وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0453 - مولد الرسول صلى الله عليه وسلم 4 - حياته الإجتماعية - البويضة الملقحة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

حقيقة الاحتفال بعيد مولد النبي عليه الصلاة و السلام :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لازلنا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ، لأننا في شهر المولد ، وبيَّنت لكم في خُطَبٍ سابقة أن حقيقة الاحتفال بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام أن نتعرَّف إليه ، أن نتعرف إلى سُنته القولية ، وإلى سنته العملية ، أن نتعرف إلى أحاديثه وإلى سيرته ، لأن الله سبحانه وتعالى قال :

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[ سورة الحشر : 7]

 فكيف نأتمر وكيف ننتهي إن لم نعرف أمره ونهيه ؟ وحينما قال الله عزَّ وجل:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾

[ سورة الأحزاب : 21 ]

 كيف يكون النبي أسوةً حسنةً لنا إن لم نعرف سيرته ؟ وهناك قاعدة أصوليَّة : أنه ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما تتم السنة إلا به فهو سنة ، إذاً حينما أُمرنا أن نأخذ من النبي يجب أن نعرف أمر النبي ، وحينما أُمرنا أن ننتهي عما نهى عنه النبي يجب أن نعرف نهي النبي ، وحينما أُمرنا أن يكون النبي قدوةً لنا يجب أن نعرف سيرته حتى نتأسَّى به .

 

الجانب الاجتماعي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم :

 في هذه الخطبة أيها الأخوة نتناول جانباً من جوانب حياة النبي عليه الصلاة والسلام ، ألا وهو الجانب الاجتماعي ، هناك مواقف كثيرة إذا قرأناها قراءةً دون أن نقف عندها وقفةً متأنيةً لا نستفيد الإفادة الكاملة . .
 جاءته ابنته يوماً تطلب خادماً ، وقد اشتكت من الرَّحى - أي الطاحونة - يروي الإمام عليٌّ رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل علينا ونحن في مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال : على مكانيكما ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتُماني ؟ إذا أخذتم مضاجعكما فسبِّحا الله ثلاثاً وثلاثين ، واحمداه ثلاثاً وثلاثين ، وكبِّراه أربعاً وثلاثين فإن ذلك خيرٌ مما سألتماني .
 وفي روايةٍ : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه من الجوع ؟ "
 هنا الوقفة : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه من الجوع ؟ " أي أن المجتمع وحدةٌ لا تتجزَّأ ، أيعقل أن يتمتَّع نفرٌ من المجتمع بالرفاهية ونفرٌ آخر يقاسي آلام الجوع ؟! هذا الذي ليس في قلبه رحمة ، هذا الذي ينغمس في الملذَّات ولو كانت مُباحة ، ويأكل ما يشتهي ، ويذهب إلى حيث يشتهي ، وينسى أن بين المسلمين فقراء لا يجدون ما يأكلون ، ولا يستطيعون أن يؤمِّنوا الحاجات الأساسية .
 أيها الأخوة الكرام ؛ علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وهو النبي الذي يوحى إليه ، وهو قائد هذه الأمة ، علَّمنا أن حاجة الفقير مقدَّمَةٌ على طلبٍ لابنته . والبنت كما تعرفون كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :

((إنما فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها فقد أغضبني))

[ كنز العمال عن محمد بن علي]

 شأن الفتاة عند الأب غاليةٌ جداً ، ومع ذلك حينما سألت السيدة فاطمة رسول الله - أباها - أن يقدِّم لها خادمةً تعينها على طحن الطحين ، وعلى صُنع الخبر قال : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه من الجوع ؟ "
 أيها الأخوة ؛ من لم يتفقَّد شؤون المسلمين فليس منهم ، من لم يرَ أن المؤمنين في مجموعهم أسرة واحدة ؛ أن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى ، من لمْ يشعر بما يشعر الآخرون ، من لم يتألم بما يتألم منه الآخرون ، من قضى حاجاته كلها وهو لا ينتبه لنقص حاجات الناس ، من يسَّر مصالحه كلها ولم ينتبه للمصالح المتعثِّرة عند الناس ، فهذا بعيدٌ عن أن يكون من المؤمنين الصادقين ، من الذين يتمثلون قول الله عزَّ وجل :

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾

[ سورة الحجرات : 10 ]

 أليس بإمكان النبي عليه الصلاة والسلام أن يفرز لها عشرات الخدَم ؟ أليس بإمكان النبي وهو سيد الأمة ، وهو سيد الخلق ، وهو في قمة المجتمع الإسلامي ، أن ييسِّر لابنته الحبيبة كل ما تشتهي ؟ بل قال لهما : " كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه ؟".

 

أساس حياة المؤمن خدمة الآخرين لا تلقِّي خدماتهم :

 في المجتمع الإسلامي إذا نسي الأغنياء الفقراء ، وإذا نسي الأقوياء الضعفاء ، وإذا اشتغل كلٌ منا بمصالحه ، وحاجاته الأساسية ، والثانوية ، والفرعية ، وإذا أراد أن يعلو على الناس بماله ، ومتاعه ، وأنماط حياته ، ونسي الذين يتضوَّرون جوعاً ، والذين لا يجدون ما يسكنون ، هذا الذي يُنْفِقُ على عُرْسٍ أو على عقد قِرانٍ مئات الألوف ، بل عشرات الملايين ، وينسى أن هناك مئاتٍ بل ألوفاً من الشباب لا يجدون غرفةً يسكنون بها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ مع أن النصَّ قصير لكنَّه في مدلوله كبير :" كيف أعطيكما وأترك أهل الصُفَّة على ما هم عليه ؟ " .
 هذه نقطة من حياة النبي عليه الصلاة والسلام الاجتماعية . سيدنا أنس حينما أراد أن يحمل للنبي عليه الصلاة والسلام حاجاته من السوق ، قال عليه الصلاة والسلام :

((إنَّ صاحب الشيء أحقُّ بشيئه أن يحمله ...))

[الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام ألا نأخذ خدمات الآخرين ، أساس حياة المؤمن هو خدمة الآخرين لا تلقِّي خدماتهم ، أساس حياة المؤمن أنه يسوي نفسه مع الآخرين لا يعلو عليهم ، ومن مظاهر تسوية نفسه معهم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل حاجته بيده ، ويقول : " أنا أولى بحملها" ، ويقول : " صاحب الحاجة أولى بحملها " .
 ما أراد أن يستعبد فريقاً فريقٌ في المجتمع الإسلاميّ ، ما أراد أن يكون أناسٌ في مكانٍ يسمح لهم أن يسخِّروا الناس لخدمتهم ، ما أراد النبي أن يتميَّز على عباد الله عزَّ وجل ، ما أراد النبي أن يكون العبد متفوِّقاً والآخرون في خدمته ، قال :

((إنَّ صاحب الشيء أحقُّ بشيئه أن يحمله ...))

[الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 وفي حديثٍ آخر قال عليه الصلاة والسلام :

(( وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ))

[رواه القضاعي والديلمي عن جابر مرفوعاً وهو عند ابن لال عن أبي أمامة. وفي لفظ بضاعته بدل سلعته]

 إذاً علَّمنا ألا نسأل الناس شيئاً ، ألا نستقطب خدمات الآخرين ، ألا نسخِّر الآخرين لخدمتنا ، ألا يكون أحدنا في موقعٍ أعلى من أخيه المسلم ، ألا يجعل من أخيه المسلم خادماً له ، هذا من سنة النبي عليه الصلاة والسلام .

 

التمايز فقط في طاعة الله عزَّ وجل :

 مجتمع المسلمين مجتمعٌ كأسنان المشط لا فرق بين أصغرهم وأكبرهم ، وأبيضهم وأسودهم إلا بالتقوى ، التمايز فقط في طاعة الله عزَّ وجل ، أما التمايز بالمال ، أو بالجاه ، أو بتلقي خدمات الآخرين فليس هذا من صفات المجتمع المسلم في شيء . من حياته الاجتماعية صلى الله عليه وسلَّم أنه كان يقول :

((إذا أتى أحدكم خادمه - الخادم اسم فاعل - بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 وقال أيضاً :

((هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده ، فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه ))

[ البخاري عن أبي ذر ]

 أرأيتم إلى هذا التواضع !! خادم ، سمِّه ما شئت ؛ سمِّه صانعاً ، سمه موظَّفاً ، سمه ما شئت ، إنسان يعمل معك في عملك ، يجب أن تطعمه مما تأكل ، ألا تكلفه ما لا يطيق ، يجب أن تنطلق من أن هذا الإنسان أخوك في الله ، إذا انطلقت من فكرةٍ طبقيةٍ ، من فكرةٍ عنصريةٍ ، من أنك السيِّد وهو المسود ، من أنك صاحب هذا المتجر وهو طفلٌ صغير يتيم محروم من كل شيء ، تفضَّلت عليه وجعلته في متجرك ، إذا انطلقت من هذه النظرة فأنت أبعد الناس عن أهل الإيمان ، انطلق من أن هذا الضعيف الذي أمامك ، هذا الطفل الصغير الذي أرسلته أمه وهو يتيم ليكون في متجرك ، سمِّه ما شئت ، يجب أن تطعمه مما تأكل ، وألا تكلفه ما لا يطيق ، وأن تنطلق من حقيقة أنه أخوك في الدين .
 يقول عليه الصلاة والسلام إذا ما أمكنك أن تجلسه معك ليأكل لقمة من هذا الطعام الشهيّ .
 أنا أعرف أُناساً كثيرين ، طفلٌ يحمل لهم ألذَّ الطعام ، لا يطعمونه ولا لقمةً من هذا الطعام ، قال :

((إذا أتى أحدكم خادمه - الخادم اسم فاعل - بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 وقال أيضاً :

((هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده ، فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه ))

[ البخاري عن أبي ذر ]

 ولو كان هذا الإنسان أقل منك مرتبةً ، ولو كان أقل منك مكانةً ، ولو كان هو يعمل عندك ، ولو كنت تُعطيه النفقة والراتب وما إلى ذلك ، لو أنه من حيث السُلَّم الاجتماعي في أسفل السلَّم وأنت في أعلى السلَّم ، لو أن الأمر كذلك هو أخوك في الدين ؛ أطعمه مما تأكل ، ألبسه مما تلبس ، لا تكلفه ما لا يطيق .
 ألا ترون أن أناساً يربحون أرقاماً فلكيةً وهم يعطون من عندهم أقل من حاجاتهم بكثير جداً ؟ ويقولون : يكفيهم ذلك ، ليدبِّر أمره بهذا المبلغ ، أهكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام ؟

 

نهي النبي أن يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه :

 أقول مرةً ثانية وثالثة : والله الذي لا إله إلا هو لو أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله فهموا الدين كما نفهمه نحن لما خرج الإسلام من مكة المكرمة ، مجتمع الطبقة الواحدة مجتمعٌ السواسية ، ولو كنت أعلى إنسانٍ من حيث الحجم المالي ، وعندك إنسانٌ فقيرٌ جداً ، هو أخوك جعله الله تحت يديك .
أوصى النبي عليه الصلاة والسلام ألا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، صار هناك تمايز ، فقد يأتي إنسان فنقول لفلان : قم من هذا المكان ، اجلس يا أستاذنا ، يا شيخنا اجلس هنا . نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ، لئلا يشعر هذا الذي أُقيم من المجلس بالصغار ، بالهَوان ، هينٌ على الناس ، كان عليه الصلاة والسلام يجلس حيث ينتهي به المجلس ، فأن تربح أخاك المسلم أغلى بكثير من أن تربح شيئاً آخر ، أن تجرح مشاعره هذا عملٌ كبير ، بل هو أقرب إلى العمل الخطير ، أن تجرح مشاعر أخيك المؤمن .

((لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ))

[ مسلم عن ابن عمر]

النهي عن تناجي اثنين دون الثالث :

 وقال أيضاً :

((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه))

[مسلم عن أبي الربيع]

 أحياناً تكون في مجلس فيه عدة تجار ، وفيه عدة موظفين ، فهؤلاء التجار يتحدثون عن صفقاتهم ، وعن أرباحهم ، وعن بضاعتهم ، وعن ذكائهم ، وعن سفرهم ، لم ينتبهوا إلى أن في المجلس أناساً لهم مهنٌ أخرى ، لهم دخول أخرى ، لهم أوضاع أخرى ، فالحديث عن الذات ، وعن الإنفاق ، وعن السفر ، وعن ، وعن ، هذا يحزن قلب الآخرين ، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام :

((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الواحد))

[الجامع لأحكام القرآن عن ابن عمر]

 من معاني فلا يتناجَ اثنان دون الواحد الموسَّعة : أي لا تطرح موضوعاً لا يعني كل الحاضرين ، إذا طرحت موضوعاً فيجب أن يكون عن الله ورسوله ، وعن الجنة وعن النار ، وعن القرآن الكريم ، وعن الإيمان ، هذا الموضوع يعني كل الناس ، لذلك إذا ذكرت الله عزَّ وجل في مجلس ، القلوب كلها هَفَتْ إليك ، أما إذا ذكرت الدنيا تباعدت عنك القلوب ، و .

((ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله ، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا قاموا عن أنتن جيفة ))

[ من الدر المنثور عن جابر ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام أن يسلِّم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير .

 

جبر خاطر الناس و عدم التدخل في شؤونهم :

 شيءٌ آخر في حياة النبي الاجتماعية - أنا أتناول في هذه الخطبة النواحي الاجتماعية - الإنسان يُدعَى إلى طعام ، النبي عليه الصلاة والسلام لم يُعِبْ طعاماً قط ، جبراً لخاطر الناس ، كان ذواقةً ، قال : المؤمن كالنحلة لا يأكل إلا طيباً ، ولا يطعم إلا طيباً .

﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ﴾

[ سورة الكهف 19 ]

 إذاً المؤمن يعرف كيف يذوق الطعام ، ولكن شيمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما عاب طعاماً قط في حياته ، وإذا أردتم توسيع هذا التوجيه ، أو هذه الخَصْلَة في حياته صلى الله عليه وسلَّم ، وطِّن نفسك على ألا تعيب شيئاً . هناك من يدخل بيتاً فيقول : كيف يسعك هذا البيت ؟ لمَ اشتريت هذا البيت في هذا المكان ؟ كلَّما تحرَّك وكلَّما تنفَّس يصدر تقييمه ، ويشير إلى النقص ، وإلى العَيب ، وإلى الصفات السيئة والسلبيَّة ، ليس هذا من شأن المؤمن ، ليس هذا من شأنك إطلاقاً .
 النبي عليه الصلاة والسلام سكن غرفةً ، كان إذا أراد أن يصلي قيام الليل ضمَّت السيدة عائشة رِجليها ، لأن غرفته لا تتسع لصلاته ونومها ، وهو سيد الخلق وحبيب الحق .
 فلينظر ناظرٌ بعقله- هذا قول سيدنا علي - أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ؟ فإن قال أهانه فقد كذب ، وإن قال أكرمه فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا.

 

علاقة النبي مع الآخرين :

 علاقتك مع الآخرين جانبٌ منها أساسه مظهرك ، فكان عليه الصلاة والسلام يقول :

(( اغسلوا ثيابكم ، وخذوا من شعوركم ، واستاكوا ، وتزينوا ، وتنظفوا فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم ))

[الجامع الصغير عن علي ]

 فقد وضع النبي يده على نقطةٍ دقيقةٍ جداً في الحياة الزوجية ، لها عليك مثل ما لك عليها . .

﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

[ سورة البقرة : 228 ]

 كما أنك تشتهي أن تكون كما تريد ، هي تشتهي أن تكون أنت كما تريد . .

(( اغسلوا ثيابكم ، وخذوا من شعوركم ، واستاكوا ، وتزينوا ، وتنظفوا فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم ))

[الجامع الصغير عن علي ]

 النبي عليه الصلاة والسلام غضب على سيدنا عمر حينما نهر رجلاً جاءه يطالب النبيَّ بدينٍ عليه ، فقال عليه الصلاة والسلام :

((يا عمر أنا وهو كنَّا إلى غير هذا منك أحوج ، أن تأمره بحسن التقاضي ، وأن تأمرني بحسن القضاء ))

(( دعوه ، فإن لصاحب الحق مقالاً ، واشتروا له بعيراً فأعطوه إياه . وقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه ، قال : اشتروه ، فأعطوه إياه ، فإن خيركم أحسنكم قضاء ))

[ البخاري عن أبي هريرة ]

 هذا تعليمٌ لنا ، أيْ إذا كان الإنسان كبيرًا ، وجاءه من يطالبه بحقه ، لا ينبغي أن تغضب عليه ، لا ينبغي أن تقول : ما عرفت قدري ؟ أتسألني ديناً ؟ صاحب الحق يجب أن يُسمع إليه :

(( . . . دعه فإن لصاحب الحقِّ مقالاً ))

 هذه كلها علاقاتٌ اجتماعية أساسها أن النبي عليه الصلاة والسلام سوَّى نفسه مع مجموع المؤمنين ، سوى نفسه مع المسلمين ، لم يرتفع على أحدهم بشكلٍ أو بآخر .

 

محاسبة كل إنسان على علاقاته الاجتماعية الطارئة أو المستمرَّة :

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سئل عن صحبته هل أقام منها حق الله أم أضاعه ؟ ))

[ كشف الخفاء عن رجل من الصحابة]

 أنت قد تسافر مع إنسان أسبوعين ، أو شهراً ، قد تسكن إلى جوار فلان ، قد تعمل في وظيفة وفي غرفتك زيدٌ أو عمروٌ ، هذه الصُحبة التي امتدَّت شهرين أو ثلاثة ، أو أسبوعاً أو أسبوعين إن الله سيسألك عنها ؛ هل نصحته ؟ هل أمرته بالمعروف ؟ هل نهيته عن المُنكر ؟ هل ذكَّرته بالله عزَّ وجل ؟ هل شعرت أن هذا الذي هو معك الآن سيسألك عن هذه الصُحبة ؟ يقول لك يوم القيامة : لِمَ لمْ تعلمني ؟ لِمَ لم تنبِّهني ؟ لِمَ لم تأمرني بالمعروف ؟ لمَ لم تنهني عن المنكر ؟ لمَ أهملتني ؟ لمَ أردت مني مصلحتك فقط ؟ لمَ انتفعت مني ولم توجِّهني ؟.

(( ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سئل عن صحبته هل أقام منها حق الله أم أضاعه ؟ ))

[ كشف الخفاء عن رجل من الصحابة]

 العلاقات الاجتماعية الطارئة أو المستمرَّة هذه تحاسبون عليها ، لو سافرت مع إنسان لأسبوعٍ واحد ، رأيته لا يصلي ، لِمَ تبقَ ساكتاً ؟ انصحه ، بيِّن له ، ذكِّره بربه ، بين له عظمة خالقه ، إن رأيته يكذب ، إن رأيته يغُش الناس ، إن رأيته يحتال عليهم لمَ تبق ساكتاً ؟ لا يعنيني أمره .

 

إدراك النواحي الإيجابية في كل إنسان و الثناء عليها :

 شيٌ آخر ؛ يقول أنس رضي الله عنه : " خدمت رسول الله عشرَ سنين ، فما قال لي : أفٍ قط ، وما قال لشيءٍ صنعته : لِمَ صنعته ؟ ولا لشيءٍ تركته لمَ تركته ؟ "
 أيها الأخوة الكرام ؛ ماذا نفهم من هذا النص ؟ أحياناً الإنسان يجرح أخاه حتى العظم لأنه ضره بآلة ، أو بحاجة ، أو نسي قضية ، فأنت بذلك خسرت أخاك ، وأنت لا تدري ، غضبك لهذا الشيء التالف ، أو غضبك لهذا الخلل أوقعك في جريمةٍ بحق أخيك ، سحقته ، وبَّخته ، عنَّفته ، أبعدته عنك ، جعلته يشعر أنه دونك بكثير ، علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام أنك إذا ربحت إنساناً أغلى من أن تربح الدنيا بأكملها ، لأن يربح الإنسان إنساناً أفضل من أن يربح كل شيء ويخسر أخاه . . " خدمت رسول الله عشرَ سنين ، فما قال لي : أفٍ قط ، وما قال لشيءٍ صنعته : لِمَ صنعته ؟ ولا لشيءٍ تركته لمَ تركته ؟ ".
ليس معنى هذا الكلام أنه إذا كان عندك موظَّف وأخطأ أن تبقى ساكتاً ، لك أن تنصحه بأسلوبٍ لطيف ، لك أن توجِّهه ، لك أن تبين خطأه دون أن تسحقه ، دون أن تجرحه ، دون أن تخسره ، هذا هو التوجيه ، طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي ، ودخل أحد أصحابه ، وليلحق معه الركعة الأولى ركض في المسجد ، وأحدث صخباً وضجيجاً ، فلما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته استدعاه وقال :

((زادك الله حرصاً - أثنى على حرصه- ولا تعد))

[ الجامع الصغير عن أبي بكرة ]

 أي لا تعد إلى هذا العمل ؛ من أجل أن تدرك ركعة مع الإمام تحدث جلبة وضجيجاً ؟! هذا لا ينبغي ، لكن ما غفل عن حرصه على أداء الركعة مع رسول الله . وقال علماء النفس : " إذا أردت أن توجه نقداً لمن هم دونك ينبغي أن تثني عليهم بما هم فيه ، وبعدئذٍ وجِّه النقد ، يأتي النقد مقبولاً ومستساغاً ، ويشعر من معك أنك منصف ، أدركت نواحيه الإيجابية ، وها أنت تصلح النواحي السلبيةَّ في سلوكه ".

 

علامات ودّ النبي صلى الله عليه و سلم :

 من علامة ودِّ النبي عليه الصلاة والسلام أنه لم ينزع يده من يدِ محدِّثه ، ولا يصرف وجهه عنه ، وكان يتجمَّل لإخوانه إذا ظهر إليهم - خرج إليهم - عندما تتزين لإنسان ، وترتدي ثيابًا ، هناك أناسٌ كثيرون يستقبلون ضيوفهم بالقمصان الداخليَّة ، فهذا ليس من اللباقة في شيء ، كان عليه الصلاة والسلام يتجمَّل لإخوانه إذا خرج إليهم ، هذا احترام للآخرين ، إذا ارتديت ثيابك ، إذا تعطَّرت ، إذا رجَّلت شعرت ، إذا لبست شيئاً مقبولاً واستقبلت الضيف ، هذا من تمام احترام الضيف ، أما أن تستقبله بثيابٍ متبذِّلة ، أو بقمصان داخلية وتقول : هذا صديقي . لا ليس هذا من السُنة في شيء ، كان عليه الصلاة والسلام يتجمَّل لإخوانه إذا خرج إليهم .
 ولم يُر ماداً رجليه قط أمام أصحابه ، وهو سيد الخلق ، إنك تجد مصلياً في المسجد بلا عذر - العذر شيءٌ آخر - يجلس ويمد رجليه هكذا ويباعد بينهما ، وهو مرتاح تماماً في مجلس العلم ، النبي عليه الصلاة والسلام لم يُر في حياته ماداً رجليه قط . بل عثرت على نصٍ آخر أنه : " لم يُر مقدمٍ ركبته بين يدي جليسٍ له " ، أحياناً شخص يجلس وهو دون القوم فيلف رجلاً على رجل ، ويضطجع هكذا بجلسةٍ لا وقار فيها ولا أدب فيها ، وسيد الخلق وحبيب الحق ما رئي ماداً رجليه قط ، ولا رئي ماداً ركبته بين يدي جليسه .
 ومن تمام العلاقات الاجتماعية أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا غاب أحدٌ من إخوانه فوق ثلاثة أيام يسأل عنه ، هذا التفقُّد ، تفقُّد الحُب ، تفقُّد المودَّة ، ودائماً الحق وسط بين طرفين ، أحياناً المتابعة لدرجة إذا غاب درس واحد يسأله : أين كنت ؟ هذه المتابعة قاسية ، أما أن يغيب شهراً دون أن تسأل عنه !! ليس هذا ولا ذاك ، هذا إفراط وذاك تفريط ، فلعلَّه كان مسافراً، لعلَّه بحاجة لشيء ، لعل حابساً حَبَسَهُ ، كان إذا غاب أحدٌ من إخوانه عنه فوق ثلاثةِ أيام يسأل عنه .

 

عامل الناس كم تحب أن يعاملوك :

 ويقول عليه الصلاة والسلام : " إني لست أرضى لكم ما لا أرضاه لنفسي " وهذا المبدأ لو طُبِّقَ في حياتنا لكنَّا في حالٍ غير هذا الحال . . "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك " . . هذا القِماش الذي تبيعه هل تلبسه أنت ؟ هل تريد أن يتغير لونه بعد حين ؟ أن ينكمش ؟ أن تلقي هذا الثوب في المهملات بعد أسبوعين ؟ أترضى لنفسك هذا الثوب ؟ كيف تبيعه للناس إذاً ؟ هذا قانون في التعامل على مستوى المهن الراقية ، على مستوى التجارة ، على مستوى الصناعة ، تصنع شيئاً لا يصمد على الاستعمال أسبوعين ، وتأخذ ثمنه كما تريد ، وأنت مسلم؟!! هذا ليس من الدين في شيء . يقول عليه الصلاة والسلام :" إني لست أرضى لكم ما لا أرضاه لنفسي " إذا كلٌ منَّا قدَّم للناس ما هو يقبله ، ما يرضاه لنفسه ، حُلَّت مشكلاتنا جميعاً.

حسن الإصغاء إلى الآخرين و عدم قطع حديثهم :

 كان عليه الصلاة والسلام يلتفت إلى محدثه لا بوجهه ولكن بجسمه ، أرأيتم إلى هذا الود ؟ قد يجلس إلى جانبك محدِّثك ، كان يلتفت بجسمه كله لا بوجهه ، وهو يُصغي تمام الإصغاء ، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعلَّه أدرى به ، ويتحدَّث إليه من شاء ، فلا يقطع على أحدٍ حديثه ، يُحْسِن الإصغاء عليه الصلاة والسلام ، تمام الإصغاء ويلتفت إلى محدِّثه بجسمه ووجهه ، ولا يقطع على أحدٍ حديثه .

تلبية الدعوات :

 وكان عليه الصلاة والسلام يزور خادمه ، كلٌ منا يلبي الدعوات ، ولكن دعوات الأقوياء والأغنياء هذه تلبى لما يتوهَّم أن هناك إكراماً ، و مكاناً فخماً ، وضيافة ثمينة ، ولكن لو دعاك إنسانٌ فقير في طرف المدينة ، لو دعاك إلى عقد قِرانه ، لو دعاك إلى زيارته ، لو عُدَّته وهو مريض ، هؤلاء الضعاف إذا زرتهم فهذا محكُّ إيمانك ، هذا محكُّ ورعك ، هذا محك شعورك أنك مثله ، عليه الصلاة والسلام كان يزور خادمه أنس في بيته ، ويتلطَّف معه في القول .
 المؤمن الصادق يشعر بسرور ما بعده سرور إذا زار أخاه الذي يظنه الناس فقيراً، يظنه الناس ضعيفاً ، يظنه الناس من الدرجة الدنيا في السُلَّم الاجتماعي ، هذا إذا زرته تؤكِّد أن الدين لا يفرِّق بينه وبينك ، هذا إذا زرته تؤكِّد أن المسلمين كالجسد الواحد ، كالبُنيان المرصوص ، بهذه الطريقة نسحق الفوارق الاجتماعية ، بهذه الطريقة نجعل مجتمع المسلمين مجتمع الطبقة الواحدة .

 

إيثار النبي غيره على نفسه :

 وكان عليه الصلاة والسلام يُعْرَف بالإيثار ، كان يوزِّع على أصحابه كل ما ارتفع ثمنه من الغنائم ، ويقنع هو بالقليل والخشن منها ، المؤمن يبني حياته على الإيثار ، يؤثر الآخرين بالشيء النفيس ويأخذ الشيء الخسيس ، تأليفاً لقلوبهم ، وتمكيناً لأواصر المحبَّة بينهم .
 وكان عليه الصلاة والسلام إذا سُئل أعطى كل ما يملك ، وإذا سُئل وهو مُعْدِم وَعَد . فأحياناً لا تملك طلب هذا الإنسان ، ولكن تملك أن تعده خيراً في المستقبل ، تملك أن تردَّه رداً جميلاً ، تملك أن تطيِّب خاطره ، تملك أن تعتذر اعتذارًا واقعيًّا أمامه ، هذا تملكه ، أما أن ترده رداً قاسياً فليس هذا من السُنة في شيء .
 وإذا سأله أحدٌ حاجةٌ وهو في أَمَسّ الحاجة إليها ، كان يقول عليه الصلاة والسلام :

((ما عندي شيء ولكن ابتع علي - أي اشتري من عند فلان على اسمي وأنا أؤدي الثمن- فإذا جاء شيء قضينا ))

[الجامع لأحكام القرآن عن عمر بن الخطاب ]

تواضعه صلى الله عليه و سلم و مساواة نفسه بأصحابه :

 وكان يركب الحمار ويردِف خلفه بعض أصحابه ، فأحياناً الإنسان يشعر أن هذه المركبة ليست في مقامه ، يأبى ركوبها كِبراً ، كان عليه الصلاة والسلام لا يتأنَّف عن ركوب الحمار ، وكان يردف بعض الصحابة خلفه ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، وكان يأكل مع خادمه تواضعاً لله عزَّ وجل ، ويأتي بالشاة ويحلبُها ويشرب آخر الناس ، ويقول :

((إن ساقي القوم آخرهم شرباً))

[الجامع الصغير عن أبي قتادة ]

 مما يلحق بهذا الموضوع حينما قال : وعليَّ جمع الحطب ، أنتم تعرفون هذه القصة ، فلما طُلِبَ إليه أن يستريح وهم يقومون بهذه المهمة قال : لا ، إن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه .
 ويوم كان في بدر قال :

(( ...أنا وعليٌ وأبو لبابة على راحلة ..))

[الحاكم وابن حبان عن ابن مسعود ]

 فلما جاء دوره في المشي توسلا إليه أن يبقى راكباً فقال :

((ما أنتما بأقوى مني ولا أنا أغنى عن الأجر منكما))

[الحاكم وابن حبان عن ابن مسعود ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه لقطاتٌ اجتماعيةٌ تناولتها من السيرة الشريفة المطهَّرة، يجمعها محورٌ واحد : علاقاته الاجتماعية ؛ كيف كان متواضعاً ، كيف سوى نفسه مع الناس ، كيف كان يعتني بأصحابه ، كيف كان يصافحهم ، كيف كان يجلس معهم ، كيف كان يأكل مع الخادم ، كيف كان يزور خادمه في بيته ، هذه صفات النبي ، لو فعلنا هذه السُنَّة لوجدت المجتمع الإسلامي متماسكاً تماسكاً مُذهلاً ، لو فعلنا هذا مع بعضنا بعضاً ، لو طبَّقنا هذه السُنَن ، ونحن نحتفل بعيد مولده لكنا أمةً تستحق التكريم من الله عزَّ وجل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

البويضة الملقحة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قال العلماء : إن من كل مئة بويضةٍ في مبيض المرأة تفوز أربع وثمانون بويضة بفُرَصِ التلقيح ، وإن من بين الأربع والثمانين بويضة ملقَّحة لا يصل إلى مكان العلوق في الرحم إلا تسعةٌ وستون ، وأن من التسعة والستين بويضة التي وصلت إلى الرحم وإلى مكان العلوق في الرحم لا يبقى عالقاً في الرحم إلا اثنتان وأربعون ، هذا مصداق قول الله عزَّ وجل :

﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾

[ سورة الحج : 5 ]

 فأن تَعْلَقَ البويضة الملقحة في جدار الرحم هذا بمشيئة الله . البويضة نضجت ، إما أن تلقَّح وإما ألا تلقَّح ، لقحت ووصلت ، إما أن تعلق وإما ألا تعلق ، علقت ، إما أن تستمر وإما ألا تستمر ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل :

﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾

[ سورة الحج : 5 ]

 هذا الأجل المُسمى أربعون أسبوعاً ، أو مئتان وثمانون يوماً ، إذا خرج الوليد من الرحم قبل هذا التاريخ أو بعد هذا التاريخ ، ما الذي يحدث ؟ من أخطار خروج الجنين من الرحم قبل المئتين والثمانين يوماً نقص الوزن ، ونقصُ المناعة ، واحتمال أن تأتيه نوبات توقّف التنفُّس، وتعرُّضه لفقر الدم واليرقان ، وللنزيف القاتل ، وللرضوض ، ولإصابة شبكية العين ، إذاً حينما قال الله عزَّ وجل :

﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾

[ سورة الحج : 5 ]

 لو نزل هذا الجنين قبل الأجل المسمى فهناك احتمال العمى ، الرضوض ، النزوف ، اليرقان ، فقر الدم ، نوبات توقف التنفُّس ، نقص المناعة ، نقص الوزن ، قالوا : ولو نزل بعد هذا التاريخ - عندنا الخُدَّج أن يخرج قبل التاريخ الذي رسمه الله عزَّ وجل - قال : صعوبة الولادة لكبر رأسه ، ونقص الأكسجين الذي يسبب تلفاً في دماغه ، فإذا زادت المدة أو نقصت هناك أخطارٌ هنا وهناك ، فقوله تعالى :

﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾

[ سورة الحج : 5 ]

 أيْ أنَّ هذه البويضة شاء لها أن تُلقَّح ، وشاء لها أن تنتقل من المبيض إلى الرحم، وشاء لها أن تَعْلَق ، وشاء لها أن تستقر ، وشاء لها أن تخرج في الوقت المُناسب ، هذا كله بمشيئة الله وحكمته ، فقد يخرج الجنين قبل الوقت المناسب .
 الشيء الذي يلفت النظر هو أن كل تشوهٍ في الجنين في الأعمّ الأغلب يجعل هذا الجنين يسقط ، وهذا من رحمة الله بالخلق ، لو كانت التشوهات تنمو ، فمع التشوهات يصبح الطفل بعد الولادة معتوهاً ، أو مُصاباً بعاهة دائمةٍ ، أو في خلقه خللٌ خطير ، الجنين إذا شُوِّهت بنيته في الرحم يسقط رحمةً بأهله .
 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات: 21 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور