- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
حقيقة الاحتفال بعيد مولد النبي عليه الصلاة و السلام :
أيها الأخوة الكرام ؛ لازلنا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ، لأننا في شهر المولد ، وبيَّنت لكم في خُطَبٍ سابقة أن حقيقة الاحتفال بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام أن نتعرَّف إليه ، أن نتعرف إلى سُنته القولية ، وإلى سنته العملية ، أن نتعرف إلى أحاديثه وإلى سيرته ، لأن الله سبحانه وتعالى قال :
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
فكيف نأتمر وكيف ننتهي إن لم نعرف أمره ونهيه ؟ وحينما قال الله عزَّ وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
كيف يكون النبي أسوةً حسنةً لنا إن لم نعرف سيرته ؟ وهناك قاعدة أصوليَّة : أنه ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما تتم السنة إلا به فهو سنة ، إذاً حينما أُمرنا أن نأخذ من النبي يجب أن نعرف أمر النبي ، وحينما أُمرنا أن ننتهي عما نهى عنه النبي يجب أن نعرف نهي النبي ، وحينما أُمرنا أن يكون النبي قدوةً لنا يجب أن نعرف سيرته حتى نتأسَّى به .
الجانب الاجتماعي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم :
في هذه الخطبة أيها الأخوة نتناول جانباً من جوانب حياة النبي عليه الصلاة والسلام ، ألا وهو الجانب الاجتماعي ، هناك مواقف كثيرة إذا قرأناها قراءةً دون أن نقف عندها وقفةً متأنيةً لا نستفيد الإفادة الكاملة . .
جاءته ابنته يوماً تطلب خادماً ، وقد اشتكت من الرَّحى - أي الطاحونة - يروي الإمام عليٌّ رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل علينا ونحن في مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال : على مكانيكما ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتُماني ؟ إذا أخذتم مضاجعكما فسبِّحا الله ثلاثاً وثلاثين ، واحمداه ثلاثاً وثلاثين ، وكبِّراه أربعاً وثلاثين فإن ذلك خيرٌ مما سألتماني .
وفي روايةٍ : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه من الجوع ؟ "
هنا الوقفة : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه من الجوع ؟ " أي أن المجتمع وحدةٌ لا تتجزَّأ ، أيعقل أن يتمتَّع نفرٌ من المجتمع بالرفاهية ونفرٌ آخر يقاسي آلام الجوع ؟! هذا الذي ليس في قلبه رحمة ، هذا الذي ينغمس في الملذَّات ولو كانت مُباحة ، ويأكل ما يشتهي ، ويذهب إلى حيث يشتهي ، وينسى أن بين المسلمين فقراء لا يجدون ما يأكلون ، ولا يستطيعون أن يؤمِّنوا الحاجات الأساسية .
أيها الأخوة الكرام ؛ علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وهو النبي الذي يوحى إليه ، وهو قائد هذه الأمة ، علَّمنا أن حاجة الفقير مقدَّمَةٌ على طلبٍ لابنته . والبنت كما تعرفون كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
((إنما فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها فقد أغضبني))
شأن الفتاة عند الأب غاليةٌ جداً ، ومع ذلك حينما سألت السيدة فاطمة رسول الله - أباها - أن يقدِّم لها خادمةً تعينها على طحن الطحين ، وعلى صُنع الخبر قال : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه من الجوع ؟ "
أيها الأخوة ؛ من لم يتفقَّد شؤون المسلمين فليس منهم ، من لم يرَ أن المؤمنين في مجموعهم أسرة واحدة ؛ أن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى ، من لمْ يشعر بما يشعر الآخرون ، من لم يتألم بما يتألم منه الآخرون ، من قضى حاجاته كلها وهو لا ينتبه لنقص حاجات الناس ، من يسَّر مصالحه كلها ولم ينتبه للمصالح المتعثِّرة عند الناس ، فهذا بعيدٌ عن أن يكون من المؤمنين الصادقين ، من الذين يتمثلون قول الله عزَّ وجل :
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
أليس بإمكان النبي عليه الصلاة والسلام أن يفرز لها عشرات الخدَم ؟ أليس بإمكان النبي وهو سيد الأمة ، وهو سيد الخلق ، وهو في قمة المجتمع الإسلامي ، أن ييسِّر لابنته الحبيبة كل ما تشتهي ؟ بل قال لهما : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه ؟".
أساس حياة المؤمن خدمة الآخرين لا تلقِّي خدماتهم :
في المجتمع الإسلامي إذا نسي الأغنياء الفقراء ، وإذا نسي الأقوياء الضعفاء ، وإذا اشتغل كلٌ منا بمصالحه ، وحاجاته الأساسية ، والثانوية ، والفرعية ، وإذا أراد أن يعلو على الناس بماله ، ومتاعه ، وأنماط حياته ، ونسي الذين يتضوَّرون جوعاً ، والذين لا يجدون ما يسكنون ، هذا الذي يُنْفِقُ على عُرْسٍ أو على عقد قِرانٍ مئات الألوف ، بل عشرات الملايين ، وينسى أن هناك مئاتٍ بل ألوفاً من الشباب لا يجدون غرفةً يسكنون بها .
أيها الأخوة الكرام ؛ مع أن النصَّ قصير لكنَّه في مدلوله كبير :" كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه ؟ " .
هذه نقطة من حياة النبي عليه الصلاة والسلام الاجتماعية . سيدنا أنس حينما أراد أن يحمل للنبي عليه الصلاة والسلام حاجاته من السوق ، قال عليه الصلاة والسلام :
((إنَّ صاحب الشيء أحقُّ بشيئه أن يحمله ...))
علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام ألا نأخذ خدمات الآخرين ، أساس حياة المؤمن هو خدمة الآخرين لا تلقِّي خدماتهم ، أساس حياة المؤمن أنه يسوي نفسه مع الآخرين لا يعلو عليهم ، ومن مظاهر تسوية نفسه معهم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل حاجته بيده ، ويقول : " أنا أولى بحملها" ، ويقول : " صاحب الحاجة أولى بحملها " .
ما أراد أن يستعبد فريقاً فريقٌ في المجتمع الإسلاميّ ، ما أراد أن يكون أناسٌ في مكانٍ يسمح لهم أن يسخِّروا الناس لخدمتهم ، ما أراد النبي أن يتميَّز على عباد الله عزَّ وجل ، ما أراد النبي أن يكون العبد متفوِّقاً والآخرون في خدمته ، قال :
((إنَّ صاحب الشيء أحقُّ بشيئه أن يحمله ...))
وفي حديثٍ آخر قال عليه الصلاة والسلام :
(( وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ))
إذاً علَّمنا ألا نسأل الناس شيئاً ، ألا نستقطب خدمات الآخرين ، ألا نسخِّر الآخرين لخدمتنا ، ألا يكون أحدنا في موقعٍ أعلى من أخيه المسلم ، ألا يجعل من أخيه المسلم خادماً له ، هذا من سنة النبي عليه الصلاة والسلام .
التمايز فقط في طاعة الله عزَّ وجل :
مجتمع المسلمين مجتمعٌ كأسنان المشط لا فرق بين أصغرهم وأكبرهم ، وأبيضهم وأسودهم إلا بالتقوى ، التمايز فقط في طاعة الله عزَّ وجل ، أما التمايز بالمال ، أو بالجاه ، أو بتلقي خدمات الآخرين فليس هذا من صفات المجتمع المسلم في شيء . من حياته الاجتماعية صلى الله عليه وسلَّم أنه كان يقول :
((إذا أتى أحدكم خادمه - الخادم اسم فاعل - بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه ))
وقال أيضاً :
((هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده ، فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه ))
أرأيتم إلى هذا التواضع !! خادم ، سمِّه ما شئت ؛ سمِّه صانعاً ، سمه موظَّفاً ، سمه ما شئت ، إنسان يعمل معك في عملك ، يجب أن تطعمه مما تأكل ، ألا تكلفه ما لا يطيق ، يجب أن تنطلق من أن هذا الإنسان أخوك في الله ، إذا انطلقت من فكرةٍ طبقيةٍ ، من فكرةٍ عنصريةٍ ، من أنك السيِّد وهو المسود ، من أنك صاحب هذا المتجر وهو طفلٌ صغير يتيم محروم من كل شيء ، تفضَّلت عليه وجعلته في متجرك ، إذا انطلقت من هذه النظرة فأنت أبعد الناس عن أهل الإيمان ، انطلق من أن هذا الضعيف الذي أمامك ، هذا الطفل الصغير الذي أرسلته أمه وهو يتيم ليكون في متجرك ، سمِّه ما شئت ، يجب أن تطعمه مما تأكل ، وألا تكلفه ما لا يطيق ، وأن تنطلق من حقيقة أنه أخوك في الدين .
يقول عليه الصلاة والسلام إذا ما أمكنك أن تجلسه معك ليأكل لقمة من هذا الطعام الشهيّ .
أنا أعرف أُناساً كثيرين ، طفلٌ يحمل لهم ألذَّ الطعام ، لا يطعمونه ولا لقمةً من هذا الطعام ، قال :
((إذا أتى أحدكم خادمه - الخادم اسم فاعل - بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه ))
وقال أيضاً :
((هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده ، فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه ))
ولو كان هذا الإنسان أقل منك مرتبةً ، ولو كان أقل منك مكانةً ، ولو كان هو يعمل عندك ، ولو كنت تُعطيه النفقة والراتب وما إلى ذلك ، لو أنه من حيث السُلَّم الاجتماعي في أسفل السلَّم وأنت في أعلى السلَّم ، لو أن الأمر كذلك هو أخوك في الدين ؛ أطعمه مما تأكل ، ألبسه مما تلبس ، لا تكلفه ما لا يطيق .
ألا ترون أن أناساً يربحون أرقاماً فلكيةً وهم يعطون من عندهم أقل من حاجاتهم بكثير جداً ؟ ويقولون : يكفيهم ذلك ، ليدبِّر أمره بهذا المبلغ ، أهكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام ؟
نهي النبي أن يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه :
أقول مرةً ثانية وثالثة : والله الذي لا إله إلا هو لو أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله فهموا الدين كما نفهمه نحن لما خرج الإسلام من مكة المكرمة ، مجتمع الطبقة الواحدة مجتمعٌ السواسية ، ولو كنت أعلى إنسانٍ من حيث الحجم المالي ، وعندك إنسانٌ فقيرٌ جداً ، هو أخوك جعله الله تحت يديك .
أوصى النبي عليه الصلاة والسلام ألا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، صار هناك تمايز ، فقد يأتي إنسان فنقول لفلان : قم من هذا المكان ، اجلس يا أستاذنا ، يا شيخنا اجلس هنا . نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ، لئلا يشعر هذا الذي أُقيم من المجلس بالصغار ، بالهَوان ، هينٌ على الناس ، كان عليه الصلاة والسلام يجلس حيث ينتهي به المجلس ، فأن تربح أخاك المسلم أغلى بكثير من أن تربح شيئاً آخر ، أن تجرح مشاعره هذا عملٌ كبير ، بل هو أقرب إلى العمل الخطير ، أن تجرح مشاعر أخيك المؤمن .
((لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ))
النهي عن تناجي اثنين دون الثالث :
وقال أيضاً :
((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه))
أحياناً تكون في مجلس فيه عدة تجار ، وفيه عدة موظفين ، فهؤلاء التجار يتحدثون عن صفقاتهم ، وعن أرباحهم ، وعن بضاعتهم ، وعن ذكائهم ، وعن سفرهم ، لم ينتبهوا إلى أن في المجلس أناساً لهم مهنٌ أخرى ، لهم دخول أخرى ، لهم أوضاع أخرى ، فالحديث عن الذات ، وعن الإنفاق ، وعن السفر ، وعن ، وعن ، هذا يحزن قلب الآخرين ، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام :
((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الواحد))
من معاني فلا يتناجَ اثنان دون الواحد الموسَّعة : أي لا تطرح موضوعاً لا يعني كل الحاضرين ، إذا طرحت موضوعاً فيجب أن يكون عن الله ورسوله ، وعن الجنة وعن النار ، وعن القرآن الكريم ، وعن الإيمان ، هذا الموضوع يعني كل الناس ، لذلك إذا ذكرت الله عزَّ وجل في مجلس ، القلوب كلها هَفَتْ إليك ، أما إذا ذكرت الدنيا تباعدت عنك القلوب ، و .
((ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله ، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا قاموا عن أنتن جيفة ))
أيها الأخوة الكرام ؛ علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام أن يسلِّم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير .
جبر خاطر الناس و عدم التدخل في شؤونهم :
شيءٌ آخر في حياة النبي الاجتماعية - أنا أتناول في هذه الخطبة النواحي الاجتماعية - الإنسان يُدعَى إلى طعام ، النبي عليه الصلاة والسلام لم يُعِبْ طعاماً قط ، جبراً لخاطر الناس ، كان ذواقةً ، قال : المؤمن كالنحلة لا يأكل إلا طيباً ، ولا يطعم إلا طيباً .
﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ﴾
إذاً المؤمن يعرف كيف يذوق الطعام ، ولكن شيمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما عاب طعاماً قط في حياته ، وإذا أردتم توسيع هذا التوجيه ، أو هذه الخَصْلَة في حياته صلى الله عليه وسلَّم ، وطِّن نفسك على ألا تعيب شيئاً . هناك من يدخل بيتاً فيقول : كيف يسعك هذا البيت ؟ لمَ اشتريت هذا البيت في هذا المكان ؟ كلَّما تحرَّك وكلَّما تنفَّس يصدر تقييمه ، ويشير إلى النقص ، وإلى العَيب ، وإلى الصفات السيئة والسلبيَّة ، ليس هذا من شأن المؤمن ، ليس هذا من شأنك إطلاقاً .
النبي عليه الصلاة والسلام سكن غرفةً ، كان إذا أراد أن يصلي قيام الليل ضمَّت السيدة عائشة رِجليها ، لأن غرفته لا تتسع لصلاته ونومها ، وهو سيد الخلق وحبيب الحق .
فلينظر ناظرٌ بعقله- هذا قول سيدنا علي - أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ؟ فإن قال أهانه فقد كذب ، وإن قال أكرمه فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا.
علاقة النبي مع الآخرين :
علاقتك مع الآخرين جانبٌ منها أساسه مظهرك ، فكان عليه الصلاة والسلام يقول :
(( اغسلوا ثيابكم ، وخذوا من شعوركم ، واستاكوا ، وتزينوا ، وتنظفوا فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم ))
فقد وضع النبي يده على نقطةٍ دقيقةٍ جداً في الحياة الزوجية ، لها عليك مثل ما لك عليها . .
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
كما أنك تشتهي أن تكون كما تريد ، هي تشتهي أن تكون أنت كما تريد . .
(( اغسلوا ثيابكم ، وخذوا من شعوركم ، واستاكوا ، وتزينوا ، وتنظفوا فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم ))
النبي عليه الصلاة والسلام غضب على سيدنا عمر حينما نهر رجلاً جاءه يطالب النبيَّ بدينٍ عليه ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((يا عمر أنا وهو كنَّا إلى غير هذا منك أحوج ، أن تأمره بحسن التقاضي ، وأن تأمرني بحسن القضاء ))
(( دعوه ، فإن لصاحب الحق مقالاً ، واشتروا له بعيراً فأعطوه إياه . وقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه ، قال : اشتروه ، فأعطوه إياه ، فإن خيركم أحسنكم قضاء ))
هذا تعليمٌ لنا ، أيْ إذا كان الإنسان كبيرًا ، وجاءه من يطالبه بحقه ، لا ينبغي أن تغضب عليه ، لا ينبغي أن تقول : ما عرفت قدري ؟ أتسألني ديناً ؟ صاحب الحق يجب أن يُسمع إليه :
(( . . . دعه فإن لصاحب الحقِّ مقالاً ))
هذه كلها علاقاتٌ اجتماعية أساسها أن النبي عليه الصلاة والسلام سوَّى نفسه مع مجموع المؤمنين ، سوى نفسه مع المسلمين ، لم يرتفع على أحدهم بشكلٍ أو بآخر .
محاسبة كل إنسان على علاقاته الاجتماعية الطارئة أو المستمرَّة :
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سئل عن صحبته هل أقام منها حق الله أم أضاعه ؟ ))
أنت قد تسافر مع إنسان أسبوعين ، أو شهراً ، قد تسكن إلى جوار فلان ، قد تعمل في وظيفة وفي غرفتك زيدٌ أو عمروٌ ، هذه الصُحبة التي امتدَّت شهرين أو ثلاثة ، أو أسبوعاً أو أسبوعين إن الله سيسألك عنها ؛ هل نصحته ؟ هل أمرته بالمعروف ؟ هل نهيته عن المُنكر ؟ هل ذكَّرته بالله عزَّ وجل ؟ هل شعرت أن هذا الذي هو معك الآن سيسألك عن هذه الصُحبة ؟ يقول لك يوم القيامة : لِمَ لمْ تعلمني ؟ لِمَ لم تنبِّهني ؟ لِمَ لم تأمرني بالمعروف ؟ لمَ لم تنهني عن المنكر ؟ لمَ أهملتني ؟ لمَ أردت مني مصلحتك فقط ؟ لمَ انتفعت مني ولم توجِّهني ؟.
(( ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سئل عن صحبته هل أقام منها حق الله أم أضاعه ؟ ))
العلاقات الاجتماعية الطارئة أو المستمرَّة هذه تحاسبون عليها ، لو سافرت مع إنسان لأسبوعٍ واحد ، رأيته لا يصلي ، لِمَ تبقَ ساكتاً ؟ انصحه ، بيِّن له ، ذكِّره بربه ، بين له عظمة خالقه ، إن رأيته يكذب ، إن رأيته يغُش الناس ، إن رأيته يحتال عليهم لمَ تبق ساكتاً ؟ لا يعنيني أمره .
إدراك النواحي الإيجابية في كل إنسان و الثناء عليها :
شيٌ آخر ؛ يقول أنس رضي الله عنه : " خدمت رسول الله عشرَ سنين ، فما قال لي : أفٍ قط ، وما قال لشيءٍ صنعته : لِمَ صنعته ؟ ولا لشيءٍ تركته لمَ تركته ؟ "
أيها الأخوة الكرام ؛ ماذا نفهم من هذا النص ؟ أحياناً الإنسان يجرح أخاه حتى العظم لأنه ضره بآلة ، أو بحاجة ، أو نسي قضية ، فأنت بذلك خسرت أخاك ، وأنت لا تدري ، غضبك لهذا الشيء التالف ، أو غضبك لهذا الخلل أوقعك في جريمةٍ بحق أخيك ، سحقته ، وبَّخته ، عنَّفته ، أبعدته عنك ، جعلته يشعر أنه دونك بكثير ، علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام أنك إذا ربحت إنساناً أغلى من أن تربح الدنيا بأكملها ، لأن يربح الإنسان إنساناً أفضل من أن يربح كل شيء ويخسر أخاه . . " خدمت رسول الله عشرَ سنين ، فما قال لي : أفٍ قط ، وما قال لشيءٍ صنعته : لِمَ صنعته ؟ ولا لشيءٍ تركته لمَ تركته ؟ ".
ليس معنى هذا الكلام أنه إذا كان عندك موظَّف وأخطأ أن تبقى ساكتاً ، لك أن تنصحه بأسلوبٍ لطيف ، لك أن توجِّهه ، لك أن تبين خطأه دون أن تسحقه ، دون أن تجرحه ، دون أن تخسره ، هذا هو التوجيه ، طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي ، ودخل أحد أصحابه ، وليلحق معه الركعة الأولى ركض في المسجد ، وأحدث صخباً وضجيجاً ، فلما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته استدعاه وقال :
((زادك الله حرصاً - أثنى على حرصه- ولا تعد))
أي لا تعد إلى هذا العمل ؛ من أجل أن تدرك ركعة مع الإمام تحدث جلبة وضجيجاً ؟! هذا لا ينبغي ، لكن ما غفل عن حرصه على أداء الركعة مع رسول الله . وقال علماء النفس : " إذا أردت أن توجه نقداً لمن هم دونك ينبغي أن تثني عليهم بما هم فيه ، وبعدئذٍ وجِّه النقد ، يأتي النقد مقبولاً ومستساغاً ، ويشعر من معك أنك منصف ، أدركت نواحيه الإيجابية ، وها أنت تصلح النواحي السلبيةَّ في سلوكه ".
علامات ودّ النبي صلى الله عليه و سلم :
من علامة ودِّ النبي عليه الصلاة والسلام أنه لم ينزع يده من يدِ محدِّثه ، ولا يصرف وجهه عنه ، وكان يتجمَّل لإخوانه إذا ظهر إليهم - خرج إليهم - عندما تتزين لإنسان ، وترتدي ثيابًا ، هناك أناسٌ كثيرون يستقبلون ضيوفهم بالقمصان الداخليَّة ، فهذا ليس من اللباقة في شيء ، كان عليه الصلاة والسلام يتجمَّل لإخوانه إذا خرج إليهم ، هذا احترام للآخرين ، إذا ارتديت ثيابك ، إذا تعطَّرت ، إذا رجَّلت شعرت ، إذا لبست شيئاً مقبولاً واستقبلت الضيف ، هذا من تمام احترام الضيف ، أما أن تستقبله بثيابٍ متبذِّلة ، أو بقمصان داخلية وتقول : هذا صديقي . لا ليس هذا من السُنة في شيء ، كان عليه الصلاة والسلام يتجمَّل لإخوانه إذا خرج إليهم .
ولم يُر ماداً رجليه قط أمام أصحابه ، وهو سيد الخلق ، إنك تجد مصلياً في المسجد بلا عذر - العذر شيءٌ آخر - يجلس ويمد رجليه هكذا ويباعد بينهما ، وهو مرتاح تماماً في مجلس العلم ، النبي عليه الصلاة والسلام لم يُر في حياته ماداً رجليه قط . بل عثرت على نصٍ آخر أنه : " لم يُر مقدمٍ ركبته بين يدي جليسٍ له " ، أحياناً شخص يجلس وهو دون القوم فيلف رجلاً على رجل ، ويضطجع هكذا بجلسةٍ لا وقار فيها ولا أدب فيها ، وسيد الخلق وحبيب الحق ما رئي ماداً رجليه قط ، ولا رئي ماداً ركبته بين يدي جليسه .
ومن تمام العلاقات الاجتماعية أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا غاب أحدٌ من إخوانه فوق ثلاثة أيام يسأل عنه ، هذا التفقُّد ، تفقُّد الحُب ، تفقُّد المودَّة ، ودائماً الحق وسط بين طرفين ، أحياناً المتابعة لدرجة إذا غاب درس واحد يسأله : أين كنت ؟ هذه المتابعة قاسية ، أما أن يغيب شهراً دون أن تسأل عنه !! ليس هذا ولا ذاك ، هذا إفراط وذاك تفريط ، فلعلَّه كان مسافراً، لعلَّه بحاجة لشيء ، لعل حابساً حَبَسَهُ ، كان إذا غاب أحدٌ من إخوانه عنه فوق ثلاثةِ أيام يسأل عنه .
عامل الناس كم تحب أن يعاملوك :
ويقول عليه الصلاة والسلام : " إني لست أرضى لكم ما لا أرضاه لنفسي " وهذا المبدأ لو طُبِّقَ في حياتنا لكنَّا في حالٍ غير هذا الحال . . "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك " . . هذا القِماش الذي تبيعه هل تلبسه أنت ؟ هل تريد أن يتغير لونه بعد حين ؟ أن ينكمش ؟ أن تلقي هذا الثوب في المهملات بعد أسبوعين ؟ أترضى لنفسك هذا الثوب ؟ كيف تبيعه للناس إذاً ؟ هذا قانون في التعامل على مستوى المهن الراقية ، على مستوى التجارة ، على مستوى الصناعة ، تصنع شيئاً لا يصمد على الاستعمال أسبوعين ، وتأخذ ثمنه كما تريد ، وأنت مسلم؟!! هذا ليس من الدين في شيء . يقول عليه الصلاة والسلام :" إني لست أرضى لكم ما لا أرضاه لنفسي " إذا كلٌ منَّا قدَّم للناس ما هو يقبله ، ما يرضاه لنفسه ، حُلَّت مشكلاتنا جميعاً.
حسن الإصغاء إلى الآخرين و عدم قطع حديثهم :
كان عليه الصلاة والسلام يلتفت إلى محدثه لا بوجهه ولكن بجسمه ، أرأيتم إلى هذا الود ؟ قد يجلس إلى جانبك محدِّثك ، كان يلتفت بجسمه كله لا بوجهه ، وهو يُصغي تمام الإصغاء ، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعلَّه أدرى به ، ويتحدَّث إليه من شاء ، فلا يقطع على أحدٍ حديثه ، يُحْسِن الإصغاء عليه الصلاة والسلام ، تمام الإصغاء ويلتفت إلى محدِّثه بجسمه ووجهه ، ولا يقطع على أحدٍ حديثه .
تلبية الدعوات :
وكان عليه الصلاة والسلام يزور خادمه ، كلٌ منا يلبي الدعوات ، ولكن دعوات الأقوياء والأغنياء هذه تلبى لما يتوهَّم أن هناك إكراماً ، و مكاناً فخماً ، وضيافة ثمينة ، ولكن لو دعاك إنسانٌ فقير في طرف المدينة ، لو دعاك إلى عقد قِرانه ، لو دعاك إلى زيارته ، لو عُدَّته وهو مريض ، هؤلاء الضعاف إذا زرتهم فهذا محكُّ إيمانك ، هذا محكُّ ورعك ، هذا محك شعورك أنك مثله ، عليه الصلاة والسلام كان يزور خادمه أنس في بيته ، ويتلطَّف معه في القول .
المؤمن الصادق يشعر بسرور ما بعده سرور إذا زار أخاه الذي يظنه الناس فقيراً، يظنه الناس ضعيفاً ، يظنه الناس من الدرجة الدنيا في السُلَّم الاجتماعي ، هذا إذا زرته تؤكِّد أن الدين لا يفرِّق بينه وبينك ، هذا إذا زرته تؤكِّد أن المسلمين كالجسد الواحد ، كالبُنيان المرصوص ، بهذه الطريقة نسحق الفوارق الاجتماعية ، بهذه الطريقة نجعل مجتمع المسلمين مجتمع الطبقة الواحدة .
إيثار النبي غيره على نفسه :
وكان عليه الصلاة والسلام يُعْرَف بالإيثار ، كان يوزِّع على أصحابه كل ما ارتفع ثمنه من الغنائم ، ويقنع هو بالقليل والخشن منها ، المؤمن يبني حياته على الإيثار ، يؤثر الآخرين بالشيء النفيس ويأخذ الشيء الخسيس ، تأليفاً لقلوبهم ، وتمكيناً لأواصر المحبَّة بينهم .
وكان عليه الصلاة والسلام إذا سُئل أعطى كل ما يملك ، وإذا سُئل وهو مُعْدِم وَعَد . فأحياناً لا تملك طلب هذا الإنسان ، ولكن تملك أن تعده خيراً في المستقبل ، تملك أن تردَّه رداً جميلاً ، تملك أن تطيِّب خاطره ، تملك أن تعتذر اعتذارًا واقعيًّا أمامه ، هذا تملكه ، أما أن ترده رداً قاسياً فليس هذا من السُنة في شيء .
وإذا سأله أحدٌ حاجةٌ وهو في أَمَسّ الحاجة إليها ، كان يقول عليه الصلاة والسلام :
((ما عندي شيء ولكن ابتع علي - أي اشتري من عند فلان على اسمي وأنا أؤدي الثمن- فإذا جاء شيء قضينا ))
تواضعه صلى الله عليه و سلم و مساواة نفسه بأصحابه :
وكان يركب الحمار ويردِف خلفه بعض أصحابه ، فأحياناً الإنسان يشعر أن هذه المركبة ليست في مقامه ، يأبى ركوبها كِبراً ، كان عليه الصلاة والسلام لا يتأنَّف عن ركوب الحمار ، وكان يردف بعض الصحابة خلفه ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، وكان يأكل مع خادمه تواضعاً لله عزَّ وجل ، ويأتي بالشاة ويحلبُها ويشرب آخر الناس ، ويقول :
((إن ساقي القوم آخرهم شرباً))
مما يلحق بهذا الموضوع حينما قال : وعليَّ جمع الحطب ، أنتم تعرفون هذه القصة ، فلما طُلِبَ إليه أن يستريح وهم يقومون بهذه المهمة قال : لا ، إن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه .
ويوم كان في بدر قال :
(( ...أنا وعليٌ وأبو لبابة على راحلة ..))
فلما جاء دوره في المشي توسلا إليه أن يبقى راكباً فقال :
((ما أنتما بأقوى مني ولا أنا أغنى عن الأجر منكما))
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه لقطاتٌ اجتماعيةٌ تناولتها من السيرة الشريفة المطهَّرة، يجمعها محورٌ واحد : علاقاته الاجتماعية ؛ كيف كان متواضعاً ، كيف سوى نفسه مع الناس ، كيف كان يعتني بأصحابه ، كيف كان يصافحهم ، كيف كان يجلس معهم ، كيف كان يأكل مع الخادم ، كيف كان يزور خادمه في بيته ، هذه صفات النبي ، لو فعلنا هذه السُنَّة لوجدت المجتمع الإسلامي متماسكاً تماسكاً مُذهلاً ، لو فعلنا هذا مع بعضنا بعضاً ، لو طبَّقنا هذه السُنَن ، ونحن نحتفل بعيد مولده لكنا أمةً تستحق التكريم من الله عزَّ وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
البويضة الملقحة :
أيها الأخوة الكرام ؛ قال العلماء : إن من كل مئة بويضةٍ في مبيض المرأة تفوز أربع وثمانون بويضة بفُرَصِ التلقيح ، وإن من بين الأربع والثمانين بويضة ملقَّحة لا يصل إلى مكان العلوق في الرحم إلا تسعةٌ وستون ، وأن من التسعة والستين بويضة التي وصلت إلى الرحم وإلى مكان العلوق في الرحم لا يبقى عالقاً في الرحم إلا اثنتان وأربعون ، هذا مصداق قول الله عزَّ وجل :
﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾
فأن تَعْلَقَ البويضة الملقحة في جدار الرحم هذا بمشيئة الله . البويضة نضجت ، إما أن تلقَّح وإما ألا تلقَّح ، لقحت ووصلت ، إما أن تعلق وإما ألا تعلق ، علقت ، إما أن تستمر وإما ألا تستمر ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾
هذا الأجل المُسمى أربعون أسبوعاً ، أو مئتان وثمانون يوماً ، إذا خرج الوليد من الرحم قبل هذا التاريخ أو بعد هذا التاريخ ، ما الذي يحدث ؟ من أخطار خروج الجنين من الرحم قبل المئتين والثمانين يوماً نقص الوزن ، ونقصُ المناعة ، واحتمال أن تأتيه نوبات توقّف التنفُّس، وتعرُّضه لفقر الدم واليرقان ، وللنزيف القاتل ، وللرضوض ، ولإصابة شبكية العين ، إذاً حينما قال الله عزَّ وجل :
﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾
لو نزل هذا الجنين قبل الأجل المسمى فهناك احتمال العمى ، الرضوض ، النزوف ، اليرقان ، فقر الدم ، نوبات توقف التنفُّس ، نقص المناعة ، نقص الوزن ، قالوا : ولو نزل بعد هذا التاريخ - عندنا الخُدَّج أن يخرج قبل التاريخ الذي رسمه الله عزَّ وجل - قال : صعوبة الولادة لكبر رأسه ، ونقص الأكسجين الذي يسبب تلفاً في دماغه ، فإذا زادت المدة أو نقصت هناك أخطارٌ هنا وهناك ، فقوله تعالى :
﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾
أيْ أنَّ هذه البويضة شاء لها أن تُلقَّح ، وشاء لها أن تنتقل من المبيض إلى الرحم، وشاء لها أن تَعْلَق ، وشاء لها أن تستقر ، وشاء لها أن تخرج في الوقت المُناسب ، هذا كله بمشيئة الله وحكمته ، فقد يخرج الجنين قبل الوقت المناسب .
الشيء الذي يلفت النظر هو أن كل تشوهٍ في الجنين في الأعمّ الأغلب يجعل هذا الجنين يسقط ، وهذا من رحمة الله بالخلق ، لو كانت التشوهات تنمو ، فمع التشوهات يصبح الطفل بعد الولادة معتوهاً ، أو مُصاباً بعاهة دائمةٍ ، أو في خلقه خللٌ خطير ، الجنين إذا شُوِّهت بنيته في الرحم يسقط رحمةً بأهله .
أيها الأخوة الكرام ؛
﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .