- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
من أعمل عقله استحق عطاء الله تعالى :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى عبد الله بن أحمد عن سيّدنا الحسن مرسلاً والطبراني عن أبي أُمامة وأبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :
(( لمّا خلق الله العقل قال له : أقْبِل فأقْبَلَ ، ثمّ قال له : أدْبِر فَأَدْبَرَ ، قال: وعِزَّتي وجلالي ما خلقْتُ خلْقًا أحبَّ إليّ منك ، بك أُعطي ، وبك آخُذ ))
أي إذا أعْمَلَ الإنسان عقلهُ اسْتحقّ عطاء الله عز وجل ، وإذا لمْ يُعملهُ أهلك نفسهُ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام : " من لا عقل له لا دين له ، ومن لا دين له لا عقل له، وتبارك الذي قسمَ العقل بين عباده أشتاتًا ، إنّ الرّجلين ليسْتوي عملهما ، وبِرُّهما ، وصَوْمهما، وصلاتهما ، ويختلفان في العقل كالذرَّة جنْبَ أُحد ، وما قسم الله لِعِباده نصيبًا أوْفرَ من العقل واليقين " لذلك آيات القرآن الكريم طافحةٌ بقوله تعالى : أفلا يعقلون ؟ أفلا ينظرون ؟ أفلا يتفكّرون ؟ أفلا يسمعون ؟ أفلا يبصرون ؟ لمّا خلق الله العقل قال له : أقْبِل فأقْبَلَ ، ثمّ قال له : أدْبِر فَأَدْبَرَ ، قال : وعِزَّتي وجلالي ما خلقْتُ خلْقًا أحبَّ إليّ منك ، بك أُعطي ، وبك آخُذ .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قليلٌ من التفكير الصحيح ، قليل من إعمال العقل ، قليل من التبصُّر ، قليل من التدبّر ، إذا فكَّرْت ، وإذا تدبَّرْت ، وإذا تأمَّلْت ، وإذا أبصرْت ، رأيْت أنَّ السعادة كلَّ السعادة في معرفة الله تعالى ، وأنّ الشَّقاء كلّ الشّقاء في البُعْد عنه تعالى ، قال تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
قال تعالى:
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
قال تعالى:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
من حقّ الأخ على أخيه أن ينصحهُ :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم أنّ من حقّ الأخ على أخيه أن ينصحهُ ، بل من واجب الأخ على أخيه أن ينصَحَ له ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول في بعْضٍ من حديثٍ طويل : " وإذا اسْتنصحَكَ فانْصَحْ له " أي أخوك ، فهذا واجبٌ عليك ، وهو حقّ له ، وكلُّ حقٍّ يقابلهُ واجب ، وكلّ واجبٍ يقابلهُ حقّ ، فعليك أيّها الأخ الكريم أن تنصحَ لأخيك بكلّ إخلاصٍ ، وصِدْقٍ ، كيف لا وقد توسَّم فيك رجاحة العقل والإخلاص في القول والعمل ؟ لهذا قال بعضهم : من استشارَ الرّجال فقد استعار عُقولهم ، إنَّك تستطيع أن تستعير أكبرَ عقلٍ بِسُؤال ، وبِنَصيحةٍ ، وبِطَلبٍ ، وباستفهام ، بل إنّ من تمام الرُّجولة أن تستشير الرّجال ، ولا تكتملُ رُجولتك إلا إذا اسْتشرْتَ الرِّجال ، يقول الإمام عليّ كرَّم الله وجهه : " الرجال ثلاثة ؛ رجلٌ رجل ، ورجلٌ نصف رجل ، ورجل لا رجل ، فأما الرّجل فهو الذي له رأيٌ ، ويستشير - له رأيٌ صائب ، له رأيٌ ثاقب ، له رأيٌ حكيم ، له خِبرةٌ واسعة ، ومع ذلك يستشير، فهذا في رأي الإمام عليّ كرّم الله وجه رجلٌ رجل ، أي اسْتكمَلَ صِفات الرّجولة - ورجلٌ نصف رجل هو الذي له رأيٌ ، ولا يستشير - له رأيٌ صائب ، وحكمة بالغة ، ولكن يستغني بِرَأيِهِ ، وبِحِكمته عن عقول الرّجال - وأما الرّجل الذي لا رجل فهو الذي لا رأيَ له ، ولا يستشير" من هنا قال عليه الصلاة والسلام : " مَن غشّ أُمّتي فليس منِّي " وفي حديث آخر : " ومن غشّنا فليس منّا " وفي حديث ثالث : " من غشّ - مطلقًا - فليس منّا " لو غششْتَ عابِدَ صنَمٍ ، لو غششْتَ إنسانًا ملحدًا ، فلسْتَ مِن أُمّة سيّدنا محمّد عليه أتمّ الصلاة والتسليم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوعات الاستشارة ، موضوعات الاستنصاح ليْسَت فيما قطَع به الشَّرْع ، الشَّرْع قطَعَ في بعض الأمور بأنّها حرام فهذه لا يُستنصح بها ، لا يُستشار بها ، موضوعات الاستشارة يجبُ أن تكون في المباحات ، في الزواج مثلاً ، وفي السّفر مثلاً ، وفي استثمار المال مثلاً ، والله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم وصف أنبياءه الكرام بأنّهم ناصحون لقومهم ، فقال تعالى على لسان سيّدنا نوح:
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
وعلى لسان هود قال تعالى:
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾
تعريف النّصيحة و حكمها :
والنصيحة في تعريفها الدقيق هي حِيازَة الخير للمَنْصوح له ، وأما حُكم النصيحة فهِيَ فرضُ كِفاية إذا قام به البعض سقَطَ عن الكلّ ، وهي لازمةٌ على قَدْر الحاجة ، أي تعرفُ أنّ فلانًا ليس مستقيمًا فلا ينبغي أن تُشيع عنه هذا الخبر ما لمْ تُسْأل ، وما لمْ يسألْك سائل سوف يتعامل معه ، لا ينبغي أن تقول رأيكَ في إنسانٍ سيئ لِمَن هبّ ودبّ ، ولِمَن سأل ولِمَن لم يسأل ، بِحاجةٍ أو بغير حاجة ، يجبُ أن تكون النصيحة على قدْر الحاجة ، ويجبُ أن تكون النصيحة حينما تعلم أنّه يُقبلُ منك نُصحك ، ويُطاعُ أمرك ، وتأْمَنُ على نفسك المكروه ، في هذه الظروف الثلاثة لك أن تنصَحَ ، بل واجبٌ عليك أن تنصَحَ ، بل إنّك إن لمْ تنصَح فقد تركْتَ فرضًا افترضَهُ الله عليك ، ولكنّ الإنسان إذا خَشِيَ الأذى عند إسداء نصيحة فقال العلماء: فلا عليه فهو في سعةٍ مِن أمره ، أي له أن ينْصَحَ ويُغامر ، وله ألا ينصَح إذا خاف الأذى المحقّق .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أصلُ النّصيحة حديثٌ شريف رواه أبو رقيّة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم حيث قال :
((الدِّين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامّتهم ))
تعريفٌ جامعٌ مانعٌ للدِّين ، فالنصيحة لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمّة المسلمين، ولعامّتهم .
النّصيحة لله :
ماذا تعني النصيحة لله ؟ قال العلماء في تفسير هذا الحديث : هذه النصيحة لله تُصْرف إلى دعوة الناس إلى الإيمان بالله ، ونفي الشّرك عنه ، وترْك الإلحاد في أسمائه وصفاته، ووصْفِهِ بكلّ صفات الكمال ، وتنزيهه عن كلّ صفات النّقْص ، ودَعوة الناس إلى طاعته واجتناب معصيته ، والحبّ والبغض فيه ، وموالاة من أطاعه ، ومعاداة من عصاهُ ، والاعتراف بِنِعَمِهِ ، وشكره عليها ، لكنّ بعض العلماء يقول : إنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن أن تنصحَ له ، قد يُطلبُ إليك أن تنصحَ الناس بشِراء حاجاتهم من هذا المحلّ التّجاري ، فهذا المحلّ مفتقرٌ إلى نصيحتك إذا نصَحْت الناس أقبلوا على هذا المحلّ ، الله سبحانه وتعالى غنيّ عن أن تنصَحَ له ، إنّك إن نصحْت له فإنّما تنصَحُ الإنسان لِمَصلحته ، ولِسَعادته في الدنيا والآخرة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ النصيحة لله تعني أنّ الخير سيعود للعبد المنصوح ، فالله سبحانه وتعالى غنيّ عن أن يفتقر إلى نصيحة عباده له :" لو أنّ أوّلكم وآخركم ، وإنسكم وجنّكم ، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد في ملكي شيئًا ، ولو أنّ أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم كانوا على أفْجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئًا ، ولو أنّ أوّلكم وآخركم ، وإنسكم وجنّكم وقفوا على صعيدٍ واحد ، وسألني كلّ واحد منكم مسألته ما نقص ذلك في ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في مياه البحر ، ذلك لأنّ عطائي كلام ، وأخذي كلام ، فمَن وجد خيرًا فليحْمَد الله تعالى ، ومن وجدَ غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ".
النّصح لكتاب الله تعالى :
هذا أيّها الأخوة عن النُّصْح في الله تعالى ، فماذا عن النُّصْح لكتاب الله تعالى ؟ قال بعض العلماء : أنْ تدْعُوَ الناس إلى أن يؤمنوا بأنّ هذا القرآن هو كتاب الله تعالى ، منزَّل من عنده ، لا يشبهه شيءٌ من كلام البشر ، ولا يقدرُ أحدٌ على أن يقلّدهُ ، ثمّ عليك أن تأمر الناس بِتَعظيم هذا الكتاب عن طريق تَبيان وُجوه إعجازه ، إعجازه البياني ، إعجازه التشريعي ، إعجازه العلمي ، إعجازه اللّغوي ، عليك أن تأمرهم أيْ يتلونه حقّ تلاوته ، وحقّ التِّلاوة أن يُحسِنَ الإنسان النُّطْق به ، أن يتعلَّم أحكام التجويد ، وأن يحسِنَ فهْمَه ، قال تعالى:
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
وأن يُحسِنَ العمل به ، والله ما آمَنَ بالقرآن من اسْتحلّ محارمه ، وأن يحْسِنَ تعليمه للناس ، وأن يُحسن النّطق به ، وأن يُحسن فهمه ، وأن يُحسن العمل به ، وأن يُحسن تعليمه .
ومن النُّصْح لكتاب الله تعالى أن تدْعُوَ الناس إلى سن الاستماع لكلام الله تعالى، والخُشوع عند تلاوته ، وأن تردّ تأويل المنحرفين ، وأن تصدّق بأخباره ، وأن تقف مع أحكامه ، وأن تفهم عُلومه وأمثاله ، وأن تعتنِيَ بِمَواعِظِه ، وأن تفكّر بِعَجائِبِه ، وأن تعْمَلَ بِمُحكمِهِ ، وأن تسلّم لِمُتشابِهِهِ ، وأن تجعلهُ منهجًا لك في حياتك ، فإذا نصَحْت لكتاب الله تعالى فانْصَح الناس أن يجعلوه دُستورًا لحياتهم ، أن يأتمروا بأمره ، وأن ينتهوا عمّا نهى عنه ، وأن يتَّعِظوا بأخباره ، وأن يطْمحوا لِوَعدِهِ ، وأن يخافوا من وعيده ، وأن يتَّعِظوا بأمثاله ، وأن يتّعِظوا بِقِصَصِهِ ، هكذا أيّها الأخوة المؤمنون إذا بيَّنْت للناس ما في هذا الكتاب من عظيم أحكامٍ ، ومن عظيم عِبرةٍ ، ومن عظيم موعظةٍ ، فقد نصَحْت لكتاب الله تعالى :
((الدِّين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامّتهم ))
النّصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم :
وأما النصيحة لِرَسوله فأنْ تدْعُوَ إلى الإيمان به ، والإيمان برِسالته ، وأن تدْعُوَ الناس إلى طاعته فيما أمر ، وفيما نهى عنه ، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
وأن تنصرهُ حيًّا أو ميِّتًا ، تنصرهُ حيًّا بأن تُدافع معه ، وأن تنصرهُ ميِّتًا بأن تنصرَ سنّته ، وأن تعادي من عاداه ، وأن توالي من والاه ، وأن تعظِّمَ حقّه ، وأن توقِّرهُ ، وأن تُحْيِيَ طريقته ، وتبثّ دعوتهُ ، وتنشرَ سنّتهُ ، وأن تستفيد من علومه صلى الله عليه وسلّم ، وأن تتفقّه في معاني سنّته ، وأن تدعو إليها ، وأن تتأدّب في أثناء قراءتها ، وأن تمسك عن الكلام فيها بغير علم ، هذا من النُّصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ومن النُّصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تُجِلَّ أهل السنّة الذين حملوا أحاديثه ، ونقَّحوها ، وفصَّلوها ، وبوَّبوها ، وأن تتخلَّق بأخلاقه صلى الله عليه وسلّم ، وأن تتأدَّب بآدابه ، وأن تحبّ آلهُ وأصحابه ، إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا ، يجب أن تمسِكَ إذا ذُكِرَ أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وأن تبغض أهل البِدَع ، وألا تتعرَّض لأحدٍ من أصحابه بِسُوء .
النّصح لأئمة المسلمين :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا بعضٌ من النُّصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلّم .
فماذا يعني النُّصْح لأئمّة المسلمين ؟ قال بعض العلماء : أن تعاونهم على إحقاق الحقّ ، وأن تأمرهم بالحقّ ، وأن تذكِّرهم ، وتنبّههم بِلُطفٍ ورِفْق ، وأن تعلمهم بما غفلوا عنه ، وأن تؤلّف قلوب المسلمين على طاعتهم ، وأن تدعُوَ لهم بالصَّلاح والخير ، لكنّ بعض العلماء وجَّه هذه النصيحة لأئمّة المسلمين بِمَعنى علمائهم ، ومعنى أن تنصحَ لأئمّة المسلمين أيْ أن تحْسِنَ الظنّ بعُلمائهم ، وأن تقبلَ ما رووه ، وأن تقلّدهم في سُلوكهم ، فمن قلّد عالمًا لقي الله سالمًا .
النّصيحة للعامة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ فماذا تعني النصيحة للعامّة ؟ أي عامّة المسلمين ، وهنا المُعَوَّل ، قد لا يُتاحُ لك أن تنصحَ أئمّة المسلمين ، لكنّه متاحٌ لك دائمًا أن تنصحَ عامّة المسلمين ، إنّ نُصْحهم يعني أن ترشدهم إلى مصالحهم في دُنياهم وأخراهم ، وأن تُعينهم على تحقيق مصالحهم بالقول والعمل ، وأن تستر عوراتهم ، وأن تدفع المضارّ عنهم ، وأن تجلب لهم المنافع ، وأن تأمرهم بالمعروف ، وأن تنهاهم عن المنكر بِرِفْقٍ كما وصّى النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن تحبّ لهم ما تحبّ لنفسك ، وأن تدافع عن أنفسهم ، وعن أموالهم ، وعن أعراضهم بالقول والعمل ، وكان من السّلف الصالح من تبلُغ به النصيحة الإضرار بدُنياه ، فعن جرير بن عبد الله قال :
(( بايعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنُّصْح لكلّ مسلم ))
فكان إذا باع واشترى يقول للشاري : أما إنّ ما أخذناه منك أحبّ إلينا ممّا أعْطيْناك فاخْتَر ، هذا المال الذي نأخذه منك ثمنًا لهذه الحاجة هو أحبّ إلينا من هذه الحاجة فاختر لنفسك ، كان بعض السّلف الصالح من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يؤثرون النصيحة ولو على حساب دُنياهم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ وقد ذمَّ النبي عليه الصلاة والسلام الاستبداد بالرّأي فقد جاء في الأثر أنّه من اسْتبدَّ بِرَأْيِهِ هلَكَ ، وقد رُويَ عنه صلى الله الصلاة والسلام :
(( رأسُ العقل بعد الإيمان بالله تعالى التودُّد إلى الناس ))
وما استغنى مسْتبدّ بِرَأيِهِ ، وما هلكَ أحدٌ عن مشورة، وإذا أراد الله بِعَبْدٍ هلكة ، كان أوَّلُ ما يهلكهُ رأيُه ، كأنّ النبي عليه الصلاة والسلام يدعونا إلى أن نستشير ، وقد أُمر هو صلى الله عليه وسلّم بالمشورة ، فقال تعالى:
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
لذلك على المسلم أن يستشير في كلّ أمرٍ مباحٍ إخوانه المؤمنين الصادقين الذين يتوسَّم فيهم الخبرة ، والنُّصْح ، والإخلاص ، والصِّدق .
* * *
نزاهة القاضي شريح :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شُريحٌ القاضي كان قاضيًا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان مثلاً أعلى في النزاهة ، إليكم نموذجًا من نُصحه ، ابنه قال له يومًا : يا أبت ، إنّ بيني وبين قومٍ خُصومةً ، فانظر فيها ، فإن كان الحقّ لي قاضيْتهم ، وإن كان لهم صالحتهم ، ابنٌ استشار أباه القاضي ، ثمّ قصّ عليه قصّته ، فقال شُرَيح : انْطلق ، وقاضهم عندي أي الحقّ لك ، فمضى إلى خُصومه ، ودعاهم إلى المقاضاة فاستجابوا له ، ولما مثلوا بين يدي شُرَيح ، قضى لهم على ولده خلاف ما قال لابنه ، فلمّا رجع شُريحٌ إلى البيت ، قال الولد لأبيه : فضَحْتني يا أبت ! والله لو لم أسْتَشِرْك من قبْلُ لما لُمْتُكَ ، فقال شُرَيح : يا بنيّ ، والله لأنت أحبّ إليّ من ملء الأرض من أمثالهم ، ولكنّ الله أعزّ عليّ منك ، لقد خشيتُ أن أُخبرك بأنّ الحقّ لهم فتُصالحهم صلحًا يفوّت عليهم بعض حقّهم ، فقلتُ لك ما قلتُ ! هكذا كان السّلف الصالح في ورعهم ، وفي إسداء النصيحة لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمّة المسلمين ، وعامّتهم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ينبغي أن نستنبط من هذه الخطبة أنّ المؤمن قويّ بأخيه، ومن معاني قوّته بأخيه أن يستشيرهُ في المباحات ، فقد يكون عند أخيك رأيٌ غابَ عنك ، أو غفلْت عنه ، أُعيدُ على أسماعكم قول سيّدنا عليّ رضي الله عنه : " الرجال ثلاثة ؛ رجلٌ رجل ، وهو الذي له رأيٌ ويستشير ، ورجلٌ نصف رجل ، وهو الذي له رأيٌ ولا يستشير ، ورجل لا رجل وهو الذي لا رأي له ولا يستشير ".
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الآيات الكونية :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ يلفتُ النَّظر هو أنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما فسَّر معظم آيات الأحكام من خلال أحاديثه الشريفة التي بيّنَتْ توضيحًا ، وبسْطًا ، وشرحًا ، وتفصيلاً ، لما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى لآيات الأحكام ، لمْ نجِدْ في السنّة المطهّرة حديثًا واحدًا يفسّر الآيات الكونيّة ، وهذا شيءٌ يلفتُ النَّظَر ، القرآن الكريم طافحٌ بالآيات الكونيّة ، إشارات إلى المجرّات ، وإشارات إلى الأرض والسموات ، إشارات إلى البحار ، إلى الأمطار ، إلى الينابيع ، إلى الثّمار ، إلى الأشجار ، إلى الأطيار ، إلى الأسماك ، إلى المعادن، هذه الإشارات الدقيقة التي وردَت في كتاب الله ، النبي عليه الصلاة والسلام لمْ يتحدّث أيَّ حديثٍ واحد عن هذه الآيات الكونيّة ، وربّما كان عدم حديثه عنها نوعٌ من حكمته البالغة أو إن شئْتم فقولوا من توجيه الله له ، فلو أنّ النبي عليه الصلاة والسلام فسَّر هذه الآيات الكونيّة على ما هي عليه لأنكر أهل عصره هذا التفسير ، ما كان من أحدٍ يصدّق أنّ الأرض تدور حول نفسها ، أو أنّ الأرض كرة ، فلو أنّ هذه الإشارات إلى كرويّتها الدقيقة فُصِّلَت وبُيِّنَت لسارعَ من حولهُ من قومه إلى تكذيبه ، ولو أنّه فسَّرها تفسيرًا يتّفق مع عقليّتهم التي كانوا عليهم لكان نقصًا في الوصف ، ولكنّ حكمة النبي عليه الصلاة والسلام ، أو توجيهَ ربّنا له التوجيه السديد جعلهُ يمتنعُ عن تفسير هذه الآيات ، وأما القرآن الكريم ففيه آياتٌ كثيرة تُشير إلى أحدث ما اكتشفه العلماء ، فربّنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾
مرَّ السحاب بِسُرعتها ، ومرَّ السحاب بِصَمتها وهدوئها ، هذه الجبال التي هي جزءٌ من الأرض تمرُّ مرَّ السّحاب ؛ أي تدور ، قال تعالى:
﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾
في هذه الآية نقطتان ؛ الأولى أنّ هذه الآية الكونيّة وهي دورة الأرض حول نفسها، وبالتالي دورة الجبال وسيْرُها سيرًا سريعًا كسيْر السّحاب في سرعته ، وفي هُدوئِهِ ، هذه الآية وردَت بعد آيات الآخرة ، فمن قرأ هذه الآية وهو يستنكرُ أن تدور الأرض ظنّ أنّها ظاهرةٌ من ظواهر يوم القيامة ، ومن جاء في آخر الزمان ، وقد رأى الناس بأعْيُنهم كيف أنّ الأرض كرة ، وصوَّروها من خلال مركبات الفضاء ، وتأكَّد لهم أنّها تدور ، فهذه الآية صريحةٌ أشدّ الصراحة في ذِكْر هذه الحقيقة العلميّة ، قال تعالى:
﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾
أليس في امتناع النبي عليه الصلاة والسلام عن شرْح الآيات الكونيّة إعجازٌ لحِكمته ؟ أليس في الامتناع عن تفسير هذه الآيات حكمةٌ بالغة ما بعدها حكمة ؟ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾
أيُّ شيءٍ توصَّلوا له إنَّما هو مُشارٌ إليه في كتاب الله سبحانه وتعالى إشارة قد يظنّها الإنسان في العصور السابقة تعني شيئًا ، وقد يفهمها الناس في العصور اللاحقة على أنّها تعني شيئًا آخر ، وفي قول الإمام عليّ كرّم الله وجهه إجابةٌ شافية لهذا السؤال : " في القرآن آياتٌ لمَّا تفسَّر بعدُ " فكلّما تقدّم العِلم رأينا في كتاب الله سبحانه وتعالى ما يغطِّي هذا ، وما يُشير إليه ، من دون أن تكون هذه الإشارة مبذولةً لكلّ الناس لعلِمَه الذين يستنبطونه منه .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إنِّي داعٍ فأمِّنُوا :
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .