وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0535 - الدعوة إلى الله1 - منهج البحث في الدين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الدعوة إلى الله أشرف الأعمال على الإطلاق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ نحن في شهر مولد النبي عليه الصلاة والسلام ، والنبي عليه الصلاة والسلام كما وصفه الله عز وجل حيث قال :

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾

[سورة الأحزاب : 45-46]

 لو وقفنا عند كلمة : وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، لقد وصف الله النبي صلى الله عليه وسلم بأنه داعٍ إلى الله ، والحقيقة أيها الأخوة الدعوة إلى الله أشرف الأعمال على الإطلاق ، إنها صنعة الأنبياء . قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فصلت : 33]

 هؤلاء الذين يبحثون عن التفوق ، وعن الفوز ، وعن النجاح ، وعن الفلاح ، وعن التميز عليهم أن يسلكوا سبيل التفوق ، وسبيل التميز ، وسبيل النجاح ، وسبيل الفلاح . قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فصلت : 33]

 فالنبي عليه الصلاة والسلام داع إلى الله ، والمؤمنون الصادقون العاملون من بعده يجب أن يكونوا دعاة إلى الله . أي إذا أردتم أن تحتفلوا بعيد مولد نبيكم عليه الصلاة والسلام فسيروا وفق سنته ، واقتفوا أثره ، واتبعوا منهجه ، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين .
 فالنبي عليه الصلاة والسلام داع إلى الله ، داع إلى الله بأقواله ، وداع إلى الله بأعماله ، وداع إلى الله بجهاده ، فكل مؤمن ينبغي أن يقتدي برسول الله ، أن يكون لسانه ذاكراً لله ، وأن يكون عمله وفق منهج الله ، وأن يبذل الوسع والجهد في تعريف الناس بالله ، وتعريفهم بمنهجه ، وإحداث موقف عنده . هناك من يحدث عن الآخرين قناعة ، وهناك من يحدث موقفاً ، المؤمن الصادق ينبغي أن يحدث قناعة بالعلم والدليل والتعليل ، وينبغي أن يحدث موقفاً لشدة اتصاله بالله ؛ لأن أولياء أمتي إذا رؤوا ذُكر الله بهم .

 

حزب الله هم المفلحون :

 أيها الأخوة الكرام ؛ النبي عليه الصلاة والسلام داع إلى الله ذلك لأن الله جلّ جلاله يدعو إلى دار السلام ، ومعنى أن الله يدعو إلى دار السلام ، أي أنه جلّ جلاله يدعو عباده إلى الأخذ بأسباب دخول الجنة ، النبي عليه الصلاة والسلام من دعائه الشريف : " اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك " . فإذا دعا الله الناس إلى دار السلام أي دعاهم إلى الأخذ بالأسباب التي تؤهلهم كي يدخلوا دار السلام .
 أيها الأخوة الكرام ؛ دعوة الله إلى دار السلام كدعوة الرجل من حوله إلى مأدبة نفيسة ، إن الله سبحانه وتعالى خلقنا للجنة ، وخلقنا ليرحمنا ، ودعانا إليها ، وأمرنا أن نأخذ بأسبابها .
 هؤلاء الذين يستجيبون لدعوة الله ، هؤلاء الذين يطيعون الله ، هؤلاء الذين ينفذون أمر الله ، هؤلاء الذين تجدهم عند الحلال والحرام ، هؤلاء الذين استجابوا لربهم ، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون . هؤلاء من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ، هؤلاء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، هؤلاء المفلحون، قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، هؤلاء الذين هم الفائزون ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ، هؤلاء الذين يعزهم الله في الدنيا وفي الآخرة ، لله العزة ولرسوله وللمؤمنين .

 

من لم يستجب لله فهو ميت القلب :

 أما الذين لم يستجيبوا . أما الذين أعرضوا عن ذكر ربهم ، أعرضوا عن الدار الآخرة ، أعرضوا عن طاعة ربهم ، أولئك حزب الشيطان ، يقول الله عز وجل :

﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[سورة فاطر : 6]

 والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[سورة الأنفال : 24]

 المعنى الدقيق المستنبط من هذه الآية أن الإنسان إن لم يستجب فهو ميت من الأموات ، ميت القلب ، قال تعالى:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

[سورة الأنفال : 24]

 ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحيـــاء .
 أيها الأخوة الكرام ؛ علينا أن نستجيب لله ولرسوله ، لئلا نكون ممن ذكرهم الله عز وجل حينما يأتيهم الموت يقولون :

﴿ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾

[سورة إبراهيم : 44]

الدعاة إلى الله هم خواص خلق الله وأفضلهم منزلة وأعلاهم قدراً :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ، ودققوا في هذا الحديث فهو أصل في هذا الموضوع:

(( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا - لك أن تقول : لا يَنقص من أجورهم شيئاً أو لا يُنقص من أجورهم شيئاً- وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 أي أنت إذا دللت على الله ، هذا الذي دللته على الله كل أعماله الصالحة في صحيفتك ، وهل من تجارة كهذه التجارة ؟ أي إذا دللت إنساناً على أن يضع ماله في جهة ما ، وربح هذا المال مليون بالمئة لك مثل هذه النسبة ، هذا شيء غير معقول في عالم الدنيا ، أما عند الله فهو الواقع .

((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 بعض العلماء المجددين لهذا الدين يقول حول الدعاة إلى الله : الدعاة إلى الله الذين يدعون الناس إلى دينه ، وإلى عبادته ، وإلى معرفته ، وإلى محبته ، هؤلاء هم خواص خلق الله، هم النخبة ، هم الصفوة ، هم يتربعون على قمم المراتب ، هم خواص خلق الله وأفضلهم عند الله منزلة ، وأعلاهم قدراً ، فالداعي إلى الله هو الذي يحاول دعوة الناس إلى الله بالقول ، وبالعمل ، وإلى تطبيق منهج الله عز وجل ، واعتناق العقيدة الصحيحة ، وتنفيذ الشريعة . ولقد أهمل المسلمون الدعوة إلى الله ، وانشغلوا بحظوظهم من الدنيا ، بمصالحهم ، بمكاسبهم المادية ، ونسوا أن أكبر مهمة أوكلهم الله إياها أن يدعوا إلى الله عز وجل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ إن الدعوة إلى الله فريضة حملها رسل الله صلوات الله عليهم وسلامه ، وحملها أتباعهم السابقون الذين اقتفوا أثرهم من بعدهم ، واقتدوا بهم في منهجهم ، وسلكوا سبيلهم ، ولم يتقاعسوا عن السير بها في طريقها الذي حدده المولى لهم .
 ما منا واحد إلا ويحب الفوز ، يحب التفوق ، يحب النجاح ، يحب الفلاح ، الله عز وجل يدلك على أسباب الفوز ، يدلك على أسباب النجاح ، على أسباب الفلاح ، قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فصلت : 33]

الانضباط بمنهج الله يحقق سعادة الدنيا والآخرة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يتعلق بالدعوة صلاح الأسرة ، وسعادتها ، والوفاق بين الزوجين، وحسن تربية الأولاد ، وإذا صلحت الأسرة ، صلح المجتمع ، وإذا صلحت المجتمعات صلحت الأمم ، وسعدت في دنياها وآخرتها ، لذلك يا أيها الأخوة الكرام ، أدرك الأنبياء والرسل ثقل المسؤولية التي حملهم الله إياها ، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى ، فقال تعالى:

﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾

[سورة المزمل : 5]

 أي هذا القول تتعلق به سعادة الأمة ، هذا القول لو أهملَته تصير الأمة إلى شقاء ما بعده من شقاء ، ألا ترون أيها الأخوة إلى الشعوب الأخرى التي ضلت ، وتاهت ، وشردت، وانحرفت ، وألقت بالقيم الأخلاقية عرض الطريق ، واتبعت شهواتها المنحطة ، كيف آلت إلى أمراض فتاكة ؟ وإلى علاقات شائنة ؟ وإلى تبادل زوجات ؟ وإلى زنا محارم ؟ وإلى انفصام الزواج ؟ تقول الإحصاءات الدقيقة إن كل ألف حالة زواج لا يبقى منها إلا اثنان بالألف ، بينما الزواج في ظل الشريعة الإسلامية ستون بالمئة من حالات الزواج يبقى مستمراً إلى نهاية الحياة، إن الانضباط بمنهج الله يحقق سعادة الدنيا والآخرة ، لذلك:

﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾

[سورة المزمل : 5]

 بعض العلماء أيها الأخوة يفرقون في الدعوة إلى الله بين دعوة الطرف الآخر إلى الإسلام ، وبين إصلاح شأن المسلمين ، وبين ترسيخ السلوك الكامل عند المسلمين المنضبطين.

 

مهمات الداعية :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لعل أولى مهمات الداعية إلى الله إذا كان في مجتمع مسلم أن يصلح أحوال المسلمين ، أن يدلهم على الطريق القويم ، أن يبصِّرهم بمزلات الأقدام ، أن يعرِّفهم بالمخالفات التي لا يعبؤون بها مع أنها تحجزهم عن الله عز وجل ، فإصلاح المسلمين المعتقدين بخالقهم ومربيهم وإلههم ، ولكنهم قصَّروا ، أو انحرفوا ، أو ارتكبوا أعمالاً لا يعرفون حجمها الكبير وخطورة مآلها .
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ هناك في الدعوة إلى الله شيء خطير ، هو أن الدعوة باللسان سهل جداً ، بل إن حجم دعوة النبي كمُبلِّغ أقلُّ بكثير من حجم دعوته كقدوة ، الدعوة باللسان لا تكلف إلا النطق ، لكن الدعوة بالقدوة تكلف جهاد النفس والهوى ، والناس لا يخضعون إلى أقوال منمقة ، بل يخضعون إلى إنسان مطبق لما يقول ، ألم يقل الإمام علي كرم الله وجهه : " قوام الدين والدنيا أربعة رجال ؛ عالم مستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره ، فإذا ضيع العالم علمه ، استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره" ، فالقدوة قبل كل شيء .

 

من دعا إلى الله مخلصاً ارتقى عمله إلى أخطر عمل على الإطلاق :

 أيها الأخوة ؛ كن مكان الطرف الآخر ، الذي لا يؤمن بالإسلام منهجاً ، ولا ديناً قويماً ، يؤمن بمذهب وضعي ، كن مكان الطرف الآخر - لا سمح الله - وانظر إلى داعية مسلم يتكلم كلاماً طيباً ، فإذا دققت في أحواله لن تجده في هذا المستوى ، ماذا يقول هذا الطرف الآخر ؟ له قولان لا ثالث لهما ؛ القول الأول : لو أن هذا المنهج واقعي لطبقه هذا الداعية على نفسه ، إذاً هو منهج غير واقعي ، فإذا ثبت له أنه منهج واقعي ، إذاً هذا الذي يدعو إليه ولا يطبقه مقصر ، والمقصر لا يستأهل أن نصغي إليه .
 أي إن لم يطبق الذي يدعو إلى الله تفاصيل الدعوة والمنهج هو متهم مرتين ، إما أن منهجه متهم بغير الواقعية ، أو أنه متهم بالتقصير ، وفي كلا الحالين ليس مؤهلاً أن يُصغى إليه ، لذلك ما من عمل يتذبذب بين الخطورة والتفاهة كالدعوة إلى الله ، فإذا اتُخِذت مهنة ، أو حرفة ، أو وسيلة للتكسب كانت من التفاهة بمكان . أما إذا كانت الدعوة خالصة لله عز وجل ، والذي دعا إلى الله مطبق لما يقول ، مخلص في عمله ، ارتقت إلى أخطر عمل على الإطلاق، إنها صنعة الأنبياء .

 

الدعوة إلى الله فرض عين :

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ يتوهم بعض الأخوة أن الدعوة اختصاص ، يقول : ما لي وللدعوة من نصيب ، إنها من اختصاص الخطباء ، والعلماء ، والمرشدين ، والمدرسين ، وما لي منها من حظ . . لا ، الدعوة إلى الله فرض عين ، واطلب مني الدليل . ألم يقل الله عز وجل :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر : 1-3]

 هذه السورة كما قال عنها الإمام الشافعي لو تدبرها الناس لكفتهم ، إن ربع أركان النجاة التواصي بالحق ، ليس معنى ذلك أن تكون فريد عصرك ، ولا وحيد زمانك ، ولا جهبذاً ، ولا عالماً فرداً لا مثيل لك . يقول عليه الصلاة والسلام :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

 آية واحدة . ألا تحضر أيها الأخ خطب الجمعة على مرِّ الأسابيع ؟ ألم تستفد من خطبة ؟ من حديث شريف ؟ من آية محكمة ؟ من معنى دقيق ؟ من حكم شرعي ؟ من موقف بطولي لأحد أصحاب رسول الله ؟ هذه الآية ، أو الحديث ، أو الحكم الفقهي ، أو الموقف البطولي ، هذا لو أنك نقلته لواحد في الأسبوع كله لكنت من الدعاة إلى الله ، لو نقلت معنى جميلاً ، أو معنى محكماً في آية كريمة ، أو معنى دقيقاً في حديث صحيح ، أو حكماً فقهياً تتعلق به مصالح الأمة ، أو نقلت موقفاً بطولياً يشد النفس إليه ، هذا الذي تفعله في الأسبوع كله يجعلك داعية إلى الله ، يجعلك من الذين تواصوا بالحق . ما الذي تفعله خلال الأسبوع بأكمله ؟ يأتي أحدنا إلى المسجد ليستمع إلى خطبة الجمعة ، وقد يأتي معظمكم إلى مجلس علم ليستمع إلى درس التفسير ، أو درس الحديث ، أو درس السيرة ، أو درس أسماء الله الحسنى ، هذا الجلوس والإصغاء ألا يكسبكم أيها الأخوة بعض الحقائق التي تستوعبونها ؟ هذه الحقائق التي ينبغي أن تكون مدار حديثكم في الأسبوع كله ، حتى تحققوا فريضة الله عز وجل .

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من فرائض الإسلام :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الآن دققوا في الآيات الكريمة ، هذا قرآن ، هذا كلام خالق الأكوان ، هذا كلام ينبغي أن نتدبره ، ينبغي أن نعيه ، ينبغي أن نكون في مستواه ، يقول الله عز وجل :

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 104 ]

 ماذا نعرب اللام في : "ولتكن" هذه لام الأمر ، والفعل المضارع إذا اقترن بلام الأمر أصبح بمعنى فعل الأمر ، وكل فعل أمر يقتضي الوجوب ، الله يأمرنا : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ . كن من هؤلاء أنت . آية ثالثة:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾

[سورة البقرة : 159]

 هذا الذي يعرف الحقيقة ، يعرف الحكم الشرعي ، يعرف الوجه الصحيح ، يعرف العقيدة الصحيحة ، وهو في مجلس ، تكلم الناس بخلافها ، وطرحوا أفكاراً تناقضها ، هو قال : ما لي ولهم ، لم يعبأ بهم ولم يتجشم مشقة النطق بالحق ، ولا إلقاء الأمر بالمعروف ، ولا النهي عن المنكر ، هذا الإنسان تنطبق عليه هذه الآية ، وما أخطرها .

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾

[سورة البقرة : 159]

 قال لي رجل مرة : أنا كنت مدمن خمر ، وسبب توبتي على يد سائق سيارة ، صعدت إلى سيارته فرأى في جعبتي الخمر ، فأوقف المركبة وقال : انزل ، أنا لا أسمح لأحد أن يركب في سيارتي ومعه شيء محرم ، قال : وقفت ساعة ولم أجد من ينقلني إلى بيتي ، فدمعت عيناي وتبت من توي .
 سائق سيارة ببساطة أنزل راكباً يحمل زجاجة خمر . حمله على التوبة . الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة ، تُعد الفريضة السادسة في الإسلام .

البلاء عاقبة من لم يأمر بالمعروف و لم ينهَ عن المنكر :

 أيها الأخوة الكرام :

﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

[سورة المائدة : 63]

 قال ابن جرير الطبري : ما من آية أشدّ توبيخاً من هذه الآية ، لبئس ما كانوا يصنعون ، كل إنسان عليه أن يقيم الإسلام في بيته ، في مملكته الصغيرة ، وفي عمله ، وانتهت مهمتك . إذا أقمت الإسلام أولاً في عقلك ، وفي قلبك ، ثم أقمته في بيتك ، ثم أقمته في عملك ، انتهت مهمتك وعذرك الله عز وجل ، وعندئذ لا نشعر إلا وقد عمَّ الإسلام الناس جميعاً. إذا عاهد أحدكم ربه أن يقيم الإسلام في بيته ، وفي عمله ، وبيته مملكته ، وعمله مملكته ، الله جل جلاله يرفع البلاء عن هذه الأمة ، لأنه ما لم نأتمر بالمعروف ، ونتناهى عن المنكر فإن البلاء يعمُّ الناس جميعاً .

﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

[سورة الأنفال : 25]

الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالصة لوجهه :

 دققوا في الدليل الثالث والرابع:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾

[سورة النحل : 125]

 وفي آية رابعة :

﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[سورة القصص : 87]

 لا تدع إلى غير الله ، لا تدع مع الله أحداً ، اجعل دعوتك خالصةً لله ، وابتغ بها وجه الله ، واطلب جنة الله من خلال هذه الدعوة . لا تنسوا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى- وأنا أذكر كلامه لأنه شديد التأثير - يقول: " لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين" .
 لا تجعلها مهنة ، لا تجعلها حرفة ، إن جعلتها حرفة ومهنة كنت أنت في واد والدعوة في واد ، عندئذ تُعد الدعوة تافهة لا ترقى بك إلى الله عز وجل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الإمام علي كرم الله وجهه :

(( أيها الناس إنما أُهلك من قبلكم بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات ، فائمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ))

[العلل لابن أبي حاتم عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ]

تعريف النفس بمنهج الله و حملها على طاعته :

 وأما الصّديق فيتحدث عن آية ربما فهمها الناس فهماً ما أراده الله قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة المائدة: 105]

 لعل بعض الناس يفهمون هذه الآية على غير ما أراد الله . عليكم أنفسكم : اسم فعل أمر ، أي الزموا أنفسكم ، الزموا أنفسكم عرفوها بربها ، الزموا أنفسكم زكوها ، فقد أفلح من زكاها ، إن عرفتموها بربها ، وعرفتموها بمنهج ربها ، وحملتموها على طاعة ربها ، عندئذ لا يستطيع أن يضركم من ضلّ . لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم . أما إذا لم تعرفوها ، وأقمتم على المعاصي الضالون يصلون إليكم ، ويؤدبونكم بإذن الله عز وجل ، والظالم سوط الله ، ينتقم به وينتقم منه . يقول الصديق رضي الله عنه :

(( يا أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها في غير موضعها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بالبلاء ))

[كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابن تيمية ]

الدعوة إلى الله بالبرهان العقلي وبالدليل النقلي و الفطري :

 أيها الأخوة الكرام :

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[ سورة يوسف : 108 ]

 قال بعض العلماء : الدعوة إلى الله على بصيرة ، أي بالبرهان العقلي ، وبالدليل النقلي ، وبالدليل الفطري ، وبالبرهان الواقعي ، يجب أن تجتمع أدلة النقل والعقل والفطرة والواقع، وهذا معنى قول الله عز وجل :

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[ سورة يوسف: 108 ]

 لكن أيها الأخوة الدعوة إلى الله بالمعنى الواسع كل مؤمن عليه أن يدعو إلى الله ، في حدود ما علَّمه الله ، أنت لا تُعفى ، ما من واحد من الأخوة الحاضرين إلا ويلتقي مع أقربائه، وإخوته ، وزملائه ، وجيرانه في النهار ، وفي الليل ، وفي الأمسية ، وفي السهرة ، وفي الصباح ، وفي الظهيرة ، وفي العمل ، وفي الطريق ، وفي المركبة ، وفي سهرة دورية ، وفي لقاء عابر ، ما من واحد منا إلا وله لقاءات كثيرة في بحر الأسبوع ، عن أي شيء تتحدثون ؟ عن الدنيا ؟ الدنيا تفرق ، والدنيا تنقبض لها النفس . اجعلوا من دروس العلم ، ومن خطب الجمعة التي تحضرونها موضوعاً لحديثكم في أيام الأسبوع ، إن فعلتم هذا كنتم من الداعين إلى الله بالمعنى الموسع ، كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

((فرب مبلغ أوعى من سامع ))

[متفق عليه عن عبد الرحمن ابن أبي بكر عن أبيه]

 قد يكون هذا الذي بلغته يتفوق تفوقاً كبيراً وهو في صحيفتك ، هذا هو المعنى الموسع ، أما أن ترد على الشبهات التي يفتريها أعداء الدين ، أما أن تقيم الدليل التفصيلي ، أن ترد على كل طرح يناقض الدين فهذا اختصاص ، لذلك أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى ، قالت:

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 104 ]

 من للتبعيض ، وليكن بعضكم ، من المتخصصين في الدعوة ، إذا نشب حوار حاد بين فئات متعددة لابد من داعية متخصص ، لابد من داعية متبحر في العلم . هناك معنى موسع للدعوة ، وهناك معنى ضيق ، المعنى الضيق ؛ الدعاة المتخصصون ، الذين يأتون بالأدلة التفصيلية ، ويردون على الشبه الماكرة التي يفتريها أعداء الدين ، أما أن تستمع إلى تفسير آية أو تفسير حديث أو حكم فقهي فتنقله كما سمعته ، فأنت من الدعاة إلى الله بالمعنى الموسع .

 

خصيصة المؤمنين الأولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

 أيها الأخوة الكرام ؛ دققوا في هذه الآية :

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

[سورة التوبة: 71]

 هذه من أخص خصائصهم ، أنهم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويطيعون الله ورسوله ، سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
 الآن:

﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[سورة التوبة: 67]

 إذاً تكاد تكون خصيصة المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتكاد تكون خصيصة المنافقين الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حينما شُرِّفنا بأننا خير أمة أخرجت للناس ، هذا الشرف مقيد بعلة هذه الشرفية ، قال تعالى :

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 104 ]

 علة الخيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ))

[ مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمدعن سعد بن مالك]

 لكن الله لا يقبل إطلاقاً من مُنكر للمنكَر بلسانه إذا كان قادراً أن ينكره بيده ، ولا يقبل من منكر للمنكر بقلبه إذا كان قادراً أن ينكره بلسانه ، والله يعلم حقائق الأمور ، قال تعالى:

﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾

[سورة القيامة: 14-15]

احتفالنا بعيد مولد النبي هو تطبيق أمره واقتفاء سنته :

 أردت من هذه الخطبة ، ونحن في عيد المولد ، أن يكون احتفالنا بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام تطبيق أمره ، واقتفاء سنته ، وأن ندعو إلى الله وفق منهجه ، ووفق توجيهه، فمن دعا إلى الله انطبقت عليه الآية الكريمة:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فصلت: 33]

 أيها الأخوة الكرام ؛ أختم خطبتي بقول النبي لسيدنا علي كرم الله وجهه:

((يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها))

[ تخريج أحاديث الإحياء للعراقي ]

((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))

[متفق عليه عن سهل بن سعد]

(( يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس))

[ أخرجه الحاكم عن أبي رافع ]

 هذا الحديث ألا يدفعنا إلى الدعوة إلى الله ؟ هذا الحديث ألا يحرك فينا أعمق المشاعر ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

اختلاط الأوهام بالحقائق في آخر الزمان :

 أيها الأخوة الكرام ؛ وصف النبي آخر الزمان بأن فيه فتناً كقطع الليل المظلم ، من هذه الفتن في العقيدة ، أن يختلط الحابل بالنابل كما يقولون ، أن تختلط الحقائق بالأوهام ، أن يختلط الحق بالباطل . فالمسلمون اليوم يخلطون بين الاجتهاد وبين الخروج من الدين ، هل هناك ضابط دقيق يفصل الاجتهاد الذي أمرنا به عن الخروج من الدين ؟ هناك من يظن أنه مجتهد ، وهو في اجتهاده قد خرج من الدين ، يمرقون من الدين مروقاً .
 الحقيقة أيها الأخوة التي لابد أن تكون واضحةً في أذهان الأخوة المؤمنين ، هو أن الاجتهاد أن يبذل العالم المؤهل ، العالم بالعقيدة الصحيحة ، وبأصول التفسير ، وبورود الحديث، وبعلم أصول الفقه ، وبعلم الحديث ، وبالتاريخ الإسلامي ، هذا العالم المؤهل إذا بذل جهداً في استنباط الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي في الكتاب والسنة أو كليهما فهو مجتهد يعمل في إطار النص ، ولهذا المجتهد أجران إن أصاب ، وأجر إن أخطأ . عالم مؤهل تنطبق عليه شروط الاجتهاد ، يبذل وسعه وجهده لاستنباط حكم شرعي من دليل تفصيلي في الكتاب والسنة ، له أجران إن أصاب ، وله أجر إن أخطأ . أما حينما ننكر النص فلسنا مجتهدين ، بل مارقين من الدين ، أما حينما ننكر آية من كتاب الله فهذا خروج من الدين وليس اجتهاداً في الدين ، أو حينما نقيد آية بمرحلة معينة فهذا خروج من الدين وليس اجتهاداً في الدين ، أما حينما نقيد آية بعلة ما ذكرها الله عز وجل ، بعلة نبتدعها من عندنا ، وليس في الآية قرينة قاطعة الدلالة على أن هذه الآية مقيدة بمرحلة ، أو بفئة من الناس ، أو بعلة نحن استنبطناها . إذاً حينما ننكر آية ، أو نقيد آية بمرحلة ، أو بجهة ، أو بعلة ، ليست هذه العلة ، وهذه الجهة ، وهذه المرحلة مذكورة بنص الآية بقرينة محكمة فهذا مروق من الدين ، وخروج من الدين ، وليس اجتهاداً في الدين .

منهج البحث في الدين :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أعداء الدين لا يستطيعون أن ينكروا آية في كتاب الله ، كيف يحتالون إذاً ؟ يؤولونها تأويلاً بخلاف أصول الفقه ، أو يقيدونها بمرحلة زمنية مضت ، أو يقيدونها بتعلقها بفئة من الناس مضت ، أو يقيدونها بعلة نحن ابتدعناها ، حينا قال الله عز وجل :

﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾

[سورة البقرة: 276]

 ابتدع بعضهم أن هناك رباً استثمارياً ، ورباً استهلاكياً ، فالاستهلاكي هو المحرم ، هذه العلة ما وردت في كتاب الله ، حينما يغفل الله علة التحريم فالتحريم مطلق على إطلاقه ، فحينما نحتال فنقيد آية بمرحلة زمنية ، أو بجهة تتعلق بها ، أو بعلة لم ترد في نص الآية ، فنحن لا نجتهد الآن ، لكننا مرقنا من الدين وخرجنا من الدين .
 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا أنكرنا النص الشرعي ، أو قيدناه بمرحلة زمنية ، أو بعلة اجتهادية ، أو بجهة تتعلق به ، فهذا خروج من الدين وليس اجتهاداً في الدين .
 أيها الأخوة ؛ الكلام الفيصل في هذا الموضوع : الدين في الأصل نقل ، ودور العقل قبل النقل إثبات صحة النقل ، وبعد النقل فهم النقل ؛ إثبات صحة النقل وفق علم الحديث، وفهم النقل وفق علم الأصول ، لابد من أن نتقن علم الحديث وعلم الأصول ، حتى إذا درسنا نصاً تحققنا من صحته ، ثم فهمناه وفق علم الأصول ، هذا دور العقل ، أما أن يُسمح للعقل برد النص ، أو تأويله تأويلاً مخالفاً لعلم الأصول ، أو تقييده بمرحلة ، أو بفئة معينة ، أو بعلة نحن ابتدعناها ، فهذا اسمه خروج من الدين ومروق من الدين ، وليس هو من الاجتهاد في شيء .
 هذا الضابط ، أو المقياس ضروري جداً للتفرقة بين كتب تدّعي أنها كتب معاصرة تفهم القرآن فهماً جديداً ، وبين كتب أصيلة ، تفهم كلام الله وفق المقاييس التي جاء بها علماء الأصول .
 أيها الأخوة الكرام ؛ في ختام هذا الموضوع ، أنت أمام ثلاثة نصوص :
 نص من كتاب الله لا تملك إلا أن تفهمه فقط ، قطعي الثبوت .
 ونص من حديث رسول الله لك أن تتحقق من صحته ؛ لأن بعض الأحاديث التي تُنسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضعيفة ، وبعضها موضوع ، فإذا كنت أمام نص نبوي لك أن تتحقق من صحته أولاً ، ثم تفهمه وفق ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام .
 أما إذا كنت أمام نص آخر لأي إنسان على الإطلاق هذا النص لك أن تتحقق من صحة نسبته إلى قائله ، ولك أن تتحقق من المعنى الذي أراده قائله ، ولك أن تقيم بينه وبين الكتاب والسنة موازنة ، فإذا انطبق على الكتاب والسنة نقبله ، وإلا نركله بأقدامنا ولا شيء علينا .
 ما جاءنا عن صاحب هذه القبة الخضراء فعلى العين والرأس ، وما جاءنا عن سواه فهم رجال ونحن رجال ، وكل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذه القبة الخضراء . هذا منهج البحث في الدين ، ما ذكرت هذا على المنبر ـ ولعل هذا مكانه في درس عام ، أو في درس علم لما أجد من كتب فيها ضلالات كثيرة منتشرة بين أيدي الناس وهم يحسبون أنها اجتهاد معاصر ، وأنها قفزة نوعية في فهم كتاب الله ، إنها خروج من الدين ، واتباع للهوى ، وصب الدين في قالب من قوالب الإباحية ، وقالب من قالب السلوك الإباحي المعاصر .
 أيها الأخوة الكرام ؛ أعداء الدين يئسوا أن يصادموا الدين مباشرة ، لكنهم أرادوا أن يفجروه من الداخل ، عن طريق هذه الفتن ، وعن طريق هذه المبادئ الهدامة التي يصطنعونها .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ماقضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم ارزقنا التأدب ونحن في بيوتك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور