وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0647 - ليلة القدر - معرفة الله وتقديره حق قدره - زكاة الفطر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
  الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر.
 اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

من قدر الله حق قدره وصل إلى بعض معاني ليلة القدر :

 أيها الأخوة المؤمنون: نحن في العشر الأواخر من رمضان، وفي هذا العشر نلتمس ليلة القدر، وبعيداً عن آراء المفسرين في تفسير سورة القدر، وعما يكون فيها، فإن هذه الليلة المباركة أساسها قول الله تعالى:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة الزمر: 67]

 فإذا قدرت الله حق قدره، وعرفت عظمته وجلاله، فقد وصلت إلى بعض معاني ليلة القدر، وفي آية أخرى:

﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾

[سورة المائدة: 83]

 وهذه الآية تشير بشكل أو بآخر إلى بعض معاني ليلة القدر، فإذا كان حال المؤمن في معرفة ربه، والخشوع له، والتقرب إليه فقد أدرك بعضاً من معاني ليلة القدر.

 

من معاني ليلة القدر :

1 ـ الخوف من الله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام: الشيء الأول: ليلة القدر هي الليلة التي تتعرف فيها إلى الله جل جلاله، فمن حصلت له بعض معاني ليلة القدر فهو يهاب الله عز وجل أشدّ الهيبة، من زادت معرفته ازدادت هيبته، من ازدادت معرفته ازدادت سكينته، من كان لله أعرف كان لله أخوف، لأن الله عز وجل يقول:

﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾

[ سورة فاطر: 28]

 العلماء وحدهم وليس أحد سواهم يخشون الله، هذا المعنى يستفاد من كلمة إنما..

﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾

[ سورة فاطر: 28 ]

 أيها الأخوة الكرام: يقول عليه الصلاة والسلام:

((أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية ))

[ البخاري عن أبي برزة]

 لأنني أعرفكم بالله أنا إذاً أشدكم خشية له، فالخشية، والهيبة، والطاعة، والخوف، هذه كلها مرتبطة بالمعرفة، فمن عرف الله خشيه، من عرف الله أطاعه، من عرف الله أحبه، من عرف الله تقرب إليه، من عرف الله هابه، وهاب أمره، وما حال بعض المسلمين اليوم إلا أن أمر الله هان عندهم فهانوا على الله، ولو عظموا أمر الله لكانوا في حال غير هذا الحال.

 

2 ـ تضيق الدنيا على الإنسان بسعتها و يتسع كل ضيق :

 أيها الأخوة الكرام: من أدرك بعض المعاني من ليلة القدر ضاقت عليه الدنيا بسعتها واتسع عليه كل ضيق، وليس بين هذين القولين تناقض؛ أي مكان يبعدك عن الله عز وجل مهما يكن جميلاً، مهما يكن واسعاً تضيق به، وأي ضيق أو حدة أو ابتلاء يقربك إلى الله تعالى فهو رحب واسع، فمن أدرك بعض معاني ليلة القدر ضاقت عليه الدنيا بسعتها، واتسع عليه كل ضيق.

3 ـ يصفو للإنسان العيش و تطيب له الحياة :

 ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله عز وجل، يقول بعض العلماء الأجلاء: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
 أيها الأخوة الكرام: مرة ثانية؛ من أدرك طرفاً من معاني ليلة القدر صفا له العيش لقربه من الله، وطابت له الحياة لشعوره أنه في ظل الله، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله، وما من شدة على النفس أشدّ من أن تخاف مخلوقاً، وما من طمأنينة تسعد بها النفس كأن تشعر أن الله معك، فإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟

4 ـ تقر عين المسلم بالله و بالموت :

 أيها الأخوة الكرام: من أدرك طرفاً من معاني ليلة القدر قرت عينه بالله، إذا كانت أعين أهل الدنيا تقر بدنياهم، فإن عين المؤمن الذي أدرك بعضاً من معاني ليلة القدر تقر بالله، قرت عينه بالله، وقرت عينه بالموت، هذا الموت الذي تنخلع له القلوب هو غايته، أنا لا أخاف الموت بل هو غايتي هكذا قال بعض العلماء، الموت تحفته لأنه ساعة اللقاء مع الحبيـب، واكربتاه يا أبت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ، من أدرك طرفاً من معاني ليلة القدر قرت عينه بالله، وقرت عينه بالموت، وقرت به كل عين، أصبح مصدر إشعاع، مصدر معرفة، مصدر تطمين، قرت عينه وقرت به كل عين، ومن لم يدرك معاني ليلة القدر تقطع قلبه على الدنيا حسرات.

5 ـ رغبة الإنسان بالله عز وجل فقط :

 من أدرك بعض معاني ليلة القدر لم يبق له رغبة فيما سوى الله قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون :1-3]

 فمن عرف الله زهد فيما سواه.

 

6 ـ يحب الله على قدر معرفته به ويخافه و يتوكل عليه :

 ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر أحب الله على قدر معرفته به وخافه، ورجاه، وتوكل عليه، وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجلّه، وعظّمه، كل هذا على قدر معرفته به، أصل الدين معرفة الله، قال تعالى:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة الزمر: 67]

 

7 ـ لا يخاصم و لا يعاتب :

 أيها الأخوة الكرام: من أدرك طرفاً من معاني ليلة القدر لا يطالب لأنه غني بالله، ولا يخاصم، ولا يُعاتب، ولا يرى له على أحد فضلاً، لأن فضل الله يشمل الجميع، ولا يرى له على أحد حقاً.

8 ـ لا يأسف على ما فات ولا يفرح بما هو آت :

 أيها الأخوة الكرام: من أدرك بعض معاني ليلة القدر لا يأسف على ما فات، ولا يفرح بما هو آت، لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال، لأنها في الحقيقة كالظلال والخيال.
 أيها الأخوة الكرام: لن تدرك بعض معاني ليلة القدر إلا إذا كنت كالأرض يطأها البر والفاجر، وكالسحاب يظلل كل شيء، وكالمطر يسقي من يحب ومن لا يحب.

9 ـ يخرج من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين :

 ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر يخرج من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين، بكاء على نفسه، وثناء على ربه، لأنه يعرف نفسه حق المعرفة، يعرف عيوبها وآفاتها، ويعرف ربه حق المعرفة، ويعرف كماله وجلاله.

10 ـ عدم انشغال الإنسان عن الله طرفة عين :

 ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر لو أُعطي ملك سليمان لم يشْغَله عن الله طرفة عين، لكنه من اشتغل بغير الله من أجل الله فهذا لم يشتغل عنه، بل أدى هذا الشغل إليه.

11 ـ يستأنس بربه ويستوحش ممن يقطعه عنه :

 أيها الأخوة الكرام: ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر يستأنس بربه، ويستوحش ممن يقطعه عنه ولو كان من الكبراء، يستأنس بربه ويستوحش ممن يقطعه عنه ولو كان من الأقوياء، يستأنس بربه، ويستوحش مما سواه، ومن أنس بالله أوحشه الله من الخلق، ومن افتقر إلى الله أغناه الله عن الخلق، ومن ذلّ لله أعزه الله في الخلق، ومن تواضع لله رفعه الله بين الخلق، ومن استغنى بالله أحوج الخلق إليه. هذه بعض النتائج والثمرات لليلة القدر، هي خير من ألف شهر، خير من ألف شهر أي من ثمانين عاماً تعبد الله عبادة جوفاء لا معنى لها، لا ورع فيها، لا معرفة تحوطها.

12 ـ يتلون بتلون أقسام العبودية :

 أيها الأخوة الكرام: ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر يتلون بتلون أقسام العبودية، فبينما تراه مصلياً إذ تراه ذاكراً، وتراه قارئاً، وتراه معلماً، وتراه مجاهداً، وتراه حاجاً، وتراه مساعداً للضعيف، مغيثاً للملهوف، فهو مع المتعلمين متعلم، ومع الغزاة غازٍ، ومع المصلين مصلٍّ، ومع المتصدقين متصدق، فهو ينتقل في منازل العبودية، من عبودية إلى مثلها.

13 ـ كائن مع الخلق بظاهره بائن عنهم بسره وقلبه :

 ومن أدرك طرفاً من معاني ليلة القدر هو كائن بائن، ما معنى كائن بائن ؟ كائن مع الخلق بظاهره، بائن عنهم بسره وقلبه، كائن مع أبناء الآخرة، بائن عن أبناء الدنيا، كائن مع الله بموافقته، بائن عن الناس في مخالفته، هذا بعض معاني ليلة القدر.

14 ـ لا يعتقد في باطنه بشيء يخالف ظاهر الشريعة :

 أيها الأخوة الكرام: ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر لا يعتقد في باطنه بشيء يخالف ظاهر الشريعة، وظاهر القرآن، وظاهر السنة، ليس في الإسلام ازدواجية، ليس في الإسلام ظاهر وباطن، الإسلام هو الإسلام، بعقيدته وبعباداته وبأخلاقه وبتشريعاته.

15 ـ لا تحمله كثرة نعم الله عز وجل على هتك أسرار محارم الله :

 أيها الأخوة الكرام: ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر لا تحمله كثرة نعم الله عز وجل على هتك أسرار محارم الله عز وجل، مهما يكن غنياً لا يحمله الغنى على معصية صغيرة، ومهما يكن قوياً لا تحمله القوة على تجاوز الحدود.

16 ـ ينتقل من الشك إلى اليقين و من الرياء إلى الإخلاص :

 أيها الأخوة الكرام: ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر فإن هذا ينقله من الشك إلى اليقين، من الرياء إلى الإخلاص، من الغفلة إلى الذكر، من الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، من الكبر إلى التواضع، من سوء الطوية إلى النصيحة.
 أيها الأخوة الكرام: من آثار وثمار ليلة القدر التي أرادها الله عز وجل أن تعرفه وطرائق معرفته كثيرة، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، الكون كله يدل على الله بسمواته وأرضه وأفعاله، كله يدل على الله بعدالته وحكمته وكلامه، كله يدل عليه بإعجازه وقوامته .

17 ـ تعظيم الله تعالى :

 أيها الأخوة الكرام: ومن أدرك بعض معاني ليلة القدر أول آثار هذا الإدراك تعظيم الله تعالى، قال تعالى:

﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾

[ سورة الحاقة: 33]

 عرف أن لهذا الكون خالقاً ولكن ما عظمه، ما عظمه تعظيماً يحمله على طاعته، ما عظمه تعظيماً يحمله على اتقاء معصيته، ما عظمه تعظيماً يحمله على بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس في سبيل القرب منه.

 

18 ـ الله سبحانه وتعالى أغلى عليه من كل شيء :

 من أدرك بعض معاني ليلة القدر فإن الله سبحانه وتعالى أغلى عليه من كل شيء، لذلك قالوا: أعرف الناس بالله أشدهم تعظيماً له، أعرف الناس بالله أشدهم إجلالاً له، وقد ذم الله عز وجل من لم يقدره حق قدره، ومن لم يعظمه حق تعظيمه، ومن لم يعرفه حق معرفته، ومن لم يصفه حق وصفه، قال تعالى:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة الزمر: 67]

 وقال تعالى:

﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾

[سورة نوح: 13-14]

 قال ابن عباس: ما لكم لا ترجون لله عظمةً .

 

روح العبادة الإجلال والمحبة :

 أيها الأخوة الكرام: قال بعض العلماء : روح العبادة الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة، العبادة طاعة ولكنها طاعة مع الإجلال، وطاعة مع الحب، فإذا اختفى الحب فسدت العبادة، وإذا نقص الإجلال فسدت العبادة .
 أيها الأخوة: إذا اقترنت العبادة التي فيها إجلال ومحبة مع الثناء على المحبوب فهذه هي حقيقة الحمد، حقيقة الحمد أن تطيعه مجلاً، وأن تطيعه محباً، وأن تثني عليه، إذا فعلت هذه الأشياء الثلاثة فأنت تحمده حق الحمد.
 أيها الأخوة الكرام: لابد من أن نصل إلى شيء عملي، من علامة تعظيم الله عز وجل، من علامة محبته، من علامة حمده تعظيم أمره ونهيه، وكيف يتطرف المتطرفون، بعضهم يأخذ بالرخص الجافية، وبعضهم يأخذ بالتشدد الغالي، فتعظيم أمر الله بين ترخيص جافٍ، وبين تشدد غالٍ، استخدام الرخص بسرعة وببساطة وبلا ورع هذا لا يؤكد تعظيم أمر الله، والتشدد غير المعقول في تنفيذ الأمر والنهي هذا غلو في الدين وأي غلو.
 أيها الأخوة الكرام: الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال، هذه لها فتوة، وهذه تساهل بها العلماء، وهذه قضية خلافية، وهذه قرأت فتوى في مجلة تجيزها، فإذا هو متحلل من كل أمور الدين، هذه الرخص التي تعبر عن جفاء الإنسان لربه، أو الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي، الأول تفريط والثاني إفراط، والعبادة الحق بين الإفراط والتفريط، لذلك ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، والغلو أيها الأخوة نوعان، غلو يخرج صاحبه عن كونه مطيعاً، كمن صلى الظهر خمس ركعات، هذا غلو أفسد العبادة، وغلو يخاف معه من أن ينقطع عن العبادة، كمن قام الليل كله، وكمن أنفق ماله كله، هذا غلو وهذا غلو.
 أيها الأخوة الأكارم: يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الإمام البخاري:

((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 وفي حديث آخر أخرجه الإمام البخاري:

((عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ ))

[ البخاري عن ابن عمر]

 وفي صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام:

((أَلا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ))

[ مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]

 من هم المتنطعون؟ المتشددون في الدين. أحياناً يقول لك أحدهم: في هذه السورة كذا شدة، فإن لم تحقق فصلاتك باطلة..! أرشده إلى إتقان التجويد، أما أن تجعل صلاته باطلة فهذا تشدد ما أراده الله عز وجل.

 

الحق لله وحده أما حقوق العبد على الله فهي حقوق أحقها الله على نفسه :

 أيها الأخوة الكرام: من علائم تعظيم أمر الله عز وجل، ومن علائم الاعتدال بين التشدد الغالي وبين الترخص الجافي، قال العلماء: " ألا تجعل دونه سبباً ".. أي لا يوصل إلى الله إلا الله، ولا يُقرب من الله إلا الله، ولا يدني من الله إلا الله، ولا يهدي إليه إلا الله.
 أيها الأخوة: من جعل من الخلائق أسباباً بيدها أن تقربك أو أن تبعدك فهذا ليس من الدين، وشيء آخر ألا ترى لأحد من الخلق حقاً على الله، بل الحق لله وحده، أما حقوق العبد على الله، من إثابته لمطيعهم، وتوبته على تائبهم، وإجابته لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا على أنها حقوق أحقوها هم عليه. ألا تجعل بينك وبين الله وسيطاً، وألا ترى أن لك على الله حقاً أنت أحققته عليه، إن كنت كذلك فأنت من الذين عرفوا الله حق معرفته وقدروه حق قدره.
 أيها الأخوة الكرام: يوضح هذه الفكرة:

((عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ ))

[البخاري عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ]

 النقطة الدقيقة أن هذا الحق أنشأه الله لهم أنشأه الله على ذاته بحكم تحقيق وعده وإحسانه لا لأن العباد أحقوا هذا الحق على الله عز وجل، هذا الذي أذكره هو الوضع الذي يليق بالعبد على أنه عبد، ويليق بالله عز وجل على أنه رب.
 أيها الأخوة الكرام: كما قلت في بداية هذه الخطبة بعيداً عن آراء المفسرين في تفسير سورة القدر، وبعيداً عما فيها من اختلافات، وعما يكون فيها من شطحات، ومن أشياء قد لا يقبلها العقل، من أدرك بعض معاني ليلة القدر فهذه هي النتائج وهذه هي الثمار، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى تَابَعَهُ ))

[أحمد عن ابن عباس]

 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى خيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

زكاة الفطر :

 أيها الأخوة الكرام: زكاة الفطر واجبة على كل فرد من المسلمين، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، فقد أخرج الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فرض الله زكاة الفطر في رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين"
 حكمتها كما ورد في السنة الصحيحة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمسلمين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
 تجب على المسلم الحر المالك لمقدار صاع من تمر أو زبيب، أو قمح أو شعير، أو أرز أو ذرة، يزيد عن قوت يومه وقوت عياله، ويجب أن يدفع عن نفسه أولاً وعمن تلزمه نفقته من زوجته وأولاده وخدمه من يليهم ويلي الإنفاق عليهم، واتفق العلماء جميعاً على أنه لا يجوز تأخيرها عن يوم العيد، واختلفوا في التعجيل بها بين مجوز ومانع.
 مصارف هذه الزكاة: هذه زكاة الفطر مصارفها كمصارف زكاة النقد، أو الزكاة التي فرضها الله على حولان العام حولاً كاملاً.
 أيها الأخوة الكرام: رمضان كما قال عليه الصلاة والسلام عتق من النار، وحينما صعد النبي المنبر قال: آمين، ثم صعد الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم صعد الثالثة فقال: آمين، قالوا: علام أمنت يا رسول الله؟ قال: أتاني جبريل فقال لي: رغم أنف عبد أدرك رمضان فلم يُغفر له إن لم يُغفر له فمتى؟
هذه فرصة، فرصة أن نصل إلى الله عز وجل، وأن نسعد بقربه في الدنيا والآخرة.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أصلح لنا ديننا الذين هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى .

 

تحميل النص

إخفاء الصور