- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا ، وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .
فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ...
أيها الإخوة المؤمنون ؛ من آيات سورة الأنعام ، قوله تعالى :
﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
وقفت عند المقطع الأخير من هذه الآية ، قال تعالى :
﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾
جاءهم الحق ، بيّن لهم القرآن الكريم أنَّ الربا حرام ، وأنَّ أكل مال الناس بالباطل حرام ، وأنّ إطلاق البصر حرام ، وأنّ شرْب الخمر حرام ، فهذا الذي يستهزئ بآيات الله ، ويستخفّ بها ، ولا يُقيم لها وزنًا لا يعبأ بها ، لا يصدّقها ، لا يأخذ منها موقفًا عمليًّا ، لا ينتهي عمَّا نُهِي ، لا يأتمر بما أُمِر ، هذا ماذا سيكون مصيرهُ ؟ ربّنا سبحانه وتعالى قال :
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
ما هي أنباء ؟ التي كانوا يستهزؤون بها إذا أكل الربا ولم يعبأ بالنتائج فسوف تأتيه النتائج ، فسوف يُدَمَّر ماله كلّه ، وإن أطلق لبصره العنان فسوف يعتدي الناس على عرضه ، إذا أكل مالاً حرامًا فسوف يُتْلف ماله ، هذه المصائب الكبرى التي تقع للناس يظنّها بعض الناس سوء حظّ ، ولكنّ الحظّ في الإسلام لا وُجود له ؛ إنّها عقابٌ معجَّل على معصية ارتكبوها ، قال تعالى :
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
هذا الذي أباح في علاقاته الاجتماعيّة الاختلاط ، سوف تنصرف عنه زوجته ، وسوف يكتشف أنّها خانتْهُ ، هذا الذي سمح لفلان ، وفلان مِمَّن لا يحلّ لهم أن يروا زوجته ، هذا الذي يسمح للأجنبي أن يرى زوجته سوف يدفع الثَّمَن باهظًا بعد حين ، أما كلمة فسوف هي للاستقبال ، قد يفعل العاصي المنكر ويظنّ أنّ شيئًا لم يحصل له ، ها هو ذا قد فعل المعصيَة ولم يحدث شيئًا ، ربّنا قال : فسوف ! هذه سوف للمستقبل ، والفرق بين السين وسوف أنّ السين للمستقبل ، وقد تكون سوف للمستقبل البعيد ، قد يمضي سنةٌ وسنتان وسنين على ارتكابه المنكر ، وعلى أكله الحرام وعلى المعاصي التي يقترفها ، وهو يزداد قوّة ونشاطًا وغنًى ، وشأنًا ومكانةً ،
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
وعود الله حق ...
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ كلام الله سبحانه وتعالى حقّ لا مرية فيه ، ووعْد الله سبحانه وتعالى حقّ لا مرية فيه ، ووعيد الله سبحانه وتعالى حقّ لا مرية ، قد وعد الله المرابي بِحَربٍ من الله ورسوله ، إن قريبًا وإن بعيدًا ، قال تعالى :
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
وهذا الذي لا يقيم وزنًا لأوامر الله في علاقاته مع النساء ، ليس في حياته حرام أو حلال ، قال تعالى :
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
نعوذ بالله أيها الإخوة من أن نقترف معصيَة ، وأن نظنّ أنَّه بعد اقترافنا المعصية لم نفْعل شيئا !! والدليل لم يحصل لنا شيء ! هذا الذي لا يبالي بِوَعيد الله يستهزئ بِوَعيد الله ، فسوف يأتيه أنباء ما كان به يستهزئ .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾
هذه حقيقة ذكرها الله في القرآن الكريم ، من أخذها مأخذًا جِدِيًّا ، وفي زواجه آثر هذه الآية ؛ آثرَ ذات الدِّين فهو السعيد ، من تزوَّجَ المرأة لجمالها أذلَّه الله ، ومن تزوَّج المرأة لمالها أفقره الله ، ومن تزوّج المرأة لحسبها زاده الله دناءةً ، فعليك بِذات الدِّين تربَت يداك ، ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾
هذه آية في كتاب الله من أخذها مأخذًا جِدِيًّا ، وانطلق منها في بحثه عن زوجة سعد في الدنيا والآخرة ، ومن لم يأخذ بها فسوف يأتيه أنباء ما كانوا به يستهزؤون ، سوف يؤثر الجمال على ما سواه وعلى الدّين ، وسوف يدفع الثّمن باهضًا ، وسوف يقول : أنا أشقى الأزواج في الدنيا ، قال تعالى :
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
إما أن تصدّق ما جاء في كتاب الله فَتَسْعَدَ في الدنيا والآخرة ، وإما أن لا تبالي ، أن تكذّب ، وأن لا تقيم وزنًا لهذه الآية فتدفعُ ثمنًا عاجلاً وآجلاً ، في الدنيا وفي الآخرة ، قوله تعالى :
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
أي أنَّ كلّ معصيَةٍ لها جزاءٌ في الدنيا وفي الآخرة ، إنَّ لكلّ سيّئة عِقابًا تستطيع أن تلخّص مآسي الناس كلّها ، بأنَّ كلّ مأساةٍ وراءها معصيَة وكلّ معصية وراءها جهل ، لذلك طلب العلم فرضٌ على كلّ مسلم ، طلب الفقه حتْمٌ واجب ، كلّ الناس هلكى إلا العالمون ، كُن عالما ، أو متعلِّمًا ، أو مستمعًا ، أو محبًّا ، ولا تكن الخامس ، كلّ مأساة كبيرة أو صغيرة ، في المال أو في النفس أو في العِرض ، كلّ مأساة وراءها معصيَة لله عز وجل ، وكلّ معصية وراءها جهل ، فعدوُّكَ الأكبر هو الجهل ، أعدى أعداء الإنسان هو الجهل بِشَرع الله .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾
آية أخرى مطابقة لهذه الآية تطابقًا تامًّا عدا كلمة واحدة ، قال تعالى :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
قال علماء اللّغة الفاء وثمّ حرفا عطف ، كلاهما يفيد الترتيب ، دخل فلان ففُلان ، دخل فلان ثمّ فلان ، لكنّ الفرق بين الفاء وثمّ أنّ الفاء تفيد الترتيب على التعقيب ، وثمّ تفيد الترتيب على التراخي ، وفي القرآن الكريم آيتان ؛ الأولى :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾
والثانية :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
يعني قد يحلف المرء يمينًا غموسًا أمام القاضي ولا يُغادر باب المحكمة إلا ويقع على الأرض مشلولاً ، هذه الحادثة توافق قوله تعالى :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾
وقد يحلف هذا الإنسان يمينًا غموسًا ويأكل مال أخيه زورًا وبهتانًا ، ويعيش سنةً وسنتين وأربعة سنوات ، وبعدها تأتيه الضربة القاضية ، هذه الحالة تنطبق عليها هذه الآية :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
الأولى للترتيب على التعقيب ، والثانية للترتيب على التراخي ، فلا تغترّ أيها الإنسان بِحِلم الله ، إذا كنتَ تزداد قوَّة وغِنًى ، وأنت تعصي الله عز وجل فاحْذرهُ لأنّ هذه الآية تنطبق على من يفعل هذا ،
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
آية أخرى من سورة الأنعام ، وهي قوله تعالى :
﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾
ينهون عن كتاب الله ، ويبتعدون عنه ؛ عن أحكامه وأوامره وعن نواهيه ، ويدعون الناس أن يبتعدوا عنه وعن أوامره ونواهيه ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾
إنَّهم بهذا يهلكون أنفسهم حياة المرء بِمَعرفته لله عز وجل ، وموته بِجَهله لله عز وجل .
الفرق بين الذين يسمعون والذين لا يسمعون
لذلك قال تعالى :
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾
من هم الذين يسمعون ؟ هم الذين يستجيبون لله تعالى ، قال تعالى :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
يغضّوا بصرهم ، ويمحق الله الربا ؛ ترك الربا ، وأحل اللهّ البيع ؛ يبيع ويشتري ، كلّما بلغه آية عن الله عز وجل فيها أمْر ، وفيها نهي يستجيب لله ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
فإن لم يستجب فالله سبحانه وتعالى وصفه بأنّه ميّت ، إنما يستجيب الذين يسمعون ، وكان ينبغي أن يُقال والذين لا يسمعون يبعثهم الله ، قال تعالى
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾
بالمقابل والذين لا يسمعون يبعثهم الله ، ماذا قال تعالى :
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾
ماذا يُقابل الذين يسمعون ؟ الذين لا يسمعون ، ماذا حلّ محلّ هذه الكلمة ؟ كلمة الموتى ، فالذين لا يسمعون يساوون الموتى ، قال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بِمَيّت إنَّما الميّت ميّت الأحياء
هذا الذي يسمع الحق ولا يستجيب له ، يأتيه الحق واضحًا كالشمس ولا يستجيب له ، هو عند الله ميّت ، لذلك قال الله تعالى :
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾
وهم في أوْج حياتهم ، وأوْج نشاطهم ، وقوَتهم ، وجبروتهم ؛ أموات غير أحياء ، وفي آية أخرى قال تعالى :
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾
هؤلاء المقبورون في شهواتهم ، وفي آية ثالثة ، قال تعالى :
﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾
وفي آية رابعة قال تعالى :
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾
وفي آية خامسة :
﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾
يسعى ليلاً ونهارًا ، لا يعي على شيء كأنّهم خشب مسنّدة ، منْغمسون في شهواتهم إن هم كالأنعام بل أضلّ سبيلاً ، لا حياة في قلوبهم ، والموتى يبعثهم الله ، الله سبحانه وتعالى وصف الكفار بالموتى تارةً ، وبالخشب المسنّدة تارةً أخرى ، وبالأنعام مرّة ثالثة ، وبالحُمُر المستنفرة مرَّة رابعة ، وبالخشب المسنَّدة مرَّة خامسة ، هؤلاء هم ، قال تعالى :
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾
يوم القيامة لِيُحاسبهم على شهواتهم .
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ إذا سمعْت الحق فكُن حيًّا ، أيْ اسْتجب له ، وإن لم تسْتجب له فهذه علامة الموت ، الطبيب إذا شعر أنَّ هذا الذي أمامه ميّت كيف يتأكَّد من موته ؟ للموت علامات ؛ يقيس نبضه ، فإذا كان سماع النّبض صفرًا بقي علامة ثانية يضع مرآةً على فمهِ ، فإذا جاء عليها بخار الماء معنى ذلك هناك تنفّس خفيف جدًّا ، فإذا بقيَت المرآة لامعةً يضعُ ضوءًا شديدًا في حدقة عينه ، فإذا اسْتجابَت القزحيّة وضاقَت فهناك حياة ، إذا كان النّبض صفرًا ، والتَّنفّس معدوما ، واستجابة القزحيّة معدومة فهذه علامات الموت ، عندها يقول عظَّمَ الله أجركم ، وهذه علامة موت الجسد أما علامة موت القلب أنَّك إذا أسْمعته الحق لا يستجيب ؛ ميِّتٌ ، علامة موت النفس أنّها إذا سمعت الحق لا تبالي ، تقول : هذا أساطير الأوّلين ، هذا كلامٌ سمعناه سابقًا ، قال تعالى :
﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾
ليس إلا هذه الدنيا ، هي الجنة أو النار ، إن كنتَ غنيًّا فأنت في جنّة وإن كنت فقيرًا فأنت في النار ، قال تعالى
﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾
هذا الذي يقول كما قال تعالى :
﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾
علامة موت القلب .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ سماع الحق مسؤوليّة ، عند بعض الناس يوم الجمعة يغتسل ويأتي إلى المسجد ، ويتعطّر ، ويلبسُ أحسن ثيابه ، ويقول الخطبة جيّدة واسْتمتعنا بها ، ويذهب إلى البيت هو هو ، ومعاصيه هي هي ، ومخالفاته هي هي ، ودخلهُ هو هو ، علامة الموت ، إن حضرتَ خطبةً ، أو حضرْت مجلس علم ، وسمعت قول الله تعالى ينهى عن شيء أو يأمر بشيء ، ولم تستجب فهذه علامة الموت ، النفس ميّتة ، فإن كانت ميّتة فاسمع وصف الله لها ؛ أموات غير أحياء ، قال تعالى :
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾
وقال تعالى :
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾
منغمسون في شهواتهم قال تعالى :
﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾
لا يسمعون ولا يعقلون ، قال تعالى :
﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾
يعملون ليل نهار فإذا جاء أجلهم وجدوا ما في أيديهم صفرًا .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ آيات بليغات من سورة الأنعام ، قال تعالى :
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
أيّ أمرٍ إلهي لم تقِم له قيمة ، لم تعظِّمْه ، لم تخف من مخالفته فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون ، قال تعالى :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
لا تغترّ بالذي يعصي الله ويزداد قوَّة وغنًى ، سيأتيه يوم لا ريب فيه ، والآية الثالثة
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
ليُحاسبهم على أعمالهم ، والله سبحانه وتعالى أيضًا قال :
﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ آية واحدة إذا طبَّقتها وتدبَّرتها وعقلتها خير لك من أن تقرأ القرآن كلّه قراءة هذْرمةٍ لا تعي فيها على خير ، آية واحدة ، مرّة قرأتُ آيةً وهي قوله تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
شعرتُ أنَّ هذه الآية تكفي الإنسان طوال حياته ، إذا كنت تحت مراقبة بشر كيف تكون ؟ مراقبة إنسان دونك بِكَثير ، يراقبك يُتابعُ حديثك وحركاتك ، أين تذهب ؟ أين تأتي ؟ متى تعود ؟ ومع من تلتقي ؟ إذا شعرت أنَّك تحت مراقبة إنسان دونك بِكَثير كيف تتصرَّف ، فكيف إذا تيقَّنْتَ أنَّك تحت رقابة الله دائمًا وأبدًا ، قال تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
كيف تغشّ المسلمين ؟ كيف تنقصهم حقّهم ؟ كيف تبخسهم أموالهم ؟ كيف لا تنصحهم ؟ كيف توقعُ بينهم ؟ كيف تفرّق بينهم ؟ كيف تأخذ ما ليس لك ؟ كيف تستطيل على حقّ غيرك ؟ آية واحدة ، رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءه أعرابي قال له : يا رسول الله! عظني وأوجز، قال:
(( إذا كنت في صلاتك فصل صلاة مودع، وإياك وما يعتذر منه! واجمع اليأس مما في أيدي الناس ))
فقال الأعرابي كفيت .
وهذه السورة تكفي الإنسان طوال حياته ، والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه السورة لكفت الإنسان طوال حياته .
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( فقُهَ الرجل ))
لم يقل فقِهَ ، فمعنى فقِهَ أي عرف الحكم ، وإنّما قال : فقُه أي صار فقيها من سورة واحدة ، فما بال المسلمين اليوم يقرؤون كتاب الله من دفّته إلى الأخرى ، وكلّ رمضان مرّة على الحد الأدنى ، وفي العام مرّة أو مرّتين وهم يأكلون مالاً حرامًا ، ويعتدون ، ويأثمون ويعصون ، فقُه الرجل ؛ آية واحدة .
أيها الإخوة المؤمنون ، إذا قرأتم القرآن تدبّروا آياته ، وقفوا عند حلاله وحرامه ، وقفوا عند أمره ونهْيه ، وخذوا الآية مأخذ الجدّ ، لا تقرؤوا كما يقرأ عامّة الناس تبرّكًا ، كلام خطير ، كلام يتعلّق بحياتكم وسعادتكم ورزقكم ، وعلاقاتكم الزوجيّة ، وعلاقاتكم مع الناس ، ومستقبل حياتكم ، وآخرتكم ، كلامٌ كلّه قوانين مطبّقة شئتم أم أبيْتم ، فإن خالفتم آياته دفعتم الثَّمَن ، وإن طبّقتموها أخذتم النتيجة ، هكذا يُقرأ القرآن ، آية واحدة اِقْرأها تدبَّرها طبِّقها تسْعد بها في دنياك وآخرتك .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَنَ عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيّدنا محمّد الصادق الوعد الأمين ، اللَّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّدنا محمد صاحب الخُلق العظيم .
الهجرة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مرَّتْ قبل أيام رأس السنة الهجريّة وعادة الخطباء أن يتَّخِذوا هذه المناسبة موضوعًا لِخُطبِهم ، وأردْت أنا في هذه الخطبة الثانية أن أتحدَّث كلامًا موجزًا .
الهجرة بين مكَّة والمدينة بعد فتْح مكَّة أُغْلق باب الهجرة ، لكنَّه مفتوح بين كلّ مدينتين يُشبهان مكَّة والمدينة ،
معنى الهجرة :
الهجرة أيّها الإخوة المؤمنون ؛ ليْسَت انتقال إنسانٍ من مكان إلى آخر ، ولكنّه موقف مبنيّ على إيمان ، مبني على معرفة ، ومبني على وعي من هدفه من الحياة ، هدفه الأوّل معرفة الله سبحانه وتعالى ، وإقامة شرعه ، فحيثما ضاق به الأمر على أن يقيم أمر الله ينبغي أن يهاجر إلى مكان يقيم فيه أمر الله ، هذا مبدأ الهجرة ، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال فيما يرويه عن ربّه :
(( عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي ))
يعني إذا كنت في زمانٍ صعب ، القابض فيه على دينه كالقابض على الجمْر ، إذا كنت في مثل هذا الزمان ، يوم يُأمر بالمنكر ، ويُنهى عن المعروف ، يوم يُكذَّب الصادق ويصدّق الكاذب ، يؤتمَن الخائن ، ويخوَّنُ الأمين ، إذا كنت في زمان يكون المطر قيضًا ، والولد غيضًا ، ويفيض اللّئام فَيضًا ، ويغيضُ الكرام غيضًا وإذا كنت في زمانٍ يبرّ فيه الرجل صديقه ، ويعقُّ والديه ، إذا كنت في زمانٍ صعْب شحَّت فيه السماء ، وضاقت المكاسب ، وارتفعت النفقات ، إذا كنت في آخر الزمان ، وعبدْت الله عبادةً خالصة ، فأنت مهاجر إلى الله ورسوله .
(( عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي ))
عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((متى ألقى أصحابي؟ متى ألقى أحبابي، فقال بعض الصحابة: أو ليس نحن أحباؤك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن أحبابي قوم لم يروني وآمنوا بي أنا إليهم بالأشواق))
عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ - ما يحمله السيل من وسخ - كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول اللّه، وما الوهن؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهية الموت))
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
(( المهاجر من هجر السوء والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ))
ولو أُغلق باب الهجرة بين مكّة والمدينة ، إذا عبدْت الله مخْلصًا لعبادتك في زمن الفتن فأنت مهاجر ، وإذا هجرْت ما نهى الله عنه ، وما نهى عنه رسوله فأنت مهاجر ، إذًا باب الهجرة مفتوح على مِصْراعَيه ، كلّ من استقام على أمر الله فهو مهاجر ، وكلّ من قبض على دينه وكأنَّه يقبض على الجمر فهو مهاجر ، وكلّ من أتى في آخر الزمان فطبَّق الدِّين تطبيقًا صحيحًا فشعَرَ أنَّه غريب ، غريب عن الناس كلّهم ، وكلّهم يخالفون أحكام الدِّين ، ويصومون ، ويحجُّون ، يختلطون ، ويأكلون مالاً حرامًا ، يطلقون بصرهم في الحرام ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
((إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء))
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .