- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ، رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
معاني العبودية لله عز وجل :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كنا قد تحدثنا في خطب سابقة عن معنى العبودية لله عز وجل ، وكيف أن العبودية لله عز وجل هي علة الخلق ، فقد قال الله سبحانه وتعالى :
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
وتحدثت أيضاً عن أن من معاني العبودية أنها غذاء النفس ، فليس الإنسان جسداً فقط ، بل هو جسد ونفس ، إذا كان غذاء الجسد الطعام والشراب ، فإن غذاء النفس أن تعبد الله عز وجل ، هكذا فطرت ، من هنا يقولون : إن الإسلام دين الفطرة ، أي إن ما فيه من عبادات تتناسب مع فطرة هذا الإنسان ، فالنفس لا تسعد ، ولا تطمئن ، ولا تستقر ، ولا تخلد إلا إذا عبدت ربها وحده .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ معنى آخر من معاني العبودية ، العبودية الحقة سبيل إلى الحرية الحقة .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا عبدت الله وحده فعبادتك لله هي عين حريتك ، وسبيل حقيقي إلى سيادتك ، لذلك من عبد الله أصبح حراً من رق المخلوقين ، من رق الشهوات ، من رق النزوات ، من رق الحاجات ، أصبح حراً ، كن عبداً الله فعبد الله حر .
معرفة الله هدف مصيري للإنسان :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ في قلب كل إنسان ، وهذا جزء من فطرته ، حاجة ذاتية إلى إله يعبده ، إلى معبود يتعلق به ، ويسعى إليه ، ويعمل على مرضاته ، فإذا لم يكن معبود الإنسان هو الله لابد من أن يتجه إلى معبود آخر ، فقد يعبد نفسه ، وقد يعبد هواه ، وقد يعبد زيداً ، وقد يعبد عبيداً ، وقد يعبد هذه الشهوة ، في قلب كل إنسان حاجة فطرية ملحة إلى أن تعبد معبوداً ، إلى أن تسعى إليه ، إلى أن تعمل من أجله ، إلى أن تبتغي رضاه ، ولا يليق بالإنسان أن يعبد غير الله ، لأنه هو الخالق ، هو المصور ، هو المبدئ ، هو المعيد ، هو الرافع ، هو الخافض ، هو المعطي ، هو المانع ، هو القابض ، هو الباسط ، هو المعز ، هو المذل ، هو الرزاق ذو القوة المتين .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إما أن تعبد الله وحده وهذا الذي يليق بك ، وإما أن تعبد زيداً أو عبيداً أو شهوة أو حاجة أو شيئاً سوى الله عز وجل ، إما أن تعبد الله وإما أن تعبد شيئاً يرى أو لا يرى ، يعقل أو لا يعقل ، موجود أو غير موجود ، والديانات الوثنية الأرضية التي تطفح بها البشرية الجاهلة تؤكد هذه الحقيقة ، إما أن تعبد الله أو تعبد البقرة ، كما هي الحال في بعض بلاد شرقي آسيا ، إما أن تعبد الله وإما أن تعبد صنماً ، إما أن تعبد الله وإما أن تعبد شهوة ، لابد وأن تتجه إلى ما تظنه أنه عظيم ، فليكن هذا الذي تتجه إليه هو الله رب العالمين .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإسلام دين الفطرة ، هذه النفس الإنسانية لا تستطيع أن تسعد ، لا تطمئن ، لا تستقر ، لا تهدأ ، لا تعود إلى الدار الآخرة سالمة إلا إذا عرفت ربها ، معرفة الله أيها الأخوة هدف مصيري للإنسان ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحبّ إليك من كل شيء .
على الإنسان أن يجعل همّه كله إرضاء الله عز وجل :
شيء آخر ، يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليس أشرف للإنسان العاقل من أن يعبد الذي خلقه ، أيعبد مخلوقاً من دون الله لا ينفعه ولا يضره ؟ أيعبد جهة من الجهات لا تملك له نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ؟ لا تستمع إليه ، وإذا استمعت لا تستجيب له ، أهذا يليق بالإنسان ؟ ليس أشرف للإنسان العاقل من أن يعبد الذي خلقه ، فسواه فعدله ، وأن يطرح كل عبادة من سواه ، وليس أجلب للسعادة أيها الأخوة ، ليس أشرف ، وليس أجلب للسعادة ، وليس أجلب للسلامة مع الضمير من أن توجه الهم كله إلى الله ، قال عليه الصلاة والسلام :
((مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ ))
من جعل همه إرضاء رب العالمين ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها))
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يضرب لنا هذا المثل، يقول الله عز وجل :
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾
لو أن رجلاً يأتمر عليه أناس عدة ، هذا يأمره بكذا ، وهذا يأمره بكذا ، وكثيراً ما تتضارب هذه الأوامر ، كثيراً ما تتناقض هذه الأوامر ، ماذا يفعل ؟ أيرضي زيداً أم يرضي عبيداً ؟ أيرضي فلاناً أم يرضي علاناً ؟ كيف يفعل إذا جاءت الأوامر متضاربة ، والتوجيهات متضاربة ؟ ماذا يفعل ؟ كيف يتجه ؟ إلى أين يسعى ؟ هذه الحيرة ، وهذا القلق ، وهذا التخبط ، وهذا الصراع المؤمن معافى منه ، لأنه توجه إلى الله وحده ، وما سوى الله بيد الله .
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
إذاً من أجل أن تكون حراً من رق المخلوقين ، من أجل أن تكون حراً من الشهوات المكبلة ، من أجل أن تكون حراً من الصراع ، من الضيق ، من الحرج ، من البحث لإرضاء زيد أو عبيد ، يجب أن تجعل همك كله أن ترضي الله عز وجل .
﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾
الإنسان بين خيارين ؛ إما أن يعبد الله وإما أن يعبد غيره :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول أحد العلماء : كل من استكبر عن عبادة الله لابد من أن يعبد غير الله ، إما أن تكون عبداً لله ، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم ، كل من استكبر عن عبادة الله لابد من أن يعبد غير الله ، لأن الإنسان له إرادة ، وهذه الإرادة تقتضي أن يكون له مراد ، ما دام له إرادة فله مراد ، فإذا لم يكن الله مراده فلابد من أن يتجه بإرادته إلى مخلوق ليرضيه ، وليسعى له ، وليعمل من أجله .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أنت بين خيار صعب إما أن تعبد الله ، وإما أن تعبد غيره ، أما ألا تعبد الله ولا تعبد أحداً سواه فهذا مستحيل في فطرة الإنسان ، ركبت فطرة الإنسان على التوجه إلى جهة ما ، على السعي لها ، على الطواف حولها ، على إرضائها ، على العمل من أجلها ، فطوبى لمن عرف ربه ، طوبى لمن عبده ، طوبى لمن اطمأنت نفسه بذكر الله .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الذي يستكبر عن عبادة الله لابد من أنه اتجه إلى مخلوق آخر ، لابد من أنه اتجه إلى مخلوق من دون الله ، إذاً هو وقع في الإشراك ، فكل من لم يعبد الله وقع في الشرك شاء أم أبى ، لمجرد أن تطيع مخلوقاً وتعصي الخالق ، فهذا نوع من عبادة غير الله ، ونوع أيضاً من الشرك ، والمشرك كما تعلمون :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
فكل مستكبر عن عبادة الله مشرك بالضرورة ، وكلما كان الرجل أكثر استكباراً كان أشدّ إشراكاً ، ولا تنسوا قوله تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
كلما كان العبد أكثر استكباراً كان أشدّ إشراكاً بالله عز وجل ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ))
ويستنبط من هذا الحديث وسعد عبد الله .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإنسان إذا ترك ربه ، إذا أعرض عنه صار موزعاً بين المخلوقين ، صار مشتتاً ، صار مبعثراً ، صار ممزقاً ، وقع في الصراع ، ولن تستغني عن المخلوقين ، إلا في حالة واحدة ، إلا إذا اتجهت إلى الله رب العالمين ، لن تستغني عن المخلوقين ، احتج إلى الرجل تكن أسيره ، واستغن عنه تكن أميره ، لن تستطيع أن تستغني عن المخلوقين إلا إذا اتجهت إلى الله رب العالمين ، لذلك يقول الله عز وجل على لسان سيدنا داود:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
الحرية مطلب كل مخلوق ولا تتحقق إلا بعبادة الله عز وجل :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ آية في كتاب الله ، آية محكمة يقول الله عز وجل :
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
أنغفل عن هذه الآية ؟ أفي الحياة موضوع آخر يستحوذ على اهتماماتنا أشد من هذه الآية ؟ أفي الحياة موضوع آخر ؟ أفي الحياة قضية أخرى ؟ أفي الحياة هم آخر غير هذا الهم ؟
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
والعبادة كما شرحتها كثيراً في خطب سابقة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية ، هذا العنوان الأول في الخطبة ، العبودية سبيل إلى الحرية ، الحرية مطلب كل إنسان ، الحرية مطلب كل مخلوق ، ولا تتحقق هذه الحرية إلا بعبادتك لله عز وجل .
العبادة ابتلاء إلهي وإعداد لحياة أبدية :
شيء آخر يا أيها الأخوة المؤمنون ، هو أن العبادة ابتلاء إلهي ، وإعداد لحياة أبدية ، الذي يزعج الناس ، والذي يقلقهم ، والذي يسحقهم اعتقادهم أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء ، من هذا المنطلق يأتي الشقاء ، من هذا المنطلق يأتي الشعور بالحرمان ، هي حياة قصيرة ، فلان عاش سنوات معدودة ، لم ير من مباهج الدنيا شيئاً ، هذا الانطلاق أن تنطلق من أن الحياة الدنيا هي كل شيء هذا أخطر شيء في عقيدة الإنسان ، هذا الذي يسحق الإنسان ، هذا الذي يدمره نفسياً ، هذا الذي يوقعه في الحسد والضغينة ، هذا الذي يشعره بالحرمان ، إذا عرفت أن هذه الدنيا ، أن هذه الحياة الدنيا حياة دنيا ، وصفت بأنها دنيا ، وهناك حياة عليا ، وأن الإنسان إذا رحل عن هذه الحياة يقول :
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
أي حياة هذه ؟ تلك الحياة الأبدية ، فلذلك ما العبادة في هذه الحياة الدنيا إلا إعداد للحياة الآخرة ، إعداد ، فشاءت حكمة الله عز وجل أن يجعل طبيعة الإنسان طبيعة مزدوجة ، فيه نوازع نحو الشهوات ، وفيه تطلع نحو الكمالات ، وفيه وساوس الشيطان ، وفيه إلهامات الملائكة ، وفيه رغبة إلى معرفة الله ، وفيه اتجاه إلى إرواء شهواته ، هذه الطبيعة المزدوجة تجعله على محك الابتلاء ، والابتلاء أحد أسباب وجودنا على هذه الأرض ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
إذاً أنت مبتلى ، أتتجه إلى عقلك أم إلى شهوتك ؟ أتتجه إلى قيمك أم إلى حاجاتك ؟ أتتجه إلى الحق أم إلى الباطل ؟ أتتجه إلى الراحة الكسولة أم إلى النصب المقدس ؟ أتتجه إلى طاعة الله أم إلى طاعة المخلوقين ؟ أتؤثر الدنيا أم تؤثر الآخرة ؟ أتؤثر مرضاة ربك أم تؤثر حظ نفسك ؟ إن طبيعة الإنسان مزدوجة ، ولابد من أن يأخذ موقفاً ، لابد من أن يأخذ موقفاً واضحاً ، لذلك كانت الحياة الدنيا ثمناً للآخرة ، كان الابتلاء بالدنيا ثمناً لعطاء الآخرة .
الابتلاء ثمن دخول الجنة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ونحن في هذه الدنيا ، ونحن في هذه الدنيا المحدودة، ونحن في هذه الدنيا القصيرة ، هل يصل أحدكم إلى شيء ثمين من دون جهد ؟ من دون كد ؟ من دون سعي ؟ فكيف نطمع إلى أن نصل إلى الجنة وفيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ؟ كيف نطمع أن ندخل جنات تجري من تحتها الأنهار ؟ كيف نطمع أن نصل إلى مرتبة أن نرى وجه ربنا سبحانه وتعالى ؟ كيف نطمع بجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من دون ثمن ؟ لذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه : " طلب الجنة من دون عمل ذنب من الذنوب " .
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
آية ثانية :
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
آية ثالثة :
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾
آية رابعة :
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
آية خامسة :
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
آية سادسة :
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
إذاً نحن نعبد الله في الدنيا من أجل أن نبتلى ، وإذا ابتلينا كان هذا الابتلاء ثمناً لدخول الجنة .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال عليه الصلاة والسلام :
((إن عمل الجنة حزن بربوة ، وإن عمل النار سهل بسهوة ))
(( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ))
فحينما تعبد الله عز وجل أنت تبتلى بهذه العبادة ، إما أن تعبده مخلصاً له الدين، وإما أن تزيغ عن عبادته ، عندئذ يصنف الناس يوم القيامة إلى أناس عبدوا الله مخلصين ، وأناس تنكبوا عن طريق العبادة .
الموت بداية حياة جديدة :
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ العبادة لها معنى رابع ، وهي أنها ابتلاء ، والابتلاء سبب لدخول الجنة ، النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة شهيرة قال :
((إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ))
ورد في الأثر أنما خلقتم للأبد وإنما تنقلون من دار إلى دار .
قد يتوهم الإنسان أن الموت نهاية الحياة ، لا والله ، هو بداية حياة جديدة ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أحاديث الصيام يقول :
((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ))
بل إن الموت عرس المؤمن ، لأن الموت تحقيق لسعادته الأبدية ، إن هذه الحياة الدنيا بمثابة العام الدراسي ، وإن النجاح في هذا العام الدراسي هو عند الموت .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شمروا فإن الأمر جد ، وتأهبوا فإن السفر قريب ، وتزودوا فإن السفر بعيد ، وخففوا أثقالكم فإن في الطريق عقبة كؤود ، لا يجتازها إلا المخفون ، وأخلص النية فإن الناقل بصير ، وجدد السفينة فإن البحر عميق .
من صحت عقيدته صحّ عمله :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه حقائق مصيرية ، في ضوء فهمها ، والعمل بها يتحدد مصير الإنسان ، إما إلى جنة يدوم نعيمها ، أو إلى نار لا ينفد عذابها ، فالقضية قضية خطيرة، بمعنى أن الإنسان إذا غفل عن مهمته في الحياة غفل عن كل شيء ، وأكبر خسارة يحققها الإنسان هو أن يخسر نفسه يوم القيامة ، وأكبر نجاح هو أن يربح نفسه يوم القيامة ، لذلك توجه الإمام علي كرم الله وجهه إلى ابنه الحسن فقال له :" يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شر بعده الجنة بشر ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية " هذه الأفكار ، هذه المعتقدات ، هذه التوجهات ، هذه التصورات من شأنها أن تجعل حياة الإنسان حياة جادة ، حياة هادفة ، دعي النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان صغيراً إلى اللهو فقال كلمة تكتب بماء الذهب : " لم أخلق لهذا ".
هل نقول : نحن كبار ، بالغون ، راشدون ، عاقلون ، هل نقول إذا دعينا لشيء لا يرضي الله ، هل نقول إذا دعينا إلى عمل لا جدوى منه ، هل نقول إذا دعينا إلى لقاء فيه كلام فارغ ، هل نقول إذا دعينا إلى شبهة هل نقول : نحن لم نخلق لهذا ؟ يجب أن نعرف لماذا نحن هنا ، كنت أضرب هذا المثل ، طالب كان في مدينة في أوربا يجب أن يسال سؤالاً خطيراً: لماذا أنا هنا ؟ إذا عرف أنه من أجل الدراسة فعليه أن يتجه إلى الجامعة ، وإذا عرف أنه من أجل التجارة فعليه أن يتجه إلى المعامل ، وإذا عرف أنه من أجل السياحة فعليه أن يتجه إلى المتنزهات ، أن تعرف لماذا أنت هنا شيء مهم جداً في حياتك ، لماذا نحن هنا ؟ من أجل أن نأكل ونشرب ؟ من أجل أن تمضي الأيام تباعاً تلو الأيام ؟ من أجل أن تكون حياتنا رتيبة لا معنى لها ؟ من أجل أن نجتر همومنا ؟ من أجل أن نتحدث عن مشكلاتنا ليس غير ؟ هذا الإنسان المكرم .
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾
يا أيها الأخوة الكرام ؛ فكروا ، تأملوا ،اعقلوا ، تذكروا ، اقرؤوا كتاب الله ، حددوا أهدافكم في الحياة ، انطلقوا من عقيدة صحيحة ، انطلقوا من فكر نير ، انطلقوا من تصور صحيح ، انطلقوا من حقيقة علمية ، لا تسمحوا للتقاليد الزائفة ، والعادات الباطلة ، ولا للأوهام ، و الخرافات ، و الخزعبلات ، أن تسيركم تسييراً غير صحيح .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا صحت عقيدة الرجل صح عمله ، وإذا صح عمله سعد في الدنيا والآخرة .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الدعاء مخ العبادة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ إن شاء الله تعالى في الخطبة القادمة سأحدثكم عن الحج مرة ثانية ، ولكن حديثاً من نوع آخر ، ولكن أقتطف من موضوع الخطبة القادمة موضوع الدعاء.
الشيء الملفت النظر أن الحاج إذا طاف حول البيت فإنه يدعو ، وإذا سعى بين الصفا والمروة فإنه يدعو ، وإذا وقف في عرفات فإنه يدعو ، وإذا نفر إلى مزدلفة فإنه يدعو، وإذا رمى الجمار فإنه يدعو ، وإذا وقف أمام النبي الكريم فإنه يدعو ، وكأن الحج كله دعاء ، والدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام :
((الدعاء مخ العبادة ))
أنت بالدعاء تتوجه إلى الله ، بل إن الله سبحانه وتعالى حينما أمرك بالدعاء ، أمرك أن تتجه إليه ، وحينما جعل حاجاتك عنده من أجل أن تتجه إليه ، حينما جعل أجهزتك وأعضاءك وعقلك وسمعك وبصرك وقوتك متعلقة سلامتها بإرادتك من أجل أن تتجه إليه ، فأنت إذا دعوته وقلت له : يا رب متعنا بأسماعنا بأبصارنا وقوتنا وعقولنا ما أحييتنا ، جعل حاجاتك عنده ، من أجل أن تطلبها منه ، فإذا طلبتها منه ، وانعقدت هذه الصلة من خلال الدعاء ، ذقت طعم القرب .
شيء آخر ؛ أنت إذا دعوته تزداد به معرفة ، وتزداد به علماً ، وتزداد إليه شوقاً، الدعاء من أجل أن تزيد معرفتك به ، الدعاء من أجل أن تسعد بالقرب منه ، ماذا يمنع أن ندعو ربنا دبر كل صلاة ؟ اسأله الصحة ، اسأله السلامة ، اسأله العفو والعافية ، اسأله المعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ، اسأله أن يهبك ذرية صالحة ، اسأله أن تقر عينك بأهلك ، اسأله أن يكفيك بحلاله عن حرامه ، اسأله هذا ، ماذا يمنعك وأنت في بلدك أن تجعل الدعاء مخ العبادة ؟ ماذا يمنعك ؟
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أنت بالدعاء أقوى إنسان ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك ، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع ))
اسأل ربك حاجاتك كلها ، اسأله ولا سيما دبر كل صلاة ، اسأله كل شيء تتمناه مما ينفعك في الدنيا والآخرة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الحكمة البالغة من أن معظم مناسك الحج مبنية على الدعاء ، والدعاء قرب ، والدعاء معرفة ، والدعاء يزيدك معرفة بالله ، ويزيدك حباً له ، والدعاء يذيقك طعم القرب من الله ، وبالدعاء تتحقق الحاجات التي دعوته بها .