وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0090 - الصدق1 - مجالات الكذب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
 اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير .

تمهيد .

  الإخوة المؤمنون ؛ سيّدنا جعفر حينما حدَّث النجاشي عن الجاهلية والإسلام ، بين الحديث عن الجاهلية والإسلام فقرة قصيرة مؤلّفة من أربع كلمات :
  عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها :

(( أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف - هذه الجاهلية - فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم ))

[أخرجه ابن خزيمة]

 بماذا وصف هذا النبي ؟
 وصفه بأربع كلمات .
 نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه ...
 لم يختر سيّدنا جعفر هذه الصّفات عبثًا ، اختار أربعة دعائم من دعائم شخصية النبي عليه الصلاة والسلام ، هناك آلاف مؤلّفة من صفات النبي ، اختار هو منها أربعة دعائم :
 الصِّدْق ، والأمانة ، والعفاف ، والنّسب ...

 

الصدق .

 وقفْتُ عند الصّدق ، فوجدْت الصِّدق يدخل في حياتنا كلّها ، في معتقداتنا ، في سلوكنا ، في بيعنا ، في شرائنا ، في معرفتنا بالله عز وجل ، في قبول الحقائق ، في رفضها ، في قبول الأكاذيب والافتراءات ، إنَّ الصّدق يهدي إلى البرّ ، البرّ هو مطلق الخير ، لذلك خلق الله السماوات والأرض بالحق وأمرنا بِقَول الحق ، وأمرنا أن نعمل وفق الحق ، والحق اسمٌ من أسماء الله تعالى ، وما تعانيه البشريّة اليوم من ضلال فبِسَبب الكذب ، علماءٌ لَيْسُوا بِعُلماء ، جاؤوا بكلام على الناس ليس بالحقيقة في شيء ، هدفهم الأوّل إبطال قواعد الدِّين ، هؤلاء كذّابون ، الذين قالوا إنَّ الإنسان أصله قرد ، والذين قالوا إنّ الجنس هو كلّ شيءٍ في شخصيّة الإنسان ، والذين قالوا : إنّ المال هو كلّ شيء في حياته ، هؤلاء الذين ابتدعوا هذه النَّظريّات ما ابتدعوها إلا لِيَصْرفوا الناس عن الدِّين فظلَّتْ البشريّة وأضلّت الكلمة الصادقة أعظم صدقة عند الله ، والكلمة الكاذبة ربّما تفسد فيها أمّة بِكَاملها ، لذلك ما تعانيه البشريّة من ضَياع وضلال ، ومن شقاء ، ومن حَيرة ، ومن تفسّخ ، ومن انحلال ، ومن تدَهْوُرٍ ، إنَّما هو بسبب الكذب لأنَّ الإنسان سمع الكذب فظنَّه حقًّا ، ولم يتحقّق ، وهذا الذي روَّج الكذب له عند الله عذاب عظيم .

الظن .

 عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

 لا تجعل في حياتك كلامًا بين لا صّدق والكذب ؛ هو الظنّ ، إما أن تقبله على علم ، وعندك الدليل عليه ، وإما أن ترفضه على علم ، وعندك الدليل على رفضه ، أما أن تزخر حياتك بِمُعتقدات ليْسَت صحيحة ، وبِظُنون ، وبأوهام ، مثلاً قال تعالى :

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ﴾

[ سورة آل عمران الآية:23]

 هؤلاء اليهود والنصارى ، أوتوا نصيبًا من الكتاب تعلّموه وقرؤوه ، لم يقل أوتوا الكتاب ، ولكن نصيبًا منه ، قال تعالى :

﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾

[ سورة آل عمران الآية:23]

 والناس اليوم يقرؤون القرآن وقد أوتوا نصيبًا منه ، يقول لك : هذه السورة مكّية ، وهكذا مكتوب ، وهذه مدنيّة ، وهذه السورة أنزلَت في مناسبة كذا ، أوتِيَ نصيبًا من الكتاب ، تقول له : يا أخي : لِمَ تسْهر مع من لا يحلّ لك أن تجلس معه من النّساء ؟ يقول لك : هكذا تعوَّدنا ، هكذا كان آباؤنا ، من أنت ؟ قال تعالى :

﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾

[ سورة آل عمران الآية:23]

 هناك آيات بيّنات واضحات طاهرات نيِّرات ، ؟ قال تعالى :

﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾

[ سورة آل عمران الآية:23]

 يتولَّوْن عن حكم الله ، لا يرْضَون به ، ولا يقبلونه ، ولا يحتكِمون إليه لماذا ؟ استمعوا ودقّقوا ، قال تعالى :

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ﴾

[ سورة آل عمران الآية:24]

 هذا قول اليهود ، نحن شعب الله المختار ، ونحن بنو إسرائيل ، نحن أولاد الأنبياء ، الأنبياء كلّهم منّا أو معظمهم ، قال تعالى :

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾

[ سورة آل عمران الآية:24-25]

 ما الذي أشقاهم ؟ هذا الظنّ الكاذب ، لذلك على مستوى المؤمنين ، قد يرتكب المسلم معصيَة ، ويظنّ أنَّها صغيرة ، والصغائر لا قيمة لها عند الله ، فلا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع استغفار ، أسباب الشقاء في حياتنا فكرة ليْسَت صحيحة ، اعتقاد خاطئ ، وعقيدة فاسدة ، رواية غير صحيحة ، وحديث موضوع ، قصَّة واهِيَة ، هذا هو سبب الضلال ، شيءٌ تلقَّفْتَهُ ، ولم تُحَقِّقْه ، شيءٌ سمعتهُ أُذناك ، ولم يحقِّقْه قلبك ، وقعْت في الضلال ، والضلال جرّ إلى الانحراف ، والانحراف جرّ إلى القطيعة ، والقطيعة جرَّت إلى الشقاء ، هذا ملخَّص الأمر .
 لذلك إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، لا تقبل في حياتك قصّة ، رواية حديثًا ، فكرةً ، رأيًا ، خطبةً ، درسًا ، إلا إذا كان مدعَّمًا بآيات الله إن قلتَ كذا فما دليلك ؟ وإن رفضْت كذا فما دليلك ؟ آتاك الله الفكر ، وفيه تقبل ، وترفض ، وتحاسب ، وتناقش ، عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ))

[ أخرجه الترمذي ]

 لا تقع في فكرة لسْتَ متأكِّدًا منها ، فإنّ الصّدق طمأنينة ، والكذب ريبة ، الفكرة الكاذبة تدخل الشكّ في النفس ، ماذا قال الله عز وجل :

﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾

[ سورة النجم الآية:23]

 هذا الذي يعتقد أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام سوف يشفع لأهل الكبائر من أمَّته ، هكذا الحديث صحيح له توجيه ، وله تأويل ، أما الجهلة يأخذون هذا الحديث على ظاهره شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي .." الزنا كبيرة ، والسرقة كبيرة ، وشرب الخمر كبيرة ، وقول الزور كبيرة ، وهذه الشفاعة ادُّخِرَت لأهل الكبائر من أمّتي ، شيء جميل ، القضيّة أصبحت سهلة جدًّا ، افْعَل ما تشاء ، ليس هناك من قيدٍ ، ولا نظام ، لم هذا الدِّين ؟ لمَ أُنزل القرآن إذًا ؟ لمَ جاء الأنبياء ؟ ما معنى قوله تعالى :

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾

[ سورة الزلزلة الآيات:7-8]

 ها هو سيفعل الكبيرة وسوف يُشفع له ؟ ما معنى قوله تعالى :

﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ﴾

[ سورة الانفطار الآية:19]

 ما معنى قوله تعالى :

﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾

[ سورة آل عمران الآية:25]

 ما معنى قوله تعالى :

﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾

[ سورة الزمر الآية:19]

 هذه الآيات ما معناها ؟ على من أنزلَت ؟ نسِخَت ؟ أُبطِلَت ؟ هذا الذي يعتقد هذا الاعتقاد ، ويفعل من المعاصي ما شاء ، كيف قال النبي عليه الصلاة والسلام لفاطمة ولعمّه العباس ؟ يا فاطمة بنت محمّد ، ويا عباس عمّ رسول الله أنقذَا نفسيكما من النار ، أنا لا أُغني عنكما من الله شيئًا ، لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأنسابكم ، من يُبطئ به عمله لم يسرع به نسبه ، شيءٌ يُحيِّر ؛ أيّ الحديثين نطبّق ؟ لا بدّ أن يكون للحديث الأوّل تأويل آخر ، ولا يتَّسع المجال للحديث عن هذا التأويل ، ولكن القرآن الكريم في آيات كثيرة ذكر فقال

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾

[ سورة الزلزلة الآيات:7-8]

 إذًا إن يتَّبعون إلا الظن ، وهذه فكرة خاطئة ، ظنٌّ مَوْهوم ، توهَّموا ذلك ، قال تعالى :

﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾

[ سورة آل عمران الآية:25]

 ما قولهم ؟ سوف يُصعقون ؟ طالب قال : الأستاذ سوف يوزّع الأسئلة على الطلاب قبل الامتحان ، نقرأ صفحات فننْجح ، فارتاح وترك الدراسة ، هكذا قيل له ، قال له طالب كسول : إنّ الأستاذ من عادته أن يوزِّع الأسئلة على الطلاب قبل ساعة من الامتحان ، تقرأ صفحتين فتنْجح ، فلمّا جاء الامتحان ، وقرع الجرس ، ودخل الطلاب قاعة الامتحان ، وجاءت الأسئلة ، ولم توزّع الأسئلة قبل ذلك ، جاء هذا الواقع كالصَّعقة على رأس هذا الطالب ، قال تعالى :

﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾

[ سورة آل عمران الآية:25]

 قال تعالى :

﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾

[ سورة النجم الآية:23]

 آية أخرى :

﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾

[ سورة النجم الآية:28]

حالات الكذب وأخطرها

 النبي الكريم ممَّا أُثِرَ عنه ما كان من خُلِقٍ أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الكذب ، ما أُطلِعَ على أحدٍ من ذلك بِشَيء فيخرج من قلبه والإنسان بالصّدق له مكانة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا اطَّلَعَ النبي على أحدٍ من قرابته ، أو من أهله ، أو من أصحابه ، أو من أهله قد كذب ، فقد خرج من قلبه ، رفضه النبي عليه الصلاة والسلام ، ويخرج من قلبه حتى يعلم أنَّه أحدث توبة ، ولا تعود مكانته عند النبي الكريم إلا إذا علم النبي أنّه أحدث توبة ، حديث يقطع الظّهر ، عن أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة ))

[أخرجه الإمام أحمد]

 هناك مؤمن حريص ، مؤمن سموح ، مؤمن اجتماعي ، ومؤمن يحبّ الوحدة ، مؤمن حادّ الطبع ، مؤمن ليّن الطبع ، كلّهم مؤمنون ، على العين والرأس ، فإذا وقع في الكذب ، أو وقع في الخيانة فقَدَ إيمانه ، لأنَّ الكذب والخيانة يتناقضان مع الإيمان ، مؤمن أو كاذب ، خائن أو مؤمن ، ولمالك في الموطأ عن صفوان بن سليم مرسلا أو معضلا .

(( قيل يا رسول الله المؤمن يكون جبانا ؟ قال نعم، قيل يكون بخيلا؟ قال نعم، قيل يكون كذابا؟ قال لا ))

 هناك حالات للإيمان ضعيفة ، وحالات من الضَّعف تنتاب الإنسان ، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا ‍! قد يحجم الإنسان ، بعض الأصحاب في معركة حنين أحجموا ، أيكون المؤمن بخيلاً ؟ في بعض حالات الضعف الإنساني ؛ دخْلهُ ضعيف ، ضيّق ذات اليد ، فَبخِلَ ، أيكون المؤمن كذَّابًا ؟
 قال : لا ، هذه أبدًا ، لم يثن على البخيل ، البخل صفة شنيعة في الإنسان والجبْن كذلك ، لكنّه إذا أحجم المؤمن عن أن يبذل نفسه في سبيل الله ، لا يُنزع إيمانه منه ، ولكن نقول : ضعف فيه ، قال تعالى :

﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾

[ سورة الأنفال الآية:66]

 أصابهم ضعف ، وإذا كان المؤمن محجمًا في الإنفاق أصابه ضعف ، والبخل أيضًا صفة شنيعة ، ولكنّ الكذب لا يمكن أن يكون في مؤمن ، أيكون المؤمن كذَّابًا ؟ قال : لا ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا ، قَالَا : أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

[ رواه البخاري ]

 هذا الكذب العام يعني إذا الإنسان افترى على الله تعالى فِرْيةً ، ردّ آيةً قرآنيّة ، وقال العلم استطاع أن يفعل كذا وكذا ، والعلم عاجز عن ذلك ، افترى ، نشر مقالة في مجلّة طبعت لعدّة لغات ، سارت في الأفاق ، هذه الفكرة شتَّتَتْ الناس بِحَقائق الدّين ، أكثر المقالات العلمية التي يُقال عنها عِلْميّة ، إنَّها من نوع الدَّجَل العلمي ، فهذا الذي يفتري فريةً ويقول العلم استطاع أن يحقّق كذا وكذا ، يرسم مخبر ومقالة واسم طبيب ، والمقالة تترْجم وتُنْشر ، وتُذاع في الآفاق ، وهذه المقالة من شأنها أن تشَكِّك بآيات القرآن الكريم ، قال : هذا الذي يفعل هذا يُمْسَك بِشِدْقَيه فيشقّهما منذ أن يموت وإلى يوم القيامة .

(( قَالَا : أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))

[ رواه البخاري ]

 تبلغ الآفاق أي تطير ، تنتقل تُتَرجم تطبع تُذاع ، كذب ! لكنّ أخطر أنواع الكذب على الإطلاق الكذب في الدّين ، لو كذبْت في العلم وقلت : الإنسان استطاع بالضَّبط أن يعرف حدود الكون ، وهو لم يعرف ذلك ، هذا كذب في العلم ، قد تكذب في الصناعة ، وفي مجالات كثيرة ، لكنَّك إذا كذبْت في الدِّين فقد ضيَّعْت الناس ، وقد أشْقَيتهُم ، وقد أضْللْتهم ، وجعلتهم ينحرفون عن الطريق الصحيح ، وقد جعلتهم يتَّجهون إلى الباطل قد فتنْتَهم ، والفتنة أشدّ من القتل ، لذلك كان من أخطر أنواع الكذب الكذبُ في الدّين ، عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ ))

[ أخرجه البخاري ]

 لو كذب الإنسان في مستويات صناعاته الغذائيّة وقال : سكّر وهو ليس كذلك ، وقال : عصير برتقال وهو تركيبات كيميائيّة تعطي نكهة البرتقال ، هذا كذب ، ويُحاسب عليه ، لأنّ فيه غشّ ، ففي الصناعة يوجد كذب ، قد تقول : هذا القماش صوف مئة بالمئة ، وقد يكون ثمانون بالمئة هذا كذب ، قد تكذب في العمل ، وفي المواعيد ، قد يكذب الإنسان على زوجته ، وفي بيته ، هذا كلّه كذب محاسب عليه الإنسان ، أما أن يكذب في الدّين فهذه جريمة كبرى ، لأنّ الكذب في الدّين قد يضلّ الناس .
عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ ))

[ أخرجه البخاري ]

 ألْقيَ القبض على رجل في العصور الأخيرة كذّاب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ماذا قال ؟ قال : والله وضعتُ فيكم مئة حديث ، حلَّلتُ فيها الحرام ، وحرَّمت فيها الحلال ، فلْيتبوَّأ مقعده من النار لو كذب على الناس بحديث واحد متعمِّدًا ، فلْيتبوَّأ مقعده من النار .
 عن مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ))

[أخرجه مسلم]

 النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم كان عند بعض أقربائه ، فقامت ربّة البيت تخاطب ابنها الصغير ، ويبدو أنّ هذا الطفل لا يزيد عن سنتين ، قالت له : تعال أُعْطِكَ ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أردْت أن تعطيه ؟ فقالت : تمرًا ، فقال لها : أما إنَّك لو لم تفعلِ ذلك لكُتِبَت عليك كذبة !
 قد تكذب على الصغير الذي لا يزيد عمره عن سنتين ، وتُكْتب عليك كذبة ، والمحدّث الشهير الذي جاء من المدينة المنوّرة إلى البصرة لِيَتَلَقَّى عن رجلٍ حديثًا شريفًا ، وقد تجشَّم أعباء السفر على ناقته أو فرسه من المدينة إلى البصرة ، شهرًا كاملاً ! لما وصل إليه رآه يجمعُ ثوبه هكذا موهِمًا فرسهُ أنَّ فيه شعيرًا لِيَسْتقدمهُ ، فلمَّا اقترب منه لم ير في الثوب شيئًا ، فعاد إلى المدينة ، ولم يسأله عن الحديث ، هذا الذي يكذب على فرسه هو كذّاب ، ولا يستحقّ أن يروي الحديث عن رسول الله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَاكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذْبَةٌ ))

[أخرجه الإمام أحمد]

 عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ :

(( كُنْتُ صَاحِبَةَ عَائِشَةَ الَّتِي هَيَّأَتْهَا وَأَدْخَلَتْهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي نِسْوَةٌ قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا عِنْدَهُ قِرًى إِلَّا قَدَحًا مِنْ لَبَنٍ قَالَتْ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ عَائِشَةَ فَاسْتَحْيَتْ الْجَارِيَةُ فَقُلْنَا لَا تَرُدِّي يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِي مِنْهُ فَأَخَذَتْهُ عَلَى حَيَاءٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ نَاوِلِي صَوَاحِبَكِ فَقُلْنَا لَا نَشْتَهِهِ فَقَالَ لَا تَجْمَعْنَ جُوعًا وَكَذِبًا قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قَالَتْ إِحْدَانَا لِشَيْءٍ تَشْتَهِيهِ لَا أَشْتَهِيهِ يُعَدُّ ذَلِكَ كَذِبًا قَالَ إِنَّ الْكَذِبَ يُكْتَبُ كَذِبًا حَتَّى تُكْتَبَ الْكُذَيْبَةُ كُذَيْبَةً ))

[أخرجه الطبراني]

 من باب الترفّع ، ومن باب أنّ نفسها عفيفة قالت : لا أشتهيه فقال :

((إِنَّ الْكَذِبَ يُكْتَبُ كَذِبًا حَتَّى تُكْتَبَ الْكُذَيْبَةُ كُذَيْبَةً))

 طعام شهي ، وأنت جائعة ثمّ تقولين : لا أريد أن آكل ! الآن أكلْت ، لما هذا الكلام ؟ إن كنت جائعًا فَكُل ، وإلا فقُل : لا ، لسْت بِجَائع ، إن قالت لا أشتهي ، وهي تشتهيه كُتِبَت عند الله كُذَيْبة وقد يعْمدُ المرء إلى الكذب ليُضْحك الناس ، ويل للذي يحدّث بالحديث ليُضحك منه القوم فيكذب !
 عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ))

[أخرجه أبو داود]

 النبي عليه الصلاة والسلام كان يمزح ، ولا يمزح إلا حقًّا ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحَةِ وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا))

[أخرجه الطبراني]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَنَ عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

 

والحمد لله رب العالمين
***

 

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيّدنا محمّد الصادق الوعد الأمين ، اللَّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّدنا محمد صاحب الخُلق العظيم .

الكذب في البيع والشراء

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ أوسع مجال للكذب هو البيع والشراء ، والإنسان لا يخلو أن يكون بائعًا أو مشتريًا في اليوم مرات عديدة ، فأوْسع نشاطٍ بشري هو البيع والشراء ، ومفهوم البيع يتَّسِع حتى يشْمل المِهَن الراقيَة فالمحامي يبيع ويشتري ، ماذا يبيع ؟ يبيع خبرته للناس ، فإذا قال هذه الدعوة سوف تربحها مئة في المئة ، وهو موقنٌ تمام اليقين أنّها لن تربح ، فهذا نوع من البيع الكاذب ، يبيعه وعدًا بِنَجاح الدَّعوة مقابل ثمنٍ معجَّل ، والنَّجاح ليس مضمونًا ، والطبيب الذي يعلم طبيبًا آخر أدقّ في اختصاصه منه ، ويتابع معالجة هذا المريض ، فهو يكذب ، وكلّ إنسان يستغلّ علمه ومكانته ، ليَكْسب مالاً من دون أن يعطيَ مقابل هذا المال شيئًا فهو يكذب ، والبيع والشراء أوْسع نشاطٍ بشري ، لذلك النبي الكريم حذَّرنا من الكذب في البيع والشّراء حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ الْحَضْرَمِيُّ إِمَامُ مَسْجِدِ حِمْصَ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَقُولُ :

((كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ))

[أخرجه الطبراني]

 الآن بالدول المتقدّمة كما يُسمُّونها ، المريض إذا ذهب إلى الطبيب ونصحه بإجراء عمليّة ، لا بدّ من أن يستشير طبيبًا آخر ، ليتأكَّد أنَّ هذه النصيحة صادقة ، لأنَّ هناك أشخاصًا كثيرين ، ينصحون بإجراء عمليّة لا مبرّر لها من أجل أن يكسبوا مالاً ، فكم من إنسانٍ اسْتُأصِلَت زائدتهُ ، وهو ليس بحاجة إلى ذلك ، فتح البطن والزائدة ليس بها شيء ، استأصلَت ليستحقّ الطبيب الأجرة ، فالكذب حتى في العمليات الجراحيّة أصبحَ شيئًا مخيفًا ، وفي كلّ مجال ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

((كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ))

[أخرجه الطبراني]

 ولا يحلّ لامرئ مسلم أن يبيع سلعة يعلم أنّ بها داءً إلا أخبر به ، فإن لم يخبر به فالبيع حرام ، فما ظنّك بإنسان يبيع دواءً قد انتهى مفعوله ؟ فإذا أذَّنَ المؤذِّن بادر إلى الصلاة ، ويقول لك : لا يوجد معي وقت أنا ذاهب إلى الصلاة !! ويبيع الدواء وقد انتهى مفعوله !! ما هذه الصلاة ؟! وما هذا الدَّجَل على عباد الله ؟ لذلك الله سبحانه وتعالى قال :

﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾

[ سورة الإسراء الآية:17]

 بعض الباعة يسقط فأرٌ في الزيت فيبيع الزيت ، وهو يصلّي ، أصبح الزيت نجسًا ، بعْهُ لِمَعمل صابون مثلاً ، أما أن تبيعه للناس ليأكلوه وهو نجس ، عَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كَتَبَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةَ وَلَا غَائِلَةَ وَقَالَ قَتَادَةُ الْغَائِلَةُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْإِبَاقُ ))

[أخرجه الترمذي والبخاري]

(( وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّي آرِيَّ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ فَيَقُولُ جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ جَاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَهُ ))

[ رواه البخاري ]

 النبي عليه الصلاة والسلام مرَّ برجل يبيع سلعة ويحلفُ أنَّه أعْطِيَ بها ما لم يُعْط ، دفعوا لي ثلاثون وما رضيت ، فهذا الشاري خجل ، حلف بالله ، فقال له : أنا آخذها ، أخذتها أكثر ، ليوقع في بيعه هذا رجلاً مسلمًا فنزلَت فيه آية :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[ سورة آل عمران الآية:77]

الدعاء :

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، وصلّ اللهمّ وسلم على سيّدنا محمّد النبي الأمي وعلى صحبه وسلّم ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بارك لنا في شهر رمضان ، وأعنَّا فيه على الصيام والقيام ، وغضّ البصر ، وحفظ اللّسان ، اللهمّ اكتب الصحة والسلامة للحجاج والمسافرين ، والمقيمين والمرابطين في برّك وبحرك من أمّة محمد أجمعين ، اللهمّ ارزقنا حجًّا مبرورًا ، وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا يا أرحم الراحمين ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهِم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور