- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
النبي الكريم قدوة لنا في كلّ أمور حياتنا :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نحن في شهر مولد النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد أَلِفَ المسلمون أن يحتفلوا بهذه الذكرى احتفالاً تعرفونه جميعاً ، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد من هذا النبي الكريم أن يكون قدوةً لنا ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا ، وأسوةً لنا ؛ في حياتنا ، وفي تحرُّكنا ، وفي انطلاقِنا ، وفي علاقاتنا ، وفي عطائنا ، وفي مَنْعِنا ، وفي غضبنا ، وفي رضانا ، وفي كل نشاطٍ من نشاطاتنا ، فنحن حقيقةً قد احتفلنا بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم . أما سمعنا الأناشيد في مديحه ، وأكلنا ما لَذَّ وطاب ، وألقيت الكلمات ، ولم نأخذها مأخذ الجِد ، فهذا الاحتفال لا يعني أننا عرفنا النبي عليه الصلاة والسلام وقدَّرناه حَقَّ قَدْرِهِ .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الإسلام فكرٌ ، في الإسلام عقيدةٌ ، في الإسلام قِيَمٌ، في الإسلام عباداتٌ ، في الإسلام معاملاتٌ ، في الإسلام أخلاقٌ ، هذه كلُّها في حَيِّزٍ نظري ، هذه كلها في مستوىً فكريّ ، ولكن لا يُحيي هذا الفكر ، ولا يّقوي هذه المُثُل ، ولا ْيَدعم هذه المبادئ ، ولا يجعل هذه القيَم متداولةً ، ولا يجعل هذا الدين مقبولاً ، ولا يجعل هذه العبادات مُجْدِيَةً ، ولا يجعل هذه المُعاملات صحيحةً إلا إذا طُبِّقَت ، إلا إذا نُفِّذَت ، إلا إذا عشناها ، إلا إذا تمثَّلناها ، إلا إذا عقلناها ، من رحمة الله بنا أنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم ؛ هذا الكتاب المُعْجِز ، ومن رحمة الله بنا أنه جعل النبي عليه الصلاة والسلام في أخلاقه قرآناً ، عندك قرآنٌ تقرؤه ، وعندك إنسانٌ تمثَّل القرآن .
الكون قرآنٌ صامت ، والقرآن كونٌ ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي . سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت :
(
يا أيها الأخ الكريم ؛ عندك فكرٌ وعندك تطبيق ، عندك عقيدةٌ وعندك مَثَلٌ أعلى، عندك شريعة وعندك قدوةٌ حسنة ، عندك معاملاتٌ وعندك إنسانٌ كامل طَبَّق هذه المُعاملات .
سيرة النبي عليه الصلاة والسلام حقيقةٌ مع البُرهان عليها :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام حقيقةٌ مع البُرهان عليها، والبرهان عليها أنها طُبِّقَت ، وطبَّقها النبي ، وعاشها النبي ، وتمثَّلها النبي ، وحكم بها النبي ، وانتشر الحق لا عن طريق الكلام ولكن عن طريق العَمَل ، في بعض الأمثال يقولون : لغة العمل أبلغ من لغة القول . وفي بعض الأقوال : الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم .
لماذا كان الصحابة أعلاماً أبطالاً ؟ لأنهم ما سمعوا الإسلام كلاماً يُتْلَى عليهم ، ولا خُطَباً رنانةً تملأ آذانهم ، ولا حديثاً جذاباً يستحوذ على مشاعرهم ، ولكنَّهم رأوا الإسلام في شخص النبي عليه الصلاة والسلام ، رأوا تواضعه ، رأوا عبوديته لله عز وجل ، رأوا شجاعته ، رأوا سخاءه ، رأوا حلمه ، رأوا لطفه ، رأوا كل المُثُل العُليا مطبقةً في سلوكه .
أيعقل أن النبي عليه الصلاة والسلام ، نبي هذه الأمة ، وهو المخلوق الأول في نَصِّ القرآن الكريم ، وهو السيِّد المُعَظَّم ، وهو قائد الجيش في معركة بدر يقول :
(( كل ثلاثة على راحلة ، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة ، فلما جاء دوره في المشي ، قالا له : "يا رسول الله ابق راكباً " . قال : لا ، ما أنتما بأقوى مني على السير ، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر ))
حينما عالج مع أصحابه شاةً ، قال أحدهما : عليّ ذبحها . وقال الثاني : عليّ سلخها . وقال الثالث : عليّ طبخها . وقال النبي عليه الصلاة والسلام : وعليّ جمع الحطب.
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
تميز سيرة النبي الكريم بالكمال و الدقة و التنوع و الوضوح :
لنقف عند هذه الآية قليلاً . .
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾
معنى :
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾
أن هذا الشيء ثابت ومستقر ومستمر ، لم يقل الله عز وجل : لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة ، قال :
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾
.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾
كان تفيد الاستمرار ، تفيد الاستقرار ، أيْ أنَّ سيرته صلى الله عليه وسلم من الكمال ، ومن الدِقَّة ، ومن الوضوح ، ومن التنوّع ، ما لو تبعته في كل أطواره ، في بيته ، غير النبي عليه الصلاة والسلام قد تراه ملء العين والسمع وهو يلقي درساً ، أما النبي عليه الصلاة والسلام ؛ في بيته ، في رضاه ، في غضبه ، في حربه ، دخل مكة مطأطئ الرأس وهو فاتحٌ عظيم ، كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره ، تواضعاً لله عز وجل ، كاملٌ وهو زوج ، كاملٌ وهو أب ، كاملٌ وهو جار ، كاملٌ وهو صديق ، كاملٌ مُسالماً ، كاملٌ محارباً ، كاملٌ قوياً ، كامل ضعيفاً ، كاملٌ غنياً ، كاملٌ فقيراً . .
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
جاع كما يجوع الفقراء ، قال :
(( ... ولقد أتى عليَّ ثلاثون من يوم وليلة ، ومالي ولبلال طعامٌ إِلا شيء يُواريه إِبطُ بلال ))
فإذا نصح الفقراء بالصبر ؛ فكلامه على العين والرأس ، لأنه ذاق طعم الجوع .
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
وحينما كان غنياً ، وسأله رجل : لمن هذا الوداي ؟ قال : هو لك . قال : أتهزأ بي ؟ قال : لا والله . قال : أشهد أنك رسول الله ، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
ذاق موت الولد ، وقال أصحابه : لقد كسف القمر من أجل موت إبراهيم . وكان من مصلحة النبي أن يسكت عن هذا الكلام ، وكان من مصلحة النبي لو أنه أراد الدنيا أن يكرِّس هذا الكلام ، وكان من مصلحة النبي لو أراد الدنيا أن يدع هؤلاء يتكلمون هكذا ، ولكنه جمع أصحابه وقال :
((إن الشمس والقمر آيتان لا ينبغي أن تنكسفا لموت واحدٍ من خلقه))
هذا شيءٌ لا علاقة له بموت إبراهيم .
((إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))
أسوةٌ لنا في موقفٍ حزين ، أسوةٌ لنا في موقف ضعيف حينما كان في الطائف، قال :
((يا رب إن لم يكن غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى ولكن عافيتك أوسع لي ))
تعلموا منه كيف يواجه الإنسان المصائب ، ولا يسيء الظن بربه ، كيف يثبت على الشدائد ، كيف يشكر في الرخاء ، كيف يعفو حين القوة .
((اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
قدوةٌ صالحة ، مثلٌ أعلى .
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾
آية كريمة تفيد الثبات و الاستمرار :
يـا أيها الأخوة الأكارم ؛ في الآية أشياء كثيرة .
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾
تفيد الثبات ، تفيد الاستقرار ، تفيد الاستمرار ، إذا قرأت السيرة فاطمئن إلى أن كل أفعال النبي صحيحة ، كل أقواله . إن كل أقواله ، وإن كل أفعاله ، وإن كل صفاته ، وإن كل أحواله كاملةٌ كمالاً أراده الله عز وجل ، مِن هنا قال الله عز وجل :
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
لأنه معصوم ؛ في تبليغه ، في أقواله ، في أفعاله ، في صفاته ، في أحواله ، في إقباله ، في كل أطوار حياته . إذاً أنت إذا تابعت النبي لن تفاجأ بشيء ، لن تفاجأ بنقصٍ لم يكن في الحُسبان ، لن تفاجأ بموقفٍ لا يرضي الله عز وجل ، سيرته سيرة عطرة ، مواقفه مواقف كاملة ، أحواله رائعة ، أقواله حكيمة .
الحصر و القصر في القرآن الكريم :
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾
ولكن في الآية الكريمة لفتةٌ دقيقة هي لفتة الحصر والقصر أوضحها لكم قليلاً .
القصر أيها الأخوة أو الحصر يتأتَّى من النفي والاستثناء ، فلو أن الله عز وجل قال : للإنسان ما سعى . معنى ذلك أن له ما سعى ، وله ما لم يسع ، أما حينما قال الله عز وجل :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾
هذا التركيب يفيد القصر والحصر . إذا قال الله عز وجل :
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
معنى ذلك أن الله عز وجل قدَّم المفعول على الفعل ليفيد القصر ، لو أن الله عز وجل قال : نعبد إياك أي نعبدك و نعبد غيرك ، أما إذا قال :
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
أيْ لا نعبد إلا إياك ، تقديم ما حَقُّه التأخير يفيد الحصر .
متابعة الرسول في كلّ شيء :
وفي هذه الآية :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
لو أن الله عز وجل قال : لقد كان لكم أسوةٌ حسنةٌ في رسول الله ، ماذا حصل؟ المعنى آخر : أي أن رسول الله أسوةٌ لكم ، وغيره أسوة لكم ، أما حينما قال :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
حينما قدَّم الجار والمجرور على المبتدأ المؤخَّر ، أيْ رسول الله أسوةٌ حسنة كائنةٌ في رسول الله ، أصل التركيب ، لأن الله عز وجل قال :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
معنى ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لأنه معصوم يجب أن تُتابعه في كل شيء ، وما سوى النبي يعبِّر عنه موقف سيدنا الصديق :" قد وليت عليكم ولست بخيركم ، إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ".
يجب أن تتابع غير النبي على بينة ، على كتاب الله ، على تطبيقه لُسَّنة النبي عليه الصلاة والسلام وإلا قد يؤدي بنا ذلك إلى الضلال والهلاك ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو المعصوم ، المعصوم وحده وليس غيره .
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
﴿ لَكُمْ ﴾
يخاطب الله مَنْ ؟ يخاطب الله المؤمنين ، ألا ترى مؤمناً يخالف سُنَّة النبي ؟ ألا ترى مَن يؤمن بالله واليوم الآخر ويقصِّر في تطبيق ما فعله النبي ؟ لذلك قال الله عز وجل :
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
المؤمن يرجو الله واليوم الآخر ويذكر الله كثيراً :
من صفات المؤمنين الكاملة أن المؤمن يرجو الله ، واليوم الآخر ، ويذكر الله كثيراً ، من كان يرجو الله حقيقةً . هناك من يرجو الدنيا ، هناك من يرجو زيداً أو عبيداً ، هناك من يرجو فُلاناً أو عِلاناً ، هناك من يرجو حياةً طيبةً ، حياةً هادئةً ، حياةً ناعمةً ، هناك من يرجو دخلاً كبيراً ، مُتْعَةً رخيصةً ، هناك من يرجو شيئاً لا يرضي الله عز وجل ، ولكن الله عز وجل يجعل النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً حسنة ، وأسوةً صالحة ، ومثلاً أعلى لا لكل الناس؛ بل للذين يرجون الله واليوم الآخر ، ويذكرون الله كثيراً ، أيْ إذا كنت مؤمناً حقاً ، إذا كنت مؤمناً صادقاً ، إذا كنت مؤمناً حقيقةً ، يجب أن ترجو الله واليوم الآخر ، أن يكون الله منتهى آمالك ، منتهى طموحك ؛ إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ، إذا كنت كذلك ورأيت الآخرة هي الدار الحقيقية ، وأن الحياة الحقيقية هي الدار الآخرة . .
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
إذا كنت كذلك ، وذكرت الله كثيراً . علامة المنافقين :
﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾
﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾
إذاً متى تكون مؤمناً حقيقةً ؟ متى تكون مؤمناً بكل ما في هذه الكلمة من معنى؟ إذا رجوت الله ، واليوم الآخرة ، وذكرت الله كثيراً عندئذٍ تبحث عن القدوة الصالحة ، عن الأسوة الحسنة ، عن المَثَلِ الأعلى ، فلا ترى إلا في النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى ، والقدوة الصالحة ، والأسوة الحسنة ، لأن الله عز وجل عصمه ؛ في تبليغه ، في أقواله ، في أفعاله ، في صفاته ، في أحواله .
وأجمل منك لم تر قط عيني وأحسن منك لم تلد النسـاء
خلقت مبرأً من كل عيــــــــــبٍ كأنك قد خلقت كما تشــــــاء
* * *
قراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام واجبةٌ على كل مسلم :
يستنبط بعض العلماء من هذه الآية أن قراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام واجبةٌ على كل مسلم ، من هذه الآية التي هي أصل في اتباع النبي ، في الاقتداء به ، بل إن الله عز وجل حينما قال :
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
إذاً يجب أن تعرف سُنَّته القولية ، وسُنَّته العملية ، سنته القولية أحاديثه الشريفة الصحيحة ، وسنته العملية سيرته العَطِرَة ، هذا شيءٌ لا ينبغي أن تظن أن تقرأه أو لا تقرأه ، تطّلع أو لا ، ليس الأمر كذلك ، من أجل أن تنجو من المَهالك ، من أجل أن تصل إلى دار السلام بسلام ، من أجل أن تحقق حقيقة الإيمان ، يجب أن تقف على سُنَّة النبي العدنان .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الآية دقيقةٌ جداً :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
لماذا أثَّرَ هذا التأثير ؟ كتابٌ شهير ألَّفه مؤلفٌ غريبٌ عن العالم الإسلامي ، قرأ تاريخ الأبطال في العالم منذ الإغريق ، وانتقى من أبطال العالم عبر التاريخ الطويل مئة عَلَمٍ من أعلام هؤلاء البشر ، وصنَّف هؤلاء الأعلام وفق أسسٍ علميةٍ موضوعية ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في مقِّدمة هذه الِمئة ، فألف كتاباً وَعَنْوَنَهُ " المئة الأوائل" .
ما المقياس الذي قاس به هؤلاء العظماء ؟ قاس العظماء بعمق التأثير ، واتساع رقعة التأثير، وامتداد أثر التأثير . إذاً النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن تقف على سيرته ، من أجل أن توفق في حياتك ؛ في علاقتك بزوجتك ، قالت له السيدة عائشة : " يا رسول الله أتحبني ؟ قال: مثل عقدة الحبل - هذا الكلام الطيِّب ، الذي يلقيه الرجل على زوجته كي تطمئن إلى مستقبلها ، كي تطمئن إلى حبه لها - كانت تقول له بين الحين والآخر : كيف العقدة ؟ يقول: على حالها "
يجب أن تقرأ سنة النبي من أجل أن تكون زوجاً مثالياً ، وأباً مثالياً ، وأخاً مثالياً، وابناً مثالياً وفياً باراً بوالديه .
دخلت عليه السيدة حليمة السعدية التي أرضعته حيناً من الزمن ، وقف ومد لها رداءه ، واستقبلها هاشاً وباشاً ، وقال : أهلاً بأمي ، وأعطاها شاةً وإبلاً وعفا عن قومها ، هذا هو الوفاء . كيف تكون ابناً باراً ، وكيف تكون أباً عطوفاً ، وكيف تكون زوجاً ناجحاً ، وكيف تكون جاراً ، جاراً طيِّب المعشر ، تسبي العقول لكمالك .
النبي الكريم قدوة حسنة لنا نترسم خطاه في كل شيء :
اقرأ سيرة النبي ، يجب أن تقف على سيرة النبي ، هذه هي حقيقة احتفالنا بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
قال بعض المفسرين : أنت فيهم أي أنت بين ظهرانيهم . وقال بعضهم الآخر : " أنت فيهم " أيْ سنتك في حياتهم مُطَبَّقة ، سُنَّة النبي في طريقة أكلك ، طريقة شربك ، طريقة نومك ، طريقة حديثك ، طريقة تنظيف نفسك ، طريقة علاقتك بإخوانك ، بجيرانك ، بمن هم دونك ، بمن هم فوقك . ليس شيئاً تقرؤه أو لا تقرؤه ، تتطلع عليه أو لا ، بحسب الفراغ ، بحسب المناسبات ، والله صدف أن قرأت سيرة النبي ، ليس هذا هو الموضوع ، بل من أجل أن تنجو من الخطأ والضلال يجب أن تقرأ سيرة النبي ، يجب أن تقف عليها ، يجب أن تعرف أحواله في كل الظروف والمناسبات ، إنسان من أصحابه نزع مِن على ثوبه ريشةً ، فرفع النبي يديه وقال : جزاك الله عني كل خير . عَلَّمك كيف تكافئ على المعروف ، ماذا فعل هذا الصحابي ؟ نزع ريشةً مِن على ثوب النبي ، رفع النبي يديه إلى السماء .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ نحن بحاجةٍ إلى مَثَلٍ أعلى ، بحاجةٍ إلى قدوةٍ صالحة ، بحاجة إلى إنسانٍ نترسَّمُ خُطاه في حركاته ، في سكناته ، في كل نشاطات حياته . .
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
كأن الله عز وجل في هذه الآية أشار إلى أن كمال المؤمن في أن يكون راجياً لله عز وجل ، وراجياً لليوم الآخر ، وذاكراً لله الذِكْرَ الكثير .
النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ لنا في الشدائد و المحن :
النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ لنا في الشدائد ، يوم الخندق ، وهذه الآية جاءت في سورة الأحزاب ، وسياقها العام حديثٌ عن يوم الخندق ، لقد كان صلى الله عليه وسلم على الرغم من الهول المُرْعِب والضيق المجهد مثلاً أعلى للإنسان الكامل ، كان رسول الله يعمل في الخندق مع المسلمين ، يضرب بالفأس ، ويجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب بالمِفْتَلِ ، ويرفع صوته مع المرتجزين .
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينـا
فأنزلن سكينةً علينــــــــا وثبت الأقدام إن لاقينا
* * *
زيد بن ثابت غلامٌ يافع كان ينقل التراب ، نزل إلى الخندق فغلبته عيناه ، فنام، وكان القر شديداً أيْ الحر شديداً ، فأخذ عمّار بن حزمٍ سلاحه وهو لا يشعر ، فلما قام فزع فقال:
((يا أبا رقاد - داعبه النبي ، كان يداعب أصحابه ، يعطف عليهم- نمت حتى ذهب سلاحك ، من له علمٌ بسلاح هذا الغلام ؟ فقال عمار : يا رسول الله هو عندي ، قال : رده عليه ))
ونهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يروع المسلم بأخذ متاعه لعباً ، حكمٌ شرعي، نهى النبي عليه الصلاة والسلام بأن يروَّع المسلم بأخذ متاعه لعباً ، كان ينقل التراب بالمفتل ، يجرفه بالمسحاة ، يضرب بالفأس مع أصحابه وكأنه واحدٌ منهم .
الآية التالية أصلٌ في اتباع النبي صلى الله عليه و سلم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الآية أصلٌ في اتباع النبي ، ومن لم يتَّبع النبي عليه الصلاة والسلام فليس مؤمناً ، وليس محباً ، لقول الله عز وجل :
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه حقيقة الاحتفال بعيد المولد النبوي ، حقيقة الاحتفال بهذا العيد أن تقف على سيرة النبي ، وأن تطبقها في حياتك ، كان في مهنة أهله ؛ كان يكنس بيته ، ويخصف نعله ، ويرفو ثوبه ، ويحلب شاته ، وكان في مهنة أهله . دخل عليه عدي بن حاتم وكان ملكاً ، ألقى إليه وسادةً لا يملك غيرها في البيت قال : اجلس عليها . قلت : بل أنت . قال : بل أنت . قال : فجلست عليها وجلس هو على الأرض . هذا إكرام الضيف، اقرؤوا سيرته ، أصحاب النبي عليهم رضوان الله سحروا به ، سحروا بكماله ، أخذوا بكرمه ، بتواضعه ، دخل عليه رجل فأصابته رِعْدَة :
(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ ، فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يكفي أن يستمع الإنسان من أسبوع إلى أسبوع إلى نصف ساعة يذكر فيها بأمور دينه ، يجب أن يكون طلبه للدين حسيساً صادقاً ، لذلك احضروا مجالس العلم ، تعلموا كتاب الله عز وجل ، قِفوا على سيرة النبي وأصحابه ، قفوا على أمور دنياكم من خلال رؤيتها من زاوية الأحكام الشرعية ، هذا هو الدين .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني