وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 1181 - الامتحان ( امتحان الدنيا وامتحان الآخرة ) - فرحة المؤمن.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.

الامتحان :

أخوتنا الكرام، من واقع مجتمعاتنا أنه حينما يقترب موسم الامتحانات، ترى كثيراً من البيوت في الأعمّ الأغلب قد أعلنت حالة التأهب القصوى، والاستعداد الكامل، لدخول معمعة الامتحان، هذه المعمعة يكرم فيها المرء أو يهان، وهذا جهد مشكور، وعمل مأجور، إذا صلحت النية وخلص المقصد لله رب العالمين.
امتحان الشهادة الإعدادية تستنفر المدينة كلها، تلغى الزيارات، والاحتفالات، واللقاءات، من أجل هذا الطفل الصغير الذي عنده امتحان، والأسرة تهتم وهذا وسام شرف للأسر، لكن لو تأملنا هذا الاهتمام من أجل هذا الامتحان، ثم قلبنا البصر على ضعف الاستعداد، وقلة الاهتمام، وشدة الغفلة، عن ذلك الامتحان الرهيب، الذي خلقنا الله عز وجل من أجله، و أنشأنا:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

[ سورة الملك: 2 ]

ليمتحنكم، نحن في امتحان كبير:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾

[ سورة محمد: 31 ]

آيتان قرآنيتان تؤكدان أن كل البشر في هذه الدنيا في امتحان، أنا لا أبالغ قد تمتحن في اليوم الواحد مئات المرات، في بيتك مع أولادك، أثناء البيع والشراء تمتحن، هناك من يقسم أيماناً مغلظة أن رأسمال هذه السلعة فوق قيمة بيعها، والأمر ليس كذلك، فأنت معرض لامتحانات لا تنتهي، لذلك الموضوع في هذا اللقاء الطيب هو الامتحان.

 

امتحان الله عز وجل حوى الأقوال وأحصى الأفعال وأحاط بالحركات والسَّكنات :

الرسوب في امتحان الآخرة قد يكون بقتل نملة قصدا
امتحان الدنيا في جزء من الكتاب، في الجامعة هناك فصل أول، وفصل ثان، امتحان الفصل الأول في نصف الكتاب، وفي ورقات معدودات من دفتر، بل في مجال من مجالات الحياة، امتحان قيادة، وضربٍ من ضروب العلم، أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها، قد تدوس على نملة قصداً، امتحنت ورسبت، قد تقول كلاماً ليس صحيحاً في أثناء البيع والشراء امتحنت ورسبت، لذلك امتحان الآخرة في كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها، قد حوى الأقوال كلها:

(( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

حوى الأقوال والأفعال، أي:

(( ترْكُ دانق من حرام-سدس الدرهم- خير من سبعين حجة بعد الإسلام ))

[ ورد في الأثر ]

حوى الأقوال وأحصى الأفعال، وأحاط بالحركات والسَّكنات، أحياناً تبتسم ابتسامة الشامت، حُسبت عليك، تبتسم ابتسامة الساخر، ما تكلمت لكنك ابتسمت، يذكر شخص أمامك أنت لا تحبه، وتعلمه مستقيماً، تمسك بثوبك فقط حركة، امتحنت ورسبت، فامتحان الله عز وجل حوى الأقوال كلها، أحصى الأفعال، وأحاط بالحركات والسَّكنات، ألم بالخطرات، والهنات، والزلات، قال تعالى:

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾

[ سورة الكهف: 49 ]

فالصغائر مسجلة والكبائر مدونة والدليل:

﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾

[ سورة القمر: 53 ]

بربكم لو قال لك أحدهم: إن هاتفك مراقب، والله تبتعد عن أي كلمة يفهم من معنى من مئة معنى أنها تسيء إليك، الهاتف مراقب، قال لك فلان يراقبك، تحتاط في حديثك معه احتياطاً مبالغاً، فكيف إذا كان الواحد الديان يراقبك؟

﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾

[سورة النساء:1]

الصغائر مسجلة والكبائر مدونة على كل إنسان يوم القيامة :

أيها الأخوة:

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾

[ سورة الكهف: 49 ]

إنما الحصاد حصاد الآخرة
الصغائر مسجلة والكبائر مدونة، والعباد يقولون ويعملون، والكتاب من الملائكة يكتبون، ويوم القيامة يخرجون ما كانوا يحصون ويستنسخون، قال تعالى:

﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 29 ]

حدثني رجل قال لي: أحياناً هناك دول متقدمة جداً الإنسان إذا تحرك حركة مشبوهة، يصور بفيلم، فإذا جيء به إلى التحقيق، لا يسأل أي سؤال يعرض عليه الفيلم، لا يستطيع أن يتكلم بأي كلمة أو حرف.
مرة فيما بلغني وضعوا راداراً في طريق المطار، وجاؤوا بسائق وجهوا له تهمة أنك ذهبت إلى المطار، وأنت بمركبتك لا يوجد معك ترخيص بهذا الذهاب، الحقيقة المخزية، أقسم بكل الأنبياء وبالقرآن وبكل شيء مقدس أنه لم يذهب إلى المطار، بعد أن أنهى أقسامه كلها عرضوا عليه الفيلم، هذه مركبتك وهذه اللوحة، لذلك أقوى تحقيق أن تعرض عليك أعمالك، وأنا مؤمن إيمان قطعي أن أعمالك في الدنيا سوف تعرض عليك، تصور فيلماً ملوناً، ترى ماذا فعلت، هذه فاحشة، هذا كذب، هذه جريمة، هذه مزاودة، كله مسجل:

﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 29 ]

أقوال الإنسان و أفعاله مسجلة عليه و سيحاسب عليها لا محالة :

أعمالك مصورة فتنشر الفضائح، وتظهر القبائح، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوب وعصيان تحت ركام الغفلة والنسيان، الآن هذا الذي تتحدثون عنه الشريط أو الفيلم الذي يكشف بعض الرسائل الموجهة إلى بلاد الغرب، عرضوا بعضها، شيء مخزي، هذا مثل في الدنيا:

﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾

[ سورة المجادلة: 6 ]

اعتقد ابتداءً أن كل حركاتك وسكناتك، وأن كل أقوالك وأفعالك، وأنك في كل شؤون حياتك، محاسب عليه.

امتحان الآخرة فالأسئلة حاوية لجوانب الحياة كلها :

حياتك من بدايتها إلى نهايتها ستعرض عليك في الآخرة
أيها الأخوة ، امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب، فلا يمكن للمعلم أن يسأل الطالب عن كل دقيق وجليل من محتويات المنهج، يقول لك: من الصفحة الفلانية إلى الصفحة الفلانية، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها، ولعله يراجع مع الطالب الإجابة قبيل الامتحان بأيام معدودة وساعات محددة، أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاوية لجوانب الحياة كلها، شاملة لدقائق العمر، أسئلة عن المعتقدات، وأسئلة عن الأقوال، وأسئلة عن الأفعال، وأسئلة عن الأموال، وأسئلة عن النيات، وأسئلة عن العبادات، وأسئلة عن الأوقات، وأسئلة عن الأمانات، سؤال خطير جد خطير عن كل صغير وكبير، وعظيم وحقير، قال تعالى:

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

عملك مسجل بكل تفاصيله، بكل دقائقه.

محاسبة كل إنسان على عمله :

الآية الثانية:

﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾

[ سورة الصافات: 24]

قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا وَضَعَهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ))

[ سنن الدارمي عن معاذ بن جبل]

قال أيضاً:

(( كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ))

كلمة عبد لا تعني عبداً تعني موظفاً، أنت في محل تجاري هناك بضاعة أنت محاسب عنها، ولا يوجد بالمحل طريقة حسابية، كله مسجل، تبيع وتضع بالدرج، جاء قريبك بعته بنصف الرأسمال، محاسب، هل معك صلاحية أن تبيع بخسارة؟

((أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))

[ متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

حديث آخر:

(( إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته))

[النسائي في الكبرى عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

أنت معلم هل أتقنت درسك؟ هل علمت هؤلاء الصغار المنهج أم ضيعت الوقت؟ اكتبوا الدرس هذا ليس تعليماً هذا جزاء، هناك معلمون كثر لا يقدمون شيئاً للطلاب، هم يعترضون على قلة دخلهم، لكنك أيها المعلم انتقمت من إنسان بريء، الطفل بريء ليس له علاقة بالدخل، انتقمت من الصغار لقلة دخلك فلم تعلمهم:

ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء
***

في امتحان الآخرة الجو رهيب والموقف عصيب والمكان عجيب :

أيها الأخوة الكرام، امتحان الدنيا هناك جو مهيأ، ومكان معد، والكراسي مريحة، والأنوار ساطعة، والأمن والأمان متوافران في مكان الامتحان، أما امتحان الآخرة فهناك جو رهيب، وموقف عصيب، ومكان عجيب، قال تعالى:

﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ والسماوات وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾

[ سورة إبراهيم: 48]

أهوال عظيمة، وكربات جسيمة، وأحوال مفجعة، ومناظر مدهشة ترتعد منها الفرائص، وتقشعر منه الجلود، وتنخلع لهولها القلوب، وتشيب منها مفارق الولدان، قال تعالى:

﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ﴾

[ سورة المزمل: 17]

جمع الأولين و الآخرين يوم القيامة و محاسبتهم :

والله أيها الأخوة، أحياناً يترنم إنسان بكلمة: أنا مسؤول كبير، لكن لم ينتبه إلى معنى الكلمة، مسؤول مسؤولية كبيرة جداً، أحفظت أم ضيعت؟ يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين فإذا هم بالساهرة حفاة بلا نعال، عراة بلا أردية، غرلاً من دون ختان، قال تعالى:

﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء: 104]

(( يُحْشَر الناسُ حفاة عراة غُرْلا، قالت عائشةُ، فقلت: الرجالُ والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : الأمرُ أشد من أن يُهِمَّهم ذلك ))

[متفق عليه عن عائشة أم المؤمنين ]

القبور تبعثرت، والأفلاك تفجرت، والنجوم تكدرت، والسماء تفطرت، والجبال سيرت، والبحار سعرت، والشمس كورت، والجحيم برزت، والوحوش جمعت، وعلى أرض المحشر حشرت، قال تعالى:

﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾

[ سورة الحج: 2 ]

حدثني أخ من القاهرة، أصاب القاهرة قبل سنوات زلزالاً، فالمنطقة التي فيها زلزال امرأة من شدة الخوف، حملت وليدها وانطلقت إلى الطريق، وفي الطريق اكتشفت أن الذي حملته ليس وليدها لكن حذاء زوجها، هذه قصة وقعت مع أصدقاء لي في القاهرة، من شدة الهول حملت وليدها لكنه في الحقيقة حذاء زوجها اكتشفت ذلك في الطريق:

﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾

[ سورة الحج: 2 ]

أحداث يوم القيامة من حيث :

1 ـ المكان :

أحياناً تطالعون في الأخبار إذا وقع زلزال في بلد، ترى الهلع، والرعب، والخوف يكاد لا يوصف، الآية الكريمة:

﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾

[ سورة الحج: 2 ]

القلوب واجفة، والأبصار خاشعة، والأعناق خاضعة، والأمم جاثية، على الركب تخشى العطب، لما ترى وتسمع من مهلكات وخطوب، فالميزان منصوب ، والصراط مضروب، والشهود تشهد، والجوارح تفضح، والصحائف تنشر، وإلى الله يومئذ المستقر، فأين المفر؟ قال تعالى:

﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾

[ سورة آل عمران: 30]

2 ـ الزمان :

هذا من حيث المكان فماذا عن الزمان؟ امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتد أوانه فهو في ساعة من نهار، أي أطول امتحان في الجامعة ثلاث ساعات، وربما أكثر من ذلك بقليل، أما امتحان الآخرة فهو في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطب جليل، يقسمون الأيمان المغلظة ما لبثوا في الدنيا إلا قليلاً، ولا عاشوا إلا يسيراً، قال تعالى:

﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾

[ سورة الروم: 55]

فيفزعون نادمين، وعلى أعمارهم متحسرين، إنما هو زمن يسير، وعمر قصير، ثم كان إلى الله المصير، قال تعالى: لن يبقى لك في الآخرة إلا عملك الصالح

﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ*قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ*قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون: 112-114]

أيها الأخوة، العاقل الحصيف يعلم علم اليقين أنما هي بضع سنين أو أقل من ذلك أو أكثر، ثم يقبر، ثم ينشر، ثم يحشر، فإذا به واقف بين يدي ربه في يوم العرض الأكبر، فيستعد لما أمامه من أهوال يوم القيامة، فيغنم أيامه ولياليه فيما يقربه من خالقه ومربيه، بالمبادرة إلى الطاعات، والأعمال الصالحات، والمسابقة في الخيرات، قبل أن تأتيه المنية، ويصاح في قافلة الهلكى: الرحيل! الرحيل! قال تعالى:

﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾

[ سورة النازعات: 46]

هذا من حيث الزمان وقبل المكان.

 

3 ـ المراقب :

والآن المراقب، من هو المراقب في الامتحانات؟ مخلوق مثلك، محدود القدرات، معدود الإمكانات، ينسى ويغفل، ويسهو ويتنازل، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان كلها، أما الرقيب على امتحان الآخرة- وله المثل الأعلى- فهو الذي لا يضل ولا ينسى، قد أحاط بكل شيء علماً، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يغيب عن بصره شيء من الأشياء في الأرض ولا في السماء، قال تعالى:

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾

[ سورة البقرة: 255]

عن أبي موسى رضي الله عنه قال:

((قام فينا رسول الله فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل))

[ مسلم عن أبي هريرة]

فأين تغيب عن سمعه وبصره وهو السميع البصير؟ وأين تهرب عن علمه ونظره وهو العليم الخبير؟ وأي حجاب يواريك منه ويحجبك عنه؟

 

النجاح الحقيقي هو النجاح في الآخرة :

النجاح الحقيقي هو نجاح الآخرة
أما النجاح فالنجاح في الحياة الدنيا، مؤداه أن يرتقي العبد في مراتبها، ويعتلي في درجاتها، أي حمل ليسانس، حمل دكتوراه، وأي درجة هذه؟ وأي مرتبة تلك؟ والدنيا بما فيها من نعيم ولذة منذ خلقها الله تعالى وإلى أن يرثها وهو خير الوارثين نعيمها لا يساوي في نعيم الآخرة إلا كقطرة أخذت من بحر لجي، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

(( .. ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ...))

[مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]

والله ‍ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه ـ وأشار بالسبابة ـ في اليم، فلينظر بم ترجع.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام:

((ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما))

[ أحمد عن أنس]

ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم
لذلك أحد الصحابة له زوجة طالبته ببعض الحاجات وهو لا يملك ثمنها، فلما ألحت عليه، قال لها: اعلمي أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلك.
أيها الأخوة، نجاح الآخرة هو الزحزحة عن النار، والدخول إلى الجنة، فضلاً من الله ومنة، قال تعالى:

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

[ سورة آل عمران : 185]

أيها الأخوة الكرام، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

فرحة المؤمن يوم القيامة و خزي الكافر :

أيها الأخوة، فرحة المؤمن العارمة، وسعادته الغامرة، عندما يثقل بالصالحات ميزانه، وتثبت على الصراط أقدامه، فيأمن يوم الفزع الأكبر جنانه- قلبه- ويلقى حجته، فيرفع كتابه فوق رأسه، وينشره بين الخلائق، ويستعلي بصوته، وينادي على رؤوس الأشهاد في فرح وسرور، وبهجة وحبور:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾

[ سورة الحاقة: 19-24 ]

الثاني :

﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ* وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ* يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ* مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ* خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ *إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾

[ سورة الحاقة: 25-33 ]

التمايز في الدرجات بين أهل الجنة يكون حسب أعمالهم الصالحة في الدنيا :

الدرجات في الآخرة بحسب الأعمال الصالحة في الدنيا
أيها الأخوة الكرام، حتى النجاح في الدنيا في الجامعة مثلاً يتفاوت بين مقبول، وجيد، وجيد جداً، وممتاز، ثم مرتبة الشرف وأوسمة التفوق، درجات بعضها فوق بعض،
كذلك يوم القيامة، فدخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، ثم يكون التفاوت في الدرجات والتمايز بين أهلها في النعيم والخيرات، على حسب أعمالهم الصالحة في الدنيا، فكلما زادت حسناتهم زادت درجاتهم، وكلما كثرت طاعاتهم ارتقوا في منازلهم، وعظمت كرامتهم، ادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم.

((في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض))

[ أحمد عن عبادة بن الصامت]

فجد، واجتهد، ولا يسبقنك إلى الجنة ممن عرفت أحداً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.

 

ملاحظة :

أيها الأخوة الكرام، الأسبوع القادم في ذهني أن أتحدث عن امتحان الدنيا، هذا الدرس موجه لطلاب الثالث الإعدادي و الثالث الثانوي، أي كيف يدرسون؟ كيف يخططون للدراسة؟ كيف يلخصون؟ هذه الخطبة خاصة بالطلاب، فنحن إن شاء الله في الأسبوع القادم الموضوع متعلق بامتحان الدنيا، كيف أعد لهذا الامتحان؟ هناك شهادات عليا، هناك بكالوريا، هناك كفاءة، وكل طالب ينتفع بهذا الدرس وكل أب ينتفع، لأن الأب سوف يعلم ابنه كيف يدرس إن شاء الله.
عباد الله.... إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور