- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر. اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
حقيقة المعرفة التي هي سبب العبادة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الخطبة السابقة كان الحديث عن حقيقة العبادة ، وكيف أنَّ مِن تعاريف العبادة أنها طاعةٌ طوعيَّة ، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية ، أساسها معرفةٌ يقينية، تُفْضي إلى سعادةٍ أبديَّة ، أيْ أنَّ العبادة غايةٌ في الخضوع ، وغايةٌ في المحبة ، سببها المعرفة ونتيجتها السعادة .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ما حقيقة المعرفة التي هي سبب العبادة ؟
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أساس العبادة معرفةٌ يقينيَّة ، وما لم تكن المعرفة يقينية قطعيَّةً ، فإنها لا تحمل صاحبها على طاعة الله ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾
لا تصحُّ الرؤية ، ولا يصحُّ العمل إلا بالعلم اليَقيني ، والعِلْم اليقيني هو الحقيقة الثابتة ، أو العلاقة الثابتة بين شيئين ، المقطوع بصحَّتها ، لو لم تكن هذه الحقيقة ثابتة لدخلنا في الوهم ، لدخلنا في الشَكّ ، الله سبحانه وتعالى وصف الكفار فقال :
﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾
ما دامت تصوُّراته يعتريها الشك ، التردُّد ، عدم اليقين ، الوَهْم ، الظَن ، قال تعالى :
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾
لابدَّ من أن نحرر تصوّراتنا ، ومعتقداتنا ، وأفكارنا ، ومعارفنا من الوَهْم ، ومن الشكِّ ، ومن الظن ، ويجب أن ننطلق من معرفةٍ يقينية ، قطعية الثبوت .
أنواع اليقين :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك اليقين الحِسِّي الذي تراه عينك ، وينتقل إلى أذنك، وتحسُّه يداك هذا يقينٌ حسي ، وهناك يقينٌ لا يقلُّ ثبوتاً عن اليقين الحسيّ ، ألا وهو اليقينُ الاستدلالي . أعرابيٌ قال : الأقدام تدل على المسير ، والماء يدل على الغدير ، والبعرة تدل على البعير ، أفسماءٌ ذات أبراج ، وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟! اليقين الحسيّ يشترك فيه الإنسان والحيوان ، ولكن اليقين الاستدلالي ينفرد به الإنسان ، الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكرَّمه أعظم تكريم ، أودع فيه العقل ؛ الذي هو أثمن شيءٍ في الكون ، والعقل لو أعمله الإنسان إعمالاً صحيحاً لاهتدى به إلى الله عزَّ وجل .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وهناك يقينٌ ثالث هو اليقين الإخباري ، أنت إذا آمنت بالله تحقيقاً ، إذا آمنت بالله عن طريق البحث الذاتيّ ، وعن طريق الآيات التي لا تعدُّ ولا تُحْصَى ، والتي بثَّها الله في السموات والأرض ، إذا آمنت بهذه الأدلَّة القطعية ، صحَّ إيمانك ، وكان تحقيقياً . فإذا آمنت بالقرآن إيماناً دقيقاً ، قطعياً ، صحيحاً صحَّ إيمانك بالقرآن ، فإذا آمنت بالنبي عليه الصلاة والسلام من خلال إيمانك بالقرآن ، كان إيمانك بالله ، وبالقرآن ، وبالرسول إيماناً تحقيقياً . فإذا أخبرك القرآن عن اليوم الآخر ، إذا أخبرك القرآن عن الجنَّة والنار ، إذا أخبرك القرآن عن عالم الجِن ، إذا أخبرك القرآن عن الصراط والحوض ، إذا أخبرك القرآن عن البرزخ ، إذا أخبرك القرآن عما بعد الموت ؛ فهذا يقينٌ من نوعٍ ثالث ألا وهو اليقين الإخباري .
العلم هو القيمة الوحيدة للترجيح بين البشر :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لابدَّ من أن تكون المعرفة يقينيةً . .
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾
هذا التردُّد ، وهذا الظَن ، وهذا الشك ، وهذا الوَهم ، وعدم التأكُّد ليس هذا من صفات المؤمن ، في حياة المؤمن حقائق قطعيَّة الثبوت ، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، يؤكِّدها الواقع ، عليها دليلٌ قَطْعي ، العبادة الحقَّة التي هي طاعةٌ طوعية ، ممزوجةٌ بمحبَّةٍ قلبية ، التي تُفْضي إلى سعادةٍ أبدية ، أساسها المعرفة اليقينية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح المتواتر :
(( طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم ))
ربنا سبحانه وتعالى جعل العلم قيمةً وحيدةً للترجيح بين خَلْقِهِ ، ولم يجعل المال قيمةً مُرَجِّحة ، ولم يجعل القوة قيمةً مرجِّحة ، ولم يجعل الذكاء قيمةً مرجحة ، ولم يجعل الوجاهة قيمة مرجِّحة ، ولم يجعل الصحة قيمة مرجحة ، ولم يجعل الجمال قيمة مرجحة ، إنما العلم- والعلم وحده - قال تعالى :
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ طلب العلم فريضة ، معرفة كتاب الله ، وماذا تعني آياته ، وما هي أبعاد آياته ، وما الأحكام الشرعية المُستنبطة من آياته ؛ فرض عينٍ على كل مسلم ، مهما يكن عمله ، مهما تكن حرفته ، مهما تكن أشغاله ، لأن صحَّة العمل أساسها صحة العِلْم ، صحة العبادة أساسها صحة العلم ، إحْكام العمل أساسه إحكام العلم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ تعريف العلم حقيقةٌ أو علاقةٌ ثابتة بين شيئين مقطوعٌ بصحَّتها ، اسعَ ، وجاهد ، وابحث ، وادرس ، واسأل ، ونَقِّب إلى أن تصل إلى الحقيقة القطعيَّة التي لا شكَّ فيها ، يجب أن تؤمن ولو كفر الناس جميعاً ، هذا هو الإيمان ، أما الذي يؤمن إذا آمن الناس ، ويكفر إذا كفر الناس ، يستقيم إذا استقام الناس ، وينحرف إذا انحرف الناس ، هذا وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه إمَّعة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( لا تكونوا إمعة ))
بل أن يكون الإنسان تبعاً للناس هذه أخلاق الجاهلية ، وقد قال شاعر الجاهلية :
وما أنا إلا من غزيَّة إن غوت غويتُ وإن ترشد غزية أرشدُ
* * *
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ابحثوا عن المعرفة اليقينية ، ابحثوا عن الحقائق الثابتة، ابحثوا عن الدليل القَطْعي ، ابحثوا عن علمٍ لا يتزلزل ، ابحثوا عن عقيدةٍ لا تقف على قدميها ، ابحثوا عن الحق .
(( إن هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمن يأخذ دينه ))
الانطلاق الصحيح من العلم يقود إلى خشية الله :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله عزَّ وجل :
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
إذا انطلقت من العِلْم ، إذا انطلقت من حقيقةٍ ثابتة ، من تَصَوّرٍ صحيح ، من علاقةٍ ثابتة مقطوعٍ بصحَّتها ، يؤكِّدها الواقع ، عليها دليل ، هذا المُنْطَلَق يقودك إلى خشية الله، والدليل قوله تعالى :
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
العلماء وحدهُم وليس أحدٌ سواهم يخشون الله عزَّ وجل ، واسمحوا لي أيها الأخوة أن أؤكد لكم أن أعدى أعداء الإنسان هو الجهل ، والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله به عدوُّه ، فالعلم العلم ، والذي يرفع الإنسان عن مرتبة الحيوان هو العلم . الجمادُ شيءٌ يشغل حيزاً مادياً، والنبات شيءٌ يشغل حيزاً مادياً وينمو ، والحيوان شيءٌ يشغل حيزاً مادياً وينمو ويتحرَّك ، والإنسان شيءٌ يشغل حيزاً مادياً كالجماد ، وينمو كالنبات ، ويتحرَّك كالحيوان ، ولكنه يفكِّر ، يعقل . .
﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ابحث عن الدليل ، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، لا تستمع إلى كلماتٍ ليس لها دليل ، اسأل عن الدليل ، لا ترفُض شيئاً من دون دليل ، ولا تقبل شيئاً من دون دليل ، من أجل أن تبقى على الصراط المُستقيم ، من أجل أن تبقى موضوعياً .
منهج البحث في الإسلام :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ إن كنت ناقلاً ؛ هذا منهج البحث في الإسلام ، إن كنت ناقلاً فالصحة ، أو كنت مبتدعاً فالدليل .
أخوة الإيمان : الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه قال فيما ورد في نهج البلاغة :" انظروا إلى النملة - انظروا إلى النملة ، فكروا فيها - في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفِكَر ، كيف دبَّت على أرضها ؟ وصبَّت على رزقها ؟ تنقل الحبة إلى جُحْرِها وتعدّها في مستقرها ، تجمع في حرِّها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، مكفولةٌ برزقها ، مرزوقةٌ بوسقها ، لا يغفلها المنَّان ، ولا يحرمها الديَّان ، ولو في الصفا الوابد ، والحجر الجامد ، ولو فكَّرت في مجاري أكلها ، في علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها ، وأذنها ، لقضيت من خلقها عجباً ، وللقيت من وصفها تعباً ، فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يُعنه على خلقها قادر ."
هل نظرنا إلى النملة ؟ هل نظرنا إلى النحلة ؟ هل نظرنا إلى الفراشة ؟ هل نظرنا إلى أجسامنا ؟ هل نظرنا إلى أولادنا ؟ هل نظرنا إلى طعامنا ؟ هل نظرنا إلى شرابنا ؟ إن النظر في الكون يورث المعرفة اليقينية .
شيءٌ آخر يا أيها الأخوة المؤمنون عن المعرفة اليقينية : قال بعضهم : العلم ما عُمِلَ به ، فإن لم يعمل به كان الجهل أفضل منه .
اسأل نفسك هذا السؤال : ماذا عملت بما علمت ؟ هذا الأعرابي ، هذا البدوي الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام : عظني وأوجز . فقال عليه الصلاة والسلام :
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
فقال الأعرابي : قد كفيت- هذه الآية تكفيني ، هذه الآية تكفيني طوال حياتي -فقال عليه الصلاة والسلام :
(( فقُهَ الرجل ))
أي أصبح فقيهاً ، لو قال : فَقِه أي عرف الحُكم ، بل قال : فَقُه .
هذا سؤالٌ دقيق : ماذا عملت بما أعلم ؟ القرآن الكريم بين أيدينا ، تفسيره مبذولٌ لكل الناس، السُنَّة المطهرة بين أيدينا ، شرحها مبذولٌ لكل الناس ، الأحكام الفقهيَّة معروفة وهي مبذولة لكل الناس ، ماذا عملنا بما علمنا ؟ . .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
العلم وسيلةٌ وليس غاية :
العلم أيها الأخوة وسيلةٌ وليس غاية ، إنَّه سُلَّمٌ ترقى به إلى أعلى عليين ، وقد يصبح سلماً تهوي به إلى أسفل سافلين ، إذا عملت بما عَلِمت كان سُلماً ترقى به إلى أعلى عليين ، فإذا جعلته هدفاً ، وجعلته حجاباً ، واستعليت به على الخَلْق ، كان العلم - وهو أقدس ما في الكون - سلماً يهوي بصاحبه إلى أسفل سافلين .
وعـالـمٌ بعـلمـه لم يَعْمَـلَـن معذبٌ من قبل عبَّاد الوثن
* * *
تعلموا ما شئتم فوالله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ تتعلم علماً دينياً ، ما دام هناك مخالفةٌ لأمر الله ، ما دُمت مُقيماً على معصية الله ، ما دمت منحرفاً عن الخط الصحيح ، ما دمت غير مكترثٍ لكسب المال ، من أين ؟ وكيف ؟ ولست مكترثاً بإنفاقه ، فعلمك الديني الذي تعلَّمته لا قيمة له إطلاقاً ، ترقى في العِلم ، وترقى في العلم إلى الدرجة التي يحملك هذا العلم على طاعة الله عزَّ وجل ، إذا حملك على طاعة الله فهذا هو العلم النافع . لذلك : العلم إما أن يكون حجةً عليك ، وإما أن يكون حجةً لك ، ما لم يحمل العلم صاحبه على طاعة الله فلا قيمة له إطلاقاً، وليس علماً بل إنه نوعٌ من الجهل .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله ، وكفى به جهلاً أن يعجب بنفسه ))
لمجرَّد أن تعصي الله فأنت لا تعرفه ، لا تعرف ما عنده من ثواب ، ولا ما عنده من عِقاب ، لمجرَّد أن تعصي الله عزَّ وجل لا تعرف الجنة ولا تعرف النار ، علامة علمك طاعتك .
اقتباس العلم من كتاب الله أو من الكون أو من الأحداث اليومية :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر من العلم : العلم إما أن تقتبسه من كتاب الله ؛ الذي فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، فيه الحلال والحرام ، فيه الوَعْد والوعيد ، فيه الثواب والعقاب ، فيه أخبار الأمم السابقة ، فيه الآيات الكونية ، فيه آيات التوحيد ، فيه كل شيء ، إما أن تستقي العلم من كتاب الله ؛ فهو كونٌ ناطق ، وإما أن تستقي العلم من الكون الذي ينطق بأسماء الله الحُسنى ، وصفاته الفُضلى ؛ فهو قرآنٌ صامت ، وإما أن تستقي العلم من الأحداث اليوميَّة لقول الله عزَّ وجل :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾
آيةٌ ثانية :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
قال عليه الصلاة والسلام :
(( أُمِرْتُ أن يكون صمتي فكراً - هذا طريق العقل - ونطقي ذِكْراً ، ونظري عبرةً))
أيها الأخ الكريم ؛ لا تدع الفرصة تفوتك ، إن شاهدت حدثاً يمكن أن تستنبط منه موعظة ، إن شاهدت مالاً قد تَلِف ، لأن صاحبه قد جمعه من حرام ، فهذه حقيقة ، إن شاهدت إنساناً سعد ، لأنه غضَّ بصره عن محارم الله ، هذه حقيقة ، تتبع الطائعين ، وكيف أنَّهم يقطفون ثمار طاعتهم في الدنيا قبل الآخرة ، تتبَّع سيَر العُصاة والفُجَّار ، ترى أنهم يدفعون الثمن غالياً في الدنيا قبل الآخرة ، هذه حقائق ، ما من عثرةٍ ، ولا اختلاج عرقٍ ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدَّمت أيديكم وما يعفو الله أكثر .
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
هذا مصدر ، الأحداث هي أفعال الله عزَّ وجل ، أفعال الله قرآنٌ مُطَبَّق ، والقرآن كونٌ ناطق ، والكون قرآنٌ صامت ، الكون خَلْقُهُ ، والقرآن كلامه ، والحوادث أفعاله ، ويمكن أن تستقي الحقيقة من أفعاله جلَّ وعلا ، ومن قرآنه ، ومن الكون .
العلم بالله يحمل الإنسان على طاعته :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ العلم يرقى بك ، ويرقى بك إلى أن يحملك على طاعة الله، ثم يرقى بك ، ويرقى بك إلى أن يحملك على العمل الصالح ، ويرقى بك ويرقى بك إلى أن تُصْبِحَ داعيةً لله عزَّ وجل ، استقم على أمره فهذا مستوى ، افعل الصالحات فهذا مستوى ، عَلِّم العلم فهذا مستوى .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كونوا طموحين في مجال الخَيْرات ، ولا تكونوا طموحين في الدنيا ، لأن الدنيا لها سقف ، مهما كثُر مالك فقدرتك على الاستمتاع بالدنيا محدود ؛ لقمتان تكفيك ، وثوبٌ يكفيك ، ومأوى يكفيك ، ولكن باب العلم لا نهاية له ، باب الخَيْرات لا نهاية له .
أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر : الدنيا تغرُّ وتضر وتمر ، ولكن العلم بالله ، ولكن معرفة الله ، ولكن الاستقامة على أمر الله ، ولكن العمل الصالح ، ولكن الدعوة إلى الله هذه تبقى ذخراً للإنسان إلى أبد الآبدين .
الإخلاص :
شيءٌ آخر يا أيها الأخوة المؤمنون ونحن نتحدث عن العلم اليقيني ، الذي هو سببٌ للعبادة الصحيحة ، التي هي سببٌ للسعادة الأبدية إنه : الإخلاص ، الإخلاص الإخلاص، درهمٌ أنفق في إخلاص خيرٌ من مئة ألف درهمٍ أنفق في رياء ، القليل من العمل ينفع مع الإخلاص ، ومن دون إخلاص لا ينفع لا قليل العمل ولا كثيره . .
(( من تعلَّم العلم ليماري به السفهاء ، أو ليجادل به العلماء ، أو ليصرف وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم ))
يجب أن تُخْلِصَ في طلب العِلم ، يجب أن تعرف الحقيقة لوجه الله عزَّ وجل ، كي تنطلق منها ، كي تطبِّقها ، كي تسعد بها .
العلم شيء ثمين جداً :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر في السُّنة المطهَّرة ، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( تعلموا العلم فإن تعلُّمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة - بل هو أعظم صدقة - وبذله لأهله قربة ، لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبيل الجنة ، والأنيس في الوحشة ، والصاحب في الوحدة ، والمُحَدِّث في الخلوة ، والدليل على السرَّاء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الأخلاء ، والقرب عند الغرباء ، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الجنة))
أيها الأخوة المؤمنون ؛ العلم شيءٌ ثمينٌ جداً ، لأن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول :
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾
وكما قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا بورك لي في يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً ))
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الرياح :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك آيات قرآنية كثيرة تتحدث عن بعض الآيات الكونية، ترد كلمة :
﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾
فهذه الرياح التي هي سببٌ من أسباب حياتنا ، إنها روحُ الأحياء ، كيف يصرفها الله عزَّ وجل ؟
قال بعض العلماء : إن الماء إذا عُرِّضَ للحرارة ، وإلى جانبه جسمٌ صُلْب ، أبطأ في اكتسابه للحرارة من الجسم الصلب ، لو وضعت كميةً من الماء بحجمٍ يساوي جسماً صلباً ، ووضعتهما تحت أشعَّة الشمس ساعةً كاملة ، فإن حرارة الماء ترتفع ست درجات ، ويرتفع الجسم الصلب عشر درجات ، فالماء بطيءٌ في اكتساب الحرارة ، بطيءٌ في طرحها ، في التخلي عنها.
لذلك حينما تكون أشعة الشمس مُسَلَّطةً على المناطق الساحلية ، يسخن البر بأسرع مما يسخن البحر ، إذا سخن البر بسرعةٍ أسرع ، يتمدَّد الهواء ، يصعد نحو الأعلى ، يتخلخل ، يقلُّ الضغط هناك ، فإذا كان هواء البحر أكثر كثافةً ، وأكثر برودة ، وأكثر ضغطاً، فإنه ينتقل إلى البر ، لذلك في أيِّ مكانٍ من أماكن السواحل ترى نسيم البحر ينتقل بعد الظُهْر من البحر إلى البر . .
﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .