- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيق ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله ، وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، وألطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيئاً قدير ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
معرفة الله أولاً ثم طاعته ثانياً.
أيها الإخوة المؤمنون : في سورة الأنعام آيات توضح الطريق إلى معرفة الله ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( أصل الدين معرفته ))
أصل الدين أن تعرف الله ، قبل أن تعرف أحكامه ، قبل أن تعرف شرعه ، قبل أن تعرف الحرام والحلال ، إن عرفت الله أطعته ، وإن لم تعرف الله سبحانه وتعالى قد تحتال في شرعه ، الذي يحتال في شرع الله لا يعرف الله سبحانه وتعالى .
قال عليه الصلاة والسلام لأعرابي حينما قال له جئتك لتعلمني من غرائب العلم ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( فماذا صنعت في رأس العلم قال : وما رأس العلم ؟ قال : هل عرفت الرب ؟ ))
من هاذين الحديثين يتضح أنه لابد من معرفة الله سبحانه وتعالى ، حتى ينجو الإنسان من أخطار الدنيا ، حتى ينجو من منزلقاتها ، حتى يعرف الطريق الصحيح ، معرفة الله فرض ، فرض لسعادة الإنسان ، كيف نعرفه ، الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ، كيف السبيل إلى معرفته ؟ في سورة الأنعام بين الله سبحانه وتعالى الطريق إلى معرفة الله فقال :
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾
كيف أراه الله سبحانه وتعالى ملكوت السماوات والأرض ، وكيف جعله من الموقنين ، وكيف رزقه الرؤية الصحيحة ، وكيف أطلعه على الحقيقة الكبرى ، وكيف عرفه ، قال تعالى :
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾
جال فكره في ظواهر الكون ، لابد من رب لهذا الكون ، أهو هذا الكوكب ؟
﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾
لا يعقل لهذا الرب العظيم أن يغيب عن الوجود فمن يدبر الكون في غيابه ، جرت عنده مناقشات منطقية .
﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾
استنبط سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة السلام أن هذا الإله العظيم الخالق لابد من أن يهديني إليه ، الذي أمدني بالطعام والشراب ، الذي أمدني بالهواء والماء ، الذي خلق السماوات والأرض ، الذي خلق الجبال ، الأنهار ، البحار ، أنواع النباتات ، أنواع الفواكه ، أنواع الأسماك ، أنواع الأطيار ، الذي خلق كل شيء ألا يهديني إليه .
﴿قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾
كل هذا الذي رأيته ليس جديراً أن يكون رباً ، لأنه يظهر ويغيب أما الإله العظيم لا تأخذه سنة ولا نوم ، وهو معكم أين ما كنتم ، يدبر الأمر ، ثم قال :
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً﴾
لا لهذه الظواهر الكونية ، لا للنجم ، ولا للقمر ، ولا للشمس ، ولكن للذي فطرهن ، للذي خلق السماوات والأرض
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً﴾
يعني مائلاً له بالمحبة ، بالامتنان بالحمد ، بالشكر .
﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
لا أشرك في عبادته أحدا ، ولا في المحبة ، ولا في الطاعة ، ولا في الميل ، ولا في الخوف ، ولا في الرهبة .
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾
هذا هو الهدى ، أن تتعرف إلى خالق السماوات والأرض ، أن تتوجه إلى فاطر السماوات والأرض ، عندئذٍ قال سيدنا إبراهيم :
﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾
هؤلاء الشركاء لا أخافهم ، لا أرجوهم ، لا أحسب لهم حساباً .
﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً﴾
لقد رأى هذا النبي العظيم أن كل هذه المخلوقات ، ناصيتها بيد الله يسمح لها أو لا يسمح .
﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً﴾
هذا هو الدين كله ، ألا تخاف إلا الله ، وألا تشرك مع الله أحدا وكيف ، وكيف التعجبية ! .
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
الإيمان بالله تعالى والعلم سبيلان لطمأنينة القلب .
من هو المتمتع بالأمن ! الذي مع الخالق ، كن مع الله ترى الله معك ، إذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا عليك فمن معك ، من الذي هو يتمتع بالأمن الذي لا حدود له ، هو المؤمن ، لأنه يرى أن كل شيء بيد الله ، وهو مطيع لله عز وجل ، يرى أن العالم كله ، القوى كلها بيد الله آخذ بناصيتها ، له مقاليد السماوات والأرض ، وهو يحبه ويطيعه ، ويرضيه ويتقرب إليه ، فأي أمنٍ كأمن المؤمن ؟ أي طمأنينة كطمأنينته ، أي شعور بالراحة كشعوره ، أي راحة قلبية كراحته
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
نحن أم أنتم ؟
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾
استنبط العلماء أنه من ظلم أخاه ، من ظلم مخلوقاً ما ، بث الله في قلبه الخوف ، وبث الله في قلبه الرعب بما ظلم .
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
كأن النبي سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان يملك حجة على قومه ، وكذلك المؤمن ، ما من مؤمن صادق إلا ومعه حجة ، حجة قوية على أهل الكفر ، حجة على أهل الشرك ، على أهل الفجور ، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، لو اتخذه لعلمه .
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾
مستحيل لأن تكون مؤمناً ولا تملك حجة ، الله سبحانه وتعالى يريك ، يريك الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، يريك ضلال الناس ، سخفهم انحطاطهم ، تناقضهم في أقوالهم ، ضيق أفقهم ، و ترى أنت الحق ناصعاً كالشمس ، ترى الأمور واضحة ، الطريق إلى السعادة واضح ممهد مفتحة أبوابه .
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
وكأن الذي يملك الحجة أعظم عند الله درجة من الذي لا يملكها كأن مراتب الرفعة عند الله أن تكون عالماً ، وأن تكون أخلاقياً .
سمي النبي عليه الصلاة والسلام أحمد في السماء ، لأنه عرف فضل الله عز وجل ، ومحمد في الأرض ، ومحمود عند الله ، وعند الخلق في وقت واحد ، لأنه عرف الله ، ما الذي رفعه إلى هذا المقام الرفيع معرفته .
لذلك رتبة العلم أعلى الرتب ، لذلك تعلم العلم ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، الله سبحانه وتعالى يعجب :
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
كم هي المسافة كبيرة ، كم هي المسافة شاسعة بين الذي يعلم والذي لا يعلم ، كن عالماً ، أو متعلماً ، أو مستمعاً ، أو محباً ، ولا تكن الخامس فتهلك ، وهل يعقل أن تتعلم وأنت في بيتك ، وهل يعقل أن تعرف الله وأنت في متجرك ، لابد من حضور مجالس العلم ، العلم يؤتى ولا يأتي ، الكتاب لا يغني عن مجالس العلم ، ليس في الكتاب حياة ، في مجالس العلم الحياة لذلك :
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾
بالعلم ، وأما بالمال فلا قيمة للمال ، ظل زائل ، عرض حاضر ، يأكل منه البر والفاجر ، مات خزان المال وهم أحياء ، وهم في أوج حياتهم ونشاطهم وقوتهم ، عند الله ميتون ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم بالقلوب موجودة .
التفكر بآيات الله جل جلاله عباده .
ربنا سبحانه وتعالى بعد أن سن لنا الطريق لابد من التفكر في ملكوت السماوات والأرض ، لابد من جولات كثيرة في الآيات التي بثها الله سبحانه وتعالى ، لابد من استنباط الحقائق ، من هذا الكون لابد أن تعرف الله من خلال هذا الكون ، إن لله في أرضه كتابين القرآن والكون القرآن كونٌ ناطق ، والكون قرآن صامت ، لابد من تأمل في الكون تفكر ساعة خير من عبادة ستين عاماً ، لا عبادة كالتفكر .
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾
الله سبحانه وتعالى بعد هذه القصة التوجيهية التعليمية قال :
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾
هذا هو الهدى ، أن تفكر بآيات الله ، أن تتأمل في الآيات التي بثها الله في الكون .
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾
يعني أي عبد شاء الهداية يهديه الله سبحانه وتعالى ، لا كما يتوهم بعض الناس .
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ﴾
سيدنا إبراهيم والأنبياء من بعده .
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾
اجعل طريقتهم في الهدى قدوة لك ، لذلك قال الله تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾
الطرق إلى الله مسدودة ، إلا طريقاً واحداً الإيمان بالآيات .
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾
يعني المؤمن لابد له من جولة فكرية فيما حوله ، في كأس الماء ، في كأس الحليب ، في التفاحة ، في ابنه ، في الهواء ، في الماء ، في الجبل ، في البحر ، في الأسماك ، في الأطيار ، في قلبه ، في شرايينه ، في أمعاءه ، في معدته ، في لسانه ، في الشعر الذي زينه الله له ، في سمعه ، في بصره ، في عضلاته ، في أطرافه ، في أصابع ، في مفاصله ، في جميع أجهزته ، لابد من أن يفكر ، هذا هو الطريق إلى الله .
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾
اجعل طريقتهم بالهدى قدوةً لك ، اسلك طريقهم بالهدى ، فكر في الشمس والقمر ، فكر في النجوم ، فكر في المجرات ، فكر في هذا الكون الفسيح ، دعوة إلى الهدى ، بيان لطريق الهدى ، عن طريق قصة مجسدة الله سبحانه وتعالى بعد هذه القصة أتبعها بآيات ، قال تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
ما حكمة ورود هذه الآيات الكثيفة المتابعة التي تتحدث عن الكون بعد آيات سيدنا إبراهيم ، هذه الموضوعات ، فكر في هذه الموضوعات ، فكر في هذه الآيات ، لابد من أن ترى الله من خلالها ، هذا هو الطريق إلى الله ، ومن لم يسلك هذا الطريق فلا جدوى من صلاته وصيامه ، لأنه يصلي ويكذب ، يصلي ويأكل مالاً حراماً ، ببعده عن الله سبحانه وتعالى محروم من السعادة ، بمعاصيه حرم من الإقبال على الله ، وبحرمانه من الإقبال على الله حرم من السعادة ، لذلك لا ترى بين المسلم الذي يقترف المعاصي وبين غيره فرق يذكر كلاهما شقي ، كلاهما قلق ، كلاهما حائر ، كلاهما يخاف ، كلاهما خنوع ، إذا عرفت الله سبحانه وتعالى وقدرته حق قدره ، واستقمت على أمره ، وتقربت إليه سعدت بقربه ، فصرت إنساناً متميزاً ، ترى ما لا يراه الناس ، وتسمع مالا يسمعون ، وتسعد حين يشقون ، وتفرح حين يحزنون ، وتطمئن حين يقلقون ، هذا الطريق ، لن تقطف ثمار الإيمان إلا إذا سلكت هذا الطريق ، وهذه الآيات الكثيرة التي بثها الله سبحانه وتعالى تؤكد هذا .
أيها الإخوة المؤمنون : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، ووزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، وأعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الطريق للوصول لله تعالى التفكير بمعجزاته .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ إتماماً لهذا الموضوع بعد هذا ، قال الله تعالى :
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾
لو أن الملائكة نزلت إليهم ، ورأوهم رؤية العين وقالوا لهم هذا النبي صادق ، والآخرة حق ، والكتاب حق ، والنار حق .
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾
بعث الأموات من قبورهم وقالوا لهم حقاً إن الجنة والنار بعد الموت لابد من أحدهما ، لو قالوا الأموات هذا .
﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾
اسمعوا ماذا يقول الله عز وجل :
﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾
معنى أن يشاء الله ؛ يعني إلا إذا سلكوا الطريق الذي ذكره الله من قبل ، هذا هو الطريق الوحيد ، يعني لو أن الطالب ارتدى ثياباً بيضاء ووضع على عينيه نظارات لا يكون طبيباً ، لو أنه طبع دفتر وصفات لا يكون طبيباً ، لو أنه قرأ مجلات طبية ، لا يكون طبيباً ، إلا إذا دخل كلية الطب ، الطريق الوحيد
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾
لو أنهم رأوا جميع المعجزات ، بنو إسرائيل رأوا البحر صار طريقاً يبساً ، بعد أن تجاوزوه .
﴿قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾
قوم صالح رأوا ناقة خرجت من الجبل فعقروها ، ما من قوم رأوا معجزات فيها خرق لقوانين الكون فأمنوا بها ، الكون هو المعجزة ، إن لم تفكر بالكون بوضعه الطبيعي ، بوضعه الراهن ، من دون معجزة ، من دون خرق لقوانينه ، لا تهتدي إلى الله عز وجل
﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله﴾
ومشيئة الله لا تكون إلا إذا سلك العبد الطريق الوحيد الذي رسمها الله عز وجل في قصة سيدنا إبراهيم .
لاحظ أن الآيات يؤخذ بعضها برقاب بعض ، كيف أن السورة وحدة متكاملة ، هكذا فعل إبراهيم ، هكذا تأمل في الشمس ، في القمر في النجوم ، توصل إلى أن هذه الآيات ليست آله ، إنما هي آيات توجه للذي فطرهن ، من ثمار هذا الإيمان المبني على التفكر ، الطمأنينة الأمن الذي يفقده الناس إذا أشركوا ، إيمان ، فأمن ، فعبادة ، هذا هو الطريق .
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾
يجهلون الطريق إلى الله عز وجل ، يظن أحدهم إنه إذا صلى فقد صار ديناً ، يصلي ويكذب ، والطريق إلى الله مسدود ، يصلي ويأكل مالاً حراماً ، يصلي ويغش الناس ، يصلي ولا ينصحهم في معاشهم ، الدين النصيحة ، يصلي ولا يتورع عن الصغائر ، إذاً مقطوع عن الله عز وجل إذاً النور لا يسري إلى قلبه ، آيات متكاملة ، الطريق ، أمثلة من الآيات تعقيب دقيق جداً وهام جداً ، لن يؤمن الإنسان إلا إذا فكر في آيات الكون .
أيها الإخوة المؤمنون ، هذا القرآن الكريم يقرأ للتدبر ، يقرأ للتفكر ، للتأمل ، للنظر للبحث ، للدرس ، أما أن تقرأ القرآن هكذا ، من دون عقل ولا فهم وتقول ختم القرآن والحمد لله ، هذا ليس من الدين في شيء ، اقرأ القرآن ولكن إذا شئت أن ينعكس كتاب الله في قلبك سعادة لابد من التأمل فيه وتدبره ، لذلك أنصحكم أن ترجعوا إلى هذه الآيات ، من سورة الأنعام اقرؤوها بتأمل ، بتدبر ، بتأني ، بتؤدة ، بعناية ، واستنبطوا منها ولابد من أن تطبقوها ، وإلا نكون أخسر الناس بهذا الكتاب .
الدعاء :
اللهم اهدينا فيمن هديت وعافينا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، سبحانك إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم أغننا بالعلم ، وزينا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى ، وجملنا بالعافية ، وطهر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء ، وألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة ، فإنك تعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور اللهم يا أرحم الراحمين ، اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا ، اللهم أغننا بالعلم ، وزينا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى ، وجملنا بالعافية ، اللهم أمن روعاتنا ، استر عوراتنا ، وأمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد أمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .