- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
آيات كريمة تشير إلى زلزلة الأرض :
أيها الأخوة المؤمنون ، يقول الله تعالى :
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
آيةٌ قصيرة ، في سورة قصيرة ، يتلوها النبي صلى الله عليه وسلّم على مسامع أعرابيّ ، لا يعرف القراءة والكتابة ، فيقول : يا رسول الله لقد كفيت ، ونحن نستمع إلى القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار ، وإلى أحكامه ، وإلى حدوده ، وإلى مبشّراته ، وإلى إنذاراته ، وإلى وعده ووعيده ، وإلى قصصه ، وإلى أمثاله ، وإلى أخباره السابقة ، ويُقيم المسلم على معصية الله ، يا للمفارقة العجيبة ! آية من سورة قصيرة ، قال : قد كُفيت ، فقال عليه الصلاة والسلام : "فقُه الرجل" .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كثيرًا ما تقرؤون هذه السورة في الصلاة ، وأنا اخترتُ أن أُعالج بعض سور القرآن القصيرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يذكر أحدكم معانيها إذا تلاها في الصلاة
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾
أفاد العلماء أنّ إذا تعني تحقّق الوقوع، لابدّ من أن يقع ذلك ، أما إن فتُفيد احتمال الوُقوع ، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾
الفاسق قد يأتي ، وقد لا يأتي ، ولكن إذا جاء نصر الله والفتح فلابدّ أن يأتي نصر الله تعالى ، إذا زلزلت الأرض زلزالها فلابدّ من أن تأتي هذه الزلزلة ، وما هي الزلزلة ؟ اضطرابٌ شديد للأرض كلّها بحيثُ يكون عاليها سافلها ، وسافلها عاليَها ، وهذه الزلزلة أُضيفَت إلى الأرض ، لم يقل الله عز وجل : إذا زلزلت الأرض زلزالاً ، ولكن قال : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، الموعود ، والمعهود ، والمرتقب ، والذي أقرّه الله سبحانه وتعالى .
قال تعالى:
﴿ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾
آياتٌ أخرى تشير إلى هذه الزلزلة ، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾
علماء العقيدة يؤكّدون أنّ هناك نفختَين ؛ نفخةٌ يصعق فيها من في السموات والأرض وهي الزلزلة التي ذكرها الله في هذه السورة ، ونفخةٌ أخرى ينطلق الناس جميعًا من قبورهم إلى الحساب ، وإلى النشور .
وهناك آية ثانية تؤكّد هذه الزلزلة ، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾
زلزلة الساعة ؛ الزلزلة المعهودة التي وعد الله بها ، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
أَيُعقل أن تلقي الأمّ بِرَضيعها وهو على صدرها ملتقمًا ثدْيَها ؟ أيُعقل أن تلقيه على الأرض لِتَنجو بنفسها ؟ هذه صورة من صور الفزع العظيم ، لكنّ المؤمنين من فزع يومئذٍ آمنون، قال تعالى:
﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
قال تعالى:
﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾
الحكمة من تسخير السموات و الأرض للإنسان :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا زلزلت الأرض زلزالها الشديد ، والصاعق ، والذي وعد الله به ، والمخصوص ، والعظيم ، قال تعالى:
﴿ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾
الأثقال كما يقول بعض العلماء جمعُ ثِقَل وهو الحمْل في البطن ، وكأنّ للأرض بطْنًا تحمل فيه هذه الأجساد التي ماتتْ ؛ إنّها أثقال ، لأنّ الإنسان هو المخلوق الأوّل ، ولأنّ الله تعالى كرّمه على جميع الخلق ، ولأنّ الله سبحانه وتعالى سخّر له ما في السموات وما في الأرض ، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
هل تعلم من أنت يا أيّها الأخ الكريم ؟ إنّك المخلوق الأوّل ، الذي سخّر الله لك ما في السموات والأرض من أجل أن يعرّفك بذاتك ، ومن أجل أن تعبده ، ومن أجل أن تسْعد بقرْبِهِ ، ومن أجل أن يُسعدك إلى الأبد ، قال تعالى:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
أتحْسبُ أنّك جرْمٌ صغير وفيك انْطوى العالم الأكبر
***
أنت مخلوقٌ أوّل عند الله عز وجل ، خلقتُ لك السموات والأرض ، ولم أعْيَ بِخَلقهنّ ، أفيُعييني رغيفٌ أسوقه لك ؟ لي عليك فريضة ، ولك عليّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالفك في رزقك ، وعزّتي وجلالي إن لمْ ترض بما قسمْتُه لك فلأُسلطنّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريّة ثمّ لا يناله منك إلا ما قسمتهُ لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذمومًا ، خلقت لك السموات والأرض من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبِحَقّي عليك لا تتشاغل بما ضمنتهُ لك عمّا افترضْتهُ عليك ، قال تعالى:
﴿ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾
هؤلاء البشر الذين تحمّلوا الأمانة ، قال تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
تنطّحتَ أيّها الإنسان وقلْتَ : يا رب أنا لها ، السموات والأرض أشفقن منها ، وأحجمْنَ عن حمْلها ، وأنْت أيّها الإنسان قبِلْتَ حملها ، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
قد خابَ وخسِر .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال تعالى:
﴿ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾
هؤلاء البشر الذين حملوا الأمانة ، وأوْدَعَ الله فيهم حريّة الاختيار ، وسخّر الله لهم ما في السموات والأرض ، ليعرفوه فغفلوا عنه ، هؤلاء البشر الذين أوْدَعَ الله فيهم الشهوات لِيَرقوا بها إلى رب الأرض والسموات ، والذين أُعطوا ميزانا دقيقًا ، قال تعالى :
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾
أُعطيت الكون ، والعقل ، وحريّة الاختيار ، والشّهوة ، والشرع العظيم ، وجاء الأنبياء ، والرّسل ، وأنزل الله الكتب ، وبعث الله من ينذر ، ومن يبشّر ، ومن يوضّح ، ومن يبيّن ، ومع كلّ هذا تبقى معرضًا تائهاً شارداً ضالاً معارضًا عاصياً ؟
أمر الله إلى الأرض بأن تحدِّث بما فعل الإنسان على ظهرها :
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ﴾
ما لها زلزلتْ ؟ وما لنا خرجنا ؟ قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾
روى الإمام أحمد والترمذي وصحّحه الحاكم قال عليه الصلاة والسلام :
(( أتدرون ما أخبارها ؟- هذه الآية فسّرها النبي عليه الصلاة والسلام - فقال أصحابه الكرام : الله ورسوله أعلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : فإنّ أخبارها أن تشْهد على كلّ عبدٍ أو أمةٍ بما عمِلَ على ظهرها))
أيُّ عبد أو أمةٍ - أي امرأة - ماذا عمل على ظهرها ؟ أكان صادقًا أم كذّابًا ؟ أكان مخلصًا أم خائنًا ؟ أكان مستقيمًا أم منحرفًا ؟ أباعَ إخوته من بني البشر بالصّدق أم غشّهم؟ ماذا فعل ؟ اعتدى على أموال الناس وأعراضهم ؟ كيف أنفق عمره الثمين ؟ وكيف أمضى شبابه ؟ ومن أين اكتسب ماله ؟ وفيما أنفق هذا المال ؟ وماذا عمل بعلمه ؟ هذه كلّها أسئلة ؛ كيف أمضى وقت فراغه واستمتع بصحّته وأمنه ؟ وماذا عمل بسمعه وبصره ؟ هل رأى ببصره آيات الله الدالة على عظمته تعالى أم رأى عورات المسلمين ؟ هل استمع إلى الغناء أم إلى القرآن ؟ ما أخبارها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " فإنّ أخبارها أن تشْهد على كلّ عبدٍ أو أمةٍ بما عمِلَ على ظهرها ". قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾
حتى إنّ الجلد يشهد على صاحبه ، قال تعالى :
﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
أيّ شيءٍ يشهد عليك ؟ الأرض التي وطِئْتها ، والشجرة التي جلست في ظلّها ، والجبل الذي أويْتَ إليه ، والجلد الذي تحملهُ يشهد عليك ، والأرض أيضًا تشهد عليك .
قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾
بمعنى أوحى إليها ، أي أمرها أن تحدِّثَ بما فعلت على ظهرها .
مراقبة الله الشديدة لكلّ إنسان :
أيها الأخوة المؤمنون ، نحن تحت مراقبة شديدة من قِبل الله عز وجل ، لقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
قال تعالى:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
قال تعالى:
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
قال تعالى:
﴿ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
تساقط الأقنعة المزيفة يوم القيامة :
ثم قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾
متفرّقين ، هذا كان يعتزّ في الدنيا بأُسرته ، وهذا بعشيرته ، وذاك بِمَن حوله ، والآخر بقوّته ، وفلان بماله ، هذه الأقنعة المزيّفة التي كانتْ تُعمي بصر الإنسان في الدنيا تتساقط كلّها يوم القيامة ، قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾
الناس يأتون ربّهم فرادى ، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾
ليس هناك تجمّعات ، ولا من يعين أحدًا ، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾
هذا هو المعنى الأوّل .
انطلاق الناس يوم القيامة للحساب زمراً زمراً :
والمعنى الثاني أنّ الناس ينطلقون من قبورهم إلى يوم الحساب ويوم النشور جماعات جماعات بِحَسب أعمالهم ، فالزناة زمرة ، وآكلو الربا زمرة ، وشاربو الخمر زمرة ، والمؤمنون زمرة ، قال تعالى:
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾
وقال تعالى:
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾
لِيُرَوا أعمالهم ، قال بعض العلماء : لِيُرَوا أعمالهم عيْنها ، وكأنّك أمام شريط مسجّل فيه صورة وصوت وبالألوان ، هكذا فعلت ، وهكذا غششْت ، وهكذا احْتلْت ، وهكذا كذبت واعتديْت ، وهكذا تجاوَزْت وقصّرت ، يوم كذا كنت في هذا المكان ، وقد نهيْتُكَ عنه ، ويوم كذا كنت في هذا المكان وقد أمرتك ألا تكون هناك ، وبعضهم قال : لِيَرى الناس نتائج أعمالهم ؛ إما إلى جنّة يدوم نعيمها ، أو إلى نارٍ لا ينفذ عذابها ، إما إلى جنّة عرضها السموات والأرض ، أعددْتُ لعبادي الصالحين ما لا عينُ رأت ، ولا أذنُ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، أو إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
هذا الذي يقول : أنا لا دخْل لي ، زوجتي هكذا تريد ، هكذا ليْسَت مقبولةً منك كزوج ، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
الترغيب في قليل الخير وكثيره والتحذير من قليل الشرّ وكثيره :
قال تعالى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾
قال العلماء : الذرّة التي لا زِنَة لها ، لو أنّك فتحْتَ النافذة في أحد أيّام الشتاء ، ورأيْت في ضوء الشمس بعض الذرات العالية في جوّ الغرفة ، هذه الذرّة لماذا بقيَت في جوّ الغرفة ؟ لأنّه لا وزن لها ، لو كان لها وزنٌ لسقَطَتْ بفِعل الجاذبيّة ، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
ربّنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾
وفي آية أخرى:
﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾
لو أكلْتَ تمرةً وأخذْت نواتها ، وتحسَّسْت بلسانك على رأسها ، تحسّ به نتوءاً حادّة، هذا النتوء الحاد كالإبرة هو النقير ، فإذا رأيْتَ في شقّها خيطًا صغيرًا ؛ هذا هو الفتيل، قال تعالى:
﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾
قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾
قال بعض العلماء : من وضع يده على الأرض ، ورفعها فلينْظر ماذا علقها ؟ فيقول : ما علق بها شيء ، إنّه قد علِقَتْ بها بعض الذرات ، أي لو أنقذت نملة وأنت تتوضّأ هذا عمل عظيم ، وأنقذتَ نفسًا ، ولو أنّك تحاشيْت أن تدوس على زهرة في الربيع ، زهرة صغيرة تسبّح الله عز وجل ، لو أنّك تحاشيْت أن تدوس عليها ، هذا عمل ، ولو أنّك نظرت إلى أخيك بابتسامة ، وتزحزحْت لأخيك إذا دخل المجلس ، ولو أنّك سقيتَ إنسانًا كأس ماء ، ولو أنّك أصغيت الإناء للهرّة ، لو أنّك أطعمت الطير ، ولو أنّك أنقذت حيواناً ، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
تبسّمك في وجه أخيك صدقة ، أن تميط عنه الأذى هو لك صدقة ، قطعة زجاج تخاف أن يدوس عليها إنسان كائنًا من كان ، فتجرحهُ ، فنحَّيْتها عن الطريق ، هذا عمل ، فما قولك بالعمل العظيم ؟ أن تنقذ إنسانًا من الضلال إلى الهدى ؟ قال عليه الصلاة والسلام :
((فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى الله بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ))
وخيرٌ لك مما طلعَتْ عليه الشمس ، فالعلماء قالوا : هذه الآية تفيد الترغيب في قليل الخير وكثيره ، والتحذير من قليل الشرّ وكثيره ، لو رأيتَ إلى جانبك قشّة لا يزيد طولها عن سنتمتر على أرض المسجد ، ومسكتها ووضعتها في جيبك حُرمةً لهذا المسجد ، هذا عملٌ تُثاب عليه ، وما أكرم شابّ شيخًا لسنّه إلا سخّر الله له من يكرمه عند سنِّه ، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
فذاك الأعرابي قال : قد كُفيتَ ، فقال عليه الصلاة والسلام : " فقُهَ الرّجل " ولكن يرَ أي يراه ؛ جاءتْ مجزومة ، متى ؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام : " في الحال والمآل " اطْمئنّ فإنّك تراه في الدنيا والآخرة ، قال تعالى:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
في الدنيا قبل الآخرة ، وما أكرم شابّ شيخًا لسنّه إلا سخّر الله له من يكرمه عند سنِّه ، فقوله تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
هذا في الدنيا والآخرة ، متفرِّقَتين أو مجتمعتين .
يا أيها الأخوة الأكارم ، لو وضعْتم أمام أعيُنكم هذه السورة في بيعكم وشرائكم ، في زواجكم ، وحركاتكم ، وسكناتكم ، في نزهاتكم ، وفي لقاءاتكم ، وفي أيّ علاقةٍ مع الناس، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
والله الذي لا إله إلا هو لو لمْ يكن في كتاب الله كلّه إلا هذه الآية لكفَتْ الناس جميعًا ، لو أنّه حيل بينك وبين أن تسمع إلى مجلس علم ، تكفيك هذه الآية ، قال تعالى:
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الزلازل :
أيها الأخوة المؤمنون ، مادام الحديث في الخطبة الأولى عن زلزال الأرض الذي حدّثنا الله عنه ، فماذا عن الزلازل والتي نراها من حين إلى آخر أو نستمع إلى أخبارها ؟
إنّ هذه الزلازل من وظائفها أنّها تعطينا معنى الزلزلة الكبرى التي وعد الله بها، يقول العلماء : إنّ الأرض أكثر الكواكب في المجموعة الشمسيّة كثافةً ، فكثافة الأرض تزيد عن كثافة الماء بخمسة أضعاف ، وإنّه يحدث في العام الواحد ما يزيد عن عشرين زلزلة على سطح الأرض ، وفي قيعان البحار ، أما الزلزلات الدقيقة التي لا تؤذي فهي تزيد عن مليون زلزلة في العام ، بمعدّل في كلّ دقيقة زلزلة ؛ اهتزاز طفيف ، ويفسّر العلماء الزلزلة بأنّها حركةٌ في باطن الأرض بحيث ينشأ عنها ضغطٌ هائل ، لا تحتملهُ قشرة الأرض ، عندئذٍ تتصدّع هذه القشرة ، تصدّع قشرة الأرض هو الزلزال الذي نستمع إلى أخباره من حينٍ إلى آخر ، وهذه القشرة يزيد سُمكها عن تسعين كيلو متر ، ومع ذلك تتصدّع ، من صخور البازلت وهي أقسى أنواع الصخور ، ويزيد عمق هذه الطبقة عن تسعين كيلو متر ، ومع ذلك تأتيها ضغوط من باطن الأرض لا تحتملها ، فتتصدّع ، وهذا طرَفٌ من معنى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾
هناك بالفضاء ثقوب سوداء ، لو دخلتها الأرض لأصبحت تماماً كالبيضة ، وزن الأرض مجموع في حجمٍ لا يزيد عن بيضة دجاج ، هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾
ويقول بعض العلماء : إنّ هناك زلازل سجَّلتْها بعض التواريخ ، ففي عام ألف وخمسمئة وستّة وخمسين حدَث زلزال بالصّين أودى بحياة ثمانمئة وثلاثين ألف إنسان في ثوانٍ ، وفي ألف وسبعمئة وثلاثين حدث زلزال بالهند أودى بحياة مئة وثمانين ألفاً ، وفي عام ثلاثة وعشرين بعد التسعمئة حدث زلزال باليابان أودى بحياة مئة ألف ، وفي سنة ألف وتسعمئة وستّ وسبعين حدث زلزال بالصّين أودى بحياة مئة ألف ، وحدث زلزال بإيطاليا أودى بحياة خمس وثلاثين ألفًا ، ثواني معدودة فقط ، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾
هناك قُطر عربي حدث فيه فيضان أودى بحياة مليون ، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾
فلْنَعُد إليه قبل أن يُلجئنا إليه قسْرًا .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أن تستيقظ صباحًا وترى الأرض مستقرّة ؛ هذه نعمةٌ كبرى لا تعرفها إلا إذا شهدْت زلزالاً ، الله يلفتُ نظرَنا ويقول:
﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً ﴾
لولا أنّها مستقرّة لمْ يبق بناءٌ على وجه الأرض ، ولانهارتْ الأبنية ، وتصدّعت الجسور ، ولتعطَّلتْ الطّرق ، أن تنعُم ببيتٍ تسكنه منذ عشرين عاماً في الطابق السابع أو الثامن، لولا استقرار الأرض لما نعُمْتَ بهذا البيت ، قال تعالى:
﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً ﴾
وهي تسير بسُرعة ثلاثين كيلو متر في الثانية ، الأرض تنطلق ، قال تعالى:
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾
مع هذه السرعة البالغة الأرض مستقرّة ، ما الذي يعرّفنا باستقرارها ؟ تلك الزلازل ، هي شواهد وأدلّة وأداة تعريف ووسائل إيضاح .
أيها الأخوة المؤمنون ، يقول الله تعالى:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾
من لوازمها التصدّع ، وهو أداة لِتَخويف الناس من معصية الله عز وجل .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .