وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0435 - حقيقة الإنسان 8 - المسؤولية - ارتباط الجنين بأمه.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

مسؤولية الإنسان عن أعماله كلها :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الموضوع الذي بدأناه قبل رمضان وهو حقيقة الإنسان من خلال القرآن .
من الحقائق الأساسيّة التي يتّصف بها الإنسان ، والتي وردَت بها آيات في القرآن أنَّه مسؤول عن أعماله كلّها ، وهذه المسؤوليّة إذا اتّضَحَت في ذهنه ، وأصبحَت ماثلةً بين عَيْنيْه ، كانت سبب استقامته على أمر الله ، فالإنسان أيها الأخوة مسؤول ، قال تعالى :

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ ﴾

[ سورة الحجر: 92]

 قال تعالى :

﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾

[ سورة الصافات :24 ]

 من لوازم هذه المسؤوليّة - ما كلّفنا ، وما سألنا إلا بعد أن أعطانا لوازم هذه المسؤوليّة - أنّ الله سبحانه وتعالى أوْدَعَ فينا قدرةً على معرفة الخير والشرّ من خلال الفطرة التي فُطِرنا عليها ، وأعطانا قوّة إدراكيّة ندرك فيها الأمر التكليفي ، ومنَحَنا حريّة الاختيار ، أو منحَنَا الإرادة الحرّة ، أو بالتعبير الأصولي منحَنا حريّة الكسب ؛ فِطرةٌ تكشف لك عن الخير والشرّ ، وعقلٌ يُدرك التكليف الإلهي ، وحريّة في الكسب أو الاختيار ، هذه مقوِّمات المسؤوليّة ، أعطاك عقلاً ، وأنزلَ على أنبيائه كتابًا ، وفطرك فطرةً نقيّة تعرف الخير من الشرّ ، وبعد هذا كلّه منَحَكَ حريّة الكسب ، أو إرادة حرّة ، أو حريّة الاختيار .
 إلى الآية الكريمة التي يعدّها العلماء أصلَ المسؤوليّة ، قال تعالى :

﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

[ سورة الإسراء : 13-15]

الشُّؤْم والتفاؤُل من دون أن يرتبط بعمل الإنسان لا معنى له :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ كلّ إنسان ألزمناه طائرهُ في عنقه ، أيُّ طائرٍ هذا ؟ وما معنى الطائر ؟ وهل هو طائرٌ حقيقيّ ؟ قال العلماء : الطائر هو العمل ، لأنّ من لوازم العمل أنَّك إذا عملتهُ سُجِّلَ عليك ، وكأنّ شيئًا طار منك تُحاسب عليه ، تُسألُ عنه ، تدفعُ ثمنهُ باهظًا، قال تعالى :

﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾

[ سورة الإسراء : 13]

العرب في الجاهليّة كانت إذا أرادَت شيئًا إن طار الطائر عن يمينها تتفاءل ، وإن طار الطائر عن شمالها تتشاءم ، طائر اليمين اسمه السانح ، وطائر الشمال اسمه البارح ، طار اليمين اسمه مَيمون ، وطائر الشمال مَشؤوم ، ومن هنا جاء فعْلُ التطيُّر ، أي التشاؤُم ؛ عقيدة جاهليّة لا أصل لها ، تشُلّ حركة الإنسان ، تجعلهُ يتحرّك بلا أساس ، بلا دستور ، بلا نظام ، وأيَّة عقيدة مُشابهةٍ يعتقدها الناس في هذه الأيام حكمها كحُكْمِ هذا التطيُّر ، هناك من يتشاءمُ من يومٍ ، أو من عدد ، أو من رقم ، أو من حيوانٍ ، أو من رؤيا ، التشاؤمُ مرفوضٌ في الأصل ، سعادتك منك ، وشقاؤك منك ، خيرك فيك ، وشرّك منك ، قال تعالى:

﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾

[ سورة الإسراء : 13]

 العمل الذي عملتهُ اختيارًا مُسجَّلٌ عليك ، يعود عليك خيرهُ إن كان صالحًا ، ويعود عليك شرّه إن كان طالحًا ، فالشُّؤْم والتفاؤُل من دون أن يرتبط بعمل الإنسان لا معنى له.

 

من حاسَب نفسهُ في الدنيا حسابًا عسيرًا كان حسابهُ يوم القيامة يسيرًا :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ تتِمّة الآية يؤكّد المعنى الأوّل الذي أراده المفسّرون ، قال تعالى :

﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً﴾

[ سورة الإسراء : 13]

 الأفعال كلّها بأوقاتها ، بأمكنتها ، بتفاصيلها ، بِجُزئيَّاتها ، بأشكالها ، بِصُورها تُعرضُ على الإنسان ، كيف لا والإنسان في هذه الأيام تمكَّن من تسجيل الصورة والصوت بألوانها ، فإذا كانت هناك آلةٌ خفيّة تصوّر ، ثمّ عُرض هذا الفيلم على مرتكب الذنب ، لا يستطيع أن يقول كلمة واحدة ، إنسان تمكّن من تسجيل الأعمال والمخالفات والواحد الدّيان تظنّ أنَّك تتفلَّتُ من المسؤوليّة أمامه ؟ قال تعالى :

﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾

[ سورة الإسراء : 13-14]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من حاسبَ نفسهُ في الدنيا حسابًا يسيرًا كان حسابهُ يوم القيامة عسيرًا ، ومن حاسَب نفسهُ في الدنيا حسابًا عسيرًا كان حسابهُ يوم القيامة يسيرًا .

 

اختيار الإنسان قضية مصيرية :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من منَّا يصدِّق أنَّ هذا الاختيار الذي مُنِحنا إيّاه إما أنّه ينتهي بنا إلى جنّة أبديّة ، وإما إلى عذاب أبدي

فالاختيار ليس قضيّة جانبيّة ، وليس قضيّة فرعِيَّة ، بل هو قضيّة مصيريّة ، فإن صحّ اختيارك سعِدتَ في الدنيا والآخرة ، وإن فسد اختيارك شقيت في الدنيا والآخرة ، ولكنّك في الدنيا لو اخترْتَ شيئًا من ثانويات الحياة ، ولم تُوَفق في اختياره لا عليك ، ولا ضَيْرَ عليك ، لكنّ الاختيار الذي منحَكَ الله إياه هو يُحدِّدُ مصيرك الأبدي؛ إما إلى جنّة يدوم نعيمها ، وإما إلى نار لا ينفذُ عذابها ، والدليل تَتِمَّة الآية :

﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾

[ سورة الإسراء : 13-15]

 اللام لامُ التَّمَلّك ، وعلى تفيد العلوّ ، فالأعمال السيّئة كأنَّها صخرةٌ تسحق صاحبها ، ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها ، أعماله السيّئة عبءٌ كبير ، وثِقلٌ كبير ، ومسؤوليّة كبيرة ، قال تعالى :

﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾

[ سورة الإسراء : 15]

من رحمة الله بالإنسان ألا تزر وازرة وزر أخرى :

 ومن لوازم المسؤوليّة ، ومن رحمة الله بالإنسان أنَّه قال :

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

[ سورة الإسراء : 15]

 الوِزْرُ هو الحِمْل ، الوازِرُ هو الحامل ، والوازرةُ هي النفس التي تحملُ النفسُ التي من شأنها أن تتحمّل المسؤوليّة لا يمكن أن تحمل مسؤوليّة غيرها ، فالابن لا يعاقبهُ الله بجريرة أبيه ، والأب لا يُعاقب بجريرة ابنه ، والشريك لا يعاقب بِجَريرة شريكه ، قال تعالى :

﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

[ سورة الإسراء : 13-15]

 لكن هناك توضيحاً لا بدّ منه ، لو أنّ أبًا وجَّه ابنهُ توجيها سيِّئًا ، دفعهُ إلى معصيَة ، أو سكتَ عن انحرافاته ، هذا الأب يُحاسب عن ابنه ، أما فيما لو نصحهُ ، ووجَّههُ ، وربَّاه تربيَةً قويمة ، وأسْدى له النصائح تِلْوَ النصائح ، وعرّفه ، وبعدئذٍ اختار الابن طريقًا آخر فعندئذٍ لا يُحاسب الأب ، لكن حينما يكون للأب علاقة بانحراف ابنه ، أو حينما يكون للزّوج علاقة بانحراف زوجته ، أو حينما يكون للشريك علاقة بانحراف شريكه ، يُحاسب الشريك عن شريكه ، والأب عن ابنه ، والزوج عن زوجته ، أما إذا بيَّنْت ، ووضَّحْت ، وفصَّلْتَ ، ونصَحْت، وأبْلغْت ، واختار هذا الطَّرَف الآخر سُلوكًا آخر عندئذٍ نذكِّرُه بالآية الكريمة ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

[ سورة الإسراء : 15]

لا حِساب قبل التكليف :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ومن فضل الله على هذه الأمّة أنَّه قال :

﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

[ سورة الإسراء : 15]

 لا حِساب قبل التكليف ، الإنسان حينما يكلّف عندئذٍ يُحاسب ، فإذا أوْدَعَ الله في فطرته معرفة الخير والشرّ يٌحاسب في ضَوء فطرته على الخير والشرّ ، أما إذا وصلهُ التكليف التشريعي التفصيلي فعندئذٍ يُحاسب عن تقصيره في التكليف التشريعي ، أي لا تُحاسب إلا إذا أُعطيتَ مقوِّمات المسؤوليّة ، من مُقوّمات المسؤوليّة عقلٌ يُدرك الأوامر التكليفيّة ، وفطرةٌ تُدرك الانحراف إلى الخير أو إلى الشرّ ، لذلك يُحاسب الإنسان من خلال فطرته ، ويُحاسب الإنسان من خلال عقله ، فلو أنّ إنسانًا ما وصله التكليف ، أليْسَ الله قد أوْدَعَ في فِطْرته معرفة الخير والشرّ؟ والدليل على ذلك قوله تعالى :

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾

[ سورة القيامة: 14-15 ]

 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

 هذه الآية بفقراتها العديدة تبيِّنُ أنّ الإنسان مسؤول عن عمله ، ولْينظر الإنسان إلى تعامله مع بني البشر ، لو أنّه كان مسؤولاً أمام شخصٍ من بني البشر أقوى منه ، إنّ هذا الشخص الذي يخشاه إذا كان علمه يطوله ، وقدرته تطوله لا بدّ من أن يطيعه بِحُكم المنطق والعقل ، كنتُ أقول دائمًا إنّ الله سبحانه وتعالى حينما خلق السموات و الأرض ، خلقهما لِيَعلم الإنسان أنّ الله على كلّ شيءٍ قدير ، وأنّ الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا ، أيْ إذا أيْقَنتَ أنّ الله يعلم ، وأنّ الله سيُحَاسِب ، لا بدّ من أن تستقيم على أمره ، كيف لا وإنَّك لو أيقنْت أن زيدًا يعلم ، وأنّ زيدًا أقوى منك ، وسيُحاسِب ، لا بدّ من أن تُطيع زيدًا فكيف بخالق الكون ؟ قال تعالى :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾

[ سورة الطلاق :12]

 ما التطبيق العملي لهذه الآية ؟ يا أيها الأخ الكريم ، ويا أيها المؤمن قبل أن تتحرّك ، وقبل أن تتكلّم ، قبل أن تعطي ، قبل أن تأخذ ، قبل أن تحلفُ يمينًا ، قبل أن تسِر في طريق ما اسأل نفسك هذا السؤال : ما جوابي لله عز وجل لو سألني لمَ أعْطَيْتَ أو لِمَ مَنَعْتَ ؟ لِمَ وصَلْتَ أو لِمَ قطَعْتَ ؟ لِمَ رضيتَ أو لِمَ غضِبْتَ ؟ لِمَ طلَّقْت ؟ لمَ فصلت هذه الشركة ؟ لمَ قلتَ هذه الكلمة ؟ لم فعلتَ هذا الفعل ؟ هذه المسؤوليّة ، لو شعر الإنسان أنَّه مراقبٌ ينضبطُ أشدّ الانضباط ، يبتعدُ عن كلّ الشبهات ، فكيف إذا شعرتَ أنّ الله معك حيثما كنت ؟ وأنَّه مطَّلعٌ على سريرتك ، يعلم السرّ وأخفى ، وخائنة الأعين وما تخفي الصدور .

 

الاستقامة على أمر الله تجعل ثمار الدين يانعة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا علمت أنّ الله يعلم ، وأنّه سيُحاسب اسْتقمْت على أمره ، ولن تقطف من ثمار الدِّين شيئًا قبل أن تستقيم على أمره ، فإن استَقمْتَ على أمره رأيْتَ ثِمار الدِّين يانعةً ، رأيْتَ ثِمار الدِّين سعادةً ، وطمأنينةً ، وسكينةً ، وتوفيقًا ، ونجاحًا ، وفلاحًا ، وفوزًا، وتفوُّقًا ، ورأيْتَ أنَّك حقَّقْت إنسانيّتك ، ووجدْت نفسك ، ورأيت أنّك من السُّعداء في الدنيا قبل الآخرة ، لأنّ الله سبحانه وتعالى يرحمك ، ورحمة الله جلّ جلاله شيءٌ ثمينٌ جدًّا ، قال تعالى :

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

[ سورة فاطر : 2]

من صحّ اختياره صحّ عملهُ وسعد في الدنيا والآخرة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الآية أصلٌ في مسؤوليّة الإنسان ، وكلّ إنسانٍ أيّ إنسان ، كائنًا من كان ، في أيّ زمان ، وفي أيّ مكان ، ألْزمناهُ طائره - طائرهُ عمله - إن فعلتَ العمل طار منك ، وسُجِّلَ عليك ، ولا تستطيع أن تلغِيَهُ ، ونحن في الدنيا ، قد يتكلّم الإنسان كلمة فيُحاسبُ عليها أشدّ الحِساب ، ليس في إمكانه أن يُلغِيَها ، ولا أن يسْحَبها ، ولا أن يمْحُوَها من محضر التحقيق ، العمل الذي تفعلهُ باختيارك ، هذا العمل مُسجَّلٌ عليك ، وسوف تُحاسبُ عنه ، قال تعالى : قال تعالى :

﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً﴾

[ سورة الإسراء : 13]

في بعض البلاد الغربيَة هناك ضبطٌ شديد لبعض الأمور ، فلو تجاوَزْت إشارة السَّير في الرابعة صباحًا ، وليس في المنطقة أحدٌ يراك تُسجّل عليك مُخالفة ، وقد التُقِطَت لك صورة ولِمَركبتك ، فإذا قلتَ : لم أكن في هذا المكان ، تواجَهُ بالصورة فتسْكت ! هذا فِعْل الإنسان فكيف بِفِعل الواحد الديّان ؟ قال تعالى :

﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾

[ سورة الإسراء : 13-14]

 هذا الاختيار ليس شيئًا ثانويًّا ، ليس شيئًا فرعيًّا ، لا يقدِّمُ ولا يؤخِّر ، بل إنّه شيء مصيري ، فمن صحّ اختياره صحّ عملهُ ، وسعد في الدنيا والآخرة ، ومن أساء اختياره فسدَ عمله فشقي في الدنيا والآخرة . لذلك قال الله عز وجل :

﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

[ سورة الإسراء : 15]

 لا تقل : أنا نشأتُ في أُسرة ليْسَت متديِّنة ، لا تقل : بيئتي ، لا تقل : وراثتي ، لا تقل : المحيط ، لا تقل : الثقافة ، هذا كلّه لا يقدّم ولا يؤخّر ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

 أنت عملك من حصيلة اختيارك ، حينما تقول : البيئة ، والمحيط ، والوراثة ، والتربية التي تلقّيتها ، أنت بهذا تلغي الاختيار ، وتجعل من نفسك منفعِلاً لا فاعلاً ، والله سبحانه وتعالى كرَّمَكَ ، وجعلك مختارًا ، فحينما تعزو كلّ أخطائك إلى البيئة ، وإلى التربية ، وإلى الوراثة ، وإلى المحيط ، وإلى الثقافة ، ألْغيْتَ إنسانيّتك ، وألْغيْت وُجودك الإنساني ، وجعلتَ من نفسك كائنًا منفعلاً بالأحداث لا فاعلاً بها .

 

الله جلّ جلاله لا يكلِّفُ نفسًا إلا وُسْعَهَا :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ولا تزر وازرة وزر أخرى :

كن ابن من شئْت واكتسِب  أدبًا يُغنيك محموده عن النَّسَب
***

 دائمًا المقصِّرون يُعزون أخطاءهم إلى أشياء بعيدة عنهم ، دائمًا العُصاة يُعزون معصيَتهم إلى الظروف ، وإلى البيئة ، وإلى الفساد العام ، هذا كلّه ليس مقبولاً عند الله تعالى لأنّ الله جلّ جلاله لا يكلِّفُ نفسًا إلا وُسْعَهَا ، الوُسْعُ لا تُحَدِّدُه أنت ، ولكنّ الله يحدِّدُه ، الذي خلق الإنسان هو الذي يعرفُ وُسْعهُ ، فما كلّفك إلا أشياء بإمكانك أن تفعلها . أيضًا كلُّ إنسان يقول لك : زمنٌ صعب ، لا أستطيع ! هذا كلامٌ مرفوض ، لأنّ المستقيم في هذا الزمان حجَّة على المنحرف ، والشريف حجّة على غير الشريف ، والنزيه حجّة على غير النزيه ، والعفيف حجّة على غير العفيف ، صحيح أنّ الاستقامة في زمن تغدو سهلة ، وفي زمن تغدو صعبة ، ولكن في أشدّ الأزمان الاستقامة من إمكان الإنسان .

 

أيَّة نعمةٍ أنعمها الله على الإنسان يرقى بها أو يهوي بها :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ آيات كريمة تؤكِّدُ مضمون هذا الموضوع ، قال تعالى:

﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾

[ سورة الصافات : 21-24]

 وقال تعالى :

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾

[ سورة الروم : 17-18]

 وقال تعالى :

﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾

[ سورة الزخرف : 19]

 وقال تعالى :

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾

[ سورة الإسراء : 36]

 والآية التي تقرؤونها جميعًا قوله تعالى :

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾

[ سورة التكاثر : 1-8]

فسَّر المفسِّرون النعيم فقالوا : نعمة الصحّة ؛ ماذا فعلت بها ؟ اسْتخدمْتَ هذه الصحّة في طاعة الله أم في المعاصي والآثام ؟ نعمة الأمن ؛ لسْتَ مُلاحقًا ، لسْتَ مطلوبًا ، هذه النعمة ماذا فعلتَ بها ؟ اسْتخدمتها في طلب العلم أم استخدمتها في التمتُّع بالموبقات التي حرّمها الله عز وجل ؟ ونعمة المال ماذا فعلت بهذه النعمة ؟ هل أنفقتهُ في طاعة الله أم لِتَتَباهى به أمام الناس ؟ أم أنفقته في المعاصي والفجور ؟ نعمة المال ، ونعمة الصحّة ، ونعمة الأمن ، ونعمة الفراغ ، معك وقتٌ فراغ ماذا فعلت به ؟ ماذا قرأت بهذا الوقت ؟ مجلات رخيصة أم قرأت قصصًا عابسة ؟ أم قرأتَ كتاب الله أم قرأتَ كتابًا يدلّك على الله عز وجل ؟ نعمة المال ، ونعمة الصحّة ، ونعمة الأمن ، ونعمة الفراغ ، ونعمة القوّة ، هذه القوّة التي متَّعك الله بها ، إلى أين تذهب بهذين القدمين ؟ ماذا فعلت بهذا اللّسان ؟ أيَّة نعمةٍ أنعمها الله عليك يمكن أن ترقى بها إلى أعلى عليِّين ، ويمكن أن يهوي بها الإنسان إلى أسفل سافلين ، أيّة نعمة أو أيّ حظِّ أكرمك الله به ، درجات إلى الجنّة ، أو دركات إلى النار .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا أيقنتم يقينًا قطيعًّا أنَّكم محاسبون ، ومسؤولون عن كلّ حركة ، وعن كلّ سكنةٍ ، وعن كلّ عطاءٍ ، وعن كلّ منْعٍ ، وعن كلّ صلة وقطيعة ، وعن كلّ غضب وسرور ، وعن كلّ أفعالكم ، إذا أيقنتم أنَّكم مسؤولون فلا بدّ أن تستقيموا على أمر الله ، وراقبوا أنفسكم مع بني البشر ، موظَّف له مدير يُحاسبُ حسابًا دقيقًا ، إذا دخلْت إلى الدائرة جهاز يُسجِّلُ ساعة دُخولك ، وإذا خرجت منها هذا الجهاز يسجّل ساعة خروجك ، وأنّ المدير سيُحاسِب عن كلّ ساعة تأخَّرْت بها ، أو عن كلّ ساعةٍ اختصرْتها من الدوام ، إذا أيْقنْت أنّ كلّ حركاتك مسجّلة ، وأنّ المدير سيسْأل ، بربِّك ألا تستقيم على أمر هذا الإنسان فكيف بالواحد الديان ؟

 

كل إنسان مسؤول و سيحاسب عن مسؤوليته يوم القيامة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ مِحْور الخطبة أنَّك مسؤول ، قال تعالى :

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ ﴾

[ سورة الحجر: 92]

 فقبل أن تفعل شيئًا ، قبل أن تتحرّك ، قبل أن تعطي ، قبل أن تأخذ ، قبل أن تقسم ، قبل أن تحلف ، قبل أن تزيّن هذه البضاعة وتخفي عيْبها ، تذكَّر أنّ الله يعلم ، وقبل أن تزيِّف ، وقبل أن تدلِّس ، قبل أن تغمز ، قبل أن تهمز ، كلُّ شيءٍ في علم الله ، فَسِرُّ استقامتكم يقينكم أنّ الله سيسألكم في الدنيا قبل الآخرة ، أما إذا حاسب الله أناسًا في الدنيا فعَيْنَةٌ من أجل ردْع المقصِّرين ، وإذا أكرم المستقيم فَعَيْنةٌ من أجل تشجيع المستقيمين ، ولكنّ الحساب الدقيق الشامل ، قال تعالى :

﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[ سورة آل عمران: 185 ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ))

[الترمذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ]

 هذه الآيات بين أيديكم ، وهذا الحديث الصحيح بين أيديكم ، وربّنا سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم :

﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾

[ سورة فصلت : 40]

 قال علماء التفسير : هذا أمر تهديد ، اعْمَل ما شئْت ، وكلّ عملٍ سأُحاسبُك عنه ، افْعل ما تريد ، وكلّ فعلٍ سوف تؤخذ به ، كلّ شيءٍ له ثمن ، يا قُييس إنّ لك قرينًا تدفن معه وهو حي ، ويُدفن معك وأنت ميّت ، فإن كان كريمًا أكرمك ، وإن كان لئيمًا أسلمك ألا وهو عملك ، الدنيا ساعة اجعلها طاعة ، والنفس طمَّاعة عوِّدها القناعة ، قال تعالى :

﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى﴾

[ سورة الإسراء : 13-15]

 لا تمنّ على أحد شيئًا ، لا تمنّ على الناس ، لا تمنّ على الله إسلامك ولا إيمانك ، قال تعالى :

﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾

[ سورة الإسراء : 15]

 اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدنا علمًا ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

ارتباط الجنين بأمه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من البحوث العلميّة الطبيّة التي تُعدّ آيةً من آيات الله الدالة على عظمة الله ، أنّ الجنين كان في نظر الطبّ قديمًا كائنًا حيًّا في أدنى مستويات الحياة ، كانت كتُب الطبّ تصفُ حياته بحياة حبّة الفاصولياء في أصيص التراب ، رُشيم ، وجُذير ، وسُويق ، ومحفظة غذاء ، جاءتها الرطوبة ، وجاءها النور ، فنما هذا الرُّشَيم ، وما حركات الجنين إلا ردود أفعال على المؤثِّرات التي تصل إليه وهو في بطن أمّه ، ولكنّ الطبّ الحديث من خلال تطوّر وسائل الملاحظة والمشاهدة ، ووُصول الطبّ إلى باطن الجسم الإنساني ، واستخدام التنظير والتصوير التلفزيوني ، والتسجيل الضوئي والصوتي ، هذه الوسائل المتقدِّمة جدًّا سمحَت للطبّ أن يصل إلى الجنين فيطَّلِعُ على حياته العضويّة ، وسُلوكه النفسي ، فكشفَ الطبّ حقائق مذهلة ، أُمّ حامل في الشهر السادس ، معتادةٌ على التدخين ، طلب منها الطبيب أن تمتنع عن التدخين مدَّة جيّدة ، ثمَّ قدَّم لها دخينة ، وما أن أوْلعَتها إلا وأشار المقياس إلى اضطراب قلب الجنين ، وقالوا : هذا منعكسٌ شرطي ، وهو نوعٌ من أنواع التعلّم ، هذا الجنين وهو في الشهر السادس ، وهو في بطن أمِّه تأذَّى من أمِّه حينما استعملَت الدخان .
إذا وقعت الأمّ في أزمةٍ نفسيّة كالغضب فإنّ الجنين يتأثّر لتأثُّر أمِّه ، وتضطرب أعضاؤه ، وأجهزتهُ ، وإذا كانت الأمّ في سعادةٍ ويُسْر ، وكانت تُهَدْهد له ببَعض التهويمات فإنّ الجنين يهدأ ، ويطربُ قلبه ، وأعضاؤُه ، ونفسيَّتُه ، والأغربُ من ذلك أن الجنين وهو في بطن أمِّه ينجذبُ إلى صوتِ أبيه ، ويقفُ موقفَ المأخوذ ، ويتأكَّد هذا بعد الولادة .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ في هذا الموضوع موضوع اسمهُ الرِّباط ، أي ارتباط الجنين بأُمِّه ، فإذا رغبَت الأمّ بالحمل ، وتولَّعَت به بادلَ الجنين أمَّه الابتهاج ، وقدَّم مودَّته وشكره على حسن لقائها ، ويغتني شعوره بالسكينة ، ويُعبّرُ عن امتنانه بحركات في بطن أمِّه لا حدّ لعُذوبتها على قلب الأم ، أما الأمّ التي لا ترغب بالحمْل ، ويتمّ الحمْلُ وهي مُكرهة فإنّ التواصل أو الرِّباط ينقطعُ مع الجنين ، يحيا الجنين حياةً منفصلةً عن أمِّه فيها الوحشة والانكماش ، ويسلك سلوك البلبلة والاضطراب ، ويختلّ توازنه ، ويعبِّرُ على هذه اللامبالاة أوّل الأمر بالصَّبر ، وبعدئذ يضرب أمَّه بركلاتٍ يرسلها بقَدَميْه ، وكأنَّه يعبِّرُ بها عن احتجاجه لكراهيتها له ، وبعد الولادة الجنين الذي رفضَت أمّه حملهُ لا يقبلُ ثدييَها ، بل يُقبلُ على أيِّ ثديٍ آخر ، فإذا عُصِبَت عيناه ، وقدِّمَ له ثديُ أمِّه رفضهُ لأنّها رفضتْهُ في الأصل ، الجنين يحيا حياةً نفسيَة ، ويبدأُ تعلُّمه وهو في بطن أمِّه .
 بعضهم قال : دورة النوم عند الأمّ قد تكون ذات خصائص معيّنة ، فالأمّ التي تكثر السَّهر يأتي ولدها مشابهًا لها ، الأمّ التي هي نؤومة الضحى يأتي ابنها مشابهًا لها ، فهناك تأثُّرًا يتأثّر به الجنين من أمّه قبل أن يولد .
 الأغرب من هذا كلّه أنّ التي جاءها المخاض إذا كان لها إنسانٌ قريب ودود يجلسُ إلى جانبها كأُمِّها ، فهذا الإنسان القريب الودود يلعبُ دورًا أساسيًّا في تيسير الولادة ، ويزداد انصباب الدم على الرحم والجنين مغذِّيًا فينْتعشُ الجنين في أثناء المخاض ، وتتضاءَلُ عقابيل نقص الأكسجين ، في أثناء المخاض هذا النقص ربّما أصابهُ بتأخُّرٍ عقلي ، أو اضطرابٍ نفسي ، انظروا أيّها الأخوة إلى الأمّ التي ترغبُ في الحمْل ، الأم السعيدة ، الأمّ التي تعيشُ مع زوجها مطمئنّة ، هذا ينعكسُ صحَّةً جسميّة ونفسيّة على حياة الجنين ، والأمّ التي تكون إلى جانب ابنتها في أثناء الولادة وُجود الأمّ إلى جانب الولاّدة يُعينها على تيسير الولادة ، وعلى بُعدها عن عقابيل نقص الأكسجين بالتخلّف العقلي أحيانًا ، أو بِدَاء الصَّرع أو بالاضطراب النفسي ، انظروا أيها الأخوة إلى حكمة الله عز وجل ، حتى أنّ الصفات التي تحياها الأمّ في أثناء الحمل ينعكسُ معظمها على الجنين وهو في بطنها ، فيا أيها الأخوة الأكارم حينما نبتعد عن التصميم الإلهي ، وعن البنية الإلهيّة التي بناها ، ونأخذ أسلوبًا آخر في الحياة ، هذا ينعكسُ على صحّة أولادنا ، وعلى نموهم ، وعلى سلامة نفوسهم .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذّل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور