- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
مجالات العبادة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوع العبادة ، تحدثنا في خطبةٍ سابقة أين كان الإنسان ، وإلى أين المصير ، ولِمَ هو على وجه الأرض ؟ وفي خطبةٍ تالية تحدَّثت عن معنى العبادة ، وكيف أنها طاعةٌ طوعية ، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادةٍ أبدية . وفي خطبةٍ ثالثة تحدثت عن مصادر المعرفة اليقينية ، كيف أن الكون قرآنٌ صامت ، وكيف أن القرآن كونٌ ناطق ، وكيف أن أفعال الله سبحانه وتعالى مصدرٌ ثالث للحقيقة .
وفي هذه الخطبة يا أيها الأخوة المؤمنون نتحدث عن مجالات العبادة .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ العبادة تشمل الدين كلَّه ، كيف لا وهي علَّة وجودنا على وجه الأرض ، فالعبادة كما يقول بعض العلماء : اسمٌ جامعٌ لكل ما يحب الله ويرضاه ، من الأقوال والأفعال ، الظاهرة والباطنة . فالصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة من العبادة ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبرُّ الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالوعد والعهد من العبادة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المُنكر ، والإحسان إلى الجار ، والإحسان إلى اليَتيم ، والمسكين ، وابن السبيل ، والإحسان إلى البهائم من العبادة ، والذِكْرُ ، والدُعاء ، والقراءة ، والتَهَجُّد من العبادة . إذاً العبادة تشمل الدين كله ، وحينما فهم المسلمون أن العبادة هي الصلاة والصيام والحج والزكاة ليس غير ، عندئذٍ تقهقروا ، العبادة تشمل الفرائض الشعائرية - كما يسمّيها بعض الفقهاء - تشمل الصيام ، والصلاة ، والحج ، والزكاة ، وتشمل أيضاً التَعَبُّد الطَوْعيّ ، كذِكْر الله عزَّ وجل ، والتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، وصلاة النوافل ، وصوم النَفْلِ.
تشمل العبادة يا أيها الأخوة الشعائر التعبدية التي فرضها الله علينا ، وتشمل أيضاً التعبُّد الطوعي ، وتشمل أيضاً أداء الواجبات ، كلٌ منا له عمل ، إذا أدَّاه أداءً صحيحاً ؛ لم يكذب فيه ، لم يغُش فيه ، لم يخاتل ، لم يخدع ، هذا من العبادة ، أن تؤدّي عملك الذي ترتزق منه أداء صحيحاً ، كاملاً ، دقيقاً ، مُتْقِناً ، صادقاً فهو من العبادة أيضاً .
ولا تنسوا يا أيها الأخوة الأكارم أنه كلما ضيِّقنا مفهوم الدين إلى العبادات الشعائرية ، فثمَّ التأخر والتقصُّر ، وكلما وسَّعنا العبادة لتشمل الدين كلَّه ، عندئذٍ نتقدَّم ونستحقُّ وعد الله عزَّ وجل .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ حب الله ورسوله من العبادة ، خشية الله من العبادة ، الإنابة إليه من العبادة ، إخلاص الدين له من العبادة ، الصبر لحُكْمِهِ من العبادة ، الشكر على نعمه من العبادة ، الرضا بقضائه من العبادة ، التوكُّل عليه من العبادة ، رجاء رحمته من العبادة ، خوف عذابه من العبادة ، هذا كله من العبادة . فالعبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يحب الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، أما أن نفهم العبادة هذه الشعائر التي ألزمنا الله بها ليس غير ، فهذا تضيقٌ مُخِلٌ بجوهر الدين .
العبادة تشمل الدين كله :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ فالأخلاق الإنسانية هي من جوهر العبادة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لأن أعين أخي المؤمن على حاجته أحب إلي من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ))
العلاقات الإنسانية التي أساسها الاستقامة ، والتي أساسها فعل الخَيْر ، والتي أساسها بذل المعروف ، والتي أساسها التضحية بكل غالٍ ورخيص ، هذا من العبادة ، بل هو جوهر العبادة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الأخلاق الربَّانية ؛ أن تحب الله ، أن تخشع له ، أن تُخْلِص له ، أن تصبر على حكمه ، أن تشكر نعمته ، أن ترضي بقضائه ، أن تتوكَّل عليه ، أن ترجو رحمته ، أن تخشى عذابه ، هذه الأخلاق المتعلِّقة بالله عزَّ وجل من العبادة ، بل هي جوهر العبادة ، بل هي الدين .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حُسْنُ المُعاملات ، الوقوف عند حدود الشرع ؛ في علاقات الزواج ، في علاقات البيع والشراء ، في علاقات الميراث ، هذا الذي يَحْرِمُ البنات لا لشيء إلا لنزوةٍ أرادها ، هذا لا يعبد الله عزَّ وجل ولو صلَّى وصام وزعم أنه مسلم .
أقول ثانيةً ، وثالثةً ، ورابعةً ، وخامسةً : ما تخلَّف المسلمون ، وما تقهقروا ، وما أصابهم الغَيّ إلا حينما ضيَّقوا مفهوم الدين على هذه العبادات الشعائرية ، ولكن العبادة أن تعطي الذي عليك، وأن تأخذ الذي لك ، أن تؤدِّي واجبك كما يريد الله عزَّ وجل ، ألا تغشَّ المسلم ، ألا تحتال عليه، ألا تأخذ ما ليس لك .
أخوة الإيمان : أداء الواجبات ، وحُسْنُ المعاملات ، والأخلاق الإنسانية ، والأخلاق الربَّانية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِن العبادة ، بل هي مِن أجَلّ أنواع العبادة ، لأن الإنسان إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفشَّى الفساد في الأرض ..
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾
أين المسلمون من مفهوم العبادة ؟ يفهمون العبادة حركاتٍ جوفاء ، ورِحْلاتٍ لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، وترك الطعام والشراب فقط ، الأمر بالمعروف ، والنهي عن المُنكر من العبادة ، بل إن الأخذ بالأسباب من العبادة ، لأن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وجعله يتحرَّك وفق نظامٍ دقيقٍ دقيق ، فإذا خالَفت هذا النظام ولم تعبأ به ، فأنت لا تعبد الله عزَّ وجل ، لكل شيءٍ سبب، فهل أتْبَعْتُ السبب ؟ . .
﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾
أن تأخذ بالأسباب ، ثم تتوكل على رب الأرباب هذا مِن العبادة ، وما تأخر المسلمون إلا لأنهم تواكلوا ولم يتَّكلوا على الله عزَّ وجل ، حينما تدع الأسباب فأنت متواكل ، وحينما تأخذ بالأسباب فأنت متوكِّل ، الأخذ بالأسباب من العبادة ، لكل مصلحةٍ ، لكل صنعةٍ ، لكل حرفةٍ وسائل واضحةٌ لامتلاكها ، لامتلاك زمامها ، فإذا أَهْمَلْتَ الأخذ بالأسباب ، وزعمت أنك متوكِّل ، فأنت لا تعبد الله عزَّ وجل .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الدين الحنيف يشمل الحياة كلها ، بل إن العبادة تشمل الدين كلَّه .
العبادة تشمل الحياة كلها :
شيءٌ آخر : الدين كله - كما قلت قبل قليل- داخلٌ في العبادة ، الدين كلُّه بأوامره التعبديَّة إلى أوامره التنظيمية ، بأوامره الشخصية إلى أوامره الربَّانية ، كلُّ فروع الدين ، وكل اختصاصاته ، وكل مجالاته ، وكل مستوياته ضمن العبادة ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
شيءٌ آخر يا أيها الأخوة الأكارم ؛ العبادة تَسَعُ الدين كلَّه ، والفقرة الثانية في هذه الخُطبة العبادة تسع الحياة كلها ، فبدءاً من طريقة تناول الطعام والشراب ، إلى طريقة قضاء الحاجة ، إلى طريقة التَطَهُّر ، إلى العلاقات الشخصية ، إلى العلاقات بين الزوجين ، إلى العلاقات بين الأب والأبناء ، بين الأبناء والآباء ، بين الأخوة المؤمنين ، بين الجار وجاره ، إلى علاقات الكَسْبِ ، إلى علاقات العطاء ، إلى أحكام الآجار ، إلى أحكام العارية ، إلى أحكام الهبة ، إلى أحكام الوكالة ، العبادة تشمل الحياة كلها ، ما من مجالٍ في الحياة يأبى عن أن يخضع للعبادة .
والعلماء يا أيها الأخوة جعلوا لكل موقفٍ ، ولكل حركةٍ ، ولكل سكنةٍ ، ولكل نشاطٍ حُكماً فقهياً ؛ فهذا فرض ، وهذا واجب ، وهذه سُنَّة مؤكدة ، وهذه سُنَّةٌ غير مؤكَّدة ، وهذا مندوب ، وهذا مباح ، وهذا مكروه كراهةً تحريميَّة ، وهذا مكروهٌ كراهةً تنزيهيَّة ، وهذا حرام .
أيها الأخوة الأكارم ؛ كما أن العبادة تشمل الدين كله إنها تشمل الحياة كلها .
العبادة الحقَّة انقيادٌ كامل لمنهج الله وشرعه :
شيءٌ آخر : العبادة الحقَّة انقيادٌ كامل لمنهج الله ، وشرعه كله لا بعضه ، فمن أخذ شيئاً وترك شيئاً فهو لا يعبد الله ، أعجبه من الدين الصلاة والصيام ، ولم يعجبه ترك الربا؛ هذا لا يعبد الله عزَّ وجل . أعجبه من الدين بعض الفرائض ، ولم يعجبه عدم الاختلاط بين الرجال والنساء ، إنه لا يعبد الله عزَّ وجل . أعجبه من كسب الرزق الربح الحلال ولم يعجبه تلك العلاقة التي حرمَّها الشرع ، إنه لا يعبد الله عزَّ وجل . هذا الدين منهجٌ كامل لابدَّ من أن تأخذه كله حتى يعطيك ثماره ، لن تقطف ثماره إلا إذا طبَّقته بحذافيره .
فالذي يأخذ من الدين ما يعجبه ويدع ما لا يعجبه ، يأخذ ما يتوافق مع مصالحه ويدع ما يتنافر فهو لا يعبد الله عزَّ وجل ، إنما أنت عبدٌ ، والعبد عليه أن يطيع الله عزَّ وجل في كل ما أمر ، وفي كل ما نهى .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ من مقتضيات عقد الإيمان بينك وبين الله أن تُسْلِمَ إلى الله زمام حياتك كلَّها ، ليقودها النبي عليه الصلاة والسلام وفق السُنَّة المُطهرة ، النبي عليه الصلاة والسلام بما جاءه من الوحي ، وبما بيَّنه من تفصيلاتٍ دقيقة لأحكام القرآن ، يجب أن تأخذ بكلامه في كل دقائق حياتك . من مقتضى عقد الإيمان بينك وبين الله أن يقول الرب جلَّ وعلا: أمرت ونهيت . وأن تقول أيها العبد : سمعت وأطعت .
من مقتضيات العبودية لله عزَّ وجل أن تخرج من الخضوع لهواك ، وأن تخضعه لشرع مولاك ، هذا من معاني العبودية .
عبادة الله بكل التفصيلات لا ببعضها :
شيءٌ آخر يلخَّص كله بآيةٍ واحدة ، قال تعالى :
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
أي أنت مخيَّر أن تأكل هذا الطعام أو هذا الطعام ، أنت مخيَّر أن تسكن في هذا البيت أو هذا البيت ، أن تختار هذه الزوجة أو تلك الزوجة ، هذه الحرفة أو تِلْكَ الحرفة ، هذه مجالات اختيار المؤمن ، أما أن يكون لله عزَّ وجل حُكْمٌ في موضوعٍ معيَّن ، عندئذٍ لا يجوز أن تختار ؛ الله سبحانه وتعالى أمر بغض البصر ، ليس لك رأيٌ آخر في هذا الموضوع ، ليس لك تعليقٌ ، ولا تقييدٌ ، ولا إطلاقٌ ، ولا تعديلٌ ، ولا تحفُّظٌ ، ولا تجميدٌ لهذا الأمر . .
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
تنتهي حريَّتك حينما تعرف الله ، الله جلَّ وعلا خالق السموات والأرض ؛ وهذا أمره ، وهذا نهيه ، وهذا شَرْعُه ، وهذا حُكْمُه .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من اتبع منهجاً آخر غير منهج الله عزَّ وجل ، فهو لا يعبد الله عزَّ وجل ، أيْ عبدت الله في الصلاة والصيام والحج والزكاة ، واتبعت منهجاً آخر في شأنٍ آخر فأنت لا تعبد الله عزَّ وجل ، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال . هناك من يعبد الله و يسلك سبيل أهل الباطل في علاقاته اليومية ؛ في حفلاته ، في نُزُهاته ، في خلواته ، في لقاءاته، هذا لا يعبُد الله عزَّ وجل ، ينبغي أن تعبد الله بكل التفصيلات لا ببعضها .
مجالات أخرى للعبادة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر من مجالات العبادة ، العبادة تشمل الدين كله ، والعبادة تشمل الحياة كلها ، والعبادة تعني أن تطبِّق المنهج الإلهي بكل تفصيلاته ، والعبادة تعني ألا تطبِّق منهجاً آخر في شأنٍ من شؤون حياتك ، والعبادة أن ينتهي اختيارك في حكم الله عزَّ وجل .
وشيءٌ آخر : أن تمسح دمعة محزون ، أن تخفِّف كرب مكروب ، أن تضمِّد جراح مكروب ، أن تسدَّ رمق محروم ، أن تشد أزر مظلوم ، أن تقيل عثرة مغلوب ، أن تقضي دين مدين ، أن تأخذ بيد فقير ، أن تكون فقيراً وذا عفَّة ، أن تهدي حائراً ، أن تُعَلِّم جاهلاً ، أن تؤوي غريباً ، أن تدفع شراً ، أن تجلب نفعاً ، أن تدفع الأذى عن الطريق ، أن تسوق الطعام إلى ذي كبدٍ رطبة ، كل هذا من العبادة ، بل هو من أجلِّ أنواع العبادة ، أي الأعمال الصالحة، أعمال الخير ، أن تبثَّ الأمن في الناس ، أن تبثَّ الرضا فيهم ، أن تقدِّم لهم خدمةً جليلة ، أن تطعم جائعهم ، أن تكسو عاريهم ، أن ترعى يتيمهم ، أن ترعى عائلهم ، أن تعين مظلومهم ، هذه كله من العبادة ، بل هو من أجلّ أنواع العبادة ، لو فهم المسلمون العبادة على هذا النحو لكنَّا في حالٍ غير هذا الحال .
أيها الأخوة الأكارم ؛ إصلاح ذات البين من العبادة ، أن تذهب إلى فلان لتقيم علاقةً طيبةً بينه وبين خصمه ، هذا من العبادة ، بل هو من أجلِّ أنواع العبادة ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى . قال عليه الصلاة والسلام : إصلاح ذات البين ))
أن تصلح بين زوجين ، أن تصلح بين شريكين ، أن تصلح بين أخوين ، أن تصلح بين جارين ، أن تصلح بين أمٍ وابنها ، بين أبٍ وابنه ، بين أخٍ وأخيه ، إصلاح ذات البين لأن الله سبحانه وتعالى بنصِّ القرآن الكريم يأمرنا أن نصلح ذات بيننا ، أن تصلح نفسك، وأن تصلح علاقاتك ، وأن تصلح كل علاقةٍ أخرى بين الناس ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( فإن فساد ذات البين هي الحالقة ، لا أقول حالقة الرأس ولكن أقول حالقة الدين ))
ما قيمة المجتمع المسلم إذا كان مفتَّتاً ؟ إذا كانت العداوة ، والبغضاء ، والشحناء، والحسد ، والغيرة ، والغيبة ، والنميمة تَفُتٌّ في عضده ، ما قيمة هذا المجتمع ؟ هذا مجتمعٌ متهالك ، هذا مجتمعٌ منهار ، هذا مجتمعٌ لا تقوم له قائمة ، هذا مجتمعٌ لا يقوى أن يقف على قدميه فضلاً عن أن يردَّ أعداءه .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أن تعود مريضاً نوعاً من العبادة ، بل هو من أجلّ أنواع العبادة ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( من عاد مريضاً نادى منادٍ من السماء أن طبت - أيها العائد - وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلَاً))
عيادة المريض تمتِّن العلاقات ، تفقُّد أخيك في أحواله ، في سرائه ، في ضرائه، أن تهنئه إذا أصابه خير ، أن تعزيه إذا أصابته مصيبة ، أن تُقرضه إذا افتقر ، أن تعينه إذا استعانك ، أن تسأل عنه ، أن تتفقَّد أحواله ، أن تعتني بأبنائه هذا كله من العبادة ، ولو فهمنا العبادة على هذا النحو لكنا في حالٍ غير هذا الحال .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وأن تطعم حيواناً ، أن تسقيه ماءً وهو عطش ، فهو من العبادة لأن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله .
((أنَّ رَجُلاً رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ))
بينما رجلٌ يمشي بطريق وجد غصن شوكٍ فأخَّره فشكر الله فغفر له . هذا من العبادة .
تجارة الإنسان من أجلّ أنواع العبادة بشروطٍ خمسة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ بقيت فقرةٌ واحدة : عملك الذي ترتزق منه ، مهنتك ، حرفتك ، وظيفتك ، دكَّانك ، تجارتك من أجلّ أنواع العبادة بشروطٍ خمسة ؛ أولاً : أن يكون هذا العمل مشروعاً ، متوافقاً مع أحكام الشرع . فلو كان غير مشروع ليس من العبادة بل هو ضدُّ العبادة ، أن يكون عملك مشروعاً ، أن تكون علاقتك مع الآخرين في هذا العمل مشروعة ، أن تكون البضاعة التي تتعامل بها مشروعة . إذا كان عملك مشروعاً بضاعةً وطريقةً ، وكانت نواياك من هذا العمل ؛ كسب الرزق لكفاية الأهل ، والتقرب إلى الله عزَّ وجل ، وخدمة المسلمين ، ثلاث نوايا يجب أن تتوافر من هذا العمل ، أن تكسب رزقاً حلالاً تكفي به أسرتك ، وأن تتقرب بهذا المال إلى ربك ، وأن تنفع المسلمين في حياتهم .
وهناك شي آخر هو أن تلزم في هذا العمل حدود الشرع - علاقات ربوية ، غشٌ، تدليسٌ ، تغريرٌ ، بيع معدومٍ ، هذه كلها علاقاتٌ غير مشروعة – أن تلزم في بيعك وشرائك وحرفتك حدود الشرع ، وألا تشغلك مهنتك أو حرفتك عن واجباتك الدينية ؛ عن صلواتك الخمس، عن حضور مجالس العلم ، عن طلب العلم ، عن فعل الخيرات ، فإن هذا العمل الذي ترتزق منه هو من العبادة ، بل هو من أجلّ أنواع العبادة .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الخطبة موضوعها المجالات التي تعبد الله من خلالها.
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
البيضة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه البيضة التي نأكلها من يصدِّق أن بها ستة عشرَ معدناً نادراً ؟ وفيها أيضاً ثمانية معادن معروفة ، والمعادن من البيضة تحتلُّ نسبة اثنين بالمئة، بينما المعادن من قِشر البيضة تحتل عشرةً بالمئة .
من يصدِّق أن في البيضة ما يساوي مئتي نوع من البروتينات ؟ وفيها أيضاً أربعة عشر نوعاً من الفيتامينات ، مئتا نوع من البروتينات ، وأربعة عشر نوعاً من الفيتامينات ، وفيها مواد سكرية ، وفيها مضاداتٌ حيوية ؛ تقاوم تفسخها وفسادها ، وفيها أيضاً دهون خفيفة وثقيلة . ولها شكلٌ بيضوي لا تتدحرج إلى مسافاتٍ طويلة ، لو أن شكلها كروي لتدحرجت البيضة إلى مسافاتٍ بعيدةٍ جداً . هذا الشكل من أقوى الأشكال هندسياً ، يحتمل مقاومةً كبيرة ، الشكل البيضوي تتوزَّع مقاومته على كل أنحاء سطحه ، بُنية البيضة سهلٌ فتحها واستعمالها ، وسهلٌ حفظها بعضها فوق بعض .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .