إذا آمنتَ بالله وتحمّلْت بعض المتاعب ، آثرْت ما يبقى على ما يفْنى ، آثرْت حياةً أبديّة على حياةٍ طارئةٍ تنقضي ، بل سريعة الانقضاء ، ماذا فعلت ؟ لقد كنتَ مع الحقّ ، لقد كنت مع مصلحتك ألا يا ربّ نفسٍ جائعةٍ عاريَة في الدنيا طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة ، ألا يا ربّ مُهينٍ لنفسه ، وهو لها مكرم ، الإنسان أحيانًا أيها الأخوة تأخذه العزّة بالإثم ، فلا يعترف بالحقّ ، ولا يؤدِّي ما عليه كِبْرًا ، وعُلوًّا ، ولا يعتذرُ عمّا بدر منه ، ولا يعود إلى الصواب ، يرْكبُ رأسهُ ، هذا في زعْمِهِ يُكرِّمُ نفسهُ ، لكن هو لها مُهين ، أما الذي يعود إلى الحقّ ، ويعتذرُ عمّا بدا منه وهو وقّافٌ عند كلام الله عز وجل ، فهذا في الظاهر يُهينُ نفسهُ ، ولكنّه في الحقيقة هو لها مُكرِم .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ لولا الجهاد والصّبْر لما عُبِدَ الله في الأرض ، ولا انتشَر الإسلام في الخافقين ، وأنت لنْ تفلِحَ ، ولن تفوز إلا إذا طبَّقْت أربعة أشياء جاءَت في سورة العصر ، إيمانٌ بالله ، وعملٌ صالح يؤكّد إيمانك بالله ، ودعوةٌ إلى الله ؛ تواصَوا بالحق ، تجعلُ الحقّ ينْمو ، إن لم ينْمُ الحق ونما الباطل وحدهُ حاصرَهُ الباطل ، فالحقّ لا بدّ من أن ينْمو والحق لا بدّ من أن ينتشر ، لِيُحافِظَ على وُجوده ، وليُحافظ على استِمْراريتِهِ ، فإذا تخلّى أهله عنه حاصرهُ الباطل ، وعَلَتْ كلمة الباطل ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى مع الحقّ ، ولكن نحن يجبُ أن نكون مع الحقّ حتى يكون الله معنا .
 لا تنتظر أن يكون الله معك وأنت على باطل ، لأنّه إذا عصاني من يعرفني سلّطْتُ عليه من لا يعرفني ، وهذه مَقُولةٌ تلخّص أحداثًا كثيرة تجري في العالم ، إذا عصاني من يعرفني سلَّطْتُ عليه من لا يعرفني ، لا تُطالب بما لك عند الله قبل أن تؤدّي ما عليك تِّجاه الله عز وجل .

4 ـ اليُسْر مع العُسر والنّصْر مع الصّبْر والفرَج مع الكرب :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من دُروس الإسراء والمعراج هناك حقيقةٌ دقيقة ، هي أنّ اليُسْر مع العُسر ، فلم يقل الله عز وجل فبعد العسر يسرًا ، قال تعالى :

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح : 5]

 تَطمينًا له ، إن جاءَتْ شِدَّة ففيها بُذور الفرج ، فيها بذور اليُسْر .
 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ اليأسُ علامةٌ ليْسَت مُرْضِية في حقّ الإنسان ، اليأس علامة الجهل ، في أقلّ تقدير اليأس علامة الكُفْر ، اليأْس علامة البُعْد عن الله عز وجل ، فاليُسْر مع العُسر ، والنّصْر مع الصّبْر ، والفرَج مع الكرْب ، لذلك قالوا :

كنْ عن هُمومك معرضًا  وكلِ الأمور إلى القضـا
وابْشِر بِخَيرٍ عاجــــــــــــلٍ  تنسى به ما قد مضـــى
فلربّ أمْـــــــــرٍ مسْـــــخــطٍ  لك في عواقبه رضــــــــــا
ولربّما ضاق المضــيق  ولربّما اتَّسَع الفضـــــــــا
الله يفعلُ ما يشـــــــــــاء  فلا تكـــــــــن معترضــــــــا
الله عوّدك الجــــميــــــــل  فقِسْ على ما قد مضى
***

الفرق بين الآية التالية و بين قصة الإسراء و المعراج :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ما الفرق بين قوله تعالى :

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة النحل : 97]

 وبين قصّة الإسراء والمعراج ؟
 يا أيها الأخوة ؛ الحقائق إما أن تعرضَ علينا مباشرةً في القرآن ، وإما أن تُعْرضَ علينا اسْتِنباطًا من خلال الأحداث ، الأحداث أقربُ إلى النّصوص وأكثر تفاعلاً معها ، الإنسان أكثر تفاعلاً مع الأحداث ، هذا الذي يشُدُّه إلى القصّة ، إنّك إن اسْتنبطْت حقيقةً من حدَث استنْبطْتَ حقيقة مع شيءٍ آخر مهمّ جدًّا ، ما هو هذا الشيء ؟ إنَّه البرهان عليها ، فحينما رأيْت النبي لاقى في جَنْب الله ما لاقى ، وتحمَّل في جَنْب الله ما تحمّل ، وثبتَ على دعْوتِهِ ما وسِعَهُ الثبات ، وأعْلَنَ ضَعفهُ لله عز وجل ، ورأيْت بعد ذلك الجواب ، جواب السماء ، رأيْتَ تَكريم الله عز وجل ، ولك في النبي أُسْوةً حسنَة ، إنَّك إن بذَلْتَ جُهْدًا في معرفة الله ، وفي طاعته ، قد يحملُك هذا على تغيير عملك كلّه ، لو أنّ للإنسان عملاً لا يرضي الله قبل أن يعرف الله ، وحملهُ إيمانه على تغيير عمله ، وعاد إلى الصّفر ، هذا وضْعٌ صعْبٌ ، ولكنّه في مرضاة الله ، هذا وَضْعٌ لا ترضه النّفس ، ولكنّ الله يرضاه ، فإذا رضي الله عنك فُزْتَ ونجَحْتَ وحصَّلْت على كلّ شيءٍ ، بعد ذلك يأتي الجواب .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ مرّة ثانيَة وثالثة : لا ينبغي أن تكون أحداث الإسراء والمعراج أخبارًا تُتْلى ، ولكن ينبغي أن تكون عِبَرًا يُستفاد منها ، ومنارات في طريق الإيمان .

 

على الإنسان أن يكون مع الله في السّراء والضّراء و في الضّعف والقوّة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب : 21]

 إذا قرأتُم السيرة ، وقرأتم فصْل الإسراء والمعراج عرفْتُم كم جاهدَ النبي في جنْب الله ، وكم بذَل ، وكم تحمَّل ، كم صبَر ، ثمّ بعد ذلك كان سيّد الأنبياء ، وكرّمه الله تكريمًا ما بعده تكريم ، جاء بعد الإسراء والمعراج فتْحُ مكّة ، دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة التي آذتْهُ ، وكادَتْ له ، ونكَّلتْ بأصحابه ، وائتمَرَت بقَتله ، وأخرجتْهُ منها ، وناصبتْهُ العِداء عشرين عامًا .
 تحت رحمة كلمة تخرج من شَفَتيه ، عشرة آلاف سيْفٍ متوهِّج ينتظرون أمْر النبي عليه الصلاة والسلام في أهل مكّة ، قال : ما تظنُّون أنِّي فاعلٌ بكم ؟ قالوا : أخٌ كريم وابن أخٍ كريم ، قال : اذْهبوا فأنتم الطُّلقاء ، ودخل مكّة وهو مُطَأطِئ الرأس تواضعًا لله عز وجل حتى كادَت تلامس ذؤابة عمامته عنق بعيرهِ ، علّمنا الموقف الكامل في أشدّ حالات القهْر ، وعلَّمنا الموقف الكامل في أعلى درجات النّصْر ، فهو في حالة الضّعف والقهْر عبْدٌ لله ، أشكو إليك ضعف قوّتي وهواني على الناس ، وفي حالة القوّة والقهْر والنّصر لم تخرجْهُ قوّته عن الحقّ ، ولا أخرجتهُ عن الرحمة ، كما يفعلُ الأقوياء إذا شعروا بقوّتهم ، وإذا شعروا أنّه لا منافس لهم في العالم ، هؤلاء الأقوياء الذين لا يعرفون الله إذا بطشوا بَطشوا جبّارين ، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام يمثّل الكمال البشري عند القوّة ، ويمثّل الكمال البشري عند ضعفه ، في ضعفه كان عبدًا ، وفي قوّته كان عبْدًا ، وما جعلهُ الضّعف يهينُ ، ولا جعلتهُ القوّة يتكبَّر ، قال تعالى:

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾

[ سورة آل عمران : 146]

 هكذا ينبغي أن يكون الإنسان ، أن يكون مع الله في السّراء والضّراء ، في الفقر والغِنَى ، في القهْر والنّصْر ، في الضّعف والقوّة ، في الصحّة والمرض ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، هو هو لا يتغيّر ، تعاملَ مع الله وأعطاهُ عهدًا على الطاعة ، وأعطاهُ عهدًا على القرْب وانتهى الأمر .
 أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

معجزة الإسراء :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أحداث الإسراء والمعراج من الزاوية العلميّة ممْكنةٌ عقلاً ، وغيرُ ممْكنةٍ عادةً ، والناس أحيانًا يخْلطون بين العادة وبين العقل فهؤلاء الذين ما عرفوا الله ، وما عرفوا قدرتهُ ، وما عرفوا معنى قوله تعالى : "كُنْ فيكون" ، وما عرفوا أنّ الزمان من خلقِهِ وقد يُلغى ، وأنّ المكان من خلقهِ وقد يُلغى ، ما عرفوا هذه الحقيقة ، أحيانًا ينْكرون أن يقع الإسراء والمعراج ، وبعضهم يقرّ بالإسراء ، وينكر المعراج ، على كُلٍّ من الثابت في علم التوحيد أنّ كلّ شيءٍ ممكن عقلاً ، لأنّ هذا الكون بِرُمّته وبِمَجرّاته وبكلّ أفلاكه ، وبأرضِهِ وسمائه ، وُجِدَ من عَدمٍ ، هل يستطيع عقلك فهْم هذه القضيّة كُنْ فيكون ؟ كان الله ولم يكن معه شيء ، فأيُّهما أعظم ؛ أن يوجد هذا الكون كلّه من عدَم أم أن ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام بقُدرة الله لا بقُدرته ؟ فالفعل هنا أسْرَى ، وليس سَرَى ، الفعل متعدّ ، طفلٌ صغير أيُعْقَلُ أن يصعد إلى قمّة جبل هيمالايا ؟! لا يُعقل ، ولكن إذا حُمِلَ وأُخذ إلى هناك يُعْقل ، فربّنا عز وجل يقول : " سبحان الذي أسرى بعبْده . ." هو انتقل بِقُدرة الله من مكّة إلى بيت المقدس ، وانتقل إلى السماء بقُدرة الله ، إذًا قدرة الله لا يحُدّها شيء ، تتعلّق بكلّ شيء ، فالإسراء والمعراج ممكنٌ عقلاً ، ممتَنِعٌ عادةً ، فما ألِفَ الناس وقْت النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ، أما الآن فالإنسان انتقل من الأرض إلى القمر في ثلاثة أيّام ، وكانت سرعة مركبته أربعين ألف كيلومتر في الساعة ، فما كان مستحيلاً وقْت النبي أصبح الآن على يدي البشر ممكنًا ، فكلّ شيءٍ ممكنٌ عقلاً ، ولكنّه ليس ممكنًا عادةً ، هذه النقطة قد تغيب عن أذهان بعض الناس ، لكن أريد أن أُعقّب تعقيبًا قصيرًا وهو أنّ الإنسان كلّما نما عقلهُ وكلّما دقَّت مدركاتهُ يرى أنّ الكون بِوَضْعِهِ الراهن من دون خرْقٍ لِنَواميسه هو المعجزة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : "حسبكُم الكون معجزة ".
 أن يولد الإنسان في رحم أمِّه ، أن يتشكّل مخلوق ، له دِماغٌ ، وله خلايا ، وله أعصاب ، وله أوْعِيَة ، وله قلب ، وله تجاويف ، وله دسّامات ، وله جهاز هضمي ، وغدد صماء ، وجهاز تنفّسي ، وجهاز دوران ، وجهاز طرْح الفضلات ، من نقطةِ ماءٍ من دون جهْدٍ من أمِّه ، ولا تخطيط من أبيه ، إنّ هذا الطِّفْل وحدهُ معجزة ، من دون خرْقٍ للمعجزات .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ كلّما ارْتَقَت البشريّة جاءت المعجزات عقليّة ، كلّما انخفض مستواها جاءَتْ المعجزات حِسيّة ، لذلك حينما كانت البشريّة تحْبو في حُقول المعرفة كانت المعجزات حِسِيَّة ، أما حينما ارْتَقَت فجاء القرآن الذي هو المعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام ، وهو المعجزة المستمرّة ، والمعجزات الحسيّة كَعُود الثِّقاب تتألّق ثمّ تنطفئ ، وتصبحُ خبرًا يصدّقهُ من يصدّقهُ ، ويكذّبه من يكذّبه ، لكنّ معجزة القرآن على مدار الأيام إلى نهاية الدوران ، وكلّما تقدَّم العلم كشف عن جانب من جوانب إعجازه ، فنحن بين أيدينا معجزة ، معجزةٌ عقليّة ، هذه ينبغي أن تؤكِّدَ لنا أنّ هذا الدِّين حقّ ، وأنّ هذا النبي حقّ ، وأنّ الكتاب حقّ ، وأنّ الجنّة حقّ ، وأن النار حقّ ، وما علينا إلا أن نتحرّك ، قال تعالى :

﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾

[ سورة القمر : 17]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور