وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0257 - رمضان4 - الاستمرار في الطاعات إلى ما بعد رمضان - العلم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم ّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الحكمة من تشريع الصّيام :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربما كان هذا اليوم الأخير من أيام شهر رمضان ، أو ربما كان اليوم قبل الأخير ، على كل نودع هذا الشهر الكريم ، نودع شهر رمضان شهر التوبة والغفران ، شهر الإحسان والقرآن ، شهر القرب والرحمة ، شهر الزلفى والتقوى .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لقد شرع الصيام لتقوية إرادة الإنسان على طاعة ربه، ولتنمية الإخلاص في قلبه ، ولتمتين الصلة بخالقه ، ولترسيخ معاني العبودية له ، فلو أديت العبادات - والصيام من العبادات - على النحو الذي أراد الله عز وجل لجعلت من المؤمن شخصية فذة ، لو أديت على نحو آخر فكانت جوفاء ، لا معنى لها ، تنقلب العبادات إلى طقوس ، لو أديت العبادات ، الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، على النحو الذي أراد الله ، لجعلت من المؤمن شخصية فذة ، إليها تنجذب النفوس ، وبها تتعلق الأبصار ، ومن نورها تهتدي القلوب ، لو أديت العبادات على النحو الذي أراد الله عز وجل لجعلت من الإنسان رجلاً نير الذهن والقلب معاً ، حاد البصر والبصيرة ، تتعانق فكرته وعاطفته ، فلا تدري أيهما أسبق صدق أدبه أم حسن معرفته ؟ ولا تدري أيهما أروع خصوبة نفسه الجياشة أم فطانة عقله اللماح؟ لو أديت العبادات على النحو الذي أراد الله لجعلت المؤمن ذا أفق واسع ، ونظر حاد ، ومحاكمة سليمة ، لجعلته منغرساً في سعادة لا تقوى متع الأرض الحسية أن تصرفه عنها ، ولجعلته ذا أخلاق أصيلة ، لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة ، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تقوضها .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ المؤمن الحق - كما أراده الله أن يكون - كالجبل رسوخاً، وكالصخر صلابة ، وكالشمس ضياء ، وكالبركان تدفقاً ، وكالبحر عمقاً، وكالسماء صفاء ، وكالربيع نضارة ، وكالماء عذوبة ، وكالعذراء حياء ، وكالطفل وداعة .

 

بطولة الإنسان صيام جوارحه عن المعصية في رمضان و بعد رمضان :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لقد كان الصيام من أجل انتصار الإنسان على نفسه ، كي يقودها نحو سعادتها الأبدية ، فقد ركب الملك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .
 أيها الأخوة ؛ ليست البطولة أن ننتصر على النفس في رمضان ، ثم ننخذل أمامها بقية العام ، ولكن البطولة أن نحافظ على هذا النصر ، على طول الدوران ، وتقلبات الزمان والمكان ، ليست البطولة أن نضبط ألسنتنا في رمضان فننزهها عن الغيبة والنميمة وقول الزور ثم نطلقها بعد رمضان إلى حيث الكذب والبهتان ، لكن البطولة أن تستقيم منا الألسنة ، وأن تصلح فينا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان ، ليست البطولة أيها الأخوة أن نغض أبصارنا عن محارم الله ، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان ، إنا إذاً :

﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً﴾

[ سورة النحل : 92 ]

 لكن البطولة أن تصوم جوارحنا عن كل معصية ، في رمضان وبعد رمضان ، حتى تلقى الواحد الديان .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليست البطولة أن نتحرى الحلال في رمضان خوفاً من أن يرد علينا صيامنا ، ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان على أنه عادة من عوائدنا ، ونمط شائع من سلوكنا ، ولكن البطولة أن يكون الورع مبدأ ثابتاً ، وسلوكاً مستمراً ، ليست البطولة أن نبتعد عن المجالس التي لا ترضي الله إكراماً لشهر رمضان ، ثم نعود إليها وكأن الله عز وجل ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام ، ليست البطولة أن نراقب الله في أداء واجباتنا وأعمالنا ما دمنا صائمين ، فإذا ودعنا شهر الصيام آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا .
 أيها الأخوة الأكارم : مثل هذا الإنسان لم يفقه حقيقة الصيام ، ولا جوهر الإسلام، إنه كالناقة عقلها أهلها ثم أطلقوها فلا تدري لم عقلت ولا لم أطلقت ؟ لا يدري لم صام ولا لم أفطر ؟

 

أبواب التوبة مفتوحة على مصاريعها في كل أشهر العام :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع أن شهر رمضان شهر التوبة والغفران ولكن هذا لا يعني أن التوبة مقصورة عليه ، محصورة فيه ، بل إن أبواب التوبة مفتحة على مصاريعها في كل أشهر العام ، هذه الكلمة لمن قصر في رمضان ، أبواب التوبة مفتوحة على مصاريعها في كل أشهر العام ، كيف لا والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم :

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة الزمر : 53]

 إنه جلا وعلا يدعو المسرفين إلى التوبة ، فكيف بالمقتصدين ؟ كيف لا والحق جلا وعلا في كتابه العزيز قال :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ﴾

[ سورة التحريم : 8 ]

 والتوبة النصوح كما قال بعض العلماء : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب ، كيف لا وفي الحديث القدسي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ قال : سمعت رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : قال الله تعالى : ‏

((يا بْنَ آدَمَ إَّنكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ما كانَ منْكَ وَ لا أُبالي ، يا بْنَ آدَمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ، يا بْنَ آدَمَ ! لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطايَا ثُمَّ أتَيْتنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً ))

[ الترمذي عن أنس ]

 كيف لا ؟

((و ا‏لله أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد ، فمن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه‏ ))

[ رواه أبو العباس الهمذاني مرسلا ]

عوامل تجعل الذنب الصغير كبيراً :

 أيها الأخوة ؛ لقد بيّن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ما تعظم به صغائر الذنوب فأدرج منها الإصرار والمواظبة ، إذ لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ، من هذه الملاحظات ، أو من هذه العوامل التي تجعل الذنب الصغير كبيراً أن تصر عليه ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( لاَ صَغِيَرَةَ مَعَ الإِصْرَارِ ، وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَارِ ))

[ رواه ابن المنذر في تقييده عن ابن عباس موقوفاً ، والديلمي عن ابن عباس مرفوعاً ، وعن أنس موقوفاً ]

 إنك إذا كنت على طريق مستقيم ، وتقود مركبة ، فلو انحرفت بالمقود قيد أنملة ، هذا الانحراف إذا استمر لابد من أن تخرج عن الطريق .
 فالصغيرة انحراف مع الاستمرار ، واستمرار الانحراف يخرجك عن جادة الصواب، ولا كبيرة مع الاستغفار ، لو أنك حرفت المقود انحرافاً كبيراً ثم انتبهت فأعدته فجأةً تبقى على الطريق الصحيح .

(( لاَ صَغِيَرَةَ مَعَ الإِصْرَارِ ، وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَارِ ))

[ رواه ابن المنذر في تقييده عن ابن عباس موقوفاً ، والديلمي عن ابن عباس مرفوعاً ، وعن أنس موقوفاً ]

 أيها الأخوة ؛ من العوامل التي تجعل الذنب الصغير كبيراً أن تستصغره ، فالذنب كلما استعظمه العبد في نفسه صغر عند الله ، وكلما استصغره العبد في نفسه كبر عند الله ، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري : ‏

((المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه ، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره ))

[ البخاري عن الحارث بن سويد]

 عامل آخر يجعل الذنب الصغير كبيراً . العامل الأول : أن تصر عليه .
 العامل الثاني : أن تستصغره ، إذاً هو كبير . العامل الثالث : أن تظهر الذنب ، وأن تتهاون بستر الله عليك ، وحلمه عنك ، وإمهاله إياك . قيل : لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت ، هذا ذنبك ، وقد يضرك ذنب أخيك ، ذنب أخيك قد يضرك ، قال عليه الصلاة والسلام : ‏

((الذنب شؤم على غير فاعله ؛ إن عيره ابتلي به ، وإن اغتابه أثم ، وإن رضي به شاركه ))

[ أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس ]

 إذا رأيت أخاك قد وقع في ذنب لا ينبغي أن تفضحه ، لا ينبغي أن تعين الشيطان عليه ، لا ينبغي أن تشهر به ، هذا أول موقف ، ولا ينبغي أن تعيره ، وكأنك في حرز حريز ، إنك إذاً تعتمد على نفسك ، إنك إذاً معتز بنفسك ، وإذا عيره ابتلي به ، وإذا رضيه فقد شاركه في الإثم ، من شهد معصية فأنكرها كان كمن غاب عنها ، ومن غاب عن معصية فرضي بها كان كمن شهدها ، لذلك قيل : لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت . كيف لا والحق جلا وعلا يقول في الحديث القدسي :

((..أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل طاعتي أهل كرامتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ؛ فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب...))

[الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان ]

 كيف لا وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .

 

التوبة علم وحال وفعل :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أسوق هذه الأفكار لمن قصر في رمضان ، باب التوبة مفتوح على مصراعيه طوال أشهر العام ، التوبة أيها الأخوة علم وحال وفعل ، لابد من أن تعلم حتى تعلم أنك مذنب ، كيف تعلم أنك مذنب إن لم تتعلم أحكام الله عز وجل ؟ كيف تعلم أنك مذنب إن لم تحضر مجالس العلم ؟ كيف تعلم أنك مذنب إن لم تتفقه في أمر دينك ؟ كيف تعلم أنك مذنب إن لم تفهم كتاب الله ؟ التوبة شرطها الأساسي أن تعلم ، أن تعلم الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، والغي من الرشد ، والفساد من الإصلاح ، فهي علم وحال ، حال قلبي ، وعمل ، فهي علم لأنها معرفة بضرر الذنوب ، وكيف أن هذه الذنوب حجاب لك عن المحبوب، وهذا العلم أيها الأخوة يولد حالة نفسية هي الشعور بالندم ، علامة صحة التوبة أن تشعر بالندم، ما الذي جعلك تندم ؟ علمك بما اقترفت يمينك ، وهذا الندم على شيئين ، على ما اقترف العبد من الذنوب ، وعلى ما فاته من الخيرات ، هذه الحالة النفسية التي هي الندم تولد إرادة وقصداً إلى فعل تعلق بالحال ، وبالماضي ، وبالاستقبال ، علم ، فندم ، فعمل ، العمل بعضه في الحال ، وبعضه في الماضي ، وبعضه في الاستقبال ، فالتائب يترك الذنب الذي كان متلبساً به في الحال ، والتائب يعزم بقلبه على ألا يعود إليه في الاستقبال ، والتائب يسعى لإصلاح ما كان منه في الماضي ، وقد لخص النبي عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط وتلك المعاني بكلمة واحدة ، كان عليه الصلاة والسلام كما يقول عن نفسه :

((قد أوتيت جوامع الكلم))

[ أحمد عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ ]

 قال عليه الصلاة والسلام :

((الندم توبة))

[البخاري وابن ماجه والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ ]

 أين العلم ؟ وأين العمل ؟ يذكر النبي عليه أتمّ الصلاة والسلام أن الندم توبة ، العلماء قالوا : الندم لا يخلو من علم أوجبه ، ولا يخلو من عمل أثمره .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ومع أن رمضان شهر العمل الصالح والقربات ، ولكن هذا لا يعني أن فرص العمل الصالح قاصرة على هذا الشهر ، بل إن أبواب الخير مفتحة في كل الشهور، ومسالك القرب نافذة في كل الأوقات .

 

العمل الصالح قوام حياة النفس :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ العمل الصالح قوام حياة النفس ، كما أن الطعام والشراب قوام حياة الجسد ، والفقر في حقيقته ، أدق تعريف للفقر ، الفقر من العمل الصالح والغنى في جوهره وفرة العمل الصالح ، سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، حينما سقى لابنتي سيدنا شعيب قال :

﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾

[ سورة القصص : 24 ]

 يا ربي أنا مفتقر إلى العمل الصالح .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإمام سيدنا علي كرم الله وجهه يقول :" الغنى والفقر بعد العرض على الله " ، إذا صحّ أن المعاصي والمخالفات ، عقبات كؤود في الطريق إلى الله عز وجل ، وأن التوبة النصوح إزالة لهذه العقبات ، بحيث يصبح الطريق إلى الله سالكاً وآمناً ، إذا صح ذلك ، يصح أيضاً أن العمل الصالح تحرك وتقدم على هذا الطريق ، التوبة وترك الذنوب إزالة للعقبات التي على طريق الإيمان ، ولكن العمل الصالح تحرك على هذا الطريق ، قال تعالى :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ العمل الصالح هو المظهر العملي للإيمان ، الإيمان إقرار باللسان ، اعتقاد في القلب ، إحساس داخلي ، هذا المظهر الداخلي ، فأين المظهر الخارجي ؟ المظهر الخارجي هو العمل الصالح ، وهو مشعر به ، مؤكد لوجوده ، دال على صحته ، لذلك قرن العمل الصالح بالإيمان في أكثر من مئة آية في كتاب الله ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ بل إن مكانة المؤمن عند الله يحددها حجم عمله الصالح، قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

[ سورة الأحقاف : 19 ]

 وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيم استعملك ؟ بل إن تحريك هذا المقام ورفع مستواه لا يتم إلا بالعمل الصالح ، قال تعالى :

﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾

[ سورة فاطر : 10 ]

شروط العمل الصالح للعرض على الله :

 ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان صالحاً للعرض على الله عز وجل ، والحق جل وعلا لا يتقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم ، فقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

((أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ))

[ورد في الأثر]

 فالدرهم الذي ينفق في إخلاص خير من ألف درهم ينفق في رياء ، وقد وصف الله تعالى إخلاص المؤمنين فقال :

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان : 9 ]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ولا يكون العمل الصالح صالحاً إلا إذا سلم من التخليط، والتخليط أن يخلط المرء عملاً صالحاً بآخر سيئاً ، فقد روي أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

((ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط))

[الجامع الصغير عن أنس]

((من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بسائر عمله شيئاً))

[ مسند الشهاب عن أنس]

تقديم العمل الصالح على العبادة لأنه ثمرتها ودليل صحتها :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربما كان العمل الصالح مقدماً على العبادة لأنه ثمرتها ، ودليل صحتها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عمر :

((لأن أعين أخي المؤمن على حاجته أحب إلي من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ))

[أبو الغنائم النرسي في قضاء الحوائج عن ابن عمر]

((فالخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))

[ أبو يعلى عن أنس بن مالك ]

 وقد كان ابن عباس - دققوا أيها الأخوة في هذه القصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما معتكفاً في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فخرج من المسجد ليمشي في حاجة أخ له ، فقيل له : أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا ولكنني سمعت صاحب هذا القبر - والعهد به قريب ، فدمعت عيناه - وهو يقول : " من مشى في حاجة أخيه ، وبلغ فيها ، كان أفضل له من اعتكافِ عشر سنين " وقد سأل زيد الخير رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يا رسول الله ! ما علامة الله فيمن يريد ؟ هؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل ما علامتهم ؟ هؤلاء الذين يريدهم الله عز وجل ما صفتهم ؟ ما علامة الله فيمن يريد ؟ وما علامته فيمن لا يريد ؟ فقال : يا زيد كيف أصبحت؟ قال : أصبحت أحب الخير ، وأهله ، وإن قدرت عليه بادرت إليه ، وإن فاتني حزنت عليه ، وحننت إليه ، فقال عليه الصلاة والسلام : هذه علامة الله فيمن يريد ، أحب الخير ، وأهله ، وإن قدرت عليه بادرت إليه ، وإن فاتني حزنت عليه ، وحننت إليه ، هذا مقياس دقيق ، إذا كنت ممن يحبهم الله ورسوله ، فيجب أن تكون هذه صفتك .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يمنعنكم من اصطناع المعروف للناس جحودهم ، وإساءتهم ، فقد روى مالك عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما ، عن علي كرم الله وجهه أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

((اصنع المعروف إلى من هو أهله ، وإلى غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله ))

[ ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى الخطيب في تاريخ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ أردت في هذه الخطبة التي تقع في اليوم الأخير أو قبل الأخير من رمضان ، أن يفتح أمامكم باب الأمل ، باب الرجاء ، التوبة والعمل الصالح أبوابهما مفتحة ، طوال أشهر العام ، فمن فاته رمضان ، فعليه أن يبدأ في شوال ، عليه أن يتوب في شوال ، والله سبحانه وتعالى - كما مرّ بكم - أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد .
 أيها الأخوة الأكارم : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

العلم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ أذكركم بحديثين للنبي عليه الصلاة والسلام ، متعلقان بالخطبة ؛ الحديث الأول : عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ قال :

((اغتنم خمسا قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ))

[الحاكم، والبيهقي، عن ابن عباس أحمد، عن عمرو بن ميمون ]

((‏لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ؛ عن شبابه فيم أبلاه؟))

[الدارمي عن معاذ بن جبل]

 هذه الفورة ، هذه الطاقة ، هذا الإقدام ، ذلك الاندفاع ، هذا الفكر النير ، هذه العضلات المفتولة ، هذا الوقت الممتد ، أين أنفقت هذا كله ؟ في القيل والقال .

(( يحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة ؛ فريق جمع المال من حرام وأنفقه في حرام ، يقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حرام وأنفقه في حلال ، فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال ، وأنفقه في حرام ، فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ، يقال : هذا قفوه فاسألوه هل ضيع حقوق جيرانه ؟ هل تاه على خلق الله ؟ هل ضيع من أجل ماله صلاة ؟ هل قصر في حق من حوله ؟ حتى قالوا: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصر في حقنا ))

[ ورد في الأثر ]

((..وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟))

 أنا أريد آخر واحدة .

((...وعن علمه ماذا عمل به ؟))

 هذا الذي قيل في هذه الخطبة سوف نسأل جميعاً عنه ، أنا معك اسأل ، كل إنساناً يسأل عن علمه ، ماذا عمل به ؟

وعالم بعلمه لم يعملن  معذب من قبل عباد الوثن
***

 تعلموا ما شئتم ، فو الله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ، كل علم وبال على صاحبه ، ما لم يعمل به ، العلم علمان ، علم اللسان ، حجة على ابن آدم ، القضية مصيرية .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛

((..وعن علمه ماذا عمل به ؟ ))

[الدارمي عن معاذ بن جبل]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور