- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، الحمد لله الذي أنزل على عبد الكتاب و لم يجعل له عوجا ، الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا بربوبيته وإرغاما لمن جحد به و كفر ، و أشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه و سلم سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهمّ صلِّ و سلم و بارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، اللهم ارحمنا ، فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما حرت به المقادير إنك على كل شيء قدير.
ذكر الله :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ جاء في بعض الأحاديث القدسية : أن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة و السلام سأل رب العزة قال :
يا رب أيّ العباد أحب إليك حتى أحبه بحبك .
قال يا موسى : أحب عبادي إلي تقيّ القلب ، نقيّ اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني و أحب من أحبني و حبّبني إلى خلقي .
قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟
قال يا موسى : ذكِّرهم بآلائي ونعمائي و بلائي ...
أي :
إذا أراد الإنسان أن يذكر به ، فليذكرْ آياته الكبرى الدالة على عظمته .
إذا أراد الإنسان أن يذكر ربه فليذكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى .
إذا أراد الإنسان أن يذكر ربه فليذكر نقمه التي قد لا يحتملها الإنسان .
ذكرهم بآلائي و نعمائي و بلائي ...
إذا ذكرت الآلاء و ذكرت النعماء و ذكرت البلاء ، فذكِّر بهذه النعماء والآلاء و البلاء عبادَ الله .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال عليه الصلاة و السلام :
(( إن أكيسكم أكثركم للموت ذكرا ، وأحزمكم أشدكم استعدادا له ، ألا و إن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود و التزود لسكنى القبور ، و التأهب ليوم النشور ))
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾
أي لا تنظر إلى الدنيا بحجم أكبر من حجمها ، إنها تافهة لا شأن لها عند الله ، وشيكة الزوال ، سريعة الانتقال ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا فَقَالَ :
(( أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا ))
وفي رواية ثانية عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ، يا دنيا غري غير ، كما قال الإمام علي كرم الله وجهه ، لقد طلقتك بالثلاث ، شأنك حقير ، وأمد قصير .
الله سبحانه و تعالى يقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
﴿ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
النبي عليه الصلاة و السلام يقول : ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر ...."
عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ :
(( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))
ذلك لأن عطائي كلام ، و أخذي كلام ... نفسه .
كن فيكون ، زُل فيزول ، النبي عليه الصلاة و السلام في بعض أحاديثه الجامعة المانعة يقول :
لا يخاف العبد إلا ذنبه ، و لا يرجو إلا ربه .....
لا يخفٍ إلا ربه ، على طريقة النهي ، لا يخاف إلا ذنبه ، على طريقة الخبر ، ولا يرجو إلا ربه .
آيات من سورة فصلت :
القسم الأول : حقيقة الإيمان .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في سورة فصلت آيات دالة على منهج الطريق ، أو على طريق الإيمان ، الله سبحانه و تعالى يقول :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
مَن مِن العالم الإسلامي اليوم لا يقول : ليس الله ربي ؟ الله ربي ، يقولها كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها ، ألم يعدنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حيث قال :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾
ألا يقول المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها : الله ربنا ؟ دققوا في الآية :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
علامة صحة الإيمان صحة العمل ، علامة أن يكون الإيمان صحيحا أن يكون السلوك مستقيما ، ليس الإيمان بالتحلي ، ولا بالتمني ، و لكن ما وقر في القلب واقر به اللسان وصدّقه العمل ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
إن استقام على أمره فقوله صحيح ، وإن كان في الاستقامة خللٌ فالقول مزيَّف فيه نفاق ، و فيه دجل ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
علامة صدق الإيمان الطمأنينة ، قال تعالى :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
امتحن إيمانك بهذه الآية .
هل لك عمل يدل على صحة إيمانك ؟
هل أنت منضبط ؟
هل في حياتك شيءٌ حرام وشيء حلال ، شيء يجوز وشيء لا يجوز ، شيء يرضي اللهَ وشيء لا يرضي الله ؟
إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر ما لله عندك ، فعلامة الإيمان الانضباط بأمر الله ، الائتمار بأمر الله ، الانتهاء عما نهى الله عنه .
يا إمام ، سئل الإمام الجنيد هذا السؤال : من وليُّ الله ؟ أهو الذي يطير في الهواء ؟ أم هو الذي يمشي على وجه الماء ؟ قال : لا هذا ولا ذاك ، الذي تجده عند الحلال والحرام ، هذا شطر الآية الأول .
القسم الثاني : حقيقة الدعوة .
قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾
علامة صدق الدعوة إلى الله أن يكون العمل صالحا ، يا عيسى بن مريم عظ نفسك فإذا وعظتها فعظ غيرك و إلا فاستحِ مني ، قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾
وقال تعالى :
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾
"وقال تعالى :
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾
وقال تعالى :
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾
و قال تعالى :
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ، آيات في سورة فصلت ، القسم الأول منها يؤكد حقيقة الإيمان ، الاستقامة تؤكد حقيقة الإيمان ، و العمل الصالح يؤكد حقيقة الدعوة إلى الله .
السنة المطهرة :
إذا أراد الله بعبد خيرا ........... :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في السُّنة المطهرة بضعة أحاديث تبدأ بقوله عليه الصلاة و السلام :
(( إذا أراد الله بعبد خيرا ..... ))
قال عليه الصلاة و السلام :
(( إذا أراد الله بعبده خيرا فقهه في الدين ، وألهمه رشده ))
وبصره بعيوب نفسه .
أيُّ مكسب تكسبه في الدنيا ينتهي عند الموت ، حينما يوضع الإنسان في القبر أول ليلة يقول الله عز وجل : عبدي رجعوا و تركوك ، و في التراب دفنوك ، و لو بقوا معك ما نفعوك ، و لم يبق لك إلا أنا ، و أنا الحي الذي لا يموت .
أيُّ مكسب تحصله في الدنيا سوف تتركه في ثانية واحدة ، المصيبة أنك تفقد مالك كله عند الموت ، و تُسأل عن هذا المال كله ، من أين اكتسبته ، و فيم أنفقته ، إذا أراد الله بعبده خيرا فقهه في الدين ، وألهمه رشده ، و بصره بعيوب نفسه ، إن الله سبحانه و تعالى أعطى الأنبياء العلم و الحكمة ، قال تعالى :
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
فانظر أيها الأخ الكريم من أيِّ نوع عطاؤك من الله عز وجل ، قد يعطي الدنيا لمن يحب و لمن يحب و لمن لا يحب ، و لكن العلم و الحكمة لا يعطيهما إلا لمن يحب ، ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم و الأدب ، كيف استرذله ، رآه سخيفا ، رآه تافهًا ، رآه صغيرا ، ثبوته أرضي ، تمنياته دنيوية ، عند الدنيا تنتهي كل آماله ، جعل الدنيا أكبر همه ، و مبلغ علمه ، إذا رآه الله كذلك حظر عليه العلم و الأدب ، ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم و الأدب .
من خلال هذا الحديث الشريف يتضح أن أثمن شيء يحصله الإنسان في الدنيا أن يعرف الله سبحانه و تعالى ، و أن يكون أديبا مع خلقه ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، و أنا أحب إليك من كل شيء ، أنت تريد و أنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، و إن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
إذا رأيت أن الله سبحانه و تعالى يتابعك ، لك بالمرصاد ، أكلت مالا حراما فألف جزءًا من ماله ، غششت مسلما فغُشِشت في التو، إذا رأيت الله يتابعك فاعلم أنه يحبك ، إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن شكر اقتناه .
إذا أراد الله بعبد خيرا عاتبه في منامه ..."
إذا أراد الله بعبد خيرا صيَّر حوائج الناس إليه ...."
إذا أراد الله بعبد خيرا بصّره بعيوبه ......"
إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه يأمره و ينهاه ..."
قبل أن يقدم على شيء لا يرضي اللهَ تنهاه نفسه عن ذلك ، و لِمَ تنهاه نفسه عن ذلك ؟ بفضل صلاته ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
عديُّ بن حاتم يا إخوة الإيمان جاء النبي عليه الصلاة والسلام و كان ملِكا في شمال الجزيرة ، دخل على النبي و عرفه النبي عليه الصلاة و السلام ، فما أن رآه حتى أخذ بيده و انطلق به إلى بيته ، في الطريق استوقفت النبيَّ عليه الصلاة و السلام امرأةٌ ضعيفة ، فوقف معها طويلاً يكلمها في حاجتها ، فقال عديُّ في نفسه : واللهِ ما هذا بأمر ملِك ، فلما دخل بيت النبي ، و سوف ترون ما في بيت النبي ، قال عديُّ بن حاتم : قذف إليَّ وسادة من أدم محشوةً ليفاً ، فقال : اجلس على هذه ، قلت : بل أنت ، قال : بل أنت ، فجلست عليها و جلس هو على الأرض ، أي ليس في بيت النبي عليه الصلاة و السلام إلا هذه الوسادة ، لذلك سيدنا علي كرم الله وجهه قال :
فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمدًا أم أهانه حين زوى عنه الدنيا .
فإن قال : أهانه فقد كذب .
وإن قال : أكرمه فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا .
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَالَ فَجَلَسْتُ فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَقَرَظٍ فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَالِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا قُلْتُ بَلَى ))
قال : اجلس عليها ، قلت : بل أنت ، قال : بل أنت ، فجلست عليها و جلس هو على الأرض ، وقال : إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تكن مكوسيا ؟ قال : أو لم تسر في قولك بالمرباع - أي كان يأكل ربع أمواله ؟ قال : فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك ، مناقشة موضوعية ، على دينك الذي نفترضه صحيحا ، هل يحل هذا في دينك ؟ قال : لا ، قال : فعلمتُ أنه نبيٌّ مرسل يعلم ما يجهل ، قال : إيه يا عدي بن حاتم - دققوا في هذه الكلمات ، لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوه ، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج هذا البيت لا تخاف شيئا ، و لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم - من فقرهم - ويم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، و لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك و السلطان في غيرهم ، فوالله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للعرب ، ولقد عاش عدي بن حاتم حتى أدرك الإشارات الثلاث .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، و سيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، و العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، و أشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم .
من عجائب الكون :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه و تعالى يقول :
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
وقال تعالى :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾
العلماء قالوا : إن الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة ، و أن لسان اللهب الذي يخرج من الشمس يزيد طوله عن مليون كيلومتر ، و أن الأرض إذا أُلقيت في الشمس تبخَّرت في ثانية واحدة ، و أن بعض العلماء يقدّرون أن عمر الشمس يزيد عن خمسة آلاف مليون سنة ، وأن بين الشمس و الأرض مائة و ستة وخمسين مليون كيلومتر ، و أن في برج العقرب نجما متألقا يُرى من الأرض اسمه قلب العقرب ، هذا النجم المتألق الذي يقع في الوسط الهندسي لبرج العقرب وهو أشد تألقا واسمه قلب العقرب ، إن هذا النجم يتبع للشمس و الأرض الكثافة بينهما .
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
وقال تعالى :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾
وقال تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
بيننا و بين القمر ثانية ضوئية واحدة يقع القمر على بُعد ثانية ضوئية ، أي ثلاثمائة و ستين ألف كيلومتر يقطعها الضوءُ في ثانية واحدة ، و بيننا و بين الشمس ثمان دقائق ضوئية ، أي ضوء الشمس يقطع المسافة بين الشمس و الأرض في ثماني دقائق ، و بيننا و بين أبعد نجم في المجموعة الشمسية ثلاث عشرة ساعة ضوئية ، و أن أقرب نجم إلى الأرض من غير المجموعة الشمسية وهو نجم القطب ، بُعده عنا أربعة آلاف سنة ضوئية ، القمر ثانية ، غزو الفضاء قطعوا ثانية ضوئية واحدة ، تحدوا السماء فقالوا : إننا نتحدى السماء بهذه المركبة (شالنجر) اسمه المتحدي ، فقبِل الله التحدي ، فجعلها كتلة من اللهب في سبعين ثانية ، و بين الأرض و بين أقصى نجم في درب التبانة مائة و خمسون ألف سنة ضوئية ، وأن بعض المجرات يبعد عنا ثمانية عشر ألف مليون سنة ضوئية ، قال تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
المواقع فقط ، المسافات ، قال تعالى :
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
قال عليه الصلاة و السلام : كان كلما نهض من فراشه ليلا كان يتلو قوله تعالى :
﴿ فِي خَلْقِ السَّماَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ تفكر ساعة خير من عبادة ستين عاما ، لا عبادة كالتفكر ، قال تعالى :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ التفكر فريضة بعد الفريضة ، تفكَّر ، قال تعالى :
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ*أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ﴾
قال تعالى :
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ*خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ*يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾
و قال تعالى :
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، و تولنا فيمن توليت ، و بارك لنا فيما أعطيت ، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي و لا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، و لا يعز من عاديت ، تباركت ربنا و تعاليت ، اللهم أعطنا و لا تحرمنا ، و أكرمنا و لا تهنا ، و آثرنا و لا تؤثر علينا ، و أرضنا وارض عنا ، و اقسم لنا من خشيتك مت تحول به بيننا و بين معصيتك ، و من طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، و متعنا اللهم بأسماعنا و أبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، و انصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، و لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .