وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0077 - تفسير سورة التكاثر - بعض من وصايا سيدنا علي لأبنه.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله الذي هدانا لهذا، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا، و ما توفيقي و لا اعتصامي و لا توكُّلي إلا على الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بربوبيته و إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتَّصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم ارحمنا فإنك بما راحم، ولا تعذِّبنا فإنك علينا قادر، و الطُف بنا فيما جرت به المقادير، إنك على كل شيء قدير.

ألهكم التكاثر في المال والأهل عن هدفكم الكبير :

 أيها الأخوة المؤمنون؛ سورة قصيرة في الجزء الأخير من كتاب الله لو قرأناها قراءةَ تدبُّر، يقرأ الناسُ القرآن قراءة تبرُّك و لا يعقلون معناها، و لا يطبِّقون محتواها، هذا التبرُّك لا يحصل إلا إذا حصل التدبّرُ و التطبيق، فهذه السورة التي نوَّهتُ عنها في الجزء الأخير من كتاب الله و التي تبدأ بقوله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

[سورة التكاثر: 1-2]

 التكاثر في جمع الدرهم و الدينار، التكاثر في الأهل و الأولاد، التكاثر في جمع الثروات، التكاثر في المقتنيات، التكاثر في المكتسبات، التكاثر في حطام الدنيا، ألهاكم هذا التكاثر عن هدفكم الكبير، عن الغاية التي خُلِقتم من أجلها، عن السبب الذي أُرسلتم به إلى الدنيا عن المهمة التي أُنيطت بكم، ألهاكم جمع الدرهم و الدينار، ألهاكم الانغماسُ في الملذَّات، ألهاكم التفاخرُ بمتاعكم، ألهاكم التكاثرُ بما عندكم، الله سبحانه و تعالى كأنه يعتب و ينذر و يقرِّع عبادَه التائهين الذي شردوا عن طريق الحق، و ابتعدوا عن الغاية المثلى، قال تعالى:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

[سورة التكاثر: 1]

ماذا أعددت للموت ؟

 ما المصير؟ المصير موتٌ محقّق، فماذا أعددتم لهذه الساعة؟ قال تعالى:

﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

[سورة التكاثر: 2]

 أي حتى أصبحتم من زوَّار القبور، جمعتم الدنيا على بعضها و تركتم الدنيا و لم تأخذوا معكم منها شيئا، قال تعالى:

﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

[سورة التكاثر: 2]

 لذلك النبي صلى الله عليه و سلم يقول: عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:

((أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس))

[رواه السيوطي في الجامع الصغير]

حبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئة :

 لو أن أبًا رحيماً عالماً أراد لأولاده مستقبلاً زاهراً، ووضع أولاده أو ولديه في أرقى مدرسة و أنفق عليهما من أمواله كي يحقِّقا نجاحاً و تفوُّقاً في مستقبليهما، فخرج الولدان من المدرسة وتسابقا إلى اللعب في الطريق و إلى جمع أشياءَ تافهة لا قيمة لها، و عادا إلى البيت و جلسا ليتحاسبا و ليتفاخرا يمتلئ الأبُ حزنا على مصير ولديه، يقول لهما: ألهاكم التكاثرُ عن الهدف الكبير الذي بعثتكم به إلى المدرسة من أجله اللهُ سبحانه و تعالى خلقنا و أرسلنا إلى الدنيا لهدف كبير، هذا الهدف ضاع الناسُ عنه، تركوه و نبذوه وراء ظهورهم، التفتوا إلى أشياء تافهة لا تقدِّم و لا تؤخِّر، قال تعالى:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾

[سورة التكاثر: 1]

 أنسيتم الذي خُلقتم من أجله في هذه الدنيا؟

﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

[سورة التكاثر: 2]

 اللهُ سبحانه و تعالى يقول:

﴿ كَلَّا ﴾

[سورة التكاثر: 3]

 هذه أداةُ ردع، كلا لم أخلقكم لهذا، لم أخلقكم لجمع الدرهم و الدينار، لم أخلقكم للانغماس في الملذَّات، لم أخلقكم للاستعلاء في الأرض، لم أخلقكم للتكاثر و التفاخر، لا، قال تعالى:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 3]

 سوف تعلمون، هذه " سوف " للاستقبال، سيأتي يومٌ تعلمون فيه الحقيقةَ، سيأتي يومٌ تُكشف الحقيقةُ، سيأتي يوم يعضُّ الظالمُ على يديه، سيأتي يوم تعرف أيها الإنسان لِم خُلقت في الدنيا، و ما أثمن ما في الدنيا، و لماذا بُعثت إليها:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 3]

 بعضُ المفسَّرين قالوا: هذه عند الموت، قال تعالى:

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ﴾

[سورة ق: 22]

 غطاء الشهوة التي كانت تُعمي و تصمُّ، حبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئة، هذا الحجاب الذي بينك و بين الحقيقة، هذه المعاصي التي كانت حُجبا كثيفةً بينك و بين الحق قال تعالى:

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾

[سورة ق: 22]

 قال تعالى:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

[سورة التكاثر: 1-2]

الفلاح أن تعبُر هذه الساعة إلى الجنة :

 لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 3]

 البطولة في هذه الساعة، الذكاءُ أن تنجوَ من هذه الساعة، التفوُّق أن تعلم الجوابَ في هذه الساعة، الفلاح أن تعبُر هذه الساعة إلى جنة عرضُها السماوات والأرض، قال تعالى:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 3]

 كأن هذا الكلام تهديد لهؤلاء المنغمسين، لهؤلاء الغافلين، لهؤلاء المنحرفين، قال تعالى:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 3]

 تعلمون ما أثمن شيء في الدنيا، مالُها أم معرفةُ الله عز وجل؟ شهواتها أم الاستقامةُ على أمر الله عز وجل،قال تعالى:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 3-4]

الفلاح أن تعلم في الوقت المناسب :

 قال المفسِّرون:" تعلمون" الأولى ساعةُ الموت، و"تعلمون" الثانية يوم القيامة، سوف تعلمون الحقيقةَ مرتين، و هذا العلم لا يغنيكم شيئا، قال تعالى:

﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾

[سورة الأنعام : 158]

 هذه معرفة و لكن بعد فوات الأوان هذه معرفةٌ لا تنفع صاحبَها شيئا، هذه معرفة تزيد ألمَه، تزيد حرقته و تزيد ندمَه، قال تعالى:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 3-4]

 "كلا" أداةُ ردع و زجر، لم تُخلقوا لهذا، لم تُخلقوا للدرهم و الدينار، و لا للملذَّات السخيفة، خُلقتم لمعرفة الله، خَلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، و خلقتُك من أجلي فلا تلعب، فبحق عليك بلا تتشاغل بما ضمنتُه لك عما افترضته عليك، خلقتُ السماوات و الأرض و لم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين، و عزَّتي و جلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلِّطن عليك الدنيا تركض فيها ركضَ الوحش في البرية ثم لا ينالك منها إلا ما قسمتُه لك و لا أبالي " ابن آدم اُطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدتَ كلَّ شيء، و إن فِتُّك فاتك كلُّ شيء و أنا أحبُّ إليك من كل شيء.

 

الانغماسَ في الدنيا جحيم :

 

 قال تعالى:

﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾

[سورة التكاثر: 4-6]

 وأنتم في الدنيا، لو بلغتم علمَ اليقين لرأيتم أن الانغماسَ في الدنيا جحيم، لو علمتم علم اليقين لرأيتم أنَّ جمعَ الدرهم و الدينار فقط و الانصراف عن الحق جحيم، لو علمتم في الدنيا علم اليقين لرأيتم أن المباهاة و الافتخارَ على الأقران بمتاع الدنيا جحيم، قال تعالى:

﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾

[سورة التكاثر: 4-6]

ما علم اليقين ؟

 ترونها في الدنيا، ما علم اليقين؟ قال بعضُهم الاستدلال، لو نظرتَ في الكون لرأيت أن في الكون إلهًا عظيما، نظرت إلى الدنيا لرأيت الحياة فيها قصيرة، لا بد أن تكون هذه الحياةُ إعدادا لحياة أبدية، و السعيد من أطاع الله، و الشقيُّ من عصاه، لو فكَّرت تفكيرا صحيحا، لو فكَّرت في آيات الله لعرفت عظمة الله، لعرفت أن الله سبحانه و تعالى لم يخلقنا عبثا، قال تعالى:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾

[سورة المؤمنون: 115-116]

 وقال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾

[سورة ص: 27]

التأمل في آيات الله يوصل إلى اليقين :

 إن تأمَّلتم في آيات الله لرأيتم ما أنتم فيه جحيما:

﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾

[سورة التكاثر: 4-5]

 لو نظرت إلى هذه المصابيح المتألِّقة لتيقَّنت يقينا قاطعا أن في الأسلاك كهرباء، هذا علم الاستدلال، سمَّاه الله علمَ اليقين، لأنك بالاستدلال قد تصل إلى اليقين، إذا رأيت آثارَ عجلات سيارة في طريق ترابي تتيقَّن مائة في المائة أنه في هذا الطريق قد مرَّت سيارة، هذا علم اليقين،الآثار تدلُّ على المؤثِّرات، الأقدام تدلُّ على المسير، و البعرُ يدلُّ على البعير، و الماء يدل على الغدير، أفسماء ذات أبراج , أرض ذات فجاج، ألا تدلانِ على الحكيم الخبير؟ قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾

[سورة التكاثر: 5]

تأمل في ابنك وطعامك ومن حولك :

 لو نظرت في ابنك لعلمت منه علم اليقين، أن يدا كريمةً حكيمة عليمة قديرة خلقته في بطن أمه و أنها لم تنساه، لو دقَّقت في طعامك و شرابك لعلمت علم اليقين أن الله هو الرزَّاقُ ذو القوة المتين، لو دققت في معاملات الناس لعرفت أن الله سبحانه و تعالى يجزي الصادقين بصدقهم، قال تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

 قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾

[سورة التكاثر: 5-6]

 وأنتم في الدنيا، و أنتم في خِضم الغفلة عن الله عز وجل، و أنتم في خضم الفتن و أنتم في خضم الشهوات، لو فكَّرتم فيما حولكم من آيات كونية، و لو تدبَّرتم ما بين أيديكم من آيات قرآنية، و لو تبصَّرتم فيما بينكم من معاملات لعلمتم علم اليقين أنه لا إله إلا الله،و لا رازق إلا الله و لا معطي إلا الله، و لا مانع إلا الله، و لا رافع إلا الله، و لا خافض إلا الله، و أن أمرك كلَّه لله، قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾

[سورة التكاثر: 5-6]

 ثم يوم القيامة، قال تعالى:

﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾

[سورة التكاثر: 7]

الفرق بين علم اليقين وعين اليقين :

 فما الفرق بين علم اليقين وعين اليقين؟ قد ترى دخانا وراء حائط ففكرُك يقول: لا دخان بلا نار، لا بد أن وراء هذا الحائط نارا مشتعلة، و هذه آثارها، فإذا ذهبت إلى رواء الحائط ووقعت عينُك على ذات النار، هذا اسمه عين اليقين، الاستدلال علمُ اليقين، و المعاينة بالحواس عين اليقين، قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾

[سورة التكاثر: 5-6]

 لكن هذه الجحيم التي قد تستدلون عليها في الدنيا عن طريق الفكر سوف ترونها، طبعا الخطاب للضالين، لهؤلاء المنحرفين، سوف ترونها بأمِّ أعينكم يوم القيامة، "قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾

[سورة التكاثر: 5-7]

 وفي هذه الساعة العصيبة، و في هذه الساعة التي ينسى المرءُ فيها نفسَه ينسى فيها أولادَه، إن وقعت عينُه على عين أمِّه لما عرفها، قال تعالى:

﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾

[سورة المؤمنون: 101]

 في هذه الساعة العصيبة يُسأل الإنسانُ عن كل شيء ساقه الله له في الدنيا، أعطاه نعمة الفكر، ماذا فعل بها؟ أعطاه نعمة العين فماذا أبصر بها؟ هل أبصر بها آيات الله، أم أبصر بها عورات الناس؟ أعطاه نعمة السمع ماذا استمع بها؟ أأستمع إلى الحق أم إلى الباطل أم إلى الغناء؟ أعطاه نعمة الحركة، إلى أيِّ الأمكنة توجَّه و سار؟ إلى المساجد أم إلى دور اللهو، أعطاه نعمة الكلام، لماذا تكلم؟ بالحق أم بالباطل؟ أعطاه نعمة المال فكيف أنفقه؟ في وجوهه الصحيحة أم على شهواته و ملذَّاته؟ أنفقه إسرافا و تدبيرا و استعلاءً و بطرا، أم أنفقه على عياله و في سبيل القرب من الله عز وجل؟

 

سؤال الإنسان عن كل شيء يوم القيامة :

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

[سورة التكاثر: 5-8]

 قال ابن عباس: عن كل شيء " كل شيء أعطاك الله إياه في الدنيا، نعمة الفكر، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة اليدين، نعمة الرجلين، نعمة الحركة، نعمة المال، نعمة الزوجة ماذا فعلت بها؟ تركتها في ضلالها أم وجَّهتها إلى بارئها، نعمة الأولاد تفاخرت بكثرتهم أم هديتهم إلى خالقهم؟ قال تعالى:

﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

[سورة التكاثر: 8]

 هذه الآية لو عقلناها حقَّ العقل لانقلبت حياتُنا رأسا على عقب، و بدَّلت سلوكنا تبديلا جذريا، لصرنا أناسا آخرين، و لكن الشيء المؤسف أن الناس يقرؤون القرآن تبرُّكا، و لا يدخل في صميم حياتهم اليومية، و لا يدخل في صميم مشاعرهم، و لا في تجاربهم و لا في علاقاتهم، و لا في حل قضاياهم، إنهم يقرؤونه تعبُّدا و لا يقرؤونه تدبُّرا، إذا تيقَّنتم أن كل شيء سوف تُحاسبون عليه، ماذا فعلت بنعمة البصر، ماذا فعلت بنعمة السمع، ماذا فعلت بنعمة الزوجة، ماذا فعلت بنعمة الأولاد، ماذا فعلت بنعمة العقل، ماذا فعلت بنعمة الصحة، ماذا فعلت بنعمة الحركة؟

أيَّة نعمة ساقها الله إليك ستسأل عنها :

 قال تعالى:

﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

[سورة التكاثر: 8]

 أيَّة نعمة ساقها الله إليك إنما ساقها إليك لتكون عوناً لك على آخرتك، قال تعالى:

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾

[سورة القصص: 77]

 حصراً، قال تعالى:

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ ﴾

[سورة القصص: 77]

 آتاك نعمة العلم فهل علَّمته للناس؟ آتاك نعمة الوجاهة هل وضعت وجاهتك في خدمة الضعيف؟ آتاك نعمة الذكاء فهل استخدمت ذكاءك في نشر الحق؟ أم في الإيقاع بين الناس؟ آتاك نعمة الصحة فهل تقوَّيت بها على معصية الله أم على طاعة الله؟ قال تعالى:

﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

[سورة التكاثر: 8]

 آياتٌ محكمات، آيات بليغات، قال تعالى:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾

[سورة التكاثر: 1-2]

الخاسر من ينغمس في الشهوات :

 عملٌ و عمل، و انغماس في العمل حتى يأتي الأجلُ، و صاحبنا صفرُ اليدين، لا قدم عملا صالحا و لا أنفق من ماله و لا حضر مجلس علم و لا قرأ قرآنا و لا أمر بالمعروف و لا نهى عن المنكر و لا أعان الضعيف و لا أقرض دينا، ما فعل إلا أن انغمس في الشهوات،قال تعالى:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 1-4]

 تعلمون أنكم مخطئون، تعلمون أنكم خاسرون، تعلمون أنكم ضالون، متى، سوف، سوف تعلمون، عند الموت، قال تعالى:

﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التكاثر: 4]

 عند البعث و النشور، " قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾

[سورة التكاثر: 5]

 قال تعالى:

﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾

[سورة الحجر: 99]

الموقف المذبذب ليس من صفات المؤمن :

 هل أنت على يقين من حقائق الدين؟ هل أنت متيقِّن بعد الموت حياة أبدية؟ تقول: لا أدري، لا أعتقد، أظن، لست متأكِّداً، ماذا تعمل؟ إما أن تتأكد أن هذا اليوم عصيب، إما أن تثبته حقاً و إما أن تنكره حقاً بالحجة و الدليل، أما أن تبقى في هذا الموقف المتردِّد، الموقف المذبذب، الموقف الزئبقي، هذا ليس من صفات المؤمن، قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ *ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾

[سورة التكاثر: 5-8]

من نظِّم حياته وفق القرآن سعد و سرّ :

 اقرؤوها في صلاتكم، تدبَّروها مع أنها قصيرة، كل كلمة منها تُفسَّر في ساعات، اقرؤوها و تدبَّروها و طبِّقوها، و هذه هي بركة القرآن حينما تنقلب حياتُك رأسا على عقب، حينما تنظِّم حياتك وفق القرآن حينما تقول: لا للمعصية، للفسق و للفجور، حينما تقول: إني أخاف الله رب العالمين، و حينما تقول لصاحبك: خذني معك إلى المسجد أنت إذًا عقلت هذه الآية.
 أيها الأخوة المؤمنون؛ حاسبوا أنفسكم، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، و اعلموا أن ملك الموت قد تخّطانا إلى غيرنا و سيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتَّخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :

 

 الحمد لله رب العالمين، و أشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل على سيدنا محمد، على آله و صحبه الطيِّبين الطاهرين.

وصايا الإمام عليٌّ لابنه الحسن :

 أيها الأخوة المؤمنون، الإمام عليٌّ كرم الله وجهه قال لابنه الحسن رضي الله عنه، قال: يا بني احفظ عني أربعا و أربعا - أي أربع وصايا، و أربع وصايا أخرى.

1 ـ بالعقل تعرف ربك :

 - يا بني إن أغنى الغنى العقل - بالعقل تجلب المال، و بالعقل تُسعد بزوجتك، و بالعقل تعرف ربك، و بالعقل تنتهي عن معصية الله، و بالعقل تصل إلى دار السلام بسلام، و بالعقل تحسن إنفاق مالك - إن أغنى الغنى العقل.

2 ـ الأحمق هو الفقير :

 و أكبر الفقر الحمق - ليس الفقيرُ من لا درهم له و لا دينار، و لكن الأحمق هو الفقير، و ليس أحمق ممن يعصي الله، ليس أحمق ممن كان بعيدا عن الله عز وجل - و إن أكبر الفقر الحمق.

3 ـ الذي يُعجب برأيه و أفكاره يعيش في وحشة :

 و إن أوحش الوحشة العُجب - من أعجبته نفسُه، و رأى نفسه فوق الناس، رأى أن أفكاره و لو خالفت كتاب الله صحيحة، هذا الذي يُعجب برأيه و أفكاره و معتقداته، و يقول لك: أنا أرى كذا، من أنت؟ إن هذا يعيش في وحشة ما أبعدها و ما أوحشها - و أن أوحش الوحشة العجب.

4 ـ أكرم الحسب حسنُ الخلق :

 و أكرم الحسب - لا تقل أصلي و فصلي أبدا، لا تقل: أنا من بيت فلان أنا والدي فلان - و إن أكرم الحسب حسنُ الخلق - يا بني إن أكبر الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق و أوحش الوحشة العجب، و أكرم الحسب حسن الخلق، يا بني إياك و مصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرُّك " هذه الأربع التاليات، إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، و إياك و مصادقة البخيل فإنه يقعد عنك و أنت أحوج ما تكون إليه - في الأيام العصيبة يبتعد عنك، و إياك و مصادقة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه - يحرجك و يلطِّخ سمعتك بالوحل، إذا صادقت الفاجر، وإياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب، يقرِّب إليك البعيد و يبعد عنك القريب، يا بني احفظ عني أربعا و أربعا يا بني إن أكبر الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق و أوحش الوحشة العجب، و أكرم الحسب حسن الخلق، إياك و مصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرُّك، و إياك و مصادقة البخيل فإنه يقعد عنك و أنت أحوج ما تكون إليه، و إياك و مصادقة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه، وإياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب، يقرِّب إليك البعيد و يبعد عنك القريب.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، و عافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت و بارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي و لا يُقضى عليك، و إنه لا يذل من واليت، و لا يعز من عاديت، اللهم أعطنا و لا تحرمنا، وأكرمنا و لا تهنا، و آثرنا و لا تؤثر علينا، وأرضنا و ارض عنا، مولانا رب العالمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، و اجعل الحياة زادا لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم أغننا بالعلم و زيِّنا بالحلم و أكرمنا بالتقوى، وجمِّلنا بالعافية، وطهِّر قلوبنا من النفاق ن و أعمالنا من النفاق، و ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمنا سخيًّا رخيا وسائر بلاد المسلمين اللهم استر عيوبنا، و اغفر ذنوبنا، واقبل توبتنا، و تولَّ أمرنا و فكَّ أسرنا، و أحسن خلاصنا، و اهد أولادنا، بلِّغنا مما يرضيك آمالنا واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين، اللهم بفضلك و رحمتك أعلِ كلمة الحق و الدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب و ترضى، إنك على ما تشاء قدير، و بالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور