وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0321 - هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا - الأوعية الدموية وما يجري فيها.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أخطر ما في الحياة أن يجهل الإنسان لماذا هو فيها :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في أواخر سورة الكهف آيةٌ كريمة يَجْدُرُ بنا أن نقف عندها قليلاً ، يقول الله سبحانه وتعالى في أواخر سورة الكهف :

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض ، ولم يَدَع خلقه مُعَطَّلين من الأمر والنهي ، تقتضي رحمته جلّ جلاله أن ينزل علينا كُتُباً ، وأن يبعث فينا رُسُلاً ، فمن مقتضيات رحمة ربنا سبحانه وتعالى أن أرسل إلينا رسولاً ، وقد أمر هذا الرسول أن يقول لنا : قل ، إن الله عزَّ وجل خلقنا لهدفٍ كبير . .

﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

[ سورة هود : 119 ]

 فأخطر ما في الحياة الدنيا أن يجهل الإنسان لماذا هو في الدنيا ، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبـي عليه الصلاة والسلام أن يُخاطب الناس ، وكلّكم يعلم أن الناس يخاطبون بأصل الشريعة ، بينما يخاطب المؤمنون بفروع الشريعة . .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

[ سورة التحريم :6 ]

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾

[ سورة النور : 30 ]

 إذا آمنت بالله عزَّ وجل ، وأيقنت بعظمته ، وعرفت أسماءه الحُسنى وصِفاته الفُضلى ، الآن أنت مَعْنِيٌ بكل آيةٍ ، يقول الله عزَّ وجل فيها :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

[ سورة التحريم :6 ]

 أما إذا خاطب الله الناس كافَّةً :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾

[ سورة البقرة : 21 ]

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة يونس : 101]

 ربنا سبحانه وتعالى يخاطِبُ الناس :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من يستحق أن يُنَبِّئُك ؟ أإنسانٌ مثلك ؟ أإنسانٌ جاهلٌ مثل عامّة الناس ؟ من يستحق أن تستمع إلى نَبَئِهِ ؟ إلى خبره ؟ إلى أمره ؟ إلى نهيه ؟ إلى وعده ؟ إلى وعيده ؟ إنه الله عزَّ وجل ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر: 14 ]

﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾

[ سورة الكهف: 28 ]

﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾

[ سورة لقمان : 15]

الله وحده هو المستحق للعبادة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قبل أن يسأل الإنسان غيره ، قبل أن يستهدي بِهَدْي غيره، قبل أن يسترشد غيره ، ليعرف مَن هذا الإنسان الذي يسترشده ؟ مَن هذا الإنسان الذي يستنصحه ؟ مَن هذا الإنسان الذي يستهديه ؟ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾

[ سورة الزمر : 64]

 هل هناك جهةٌ غير الله تستحق أن تُعْبَد ؟ تستحق أن يُستجاب لها ؟ تستحق أن تُسْتَرْشَد ؟ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 وفي آيةٍ أخرى :

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر: 14 ]

 كُلَّما عرفت الله عزَّ وجل معرفةً أرقى ، كلما آمنت برحمته عندما أرسل رُسُلَه ، وكلما دققت في القرآن الكريم عرفت أن هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه تنزيلٌ من رب العالمين ، الله سبحانه وتعالى يقول لنا :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ متى يخسر التاجر ؟ في أحسن الظروف إذا هبطت أرباحه عن طموحاته ، يقول : خسرنا . وهذا كلامٌ غير صحيح ، وقد يخسر أرباحه كلَّها ، يخسر جهده إذاً ، إذا حصَّل رأسماله يكون قد ضيَّع جهده ، يقول : لقد تعبنا كثيراً ولم نربح شيئاً. ماذا خسر هذا التاجر ؟ جهده ، اسمه خاسر ، وقد يخسر جزءًا من رأسماله ، اسمه خاسر ، وقد يخسر مُعْظَم رأسماله ، اسمه خاسر ، وقد يخسر كل رأسماله ، اسمه خاسر ، ربنا عزَّ وجل يقول :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 الأخسر شيء و الخاسر شيءٌ آخر ، الخاسر اسم فاعل ، أما الأخسر فاسم تفضيل ، أي أشد الناس خسارةً ، أفدحهم خسارةً ، أعظمهم خسارةً . .

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾

[ سورة الكهف : 103]

الخسارة العُظْمَى أن تأتي إلى الدنيا و تغادرها صفر اليدين :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا عزَّ وجل حينما خلقنا فطرنا فطرةً خاصة ، فطرنا على حُبِّ وجودنا ، وفطرنا على حبّ سلامة وجودنا ، وفطرنا على حبّ كمال وجودنا ، وفطرنا على حبّ استمرار وجودنا ، ما منا واحدٌ إلا ويتمنَّى أن يكون سعيداً ، موفَّقاً ، ناعِماً ، سليماً ، معافىً ، وأن يعيش عُمُراً مديداً ، هكذا فطرة الإنسان .
 الله عزَّ وجل يقول : هؤلاء الذين يفعلون كذا وكذا ليسوا خاسرين ، لأن التاجر إذا خسر كل ماله بإمكانه أن يبدأ من جديد ، وأن يعوِّض هذه الخسارة ، وإذا خسر بعضاً مِن رأسماله يعوِّض هذا البَعْض ، وإذا خسر جُهده معه رأسمال ، وإذا قلَّت أرباحه في العام القادم يضاعف أرباحه ، ولكن الله عزَّ وجل وصف هؤلاء الذين يخاطِبُهُم بأنهم أخسرون ، أي أشدّ الناس خسارة ، يبدو أن خسارتهم لا تعوَّض ، يبدو أنهم استنفذوا فُرصةً وحيدةً لن تعود ، هذه الخسارة ، هذه الخسارة العُظْمَى ؛ أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تغادرها وما عرفت لماذا أنت في الدنيا ؟ وما عرفت لماذا خُلِقْت ؟ ولا من أجل شيءٍ خُلِقت ؟ استهديت بشهواتك ، ولم تستهدِ بأمر ربك .

ضلال السعي أساسه ضلال العقيدة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وصفٌ كبيرٌ كبير ، خطيرٌ خطير مِن رب العِزَّة والجلالة ، يقول : هؤلاء الأخسرون أعمالاً . وقد وصف بعض المفسرون : الأخسرون ينبغي - بحسب قواعد اللغة - أن يأتي بعدها اسمٌ مفرد ، قل هل ننبئكم بالأخسرين عملاً ، الله عزَّ وجل يقول :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 أيْ أنَّ هذا الإنسان إذا لم يعرف الواحد الديَّان ؛ كل أعماله مهما كثُرَت ، مهما تنوَّعت ، مهما امتدت ، مهما كبُرت ، مهما عظمت فهي خسارةٌ محققة ، خسارةٌ لا تعوَّض ، خسارةٌ لا تُستأنف . .

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 في مسعاه ، في تجارته ، في علاقاته ، في نشاطاته ، في مُنْجَزاته ، في لهوه ، في جِدِّه ، في إقامته ، في سفره ، في أعماله التجارية ، في أعماله الصناعية ، في خطورة تحصيله . .

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 من هؤلاء يا رب ؟

﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة الكهف : 103]

 ضلوا .

﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾

  السعي ؛ العمل ، الحركة ، نشاطٌ الإنسانِ على وجه الأرض ، حركته اليومية ، انطلاقه من بيته ، كسبه لرزقه ، علاقاته بالآخرين ، صِلاته ، غضبه ، رضاه ، مَنْحُهُ ، مَنْعُهُ ، هذه الحركة اليومية . الإنسان يتحرك ، هذه الحركة اليومية ؛ إما لكسب رزقه ، أو لتحقيق أهدافه ، أو لإمتاع شهواته ، أو لشفاء غِلِّه ، أو لتحقيق ذاته ، إن هذه الحركة اليومية ضالَّة ، لماذا ؟ هنا يأتي دَور بعض المفسرين فيقولون : إن ضلال السعي أساسه ضلال العقيدة ، ما من عقيدة منحرفة إلا ويقابلها سَعْيٌ مُنحرف ، العِلم أساس العمل ، العمل هو الأساس ، ولكن أساس العمل هو العِلم ، لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام :

((طلب العلم فريضة ))

[ابن ماجه عن أنس بن مالك]

 فريضةٌ عَيْنِيَّةٌ - كما نصَّ العلماء عليها - عينيةٌ ، هذا الذي يقول : أنا عندما أجد وقتاً فارغاً أحضر مجالس العلم ، لا ، إن طلب العلم فرضٌ عَيْنِيّ ، يجب أن تعرف هذا الكتاب ؛ ماذا أمرك الله عزَّ وجل ؟ وعن ماذا نهاك ؟ وبماذا وعدك ؟ وبم أوعدك ؟ وأين آياته ؟ وأين شرعه ؟ وأين أمره ؟ وأين نهيه ؟ هكذا .

 

من بنى على اعتقاداته الخاطئة سعيٌ خاطئ ضيع الدنيا والآخرة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 قد تجد أمماً ، وشعوباً اعتقدت اعتقاداتٍ خاطئة ، فبُني على اعتقاداتها الخاطئة سعيٌ خاطئ فضيعوا الدنيا والآخرة ، ترى عملاً جباراً وراءه عقيدةٌ فاسدة ، تقول : يا خسارة هؤلاء ، اعتقدوا عقيدةً فاسدة فعملوا الأعاجيب ، ولكن هذه الأعمال كُلَّها ليست مؤدِّيةً إلى تحقيق أغراضهم . .

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 لم تستقم عقيدتهم ، لم يملكوا تصوّراتٍ صحيحة عن الكون والحياة والإنسان ، اعتقدوا اعتقاداتٍ ضالة ، فَضَلَّت أعمالهم ، هذا معنىً من معاني الآية .
 والمعنى الآخر :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 عرفوا الله عزَّ وجل ، ولكنهم اتجهوا إلى خَلْقِهِ ، لم تكن معرفتهم كافية ، وحَّدوه ، ولكنهم آثروا خلقه عليه ، فوقعوا ، فضلَّ سعيهم إما بضلال عقيدتهم ، وإما بمراءاتهم ، وهذا الشرك أيها الأخوة هو الشرك الخَفِيّ ، الذي حذَّر منه النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال :

((إن أخوف ما أخاف على أمتـي الإشراك بالله ، أما إني لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية))

[ الجامع لأحكام القرآن ]

 ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا ، وضع أمله في زَيْد ، وخاف عُبَيد ، ورجا فلان ، واستحيا من عِلاَّن ، وعصى أمر الواحد الديَّان ، هذا هو الشِرك ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً ، وألا ترجو غير الله ، وألا تخاف من غير الله ، وألا تسعى لغير مرضاة الله ، وألا تأخُذْكَ في الله لومة لائم .

 

الجهل المُرَكَّب أن يكون الإنسان في خسارةٍ كبيرة ويظن أنه رابح :

 أيها الأخوة الأكارم ؛

﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

 ظنَّ أن أهم ما في الدنيا هو المال ؛ فسعى من أجله ، وبذل من أجله كل غالٍ ورخيص ، ونفسٍ ونفيس ، فلما وصل إلى خريف العمر أدرك الحقيقة المُرَّة ؛ أن المال شيء ، ولكنه ليس كل شيء ، فلما شارف الموت ، رأى أن المال ليس بشيء ، ولكن كل شيء هو طاعة الله عزَّ وجل . .

﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[ سورة الاحزاب : 71]

 هذا هو الضلال ، ضلال السعي . ولماذا سمَّاهم الله عزَّ جل أخسرون مفردها أخسر، صيغة اسم التفضيل ، قيل : لأن هذا الذي يظن أنه رابح ما كان له أن يفعل شيئاً آخر. من الناس من يدري ويدري أنه يدري فهذا عالِمٌ فاتبعوه ، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهلٌ فعلِّموه ، ومنهم من لا يدري ويدري أنه يدري فهذا شيطانٌ فاحذروه ، ألم يقل الإمام عليٌ كرم الله وجهه :" قِوام الدين والدنيا أربعة رجال : عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم ، وغنيٌ لا يبخل بماله ، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيَّع العالم علمه ، استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله ، باع الفقير آخرته بدنيا غيره " لأنهم

﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

 هذا هو الجهل المُرَكَّب ؛ أن يكون الإنسان في ضلال ويظن أنه على هدى ، أن يكون الإنسان في خسارةٍ كبيرة ويظن أنه رابح ، هذا موقفٌ عصيب .

 

القرآن كتابنا المقرَّر و منهجنا القويم :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يجب أن نراجع أنفسنا ، دائماً يجب أن نزن أعمالنا بالشرع ، يجب أن نقرأ القرآن لنعرف موقعنا هل نحن على صواب أم على خطأ ؟ يجب أن نتَّخذ القرآن مقياساً لنا ، النبي عليه الصلاة والسلام كما وصفه الواصفون قرآنٌ يمشي ، السيدة عائشة رضي الله عنها سُئلت عن خُلِقِ رسول الله ، فقالت رضي الله عنها :

(( كان خلقه القرآن ))

[ مسلم عن عائشة ]

 القرآن كتابنا المقرَّر ، منهجنا القويم ، الصراط المستقيم ، حبل الله المتين :

(( لا يحزن قارئ القرآن ))

[ الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال ]

 لئلا نقع في هذا الوصف الشنيع ، لئلا نكون من هؤلاء :

﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف : 104]

 يا أيها الأخ الكريم ؛ إياك أن تعتقد ، أو أن تظن ، أو أن تقول : رأيي كذا . فإذا كان رأيك مخالفاً للقرآن فمن أنتْ ؟ من أنت حتى تقول : رأيي كذا في هذا الموضوع ؟ أأنت مُشَرِّع ؟ أنت عبدٌ جاءك من خالقك خطاب حينما قال الله عزَّ وجل :

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾

[ سورة الأحزاب : 36 ]

 إذا جاءك أمر الله عزَّ وجل عليك أن تستسلم له ، لماذا ؟ لأنك آمنت بالله ، لأنك آمنت بخالق هذا الكون ، وهذا أمره ، أن تقول : رأيي كذا ، ولا أرى أن هذه الآية تُطَبَّق في هذه الأيام ، هذا اتهامٌ خطير لكتاب الله العظيم ، الله عزَّ وجل يقول :

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾

[ سورة البقرة : 286 ]

 أنت حينما تقول : هذه الآية لا تطبَّق في هذه الأيام . كأنك تقول : إن الله كلَّف الناس في هذا العصر شيئاً فوق طاقتهم .

 

تدبر آيات القرآن و الوقوف على أحكامه :

 القضية أيها الأخوة قضيةٌ مَصيرية ، ليست القضية أن إنساناً حضر خطبةً واستمع إليها ، وأعجبته وانصرف إلى بيته ، القضية أخطر من ذلك ؛ إنك مخلوقٌ مُكَرَّم ، إنك المخلوق الأول ، إنك حملت الأمانة ، إن الله عزَّ وجل قال لك :

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس : 9-10]

 لا ينبغي أن تمر على كتاب الله مرَّاً سريعاً ، الله عزَّ وجل أمرك أن تتدبَّره ، أن تكون وقَّافاً عند أحكامه ، عند آياته ، عند وَعْدِهِ ، عند وعيده ، هؤلاء سمَّاهم الله أخسرين أعمالاً لأنهم ظنوا . .

﴿أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف : 104]

 وهذا غاية الضلال ، غاية العمى ، غاية الإخفاق ، غاية الخسارة ، أن تكون على خطأ وتظن أنك على صواب ، أن تعتقد اعتقاداً زائغاً وتظن أنك المصيبٌ في اعتقادك .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ صحيحٌ أن العقل ميزان ، وأن الفِطرة ميزان ، والأصح من هذا أن الميزان الصحيح الذي لا يَضَّطرب هو كتاب الله عزَّ وجل وسُنًّة رسوله ، فإذا تعارضت مُعْطَيات ميزانك مع ميزان القرآن فاعلم أن الإنسان في ضلال ، ما هو الضلال ؟ أن يقول لك ميزانك شيئاً مخالفاً لما في القرآن .

 

الدنيا همّ كل كافر و منتهى علمه :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ أخيرة - ذلك جزاؤهم - :

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾

[ سورة الكهف : 105]

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾

[ سورة فصلت : 53]

 إذاً الآيات التي بثَّها الله في الكون ما فكَّروا فيها ، ولا عرفوها ، والآيات القرآنية التي أنزلها على النبي عليه الصلاة والسلام ما قرؤوها ، ولا تدبَّروها . .

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾

[ سورة الكهف : 105]

 الكونية ، والقرآنية . .

﴿وَلِقَائِهِ﴾

  لم يجعلوا الآخرة مَحَطَّ رِحالِهِم ، ولا مُنتهى آمالهم ، جعلوا الدنيا كل همِّهم ، ومَبْلَغ عِلْمِهم . .

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾

.

﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾

[ سورة الفرقان : 23]

 أعمالٌ كالجبال ، ولكن لا إخلاص فيها ، لا قربة إلى الله فيها ، لم يُبْتَغَ بها وجه الله ، رحم الله العالم الذي قال : العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السُنَّة .

 

الكافر لا شأن له عند الله عز وجل :

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾

 الكونية ما فكروا فيها ، والقرآنية ما تدبَّروها. .

﴿وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾

  إما أن المعنى الأول أن أعمالهم سَفُلَت ، أصبحت خسيسة ، دنيئة ، قذرة ، وإما أن أعمالهم التي ظاهرها طيب دُمِّرت ، لأن نواياهم ليست كما أراد الله عزَّ وجل . .

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾

[ سورة الكهف : 105]

 لا شأن لهم عند الله ، قد ترى الرجل العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة . .

﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾

[ سورة الكهف : 105]

 لهم صغارٌ عند الله ، سقطوا من عين الله ، هان الله عليهم فهانوا على الله ، ابتغوا العزَّة عند الله . دخل على النبي الكريم صحابيٌ من فقراء الصحابة ، فقال عليه الصلاة والسلام :

((أهلاً بمـن خبرني جبريل بقدومـه ، قال : أو مثلـي ؟! قال : نعم يا أخي خاملٌ في الأرض علمٌ في السماء))

[ورد في الأثر]

 ينبغي أن تكون علماً في السماء ، ينبغي أن تبتغي عند الله العزَّة ، وعند الله الرفعة ، ينبغي أن يكون لك مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ، ينبغي أن تحرَص على ألا تسقط من عين الله ، ولو كنت فقيراً ، ولو كنت معذَّباً ، ولو كنت واقعاً في مشكلة يكفيك شرفاً ألا تكون ساقطاً من عين الله . . سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أصابته مصيبة قال : " الحمد لله ثلاثاً : الحمد لله إذ لم تكن في ديني - مهما تكن المصيبة كبيرةً - والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذا أُلهمت الصبر عليها ".
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الآية اقرؤوها في أواخر سورة الكهف ، وتدبَّروها، واعملوا بها . .
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليكم ، واعملوا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

الأوعية الدموية :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يحوي جسم الرجل الذي يزن ستين كيلو غراماً خمسة لترات من الدم ، تجري في شبكةٍ مغلقة من الأوعية ، طولها مئةٌ وخمسون كيلو متراً ، من شرايين وأوردة في جسم الإنسان . غزارة الدم خمسة لترات في الدقيقة ، تجري كل دقيقة في هذه الأوعية ، فإذا بذلت جهداً عالياً ، يتدفَّق في هذه الأوعية ثمانية لترات ، ويحوي كل ميليمتر مكعب من هذا الدم خمسة ملايين كرية حمراء ، وتلد معامل الكريات في كل ثانية مليونين ونصف مليون كرية ، ويموت في كل ثانية مليونان ونصف . ويحوي كل ميليمتر مكعب من هذا الدم سبعة آلاف كرية بيضاء ، مشكلاً بمجموعه جيشاً زوَّدك الله به كي يدافع عنك ، هذا الجيش هو قِوى المناعة ، فالكريات البيضاء ؛ بعضها يستطلع ويعرف طبيعة الجرثوم ، وبعضها يصنع المصل ، وبعضها يحمل هذا المصل ليهاجم به الجرثوم ، وأنت لا تدري ، وما مرض الإيدز إلا خللٌ في هذا الجهاز - جهاز المناعة - .
 إذا جرح الإنسان يلتئم جرحه ، وهو لا يدري لماذا التأم الجرح ، حيث يحدث الالتئام بسبب وجود في كل ميليمتر مكعب من هذا الدم ثلاثمئة ألف صفيحةٍ دموية تأتي وتسدُّ الجرح ، فكلما جرح الإنسان جاءت هذه الصفيحات الدموية ، وسدت مكان الخلل ، وأنت لا تدري ، ولو أن هذه الصفيحات تعطَّلت ، أو توقف نموها ، أو توقف توالدها ، أو قلت كميتها ، لمات الإنسان من جرح يسير ، لأن هذا الدم يجري ويجري حتى ينتهي دم الإنسان ، يقول ربنا عزَّ وجل :

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات : 21]

تحميل النص

إخفاء الصور