وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0462 - الإيمان يغذي الضمير - المؤمن الصادق.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الضمير قوة خفية في نفس كل إنسان تهديه إلى الخير و تبعده عن الشر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ في نفس كلٍّ منا قوّة خفِيَّة لا تُشاهد بالعين ، ولا تُرى بالمِجْهر ، ولا تُعرف بالتشريح ، هذه القوّة الخفِيَّة تهديه إلى واجبه ، تدْفعُه إلى الخير ، تُبْعدُه عن الشرّ ، كأنّها الأب يُحذِّر ابنه ، وكأنّها الأستاذ ينصح تلميذه ، فإذا خالفْت أيّها الإنسان ما تأمركَ به هذه القوّة الخفيَّة ، أو اقْترَفْتَ ما حذَّرَتْكَ منه ، كانت مَحْكَمَة أو أيَّ مَحكمة ، تحكمُ لك أو عليك ، وتقضي لك أو عليك ، إما أن تقضي لك بالراحة والطمأنينة والسُّرور ، وإما أن تحكم عليك بالألم والقلق والعذاب ، هذه القوّة الخفيّة ، الكاشفة ، الهادِيَة ، الآمرة ، الناهِيَة ، المُحذِّرة ، المحرِّضة ، الحاكمة ، المنفِّذَة ، سمَّاها علماء النفس ضميرًا ، وسمّاها بعضهم وجدانًا ، وسمَّاها القرآن قلبًا تارةً ، وسمَّاها فطرةً تارةً أخرى ، لا إشكال في اختلاف الأسماء ، المُسمَّى واحد .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذه الحقيقة ، فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الْخُشَنِيَّ يَقُولُ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِمَا يَحِلُّ لِي وَيُحَرَّمُ عَلَيَّ ؟ قَالَ : فَصَعَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوَّبَ فِيَّ النَّظَرَ ثم قال :

(( الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ ))

[ أحمد عن الْخُشَنِيَّ]

 هكذا قال عليه الصلاة والسلام ، وفي حديث آخر :

(( عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ : اسْتَفْتِ نَفْسَكَ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلَاثًا ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ))

[الدارمي عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ]

 ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام للخَصْمَين اللّذين اختصما :

((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا))

[البخاري عَنْ أُمِّ سَلَمَة]

 إذًا لا يُنجيك من الله أحد ، ولو أفتى لك النبي عليه الصلاة والسلام وهو السيّد المعصوم ، وهو يوحى إليه ، لا يُنجيكَ من عذاب الله إلا أن تكون على أمْر الله .

 

تطبيق منهج الله يشعر الإنسان بالتوازن و الأمن و الهدوء :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه القوّة الخفيّة التي سمَّاها علماء النفس ضميرًا ، أو سمَّاها بعضهم وجدانًا ، وسمَّاها القرآن قلبًا تارةً ، وفطْرةً تارةً أخرى قال تعالى :

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾

[ سورة الروم : 30]

 إقامة وجهك للدِّين حنيفًا هو عَينُه فِطرة الله التي فطر الناس عليها ، قال تعالى :

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾

[ سورة الروم : 30]

 نفسُك أيها الأخ الكريم لا تستقرّ ، ولا تهدأ ، ولا تتوازَن ، ولا تشعر بالأمْن ، ولا بالاستقرار ، ولا بالسعادة ، ولا بالسكينة ، إلا إذا طبَّقَت منهج الله عز وجل ، لأنّ خالق الكون لهُ تعليمات ، وله توجيهات ، وله أوامر ، وله نواه ، وهو الخبير بهذه النّفس ، له تعليمات ، أنت إذا طبَّقْت تعليمات الصانع من بني البشر في آلة بين يديك تُعطيك أفضل مردود ، إن طبَّقْت تعليمات الصانع من بني البشر ، وخبراته محدودة ، ومُكتسبة ، وقد تكون ناقصة ، وقد تكون حديثة ، إن طبَّقْت تعليمات الصانع في آلة بين يديك ، أعْطتْكَ هذه الآلة أفضل مردود ، فكيف لو طبَّقْتَ تعليمات الخبير القديم ؟ خبرة الله قديمة ، لا يطرأُ عليها أيّ تبديلٍ ، ولا تحسينٍ، ولا تغيير ، قال تعالى :

﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر : 14]

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ لو أنّ أحدنا انطلق من حُبِّه لذاته ، من حُبِّه لِسَلامة وُجوده، من حبّه لكمال وُجود ، ومن حُبِّه لاستمرار وُجوده ، لو أنّه انطلق من حُبٍّ لذاته ليس غير ، لوَجَدَ نفسهُ يطبِّقُ تعليمات الصانع ، وهذا لِصالِحهِ ، ولكن فرْقٌ كبير بين العبادة التي هي قُرْبةٌ إلى الله عز وجل ، ويستحقّ صاحبها جنّة الله عز وجل إلى أبد الآبدين ، وبين أن تتحرَّك وفْق مصْلحتِكَ ، ولو رأيْتها في الدِّين ، إنَّها مرْتبَةٌ أقلّ .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الضمير ، وذاك الوجدان ، هذا القلب ، وتلك الفطرة ، هي عماد الأخلاق ، ولكنّ هذه الفطرة ، أو هذا الوجدان ، أو ذاك الضمير ، إنَّها تُحاسب الإنسان بِشَكلٍ مستمرّ ، تُحاسبُه قبل العمل بالإرشاد والتحذير ، وتُحاسبُه في أثناء العمل بالتَّشْجيع والرَّدْع ، وتُحاسبُه بعد العمل بالارْتياح أو الوَخْز ، إما أن ترتاح لعملك ، وإما أن تقلق لعملك .

 

رقي المجتمعات البشرية بالضمائر الحيّة و القلوب السليمة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول أحدهم : إنّ الله يعطي الصحّة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنَّهُ يعطي السكينة بِقَدرٍ لأصفيائِهِ المؤمنين ، وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل قال تعالى :

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 81-82]

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ المجتمعات البشريّة لا ترقى ، ولا تسْعد بِسَنّ القوانين ، وإصدار القرارات ، وتنظيم اللوائح ، ويقَظة رِجال الشُّرطة ، وإن كان هذا لا يُسْتغنى عنه أبدًا في كلّ مجتمع ، إنَّما تَسْعَدُ المجتمعات وترقى بِوُجود الضمائر الحيّة ، والقلوب السليمة ، قال بعضهم : العدل ليس في نصّ التشريع ، وإنّما هو في ضمير القاضي ، أيْ نحن الآن بِحاجةٍ إلى إصلاحٍ من الداخل ، الأُطُر متوافرة ، وكلّ شيءٍ على ما يرام ، ولكنّنا بحاجة إلى إصلاح من الداخل ، هذه القصّة التي أرْويها مئات المرّات من على هذا المنْبر ، حينما رأى عمر بن الخطاب راعيًا ومعه شِياه ، وقال : بِعْني هذه الشاة وخّذ ثمنها ؟ فقال : ليْسَت لي ، فقال : قلْ لِصاحبها إنّها ماتَتْ أو أكلها الذئب ! فقال : والله إنَّني لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلتُ لِصاحبها أكلها الذئب لصدَّقني ، فإنّي عندهُ صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟
 نحن بحاجةٍ إلى أن يقول المسلم أين الله ؟ إلى أن يشعر المسلم بالرقابةٍ الذاتيّة ، إلى أن يتمثَّل المسلم قول الله عز وجل :" إنّ الله كان عليكم رقيبًا . ." نحن بِحاجةٍ إلى مسلمٍ ينْمو فيه الوازع لا الرادع ، الوازع الداخلي ، لا الرادع الخارجي ، وشتّان بين الوازع الذي أساسه العقيدة الصحيحة ، وخوف الله عز وجل ، وبين الرادع الخارجي الذي أساسه الضَّبْط المادّي ، وقد يكون المرْدوع أذكى من الرادع فيتفلَّتُ من رقابته ، ومن عقابه ، وبهذا تفْسُدُ الحياة .

 

الإيمان بالله و بحسابه الحتمي يجعل المؤمن في صحوة دائماً :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الضمير ، أو هذا الوِجدان ، أو هذه الفِطرة ، أو ذاك القلب ، من يُغذِّيه بالقِيَم ؟ من يُحْيِيه ؟ من يجعلهُ يقظًا ؟ أنا لا أركِّز على الأسماء ، أنا أُركِّزُ على المُسمَّيات ، لا يعنيني اختلاف التَّسْمِيات ، يعنيني أنّ في هذا الإنسان شيئًا جعلهُ الله له رادِعًا ، ومُرشِدًا .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الفطرة ، وتلك الجبِلَّة ، وهذا الضمير ، وذاك الوجدان ، وهذا القلب ، من يُغذِّيه ؟ من الثابت قطْعًا أنّ الإيمان أعظمُ مددٍ له ، وأقوى مُولِّدٍ له ، عقيدة المؤمن بالله جلَّ جلاله ، وعقيدة المؤمن بالحِساب الحتْمِيّ تجعل الضمير ، أو الفطرة ، أو القلب بِحَياةٍ أبدًا ، وفي صَحْوةٍ دائمًا ، اعْتقادُ المؤمن أنّ الله معه حيثما كان ، في السَّفر ، وفي الحضَر ، وفي الخلوة والجَلوَة ، دققوا في هذا القول : من لم يكن له ورعٌ يصدُّه عن معصيَة الله إذا خلا لمْ يعبأ الله بِشَيءٍ من عمله ، ركعتان من ورِعٍ خير من ألف ركعةٍ من مُخلِّط ، عقيدة المؤمن أنّ الله معه ، عقيدتهُ بِحَتْمِيَّة الحِساب ، قال تعالى :

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

 تجعلُ ضميره في حياةٍ دائمًا ، وفي صَحْوةٍ أبدًا ، عقيدة المؤمن أنّ الله معه حيث كان ؛ في سفره وفي حضره ، في خَلوته وفي جلوته ، عقيدته أنّ الله لا تخفى عليه خافيَة ، ولا يغيبُ عنه سِرّ ولا عَلَن ، قال تعالى :

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة المجادلة : 7]

 يا أخوة الإيمان ؛ هذه الآية مثلاً يُمكن أن تقرأها ، ويمكن أن تفهمها ، ولكن شتَّان بين أن تقرأها ، وبين أن تفهمها ، وبين أن تعيشها ، وبين أن تكون في مُستواها ، وبين أن تشعر أنّ الله معك حيثما كنت ، وبين أن تشعر أنّ الله سبحانه وتعالى مُطَّلعٌ على قلبك ، يسْمعُ نَجواك ، ويرى سرَّك وجهرك ، هذا الإيمان أيّها الأخوة محصِّلة جهْدٍ كبير ، محصّلة تفكُّرٍ في خلق السموات والأرض ، محصِّلة جهاد النفس والهوى ، محصِّلة طلب العلم ، محصِّلة تلاوة القرآن ، الإكثار من ذِكْر الله عز وجل ، إنّ هذه النشاطات المتنوِّعَة من تِلاوةٍ ، إلى ذِكْرٍ ، إلى مراقبةٍ ، إلى طاعةٍ ، إلى طلب علْمٍ ، إلى جهادٍ ، إلى مراقبةِ نفسٍ ، هذه النشاطات في نهايتها تجعلكَ تعيش هذه الآية لا أن تكتفي بفهمها أو قراءتها . قال تعالى :

﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة يونس : 61]

 قال بعض المشركين : غُضُّوا أصواتكم لئلاّ يسمعنا إله محمد ، فنزل قوله تعالى:

﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[ سورة فصّلت : 23]

علَّة خلق السموات والأرض أن تعلم أنَّ الله يعلم :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من اعتقَد يقينًا أنَّ الله معه ، وأنَّهُ يعلمُ سرَّهُ ونَجْواهُ ، وأنَّه سيُحاسِبُهُ قطْعًا ، لا يمكن ان يعْصِيَ الله تعالى ، لأنّ معصِيَة الله جلّ جلاله أساسها الظنّ أنّ الله لا يعلمُ كثيرًا ممَّا نعمل ‍! وهذا نصُّ آيةٍ كريمة في سورة فصّلت ، قال تعالى :

﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[ سورة فصّلت : 23]

 هذا الظنّ أنّ الله لا يعلمُ كثيرًا ممَّا نعمل ، أما إذا أيْقَنْتَ أنّ الله معك ، وهو يعلم، وأنّه سوف يُحاسِب ، لا يستطع أنْ يَعْصيَهُ إلا أحمقٌ أو مُعطّل العقل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ قال تعالى :

﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾

[ سورة ق : 17-18]

 وفي آية ثانية قال تعالى :

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 49]

 هذا قرآن يُتْلى ، هذا كلامُ ربّ العالمين ، وفي آية أخرى قال تعالى :

﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 47]

 إذا علمْتُم أيها الأخوة أنّ الله يعلم حُلَّتْ كلّ مشكلاتكم ، لأنَّكم إذا علمتم أنّ الله يعلم استقَمتُم على أمره ، وإذا اسْتَقَمْتُم على أمره ما يفعل الله بِعَذابكم إن شكرتم وآمنتم ، هل تُصدِّقون أنّ علَّة خلق السموات والأرض أن تعلم أنَّ الله يعلم ، قال تعالى :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

[ سورة الطلاق : 12]

الاستقامة على أمر الله و محاسبة العبد نفسه سبيل الجنة :

 مرَّةً ثانية : لا يكفينا أن نقرأ هذه الآيات ، وأن نقرأ تفسيرها ، نحن بِحاجةٍ إلى أن نعيشها ، إلى أن نتمثَّلها ، إلى أن تجري في عروقنا كما تجري الكريات الحمراء ، إذا أيْقَنْتَ أنّ الله معك تأتي على الصراط المستقيم ، وأنت وفْق المنهج الصحيح ، فهذه الآيات إذا عِشْناها - وأُلِحُّ على هذا المصطلح- إذا تمثَّلْناها ، إذا أيْقنَّا أنّ الله معنا ، حُلَّتْ مُشكلاتنا لأنّنا سوف نستقيم على أمره ، وإن اسْتَقَمنا على أمره ، يأتي قوله تعالى :

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

[ سورة النساء : 147]

 بهذه العقيدة الصحيحة بأنّ الله معنا ، ويعلم ، وسيُحاسِبُنا ، وفي عقيدتنا بالدار الآخرة ، قلتُ لكم من قبلُ أيّها الأخوة ، قد تجدُ مسلمًا يشهدُ أنَّه لا إله إلا الله ، ويشهدُ أنّ محمَّدًا رسول الله ، ويؤمن بالكتاب والنَّبيِّين ، وبالقضاء والقدر خيْرِهِ وشرِّه من الله تعالى ، ويؤمن باليوم الآخر ، ولا تجدُ في سُلوكه ما يُشْعرُ أنَّه يؤمن بالله واليوم الآخر ، فهذا الإيمان القولي لا ينفعُ لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول : من قال لا إله إلا الله بحقّها دخل الجنّة ، قيل : وما حقّها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ، بهذه العقيدة في الله ، وبالجزاء في الآخرة ، يُصبح المؤمن ويُمسي مُراقبًا لِرَبِّه ، ومُحاسبًا لِنَفسه ، مُتَيقِّظًا لأمره ، متدبِّرًا لِعَاقبَتِهِ ، لا يظلم ، ولا يخون ، ولا يتطاوَلُ ، ولا يستكبرُ ، ولا يجْحَدُ ، ولا يدَّعي ما ليس له ، ولا يفعلُ في يومه ما يخافُ أن يُحاسبُ عليه غدًا ، ولا يعملُ في السرّ عملاً يستحي عنه في العلانيَة :

إذا ما خلوْتَ الدَّهْر يومًا فلا تقل  خلَوْتُ ولكن قلْ عليَّ رقيب
ولا تحسبّن الله يغفل ســـــــــــــاعةً ولا  أنّ ما تُخفيه عنه يغيب
***

 الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى سئِلَ عن قوله تعالى : "رضي الله عنهم ورضُوا عنه " فقال : هذه الآية لِمَن راقَبَ ربَّهُ ، وحاسبَ نفسهُ ، وتزوَّد لِمَعادِهِ .
 ومن أرْوَعِ ما قيل في هذا المقال :" اجْعَل مراقبتَكَ لِمَن لا تغيب عن نظره إليك لحظة ، واجعَل شُكرك لِمَن لا تنقطعُ نِعَمه عنك ، واجْعَل طاعتَكَ لِمَن لا تستغني عنه ، واجْعَل خُضوعكَ لِمَن لا تخرجُ عن مُلكِهِ وسُلطانه ".
 أيها الأخوة الكرام ؛ سُئِل بعضهم ؛ بما ينال العبد الجنّة ؟ قا ل : بِخَمْسٍ ؛ اسْتِقامةٍ ليْسَ فيها روَغان ، واجتِهاد ليس معه سَهْوٌ ، ومراقبةٍ لله في السرّ والعلانيَة ، وانتظار الموت بالتَّأهُّب له ، ومحاسبة النفس قبل أن تُحاسب .

 

العاقل من حاسب نفسه حساباً عسيراً ليكون حسابه يوم القيامة يسيراً :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ما يسمِّيهِ الناس الضمير ، أو الوجدان ، وما سمّاه القرآن فطرةً أو قلبًا ، هذا ينْمو بالإيمان بالله عز وجل ، والإيمان يُرَبِّيه ، ويزيدُه حساسيَّةً ، فإذا كان المؤمن ذا ضميرٍ حيّ ، يقِظ ، يُحاسِبُ نفسهُ قبل أن يُحاسَب ، ويزِنُ أعمالهُ قبل أن توزنَ عليه، فقبل أن يفعل شيئًا ، يقول ماذا أعمل ؟ ولماذا أعمل ؟ ولِمَن أعمل ؟ فإذا فعَلَ شيئًا يقول : ماذا عمِلْتُ ؟ ولماذا عملتُ ؟ وكيف عملْتُ ؟ ولِمَن عملْتُ ؟ هذا الحِوار المسْتمرّ ، وهذه المحاسبة المُسْتمرّة ، الله سبحانه وتعالى أثْنى على صاحبها ، فقال تعالى :

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾

[ سورة القيامة : 1-4]

 أيَحْسبُ الإنسان أن يُتْركَ سُدًى ؛ بلا حِساب ؟! ألم يكن نطفة من منِيّ يُمنى ؟ قال تعالى :

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾

[ سورة القيامة : 36-40]

 قال تعالى :

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون : 115]

 يقول الحسن البصريّ في قول آخر : لا تلْقى المؤمن إلا يُعاتب نفسه ، ماذا أردْت يا نفسُ بهذه الكلمة ؟ ماذا أردْت بهذه الأكلة ؟ ماذا أدرْت بهذه الشرْبة ؟ لكنّ الفاجر يَمْضي قُدُمًا ، لا يلوي على شيء ، ولا يُعاتب نفسهُ ، الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يُخاطبُ نفسهُ ويقول : لو أنّ طبيبًا حاذقًا تثقين به حذَّرك من أكْلة تحبِّينها أشدّ الحبّ ، ماذا تفْعلين ؟ لا شكَّ أنَّك ترْتدِعين عن هذه الأكلة ، مع أنّك تُحبِّينها ، أيَكُون الطبيبُ عندك أصْدَقَ من الله تعالى؟!!! إذًا ما أكْفَرَكِ ! أيَكُون وعيد الله عز وجل أهْوَنُ عندك من وَعِيد الطبيب ؟!! إذًا ما أجْهلَكِ ، فكُلّ من يعصي ربّه مَدْموغٌ إما بالجهل وإما بالكُفْر ، طبعًا الكُفْر بِمَعناه الواسع الذي ذكرهُ النبي عليه الصلاة والسلام ، كلّ هذه المصطلحات القرآنية كالشِّرْك والكُفر ، تضيقُ وتتَّسِع، قال تعالى :

﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة يوسف : 106]

 بِمَعناه الواسع ، هذا الشِّرْك الخفيّ ؛ أنْ تَثِقَ بِمَخلوق ، أن تضعَ كلّ أمَلِكَ فيه ، هذا كلُّه شِرْكٌ خفيّ ، لا ينْجو منه كثير من المؤمنين ، لكنّ الشِّرْك الجليّ فأن تعبُد إلهًا غير الله، وكذلك الكُفْر ، هناك كُفْرٌ يخرِجُ من الملّة ، وهناك كلام بهذا الأمر ، أو بهذا النهي .
 أيها الأخوة الكرام ؛ من شأن المؤمن إذا فاجأهُ شيءٌ يُعجبُه أن يقول لهذا الشيء : إنَّك لتُعْجبني وأنا في حاجةٍ إليك ، ولكن هيهات هيهات ، حيلَ ما بيني وبينك ، لأنّ الله لا يريد ذلك ، بعضهم قال : مثَّلْتُ لِنَفسي الجنّة ، آكُل من ثِمارها ، وأشربُ من أنهارها ، وأسْعدُ بِحُورها، ومثّلْتُ لنفسيَ النار ؛ آكلُ من زقُّومها ، وأشربُ من صَديدها ، وأُعالجُ سلاسلها ، ثمّ قلتُ : يا نفسُ أيّ شيءٍ تريدين ؟ قالتْ : أريدُ أن أردَّ إلى الدنيا فأعملُ صالحًا ؟ فقال : فأنت في الدنيا فاعْمَلي ! وكان الأحنفُ بن قيسٍ يضعُ أصبعه على النار ، ويُخاطبُ نفسهُ ويقول : يا نفسُ ما حمَلَكِ على ما صَنَعْتِ ؟ لِيَذوقَ ولو بِشَكلٍ جزئي لذْع النار ، وكان بعض الصالحين قد اشترى قبرًا يضْطجعُ فيه كلّ خميس ، ويتلو قوله تعالى :

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون : 99-100]

 فيُخاطبُ نفسهُ قائلاً : قومي لقد أرجعناكِ .

 

نماذج للقلب اليقظ الحي و الفطرة العالية :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الآن نماذج لهذا القلب الحيّ اليقظ ، أو لهذه الفطرة العالِيَة التي لمْ تنْطمِس ، ولذلك الضمير ، أو لهذا الوجدان ، أحد أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، قال : بعثني النبي جابيًا للزكاة فمَرَرْتُ بِرَجلٍ ، فلمَّا جمع لي ماله من الأنعام لمْ أجِدْ عليه فيه ؛ أي ما يجبُ فيه من زكاةٍ إلا ابنةُ مخاض من الإبل ، أي حديثة الوِلادة ، فقلْتُ له : أدِّ ابنة المخاض إليك ؟ فقال : ذلك لا لبَنَ فيه ، ولا ظَهْر ، ولكن هذه ناقةٌ فتِيّة عظيمةٌ سمينة فَخُذْها ، فقلتُ له : ما أنا بآخذٍ ما لم أُؤمَر به ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم منك قريب، فإن أحْببْتَ أن تأتِيَهُ فَتَعْرِض عليه ما تعرِض ، فلعلّي أقبلها منك إذا أجاز لي النبي عليه الصلاة والسلام ، قال : فخرج معي بالناقة التي عرضَها عليّ حتى قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فحدَّثتُ النبي بما جرى بيني وبينه من حِوار ، وقال هذا الرجل : يا رسول الله ، ها هي ذِي خُذْها ، فقال عليه الصلاة والسلام : ابنة المخاض هي التي عليك ، فإن تطوَّعْت بخَيرٍ من ذلك أجرَكَ الله فيه ، وقبِلْناهُ منك ، فأمَرَ النبي عليه الصلاة والسلام بأخْذِها ، ودعا له بالبرَكة ، هل في القوانين الوَضْعِيَة مَن إذا فُرِضَ عليه مَبْلَغٌ من المال كضريبة يُؤدّي أكثر منه أم يؤدِّي أقلّ أم يتهرَّبُ من دفعها ؟
 امرأةٌ كلُّكم يعلم هذه القصّة زلّت قدمها في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فجاءتْ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالت : طهِّرني ، فقد روى الإمام أحمد عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :

(( كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْجِعِي فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ أَيْضًا فَاعْتَرَفَتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعِي : فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ أَيْضًا فَاعْتَرَفَتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَلَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي فَلَمَّا وَلَدَتْ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ تَحْمِلُهُ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا قَدْ وَلَدْتُ قَالَ : فَاذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ فَلَمَّا فَطَمَتْهُ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا قَدْ فَطَمْتُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبِيِّ فَدَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا حُفْرَةٌ فَجُعِلَتْ فِيهَا إِلَى صَدْرِهَا ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا ، فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْنَةِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ : مَهْلًا يَا خَالِدُ بْنَ الْوَلِيدِ لَا تَسُبَّهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ فَأَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ ))

[أحمد عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ]

 هل في القوانين الوضعيّة أن يأتي إنسانٌ اقْترفَ ما هو مَحظور ، فيضَعُ نفسهُ تحت يد العدالة باختياره ؟ هذه من آثار الضمير ، هذه المرأة التي نهَتْ أمّها أن تمزق الحليب بالماء ، وقد نهى عمر عن ذلك ، فقالت لها : يا بنيَّتي إنّ عمر لا يرانا ، فكان جواب الابنة : إنّ ربَّ عمر يرانا !! وتلك المرأة التي أُصيبَت بالجذام ، فمنَعَها سيّدنا عمر أن تخرج من بيتها لكيلا تؤذي المسلمين ، فلمّا قبِضَ عمر رضي الله عنه ، قيل لها : ها قد قُبِضَ عمر فاخرجي إذا شئْت ، فقالت : ما كنتُ لأُطيعهُ حيًّا ، وأعْصِيَه ميِّتًا ، وهذا الجندي الذي جاء بِتَاج كِسْرى ، من المدائن إلى المدينة ، وحافظ عليه ووضعهُ بين يدي أمير المؤمنين ، ولو ذهب إلى أنطاكيا لعاش غنيًّا غنًى فاحشًا طوال حياته ، فلمّا قلَّبهُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إنّ هذا الذي أدَّى هذا لأمينٌ ، فقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : يا أمير المؤمنين ، لقد عففْتَ فعفُّوا ، ولو رتعْتَ لرتَعوا !
 أيها الأخوة الأكارم ؛ لا أحبّ أن أطيل عليكم ، بل لأبيِّنَ لكم أنّ الإنسان إذا عرف الله عز وجل ، وأقبل عليه اسْتيقظ ضميرهُ ، فَعِشْنا حياة لا توصَفُ مِن شِدَّة الورع ، والبذْل، والتَّضْحِيَة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

المؤمن الصادق إنسان عرف ربه و استقام على أمره :

 أيها الأخوة الكرام ؛ وفي مجتمعنا اليوم نماذج من الضَّمير اليقِظ ، جاءتني ورقةٌ قبل أشهر ، يقول صاحبها دون أن نعْلِنَ عن اسمه ، أنّ بينه وبين أحد من الرِّجال تِجارة عريضة ، ومبلغاً كبيراً جدًّا مَوضوعاً في يدِهِ ، دون أن يكون معه وثيقةٌ تثْبتُه ، ودون أن يعلمَ أهلهُ بذلك ، فلمَّا توفّي هذا الرجل ذهب لأهله ، وقدَّمه إليهم بالتَّمام والكمال ، وليس مُدانًا على وجه الأرض ، والمبلغ كبير .
 أيها الأخوة الكرام ؛ المؤمن الصادق لا يمكن إلا أن يكون في هذا المستوى ، الإيمان مرتبَةٌ أخلاقيّة ، ومرتبةٌ عِلْميّة ، ومرتبةٌ جماليّة ، لا يخْلو مجتمعنا من أُناس مؤمنين صادقين ، ينفقون أموالهم بالليل والنهار ، يُؤْتَمَنون على أضخم الأشياء وعلى أدقّها ، لا يخافون في الله لوْمةَ لائمٍ ، هؤلاء المؤمنون الصادقون تجدونهم في كلّ عصْر ، فهنيئًا لِمَن عرف الله عز وجل ، وعرف أنّه معه ، وعرف أنَّه يراقبُه ، واستقام على أمره ، وأخْلص له ، وعندئذٍ يجدُ من معاملة الله له العجب العُجاب ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْمَلُوا وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ ))

[ابن ماجه وأحمد والدارمي عَنْ ثَوْبَانَ]

 وقد وجَّه الإمام المناوي هذا الحديث تَوْجيهاً فقال : استقيموا ولن تُحصوا أيْ لنْ تُحصوا الخَيرات ، أنت إذا أدَّيْتَ واجبك ، واصْطَلَحْت مع ربِّك ، وأقَمْتَ دينَهُ في بيتك ، وفي عملك ، وكنت منضبطًا بِقَواعد الشرع ، وكنت في أعلى درجات الورع ، عندئذٍ ترى من إكرام الله لك ، ومن توفيقه لك ، ومن ذلك التجليّ إن صحّ التعبير ، أو تلك السكينة ، تنزلُ على قلبك فَتَشْعُر أنَّك أسْعَدُ الناس .

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور