- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أخطر ما في الحياة أن يجهل الإنسان لماذا هو فيها :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في أواخر سورة الكهف آيةٌ كريمة يَجْدُرُ بنا أن نقف عندها قليلاً ، يقول الله سبحانه وتعالى في أواخر سورة الكهف :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض ، ولم يَدَع خلقه مُعَطَّلين من الأمر والنهي ، تقتضي رحمته جلّ جلاله أن ينزل علينا كُتُباً ، وأن يبعث فينا رُسُلاً ، فمن مقتضيات رحمة ربنا سبحانه وتعالى أن أرسل إلينا رسولاً ، وقد أمر هذا الرسول أن يقول لنا : قل ، إن الله عزَّ وجل خلقنا لهدفٍ كبير . .
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
فأخطر ما في الحياة الدنيا أن يجهل الإنسان لماذا هو في الدنيا ، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبـي عليه الصلاة والسلام أن يُخاطب الناس ، وكلّكم يعلم أن الناس يخاطبون بأصل الشريعة ، بينما يخاطب المؤمنون بفروع الشريعة . .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
إذا آمنت بالله عزَّ وجل ، وأيقنت بعظمته ، وعرفت أسماءه الحُسنى وصِفاته الفُضلى ، الآن أنت مَعْنِيٌ بكل آيةٍ ، يقول الله عزَّ وجل فيها :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
أما إذا خاطب الله الناس كافَّةً :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾
﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
ربنا سبحانه وتعالى يخاطِبُ الناس :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من يستحق أن يُنَبِّئُك ؟ أإنسانٌ مثلك ؟ أإنسانٌ جاهلٌ مثل عامّة الناس ؟ من يستحق أن تستمع إلى نَبَئِهِ ؟ إلى خبره ؟ إلى أمره ؟ إلى نهيه ؟ إلى وعده ؟ إلى وعيده ؟ إنه الله عزَّ وجل ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾
الله وحده هو المستحق للعبادة :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قبل أن يسأل الإنسان غيره ، قبل أن يستهدي بِهَدْي غيره، قبل أن يسترشد غيره ، ليعرف مَن هذا الإنسان الذي يسترشده ؟ مَن هذا الإنسان الذي يستنصحه ؟ مَن هذا الإنسان الذي يستهديه ؟ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾
هل هناك جهةٌ غير الله تستحق أن تُعْبَد ؟ تستحق أن يُستجاب لها ؟ تستحق أن تُسْتَرْشَد ؟ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ﴾
وفي آيةٍ أخرى :
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
كُلَّما عرفت الله عزَّ وجل معرفةً أرقى ، كلما آمنت برحمته عندما أرسل رُسُلَه ، وكلما دققت في القرآن الكريم عرفت أن هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه تنزيلٌ من رب العالمين ، الله سبحانه وتعالى يقول لنا :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ متى يخسر التاجر ؟ في أحسن الظروف إذا هبطت أرباحه عن طموحاته ، يقول : خسرنا . وهذا كلامٌ غير صحيح ، وقد يخسر أرباحه كلَّها ، يخسر جهده إذاً ، إذا حصَّل رأسماله يكون قد ضيَّع جهده ، يقول : لقد تعبنا كثيراً ولم نربح شيئاً. ماذا خسر هذا التاجر ؟ جهده ، اسمه خاسر ، وقد يخسر جزءًا من رأسماله ، اسمه خاسر ، وقد يخسر مُعْظَم رأسماله ، اسمه خاسر ، وقد يخسر كل رأسماله ، اسمه خاسر ، ربنا عزَّ وجل يقول :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾
الأخسر شيء و الخاسر شيءٌ آخر ، الخاسر اسم فاعل ، أما الأخسر فاسم تفضيل ، أي أشد الناس خسارةً ، أفدحهم خسارةً ، أعظمهم خسارةً . .
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾
الخسارة العُظْمَى أن تأتي إلى الدنيا و تغادرها صفر اليدين :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا عزَّ وجل حينما خلقنا فطرنا فطرةً خاصة ، فطرنا على حُبِّ وجودنا ، وفطرنا على حبّ سلامة وجودنا ، وفطرنا على حبّ كمال وجودنا ، وفطرنا على حبّ استمرار وجودنا ، ما منا واحدٌ إلا ويتمنَّى أن يكون سعيداً ، موفَّقاً ، ناعِماً ، سليماً ، معافىً ، وأن يعيش عُمُراً مديداً ، هكذا فطرة الإنسان .
الله عزَّ وجل يقول : هؤلاء الذين يفعلون كذا وكذا ليسوا خاسرين ، لأن التاجر إذا خسر كل ماله بإمكانه أن يبدأ من جديد ، وأن يعوِّض هذه الخسارة ، وإذا خسر بعضاً مِن رأسماله يعوِّض هذا البَعْض ، وإذا خسر جُهده معه رأسمال ، وإذا قلَّت أرباحه في العام القادم يضاعف أرباحه ، ولكن الله عزَّ وجل وصف هؤلاء الذين يخاطِبُهُم بأنهم أخسرون ، أي أشدّ الناس خسارة ، يبدو أن خسارتهم لا تعوَّض ، يبدو أنهم استنفذوا فُرصةً وحيدةً لن تعود ، هذه الخسارة ، هذه الخسارة العُظْمَى ؛ أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تغادرها وما عرفت لماذا أنت في الدنيا ؟ وما عرفت لماذا خُلِقْت ؟ ولا من أجل شيءٍ خُلِقت ؟ استهديت بشهواتك ، ولم تستهدِ بأمر ربك .
ضلال السعي أساسه ضلال العقيدة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وصفٌ كبيرٌ كبير ، خطيرٌ خطير مِن رب العِزَّة والجلالة ، يقول : هؤلاء الأخسرون أعمالاً . وقد وصف بعض المفسرون : الأخسرون ينبغي - بحسب قواعد اللغة - أن يأتي بعدها اسمٌ مفرد ، قل هل ننبئكم بالأخسرين عملاً ، الله عزَّ وجل يقول :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾
أيْ أنَّ هذا الإنسان إذا لم يعرف الواحد الديَّان ؛ كل أعماله مهما كثُرَت ، مهما تنوَّعت ، مهما امتدت ، مهما كبُرت ، مهما عظمت فهي خسارةٌ محققة ، خسارةٌ لا تعوَّض ، خسارةٌ لا تُستأنف . .
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾
في مسعاه ، في تجارته ، في علاقاته ، في نشاطاته ، في مُنْجَزاته ، في لهوه ، في جِدِّه ، في إقامته ، في سفره ، في أعماله التجارية ، في أعماله الصناعية ، في خطورة تحصيله . .
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾
من هؤلاء يا رب ؟
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
ضلوا .
﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾
السعي ؛ العمل ، الحركة ، نشاطٌ الإنسانِ على وجه الأرض ، حركته اليومية ، انطلاقه من بيته ، كسبه لرزقه ، علاقاته بالآخرين ، صِلاته ، غضبه ، رضاه ، مَنْحُهُ ، مَنْعُهُ ، هذه الحركة اليومية . الإنسان يتحرك ، هذه الحركة اليومية ؛ إما لكسب رزقه ، أو لتحقيق أهدافه ، أو لإمتاع شهواته ، أو لشفاء غِلِّه ، أو لتحقيق ذاته ، إن هذه الحركة اليومية ضالَّة ، لماذا ؟ هنا يأتي دَور بعض المفسرين فيقولون : إن ضلال السعي أساسه ضلال العقيدة ، ما من عقيدة منحرفة إلا ويقابلها سَعْيٌ مُنحرف ، العِلم أساس العمل ، العمل هو الأساس ، ولكن أساس العمل هو العِلم ، لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام :
((طلب العلم فريضة ))
فريضةٌ عَيْنِيَّةٌ - كما نصَّ العلماء عليها - عينيةٌ ، هذا الذي يقول : أنا عندما أجد وقتاً فارغاً أحضر مجالس العلم ، لا ، إن طلب العلم فرضٌ عَيْنِيّ ، يجب أن تعرف هذا الكتاب ؛ ماذا أمرك الله عزَّ وجل ؟ وعن ماذا نهاك ؟ وبماذا وعدك ؟ وبم أوعدك ؟ وأين آياته ؟ وأين شرعه ؟ وأين أمره ؟ وأين نهيه ؟ هكذا .
من بنى على اعتقاداته الخاطئة سعيٌ خاطئ ضيع الدنيا والآخرة :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾
قد تجد أمماً ، وشعوباً اعتقدت اعتقاداتٍ خاطئة ، فبُني على اعتقاداتها الخاطئة سعيٌ خاطئ فضيعوا الدنيا والآخرة ، ترى عملاً جباراً وراءه عقيدةٌ فاسدة ، تقول : يا خسارة هؤلاء ، اعتقدوا عقيدةً فاسدة فعملوا الأعاجيب ، ولكن هذه الأعمال كُلَّها ليست مؤدِّيةً إلى تحقيق أغراضهم . .
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
لم تستقم عقيدتهم ، لم يملكوا تصوّراتٍ صحيحة عن الكون والحياة والإنسان ، اعتقدوا اعتقاداتٍ ضالة ، فَضَلَّت أعمالهم ، هذا معنىً من معاني الآية .
والمعنى الآخر :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾
عرفوا الله عزَّ وجل ، ولكنهم اتجهوا إلى خَلْقِهِ ، لم تكن معرفتهم كافية ، وحَّدوه ، ولكنهم آثروا خلقه عليه ، فوقعوا ، فضلَّ سعيهم إما بضلال عقيدتهم ، وإما بمراءاتهم ، وهذا الشرك أيها الأخوة هو الشرك الخَفِيّ ، الذي حذَّر منه النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال :
((إن أخوف ما أخاف على أمتـي الإشراك بالله ، أما إني لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية))
ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا ، وضع أمله في زَيْد ، وخاف عُبَيد ، ورجا فلان ، واستحيا من عِلاَّن ، وعصى أمر الواحد الديَّان ، هذا هو الشِرك ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً ، وألا ترجو غير الله ، وألا تخاف من غير الله ، وألا تسعى لغير مرضاة الله ، وألا تأخُذْكَ في الله لومة لائم .
الجهل المُرَكَّب أن يكون الإنسان في خسارةٍ كبيرة ويظن أنه رابح :
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
ظنَّ أن أهم ما في الدنيا هو المال ؛ فسعى من أجله ، وبذل من أجله كل غالٍ ورخيص ، ونفسٍ ونفيس ، فلما وصل إلى خريف العمر أدرك الحقيقة المُرَّة ؛ أن المال شيء ، ولكنه ليس كل شيء ، فلما شارف الموت ، رأى أن المال ليس بشيء ، ولكن كل شيء هو طاعة الله عزَّ وجل . .
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
هذا هو الضلال ، ضلال السعي . ولماذا سمَّاهم الله عزَّ جل أخسرون مفردها أخسر، صيغة اسم التفضيل ، قيل : لأن هذا الذي يظن أنه رابح ما كان له أن يفعل شيئاً آخر. من الناس من يدري ويدري أنه يدري فهذا عالِمٌ فاتبعوه ، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهلٌ فعلِّموه ، ومنهم من لا يدري ويدري أنه يدري فهذا شيطانٌ فاحذروه ، ألم يقل الإمام عليٌ كرم الله وجهه :" قِوام الدين والدنيا أربعة رجال : عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم ، وغنيٌ لا يبخل بماله ، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيَّع العالم علمه ، استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله ، باع الفقير آخرته بدنيا غيره " لأنهم
﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
هذا هو الجهل المُرَكَّب ؛ أن يكون الإنسان في ضلال ويظن أنه على هدى ، أن يكون الإنسان في خسارةٍ كبيرة ويظن أنه رابح ، هذا موقفٌ عصيب .
القرآن كتابنا المقرَّر و منهجنا القويم :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يجب أن نراجع أنفسنا ، دائماً يجب أن نزن أعمالنا بالشرع ، يجب أن نقرأ القرآن لنعرف موقعنا هل نحن على صواب أم على خطأ ؟ يجب أن نتَّخذ القرآن مقياساً لنا ، النبي عليه الصلاة والسلام كما وصفه الواصفون قرآنٌ يمشي ، السيدة عائشة رضي الله عنها سُئلت عن خُلِقِ رسول الله ، فقالت رضي الله عنها :
(( كان خلقه القرآن ))
القرآن كتابنا المقرَّر ، منهجنا القويم ، الصراط المستقيم ، حبل الله المتين :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
لئلا نقع في هذا الوصف الشنيع ، لئلا نكون من هؤلاء :
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
يا أيها الأخ الكريم ؛ إياك أن تعتقد ، أو أن تظن ، أو أن تقول : رأيي كذا . فإذا كان رأيك مخالفاً للقرآن فمن أنتْ ؟ من أنت حتى تقول : رأيي كذا في هذا الموضوع ؟ أأنت مُشَرِّع ؟ أنت عبدٌ جاءك من خالقك خطاب حينما قال الله عزَّ وجل :
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
إذا جاءك أمر الله عزَّ وجل عليك أن تستسلم له ، لماذا ؟ لأنك آمنت بالله ، لأنك آمنت بخالق هذا الكون ، وهذا أمره ، أن تقول : رأيي كذا ، ولا أرى أن هذه الآية تُطَبَّق في هذه الأيام ، هذا اتهامٌ خطير لكتاب الله العظيم ، الله عزَّ وجل يقول :
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
أنت حينما تقول : هذه الآية لا تطبَّق في هذه الأيام . كأنك تقول : إن الله كلَّف الناس في هذا العصر شيئاً فوق طاقتهم .
تدبر آيات القرآن و الوقوف على أحكامه :
القضية أيها الأخوة قضيةٌ مَصيرية ، ليست القضية أن إنساناً حضر خطبةً واستمع إليها ، وأعجبته وانصرف إلى بيته ، القضية أخطر من ذلك ؛ إنك مخلوقٌ مُكَرَّم ، إنك المخلوق الأول ، إنك حملت الأمانة ، إن الله عزَّ وجل قال لك :
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
لا ينبغي أن تمر على كتاب الله مرَّاً سريعاً ، الله عزَّ وجل أمرك أن تتدبَّره ، أن تكون وقَّافاً عند أحكامه ، عند آياته ، عند وَعْدِهِ ، عند وعيده ، هؤلاء سمَّاهم الله أخسرين أعمالاً لأنهم ظنوا . .
﴿أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
وهذا غاية الضلال ، غاية العمى ، غاية الإخفاق ، غاية الخسارة ، أن تكون على خطأ وتظن أنك على صواب ، أن تعتقد اعتقاداً زائغاً وتظن أنك المصيبٌ في اعتقادك .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ صحيحٌ أن العقل ميزان ، وأن الفِطرة ميزان ، والأصح من هذا أن الميزان الصحيح الذي لا يَضَّطرب هو كتاب الله عزَّ وجل وسُنًّة رسوله ، فإذا تعارضت مُعْطَيات ميزانك مع ميزان القرآن فاعلم أن الإنسان في ضلال ، ما هو الضلال ؟ أن يقول لك ميزانك شيئاً مخالفاً لما في القرآن .
الدنيا همّ كل كافر و منتهى علمه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ أخيرة - ذلك جزاؤهم - :
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
إذاً الآيات التي بثَّها الله في الكون ما فكَّروا فيها ، ولا عرفوها ، والآيات القرآنية التي أنزلها على النبي عليه الصلاة والسلام ما قرؤوها ، ولا تدبَّروها . .
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾
الكونية ، والقرآنية . .
﴿وَلِقَائِهِ﴾
لم يجعلوا الآخرة مَحَطَّ رِحالِهِم ، ولا مُنتهى آمالهم ، جعلوا الدنيا كل همِّهم ، ومَبْلَغ عِلْمِهم . .
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾
.
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾
أعمالٌ كالجبال ، ولكن لا إخلاص فيها ، لا قربة إلى الله فيها ، لم يُبْتَغَ بها وجه الله ، رحم الله العالم الذي قال : العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السُنَّة .
الكافر لا شأن له عند الله عز وجل :
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾
الكونية ما فكروا فيها ، والقرآنية ما تدبَّروها. .
﴿وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾
إما أن المعنى الأول أن أعمالهم سَفُلَت ، أصبحت خسيسة ، دنيئة ، قذرة ، وإما أن أعمالهم التي ظاهرها طيب دُمِّرت ، لأن نواياهم ليست كما أراد الله عزَّ وجل . .
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾
لا شأن لهم عند الله ، قد ترى الرجل العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة . .
﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾
لهم صغارٌ عند الله ، سقطوا من عين الله ، هان الله عليهم فهانوا على الله ، ابتغوا العزَّة عند الله . دخل على النبي الكريم صحابيٌ من فقراء الصحابة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((أهلاً بمـن خبرني جبريل بقدومـه ، قال : أو مثلـي ؟! قال : نعم يا أخي خاملٌ في الأرض علمٌ في السماء))
ينبغي أن تكون علماً في السماء ، ينبغي أن تبتغي عند الله العزَّة ، وعند الله الرفعة ، ينبغي أن يكون لك مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ، ينبغي أن تحرَص على ألا تسقط من عين الله ، ولو كنت فقيراً ، ولو كنت معذَّباً ، ولو كنت واقعاً في مشكلة يكفيك شرفاً ألا تكون ساقطاً من عين الله . . سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أصابته مصيبة قال : " الحمد لله ثلاثاً : الحمد لله إذ لم تكن في ديني - مهما تكن المصيبة كبيرةً - والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذا أُلهمت الصبر عليها ".
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الآية اقرؤوها في أواخر سورة الكهف ، وتدبَّروها، واعملوا بها . .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليكم ، واعملوا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الأوعية الدموية :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يحوي جسم الرجل الذي يزن ستين كيلو غراماً خمسة لترات من الدم ، تجري في شبكةٍ مغلقة من الأوعية ، طولها مئةٌ وخمسون كيلو متراً ، من شرايين وأوردة في جسم الإنسان . غزارة الدم خمسة لترات في الدقيقة ، تجري كل دقيقة في هذه الأوعية ، فإذا بذلت جهداً عالياً ، يتدفَّق في هذه الأوعية ثمانية لترات ، ويحوي كل ميليمتر مكعب من هذا الدم خمسة ملايين كرية حمراء ، وتلد معامل الكريات في كل ثانية مليونين ونصف مليون كرية ، ويموت في كل ثانية مليونان ونصف . ويحوي كل ميليمتر مكعب من هذا الدم سبعة آلاف كرية بيضاء ، مشكلاً بمجموعه جيشاً زوَّدك الله به كي يدافع عنك ، هذا الجيش هو قِوى المناعة ، فالكريات البيضاء ؛ بعضها يستطلع ويعرف طبيعة الجرثوم ، وبعضها يصنع المصل ، وبعضها يحمل هذا المصل ليهاجم به الجرثوم ، وأنت لا تدري ، وما مرض الإيدز إلا خللٌ في هذا الجهاز - جهاز المناعة - .
إذا جرح الإنسان يلتئم جرحه ، وهو لا يدري لماذا التأم الجرح ، حيث يحدث الالتئام بسبب وجود في كل ميليمتر مكعب من هذا الدم ثلاثمئة ألف صفيحةٍ دموية تأتي وتسدُّ الجرح ، فكلما جرح الإنسان جاءت هذه الصفيحات الدموية ، وسدت مكان الخلل ، وأنت لا تدري ، ولو أن هذه الصفيحات تعطَّلت ، أو توقف نموها ، أو توقف توالدها ، أو قلت كميتها ، لمات الإنسان من جرح يسير ، لأن هذا الدم يجري ويجري حتى ينتهي دم الإنسان ، يقول ربنا عزَّ وجل :
﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾