- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المعاني التي تقفز إلى ذهن الإنسان بعد انقضاء رمضان :
أيها الأخوة الأكارم ؛ بعد انقضاء شهر رمضان ، تقفز أمام الإنسان مجموعةٌ من المعاني ، المعنى الأول : هو أن رمضان انقضى ، فمن صامه ، ومن قامه ، سعد بهذه العبادة وانقضت المتاعب ، ومَن لم يصمه ، ومَنْ لم يقمه ، انتهت هذه الراحة المزعومة وبقيت التَبِعات ، وهكذا الدنيا ؛ " إن هذه الدنيا دار التواءٍ لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عُقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي " .
المعنى الأول : أن الطاعة تنقضي أعباؤها وتبقى خيراتها ، وأن المعصية تنقضي لذائذها وتبقى تبعاتها ، فللصائم فرحتان ، فرحةٌ يوم يفطر ، وفرحةٌ يوم يلقى الله عز وجل ، هنيئاً لمن صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً . والنبي عليه الصلاة والسلام حينما صعد المنبر فقال : آمين . فسأله أصحابه : يا رسول الله علامَ أمَّنت ؟ قال :
(( جاءني جبريل فقال لي : رغم أنف عبدٍ أدرك رمضان فلم يغفر له إن لم يغفر له فمتى ؟ ))
هذا هو المعنى الأول ، المعنى الثاني أيها الأخوة : أن العاجز مَنْ عجز عن تحقيق أهدافه ، والأعجز مِنه مَنْ حقق هذه الأهداف ثم تفلَّتت من يديه . فإذا حققت أيها الأخ الكريم في رمضان إنجازاً روحياً ، فأنت قد حققت شيئاً ثميناً ، لكنك بعد أن ذُقت هذا الإنجاز الروحي ، إذا تفلَّت من يديك ، وعدت بعد رمضان كما كنت قبل رمضان ، فأنت أعجز من العاجز .
بطولة الإنسان الانتصار على نفسه أثناء رمضان و بعده :
يا أيها الأخوة الكرام ؛ لقد كان شهر الصيام من أجل انتصار الإنسان على نفسه، يقودها نحو سعادتها الأبدية ، فلقد رُكِّبَ المَلَك من عقلٍ بلا شهوة ، ورُكَّبَ الحيوان من شهوةٍ بلا عقل ، ورُكِّبَ الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ليست البطولة أن ننتصر على النفس في رمضان ، ثم ننخذل أمامها بقية العام ، ولكن البطولة أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران وتقلّبات الزمان والمكان ، ليست البطولة أن نضبط ألسنتنا في رمضان ، فننزِّهها عن الغيبة والنميمة وقول الزور ، ثم نُطْلِقها بعد رمضان إلى حيث الكذب والبُهتان ، ولكن البطولة أن تستقيم منا الألسنة ، وأن تصلح منا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان ، ليست البطولة أن نَغُضَّ أبصارنا عن محارم الله ، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان ، ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان ، إنا إذاً كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً ، ولكن البطولة أن تصوم جوارحنا عن كل معصيةٍ في رمضان ، وبعد رمضان ، فلا تفطر حتى تلقى الواحد الديان .
هذا الإنجاز الذي حققته في رمضان كل بطولتك أن تحافظ عليه ، أن تحافظ على صلاة الفجر في المَسجد ، أن تحافظ على غَضِّ البصر ، أن تحافظ على ضَبْطِ اللسان ، أن تحافظ على تحرير الدَخْل ، أن تحافظ على صلواتك ، وعلى عباداتك ، وعلى أذكارك ، وعلى أورادك ، وعلى أعمالك الطيّبة ، وعلى تلاوتك ، وعلى إنفاقك . ليست البطولة أيها الأخوة أن نتحرى الحلال في رمضان خوفاً من أن يرد علينا صيامنا ، ثم نتهاون في تحرّيه بعد رمضان ، على أنه عادةٌ من عوائدنا ، ونمطٌ شائعٌ من سلوكنا ، ولكن البطولة أن يكون الورع مبدءًا ثابتاً وسلوكاً مستمراً . . ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مُخَلِّط .
ليست البطولة أن نبتعد عن مجالس اللهو في رمضان ، إكراماً لشهر رمضان ، ثم نعود إليها وكأن الله ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام . ليست البطولة أن نُراقب الله في أداء واجباتنا وأعمالنا ، ما دمنا صائمين ، فإذا ودَّعنا شهر الصيام آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا .
أيها الأخوة الأكارم ؛ اسمحوا لي أن أقول لكم هذه الكلمة ، وربما بدت قاسيةً للبعض : مثل هذا الإنسان الذي لم يَفْقَه حقيقة الصيام ، ولا جوهر الإسلام ، إنه كالناقَة عقلها أهلها ثم أطلقوها ، فلا تدري لا لِمَ عقلت ولا لِمَ أطلقت ؟ لا لِمَ صام ولا لِمَ أفطر ؟
أبواب التوبة مُفَتَّحَةٌ على مصاريعها في كل أشهر العام :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مع أن شهر الصيام شهر التوبة والغفران ، ولكن هذا لا يعني أن التوبة مقصورةٌ عليه ، محصورةٌ فيه ، بل إن أبواب التوبة مُفَتَّحَةٌ على مصاريعها في كل أشهر العام ، لو أن واحداً من المؤمنين فاته إنجازه الروحي في رمضان ، ماذا يفعل ؟ ينتظر إلى رمضان الآخر ؟! لمثل هذا الإنسان نقول : كل أشهر العام رمضان ، يمكن أن تَفْتَحَ مع الله صفحةً جديدة في أوّل شوّال ، يمكن أن تعقِد التوبة عقب الصيام ، يمكن أن تبدأ خطةً روحيةً مكثفة بعد رمضان ، لا تنتظر إلى رمضان الآخر ، أبواب التوبة مُفَتَّحَةٌ على مدار العام، فمَن فاته الخير في رمضان فليبدأ به بعد رمضان ، ربنا جل جلاله يقول :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
إنه جل وعلا يدعو المُسرفين على أنفسهم إلى التوبة ، فكيف بالمُقْتَصدين ؟ كيف لا والله جل وعلا يقول في كتابه العزيز :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾
والتوبة النصوحُ كما قال بعض العلماء : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب .
أيها الأخوة ؛ كيف لا ، وفي الحديث القدسي الذي رواه الإمام أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( يا بْنَ آدَمَ إَّنكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ما كانَ منْكَ وَ لا أُبالي ، يا بْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ، يابْنَ آدَمَ! لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطايَا ثُمَّ أتَيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَة ))
إنه شرطٌ واحد ؛ ألا تشرك به شيئاً . كيف لا أيها الأخوة ، والله أفرح بتوبة عبده التائب من الظمآن الوارد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد . فمن تاب إلى الله توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه ، وجوارحه ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه .
أيها الأخوة الأكارم ؛ جلَ جلاله ، وعزَّ نواله ، يقول في الحديث القدسي :
(( أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنِّطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ))
كيف لا أيها الأخوة ، و . .
(( إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))
سقت لكم هذه الآيات ، وتلك الأحاديث من أجل أن الذي فاتته التوبة في رمضان ، ألا ينتظر إلى رمضان آخر ، بل أن ينصرف إلى ربه ، وأن يقبل عليه بعد شهر الصيام مباشرةً ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
التوبة علمٌ وحالٌ وعمل :
أيها الأخوة الأكارم ؛ التوبة كما يقول العُلماء : علمٌ وحالٌ وعمل . فهي علمٌ لأنها معرفةٌ لضرر الذنوب ، وكيف أن الذنوب حجابٌ بين العبد وبين المحبوب ، وهذا العلم بضرر الذنب ، يولِّد حالةً نفسية هي الشعور بالندم على ما اقترف من الذنوب ، وعلى ما فات من الخَيْرات ، وهذه الحالة النفسية ، حالة الندم تولِّد إرادةً وقصداً إلى فعلٍ له تعلقٌ بالحال ، وبالماضي ، وبالاستقبال ، فالتائب يترك الذنب الذي كان متلبِّساً به في الحال ، إقلاعٌ فوري علامة التوبة ، والتائب يعزم بقلبه على ألا يعود إليه في الاستقبال ، والتائب يسعى لإصلاح ما كان منه في الماضي . ولقد لخص النبي عليه الصلاة والسلام - وقد أوتي جوامع الكَلِم - هذه المراحل الثلاث بحديثٍ مؤلَّفٍ من كلمتين ، فقال فيما رواه الإمام أحمدٌ في مسنده ، عن أنس بن مالك قال عليه الصلاة والسلام :
(( الندم توبة ))
وقد فسَّر المفسرون هذا الحديث فقالوا : " لا يخلو الندم من علمٍ أوجبه ، ومن عملٍ أثمره " . الندم توبة ، الندم محصلة العلم ، والندم من نتائجه العمل ، لذلك قالوا : " لا يخلو الندم من علمٍ أوجبه ، ومن عملٍ أثمره " .
الأمور التي تجعل الصغائر كبائر :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحيائه بيَّن ما تعظم به الصغائر من الذنوب ، هناك ذنوب صغيرة تعظم ، وهناك ذنوبٌ كبيرةٌ تصغر ، ما الذي يجعل الذنب الصغير كبيراً ؟ أولاً : الإصرار والمواظبة ، إذا أصرَّ الإنسان على ذنبه وواظب عليه تنقلب الصغائر إلى كبائر . إذ لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار . ومنها : استصغار الذنب ، فالذنب كلما استعظمه العبد في نفسه صَغُرَ عند الله ، وكلما استصغره العبد في نفسه كَبُرَ عند الله . لذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري :
(( إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه ، والمنافق يرى ذنبه كذبابٍ مر على أنفه فأطاره ))
يمكن أن تعرف أنت مستوى إيمانك من اهتمامك بالذنب ، فإذا رأيت الذنب الصغير كبيراً فهذه حالةٌ طيِّبة ، وإذا رأيت الكبير صغيراً فهذه حالةٌ خطيرة .
ومن الأسباب التي تجعل الصغائر كبائر أن يظهر الذنب ، أن يبوح به ، أن يذكره ، ألا يستحيي منه ، وأن يتهاون بسترِ الله عليه ، وحلمه عنه ، وإمهاله إياه ، وقد قيل : " لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت " .
أبواب الخير مُفَتَّحَةٌ في كل الشهور وليس في رمضان فقط :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ مع أن رمضان شهر العمل الصالح والقُرُبات ، ولكن هذا لا يعني أن فُرَص العمل الصالح قاصرةٌ على هذا الشهر ، بل إن أبواب الخير مُفَتَّحَةٌ في كل الشهور .
أريد أيها الأخوة أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة : ليس في حياة المؤمن اثنينية كما يقولون أو ازدواجية ؛ ساعةٌ لنفسه وساعةٌ لربه ، شهرٌ للعبادة وشهرٌ لأخذ حظوظه من الدنيا ، حياة الإنسان موحَّدة ، العبادة تعني أن تنصاع إلى أمر الله في كل شيء ، وما رمضان إلا دورةٌ مكثفةٌ روحيةٌ هدفُها أن تقفز من خلاله قفزةً نوعيةً ثم تحافظ على هذا المستوى طوال العام ، فإذ كان كل رمضان يرتفع مستوى إيمانك وأعمالك الصالحة فأنت في صعودٍ مستمر .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أبواب الخير مفتحةٌ في كل الشهور ، ومسالك القرب نافذةٌ في كل الأوقات ، العمل الصالح قِوام حياة النفس ، كما أن الطعام والشراب قوام حياة الجَسَد ، والفقر في حقيقته فقر العمل الصالح ، والغنى في جوهره وفرة العمل الصالح ، والإمام عليٌ كرم الله وجهه يقول : " الغنى والفقر - أي الحقيقيان - بعد العرض على الله ".
العمل الصالح تحركٌ وتقدمٌ على الطريق إلى الله :
يا أيها الأخوة ؛ إذا صَحَّ أن المعاصي والمخالفات عقباتٌ كؤود على الطريق إلى الله ، وأن التوبة النصوح إزالةٌ لهذه العقبات ، بحيث يصبح الطريق إلى الله سالكاً وآمناً ، فإنّه يصحُّ أيضاً أن العمل الصالح تحركٌ وتقدمٌ على هذه الطريق ، قال تعالى :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾
تصوّر طريقاً إلى هدفٍ تحرص عليه ، هذا الطريق ممتلئٌ بعقباتٍ كؤود ، ماذا تعني استقامتك ؟ استقامتك تعني أن تُزيل كل العقبات ، فكل ذنبٍ حِجاب ، وماذا يعني العمل الصالح ؟ العمل الصالح يعني أن تنطلِق على هذه الطريق التي تُفْضِي إلى هدفك الكبير ، فالاستقامة طابعها سَلْبِيّ ؛ أن تزيل العقبات ، فإذا استقمت على أمر الله صار الطريق إلى الله سالكاً ، عندئذٍ لا بد من عملٍ صالحٍ ترقى به ، قال تعالى :
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾
وقال تعالى :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ﴾
أي من كان يرجو بلوغ هدفه . .
﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
العمل الصالح هو المَظْهَر العملي للإيمان :
أيها الأخوة الأكارم ؛ العمل الصالح هو المَظْهَر العملي للإيمان ، الإيمان ما وقر في القلب ، وأقر به اللسان ، وصدَّقه العمل . المَظْهَر المادي للإيمان هو العمل الصالح ، لذلك في أكثر من مئتي آية في القرآن الكريم قُرن العمل الصالح مع الإيمان ، لأن العمل الصالح بلا إيمان لا يكون ، والإيمان بلا عمل جنون ، العلم الصالح ثمرة الإيمان .
أيها الأخوة الأكارم ؛ العمل الصالح - كما قلت قبل قليل - هو المظهر العملي للإيمان ، وهو مشعرٌ به ، مؤكدٌ لوجوده ، دالٌ على صحَّته ، فإذا قُرن العمل الصالح بالإيمان معنى ذلك أنك حققت مُجمل الإيمان ، جانب فكري وجانبٌ سلوكي ، منطلقاتٌ نظرية تطبيقاتٌ عملية ، فكرٌ وعمل .
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ الأبلغ من ذلك أن مكانة المؤمن عِند الله يُحَدِّدها حَجم عمله الصالح ، قال تعالى :
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ، بل إن تحريك الإيمان ، ورفع مستواه ، لا يتم إلا بالعمل الصالح . قد يشكو لك أحدهم فتور همته ، وضعف عزيمته ، وميله إلى الراحة ، هذا الفتور بسبب نقصِ عمله الصالح ، من قصَّر بالعمل ابتلاه الله بالهَم .
شروط العمل الصالح ليكون مقبولاً عند الله عز وجل :
ولا يكون العمل الصالح أيها الأخوة صالحاً للعرض على الله جل جلاله ، والحق جل جلاله لا يتقبّل من العمل إلا ما كان له شرطان ؛ خالصاً لوجهه الكريم وموافقاً للسُنَّة ، فقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ ، مَنْ عَمِل عَمَلاً أشرك فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكَهُ ))
فالدرهم الذي ينفق في إخلاصٍ خيرٌ من ألف درهم ينفق في رياء ، وقد وصف الله تعالى إخلاص المؤمنين فقال :
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾
ولا يكون العمل الصالح - شرطٌ آخر ، أول شرط الإخلاص - صالحاً للعرض على الله إلا إذا سَلِمَ من التخليط ، والتخليط أن يخلط المرء عملاً صالحاً بآخر سيئاً ، فقد روى الديلمي في مسند الفردوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلط))
وقد قيل : من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا ، لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله . وربما كان العمل الصالح مقدماً على العبادة ، لأنه ثمرتها ، ودليل صحتها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عمر :
(( ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجتهِ خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافي في مسجدي هذا ))
وقد كان ابن عباسٍ رضي الله عنهما معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج من المسجد ليمشي في حاجة أخٍ له ، فقيل له : أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا . ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب - فدمعت عيناه - وهو يقول : " من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين " وقد سأل زيد الخير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ما علامة الله فيمن يريد وما علامته فيمن لا يريد ؟ قال: " كيف أصبحت يا زيد ؟ "قال : أصبحت أحب الخير وأهله ، وإن قدرت عليه بادرت إليه، وإن فاتني حزنت عليه وحننت إليه . فقال عليه الصلاة والسلام : " هذه علامة الله فيمن يريد " إذا أحببت الخير وبادرت إليه ، و إن فاتك الخير فحزنت عليه فهذه علامةٌ طيبةٌ جداً .
بطولة الإنسان أن يعمل الخير و يحافظ عليه :
يا أيها الأخ الكريم ؛ لا يمنعنَّك من اصطناع المعروف للناس جحودهم وإساءاتهم ، فقد روى مالكٌ عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله ))
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الموضوع ؛ موضوع التوبة والعمل الصالح ، وموضوع أن الحياة تنقضي سريعاً ويبقى من العمل الصالح مكافأته ، ويبقى من العمل السيّئ تبعته ، هذا الموضوع الأول يجب أن يكون بين أعيننا في كل الأيام بعد رمضان .
شيءٌ آخر هو أن البطولة لا أن تحقق إنجازاً روحياً في رمضان لكن البطولة كل البطولة أن تحافظ على هذا الإنجاز بعد رمضان .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأمانيّ .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
العبادات معللة بمصالح الخلق :
أيها الأخوة الأكارم ؛ للإمام الشافعي قولٌ لطيف يقول : العبادات معللة بمصالح الخلق .
أيْ أَنَّ العبادات لو أُدِّيَت على النحو الذي أراده الله - أدقق على هذه الكلمة - لو أن العبادات أديت على النحو الذي أراده الله لجعلت من المؤمن شخصيةً فذة ، لها تنجذب النفوس ، بها تتعلَّق الأبصار ، من نورها تهتدي القلوب ، لو أديت العبادات على النحو الذي أراده الله لجعلت من المؤمن رجلاً نيِّر الذهن والقلب معاً ، حادَّ البصر والبصيرة جميعاً ، تتعانق فكرته وعاطفته ، فلا تدري أيُّهما أسبق ؛ صدق أدبه أم حُسن معرفته ؟ ولا تدري أيهما أروع ؛ خصوبة نفسه أم فطانة عقله ؟
أيها الأخوة الأكارم ؛ لو أُدِّيَت العبادات على النحو الذي أراده الله عز وجل لجعلت من المؤمن شخصيةً فذةً كما قلت ، لجعلت المؤمن ذا أُفِقٍ واسع ، ونظرٍ حَديد ، ومحاكمةٍ سليمة ، ولجعلته منغمساً في سعادةٍ لا تقوى مُتَع الأرض الحِسِّية أن تصرفه عنها ، ولجعلته ذا أخلاقٍ أصيلة لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة ولا الضغوط المانعة أن تقوّضها .
أيها الأخوة الأكارم ؛ المؤمن الحق كالجبل رسوخاً ، كالصخر صلابةً ، كالشمس ضياءً ، كالبُركان تَدَفُّقاً ، كالبحر عُمْقاً ، كالسماء صفاءً ، كالربيع نضارةً ، كالماء عُذوبةً ، كالعذراء حياءً ، كالطفل وداعةً .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أمَّا إذا حاد الإنسان عن مبادئ فطرته ، ولم يعبُد الله عز وجل ، وخرق حدود إنسانيته بالإثم والعدوان ، اختل توازنه الداخليّ ، وأحسَّ بكآبةٍ مدمرة بصحته النفسية ، وهذا ما يسميه علماء النفس أو أطباء النفس : التوتُّر النفسي ، الذي هو سببٌ رئيسيٌ لكثير مِن الأمراض .
التوبة والعمل الصالح أساس الصحة النفسيّة :
ننتقل إلى حقيقةٍ خطيرة هي : أن أكثر الأمراض تكمن أسبابها في التوتّرات النفسية وفي الكسل العضلي .
فيا أيها الأخوة ؛ من الأمراض التي تصيب العضوية والتي أسبابها نفسية ، تسرُّع ضربات القلب ، اضطراب نظم القلب ، تضيّق الشرايين ، ارتفاع ضغط الدم ذو المَنشأ العصبي ، تقرّحات الجهاز الهضميّ ، أمراض الحساسية ، أمراض الأعصاب والشلل العضوي ذو المنشأ النفسيّ . وحينما يصطلح الإنسان مع الله ؛ فيتوب من ذنوبه ، ويستقيم على أمر ربه، ويعمل الصالحات تقرُّباً إليه ، يشعر بأنه أزيح عن صدره كابوسٌ ضاغط كأنه جبلٌ جاثم ، وأن ظلمات بعضها فوق بعض قد تبددت من أمامه .
يشعر المؤمن مشاعر من السعادة لا توصف ، وأن مشاعر الكآبة أيها الأخوة والضيق قد اختفت إلى غير رجعة ، وعندئذٍ يشعر أن في قلبه من الطمأنينة والسعادة ما لو وزِّعت على أهل بلدٍ لأسعدتهم جميعاً ، وعندها تتأثّر العضوية بهذه الصحة النفسية تأثراً إيجابياً، فتزول أكثر أعراض الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي .
أيها الأخوة الأكارم ؛ التوبة والعمل الصالح أساس الصحة النفسية ، إذا أردت نفساً صحيحةً متألقةً ، عالية المعنويات ، متفائلة فعليك بالصلح مع الله ، فإذا اصطلحت معه صلحت حياتك كلها ، لهذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( استقيموا ولن تحصوا ))
وقد وضَّح الإمام المناوي في شرحه لهذا الحديث : أنه إذا استقمتم فلن تحصوا الخَيْرات التي تجنوها من استقامتكم .
الله جلّ جلاله لا يضيع أجر من أحسن عملاً :
أيها الأخوة الأكارم ؛ كل عامٍ وأنتم بخير ، هذه الجمعة الأخيرة التي نَجْبي بها التبرّعات للجمعيات الخيرية وللمعاهد الشرعية ، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد بذلتم أكثر مما طُلِبَ منكم ، ففي الأسابيع الأربعة التي عشناها في رمضان بذلتم أضعاف ما كان يرتجى من هذا المسجد ، وهذه الجمعة الأخيرة ، فمعنا كتبٌ من السيد مدير أوقاف دمشق يحثكم فيها على التبرّع إلى جمعية القنوات الخيرية ، وإلى جمعية الصالحية الخيرية ، وهاتان الجمعيتان تتعهدان بتلبية حاجات من في المسجد ، وجمعية شارع بغداد الخيرية ، وجمعية العمارة دار العجزة ، وجمعية رعاية دار الأيتام ، وجمعية المجتهد الخيرية ، هذه الجمعيات السِت قَصَدَت هذا المسجد في الأسبوع الخامس الذي يُعَدُّ من رمضان ، فادفعوا يدفع الله عنكم كل مكروه ، والله جل جلاله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .