وضع داكن
28-03-2024
Logo
موضوعات إسلامية - متفرقة : 068 - ليلة القدر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الإخوة الكرام ، دخلنا في العشر الأخير من رمضان ، وأهم ما في هذا العشر ليلة القدر ، وقد ورد في فضلها سورة من سور القرآن الكريم ، في قوله تعالى :
 بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ *تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾

[ سورة القدر]

ماذا في ليلة القدر ؟

 نعيش في هذا الدرس في أجواء هذه السورة ، في هذه السورة إشارة إلى وقتين ، ليلة القدر وألف شهر ، الألف شهر 83 عاماً ، وهذا في أعمار البشر عمر طويل ، لأن معترك المنايا بين الستين والسبعين ، فما يكون في ليلة يفوق في فضله عمراً مديداً ،

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

  فماذا في ليلة القدر ؟
 القرآن الكريم مثاني ، ومن معاني كلمة ( مثاني ) أن كل آية تنثني على أختها فتفسرها ، قال تعالى :

 

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾

[ سورة الزمر الآية : 67]

 إذاً الذي ينبغي أن يكون في ليلة القدر معرفة الله عز وجل ، فإذا عرفته كان خيرًا لك من أن تعبد الله عبادة جوفاء 83 عاماً ،

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

كيف نعرف الله ؟

 الله عز وجل :

 

﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 103]

 ولكن العقول تصل إليه من خَلْقه ، ومن كلامه ، ومن أفعاله ، خلقه آيات كونية ، وكلامه آيات قرآنية ، وأفعاله آيات تكوينية ، لذلك هناك آية أخرى يقول الله عز وجل :

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾

[ سورة الكهف الآية : 46 ]

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ ﴾

  المال من دون بنين حرقة في القلب ، والبنون من دون مال فقر مدقع .

 

﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾

[ سورة الكهف]

 في كلمة ( الباقيات ) عُرف المال والبنون ، إنهن الزائلات ،

﴿ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾

 تبقى ، لكن المال والبنين تفنى ، ما الباقيات الصالحات ؟ بعضهم قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، لا بالمعنى الترتادي كما يفعل بعض المسلمين ، بالمعنى العقلاني ، حينما تسبح الله ، تنزهه ، وتمجده ، وحينما توحده ، وحينما تحمده ، وحينما تكبره ،

معنى سبحان الله

 أما أن تسبحه ، أن تقول : سبحان الله ، فكل شيء خطر في بالك عن الله فالله بخلاف ذلك ، تنزهت ذاته عن كل نقص ، وتنزهت صفاته عن كل نقص ، وتنزهت أفعاله عن كل نقص .
 ثم التمجيد أن تعظم كمالاته ، أن تعرف أسماءه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، هذا معنى التسبيح ، أن تنزهه ، وأن تمجده ، التنزيه سلبي ، أن تنفي عنه عن ذاته ، وعن أفعاله ، وعن صفاته كل ما لا يليق به ، والتمجيد أن تسبح في كمالاته ، و كمالاته من خلال أسمائه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، سبحان الله

معنى الحمد لله

 والحمد لله ، الحمد رأس الشكر ،

القسم الإدراكي

 أن تدرك أولاً أن كل نعمة تنعم بها هي من الله .

 

﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 53]

 نعمة الصحة ، نعمة العينين ، نعمة الأذنين ، نعمة الحواس الخمس ، نعمة العقل ، نعمة الحركة ، نعمة الزوجة ، الأولاد ، نعمة معرفة الله ،

﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾

.
 ثم أول قسم إدراكي أن تدرك أن كل النعم من الله عز وجل ، لكن هذه النعم يمكن أن تلخص في ثلاث : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد .

القسم الانفعالي

 أما الجانب الانفعالي فهو الحمد ، أن يمتلئ قلبك امتناناً من الله ، أن تحبه .
 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ ))

[ رواه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي]

القسم السلوكي

 والجانب السلوكي أن تشكره بخدمة عباده :

﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾

[ سورة سبأ الآية : 13]

 لا يرقى الشكر والحمد إلى أعلى مستوى إلا إذا رافقه عمل ، سبحان الله والحمد لله ،

معنى لا إله إلا الله

 ولا إله إلا الله ، ألا ترى معه أحداً ، ألا ترى يداً تعمل غير يده .

 

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾

[ سورة الزخرف الآية : 84 ]

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾

[ سورة هود الآية : 123]

﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾

[ سورة الأنفال الآية : 17]

﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾

[ سورة الفتح الآية : 10 ]

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف ]

 عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ))

[ رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه ]

 سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ،

معنى الله أكبر

 والله أكبر ، أكبر من كل كبير ، أكبر من طغاة الأرض مجتمعين .

﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾

[ سورة آل عمران ]

 هذه للمؤمنين المستقيمين على أمر الله ، أما المتفلّتين فتنخلع قلوبهم خوفاً من كل من هو أقوى منهم ، إذاً : الله أكبر من كل كبير ، أكبر من كل قوي ، أكبر من كل غني ، لذلك في المعركة نقول : الله أكبر من العدو ، وفي الصلاة نقول : من كل شيء يشغلك عنه ، والله أكبر مما تعرف ، مهما عرفت عن عظمته فهو أكبر ، فإذا سبحته ، وحمدته ، ووحدته وكبرته فقد عرفته ، وإن عرفته عرفت كل شيء ، وإن فاتك فَاتَك كل شيء .
 " ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " .
 إذاً :

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾

  هذه الباقيات الصالحات تسعد بها إلى الأبد ، هي من ضمن ليلة القدر ، أن تسبحه ، وأن تحمده ، وأن توحده ، وأن تكبره ،

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

  القلب الذي يذكر الله ، والقلب الذي لا يذكره كالحي والميت ، وقد قال الله عز وجل :

 

 

 

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾

[ سورة النحل الآية : 21]

﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾

[ سورة فاطر]

ليس من مات فاستراح بميتٍ  إنما الميتُ ميتُ الأحياء
***

 يا بني ، مات خزان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة .

مضمون ليلة القدر

 أيها الإخوة ، أن تقدّر الله حق قدره ، وأن تعبده حق عبادته ، وأن تطيعه حق طاعته ، وأن تشكره حق شكره ، وأن تتوكل عليه حق التوكل ، هو مضمون ليلة القدر ، فإن حصل لك هذا التقدير ، وتلك العبادة ، وهذه الطاعة ، وهذه التوبة فهذا خير لك من عمر بأكمله فيه تفاهة ، وفيه أعمال من سفاسف الأمور ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( إنّ اللهَ يحبّ معاليَ الأمورِ وأشرافَها ، ويكرهُ سفسَافَها ودنِيّها ))

[ رواه الحاكم عن سهل ابن سعد ]

نتيجة التقرب من الله تفهم القرآن

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾

  الله عز وجل حينما تصطلح معه ، وحينما تتوب إليه ، وحينما تقبل عليه ، وحينما تطيعه ، وحينما تتقرب إليه ، يسمح لك أن تفهم القرآن ، والدليل أن الظالمين يصف الله علاقة القرآن بهم بأنه :

 

 

 

﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾

[ سورة فصلت الآية : 44]

﴿ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾

[ سورة الشعراء ]

 لا يفهمون القرآن ، إذاً أنت حينما تصطلح وتنيب ، وتتوب ، وتطيع ، وتتقرب وتلتزم ، وتنضبط ، يسمح الله لك أن تفهم كلامه ، وإلا :

﴿ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾

  وإلا :

﴿ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾

 وإلا :

﴿ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾

.
 أقول لكم هذه الكلمة : إنسان يحمل دكتوراه في الأدب ، ويتقن النحو ، وهو عربي من أم عربية وأب عربي ، بل عربيته قحة ، إن لم يكن مستقيماً على أمر الله يقرأ القرآن فلا يجد فيه شيئاً ، يملّ من قراءته ، وهذا مؤشر خطير جداً ، إذا قرأت القرآن فلم تشعر بشيء ، إن ذكرت الله فلم تشعر بشيء ، إن صليت فلم تشعر بشيء ، معنى ذلك أن هذه علامة خطيرة على موت القلب .
 سيدنا عمر يقول : " تعاهد قلبك " ، احرص على أن تنعقد لك صلة مع الله .

نتيجة التقرب من الله في رمضان المغفرة

 النبي عليه الصلاة والسلام صعد المنبر فقال :

(( آمين ، ثم صعد الدرجة الثانية فقال : آمين ، ثم صعد الدرجة الثالثة فقال : آمين ، فقالوا : يا رسول الله علامَ أمّنت ؟ قال : جاءني جبريل فقال لي : خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له ))

[الأدب المفرد للبخاري عن جابر]

 هذا شهر الصلح مع الله ، إن لم يغفر له فمتى ؟ رمضان شهر العتق من النار ، ولا تنسوا أيها الإخوة أنّ :

((رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ))

[أحمد]

 كأنك برمضان فتحت مع الله صفحة جديدة ، لذلك :
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))

[ متفق عليه ]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))

[ متفق عليه ]

 وكأن الله سبحانه وتعالى يغفر لك في رمضان ما كان منك من رمضان الماضي إلى رمضان الحالي ما اجتنبت الكبائر .

علاقة ليلة القدر بأن تشرق الأنوار في قلبك

 أيها الإخوة ، ليلة القدر حركة ، ليلة القدر جهد ، وكأني أرى أن الإنسان حينما يعقد مع الله صلحاً ، حينما يتوب إلى الله ، حينما يقبل عليه ، تتنامى معرفته ، و تتنامى محبته ، و تتنامى استقامته ، و تتنامى أعماله الطيبة ، فإذا وصل إلى ليلة القدر كان العد التنازلي قد وصل إلى الصفر ، عندئذٍ تشرق أنوار الله في قلبك .

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾

[ سورة الحديد الآية : 28]

 حينما يقذف نور الله في قلب المؤمن يرى الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، ومن الأدعية المأثورة:

(( اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ))

ليلة القدر تنقلك من عابد إلى عالم

 أيها الإخوة الكرام ،

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

  فرق كبير بين العالم والعابد ، العابد مقاومته هشة ، أقل ضغط يخرجه عن استقامته ، أقل إغراء يخرجه عن استقامته ، لكن العالم لا تستطيع سياط الجلادين اللاذعة ، ولا سبائك الذهب اللامعة أن تقوض إيمانه.

 

(( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر سائر الكواكب ))

[ أخرجه أبو نعيم في الحلية عن معاذ ]

(( فَضْلُ الْعَالِمَ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ))

[ رواه الترمذي عن أَبي أُمَامَة الْبَاهِلي ]

 كم هي المسافة بين رسول الله وبين أدنى مؤمن في الأرض ؟ هي نفسها بين العالم والعابد ، العابد مقاومته هشة.
 سيدنا عمر له كلمة ، قال : " إن هذا القرآن أنزل ليعمل به أفاتخذت قراءته عملاً ؟ تقرأه في الليل وتعمل به في النهار " .
 الأمم الأخرى القوية تعمل ، والأمم المتخلفة لا تعمل ، بإحصاء دقيق البلاد النامية معدل وقت عمل أحد أفرادها من 17 دقيقة في اليوم إلى 27 ، بينما في الدول القوية من 6 ساعات إلى 8 ساعات .

 

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾

[ سورة التوبة الآية : 105]

 فالعابد يصلي ، ويتعبد الله ، لكن أدنى ضغط يخرجه من استقامته ، وأدنى إغراء يخرجه من استقامته ، يعبد الله على حرف ، ليلة القدر تنقلك من مرتبة العابد إلى ، الآن العابد لا ينجو ، لأن الفتن خطيرة جداً ، الفتن مستعرة ، الشبهات كثيرة ، لعله ينجو قبل مئة عام ، لعله ينجو يوم كان الناس صلحاء ، لعله ينجو قبل تلك الفتن ، وقبل النساء الكاسيات العاريات ، لعله ينجو قبل الكسب الحرام ، لكنه الآن لا ينجو ، لأن حياتنا في مجملها شهوات مستعرة مع شبهات مضللة ، ولا ينجو من مرتبة العبادة إلا من وصل إلى العلم ، لذلك ليلة القدر تنقلك من أن تكون عابداً إلى أن تكون عالماً .
 أيها الإخوة ، جاء رجل النبي عليه الصلاة والسلام له شريك ، شريكه طالب علم ، لعل الشريك الأول الذي لم يطلب العلم شكا رسول الله شريكه طالب العلم ، أنه يبذل جهداً أقل مني ، لقد ظلمني ، الشيء العجيب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له : لعلك ترزق به ، لماذا خاطب العابد ، وقال : أخوك أعبد منك ؟ لأن العابد يعبد الله لذاته ، لمتعته ، لصفاء قلبه لراحته ، لكن طالب العلم يتعلم للأمة ، فقال للشريك الذي يتوهم أنه مظلوم : لعلك ترزق به .
 إذاً يمكن أن تكون ليلة القدر نقلة نوعية من العبادة إلى العلم .

متى يمكن أن نعتبر ليلة القدر

 بالمناسبة كل دقيقة في ليلة قدر ، لأن الليل والنهار مستمر ، في كل دقيقة فجر ، في كل دقيقة ظهر ، في كل دقيقة عصر ، بل في كل ثانية ، الأرض تدور حول الشمس ، وليلة القدر بالتقويم الهجري ، والتقويم الهجري يدور مع التقويم الميلادي ، وفي كل يوم ليلة قدر ، كيف أن رمضان يمشي من أشهر الصيف إلى أشهر الشتاء ، إذاً ليلة القدر مستمرة على مدى العام ، ومستمرة على ثواني اليوم ، ليلة القدر تقدير لنا ،

ما تفعله بليلة القدر

 فتعرف إلى الله ، كن عالماً ، ولا تكن عابداً ، اعرف الله معرفة يقينية ، ولا تكتفِ بطاعته طاعة شكلية ، المشكلة أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( لَنْ ـ لن حرف ينفي المستقبل لتأبيد النفي ـ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ ))

[أبو داود عن ابن عباس]

 أحياناً يحضر في خطبة هذا المسجد خمسون ألفًا ،

(( لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ ))

  فكيف مليار وأربعمئة مليون غلبوا ، وليست كلمتهم هي العليا ، وليس أمرهم بيدهم ، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل ، لأنهم ما عرفوا الله .

 

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[ سورة الزمر الآية : 67]

 اجعل كل ثانية ليلة القدر ، واجعل كل يوم ليلة قدر ، تفكر في خلق السماوات والأرض ، كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى غار حراء ، ويتعبد الله هناك ، ويتفكر في خلق السماوات والأرض ، وكان يقول عقب هذه الآيات :

 

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[ سورة آل عمران ]

 كان عليه الصلاة والسلام يقول : ويل لمن لم يتفكر في هذه الآيات .
 أردت في هذا الدرس أيها الإخوة أن نضع أيدينا جميعاً على حقيقة ليلة القدر ، ليلة القدر ليلة معرفة الله ليلة أن تنتقل من مرتبة العبادة إلى مرتبة العلم ، ليلة أن تقدره حق قدره ، ليلة القدر هي ليلة خير لك من ألف شهر ، هذه حقيقة ليلة القدر .
 أما الاعتكاف فيمكن أن تنقطع في العشر الأخير لله عز وجل ، وإن كان صعباً عليك يمكن أن تجعل هذا الانقطاع يومياً ، فأنت حينما تصلي الفجر في جماعة ، وتقرأ القرآن ، وتتفكر في خلق السماوات والأرض ، وتذكره ، هذه الجلسة الصباحية تعدل عند الله حجةً تامة تامةً تامة ، يعني أن تتحرك لمعرفة الله ، ألاّ تكتفي بعقيدة لم تمحص بها ورثتها من أمك وأبيك ، ومن بعض معلميك ، ومن خطباء المساجد ، وأنت لم تبحث ، ولم تتحرك ليلة القدر ليلة هي خير من ألف شهر .

الإنسان الذي أدرك ليلة القدر

 أيها الإخوة ، من ثمرات ليلة القدر أنك إنسان ترى ما لا يراه الآخرون ، وتشعر بما لا يشعرون ، تحكمك القيم ، وتحتكم إليها ، من دون أن تسخرها أو تسخر منها ، الإنسان الذي أدرك ليلة القدر ، وعرف الله حق القدر هو إنسان متميز ، يتمتع بصفات ثلاث ،

 يتمتع بالخلق ، فلا يمكن أن يكون المؤمن خواناً ، ولا أثيماً ، ولا كذاباً ، ولا محتالاً ،

 مرتبة الإيمان مرتبة خلقية ، ومرتبة الإيمان مرتبة جمالية ، إن لم تقل وأنا أعني ما أقول ، ولا أبالغ ، إن لم تقل : ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني فلم تصل بعد إلى معاني ليلة القدر ، كيف يحزن قلب الإنسان وقد عرف الله ، عرف القوي ، هو أقوى الأقوياء .

إن أدركت ليلة القدر

 إن أدركت ليلة القدر فلا تخافنّ إلا ذنبك ، ولا ترجون إلا ربك ، إن أدركت ليلة القدر تشعر أنك لله وبالله ، قائم به ، وعملك له ، إن أدركت ليلة القدر فلسان حالك يقول : إلهي أنت مقصودي ، ورضاك مطلوبي ، إن أدركت ليلة القدر تبلغ رسالات الله ، وتخشَ الله ، ولا تخشى أحداً إلا الله ، إن أدركت ليلة القدر :

 

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

[ سورة الأنعام ]

 إن أدركت ليلة القدر :

 

﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾

[ سورة النجم ]

 وفّى ما عليه ، إن أدركت ليلة القدر :

 

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[ سورة طه]

 إن أدركت ليلة القدر يصبح أكبر همك الآخرة ، وإن لم تدرك ليلة القدر تصبح وأكبر همك الدنيا .
 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ ))

[أخرجه الترمذي]

 إن أدركت ليلة القدر تعتصم بالله من دون خلقه .
 إن أدركت ليلة القدر تؤثر الآخرة على الدنيا فتربحهما معاً ، وإن لم تدرك ليلة القدر تؤثر الدنيا على الآخرة فتخسرهما معاً ، إن أدركت ليلة القدر لسان حالك يقول : يا رب ، ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟
 إن أدركت ليلة القدر لسان حالك يقول : إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ إذا أدركت ليلة القدر يمتلئ قلبك حيوية .

أطع أمرنا نـرفع لأجلك حجبنا  فإنا منحنا بالرضا من أحبنــا
ولذ بحمانا و احتمِ بجنابنـــا  لنحميك مما في أشرار خلقنــا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغـل  وأخلص لنا تلق المسرة و الهنـا
وسلم إلينا الأمر في كل ما يكن  ما القرب و الإبعاد إلا بأمرنــا
فلو شاهدت عيناك من حسننـا  الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنـا
و لو سمعت أذنك حسن خطابنا  خلعت عنك ثياب العجب وجئـتنا
ولو ذقت من طعم المحـبة ذرة  عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبـنا
و لو نسمت من قربنا لك نسمة  لمتّ غريباً و اشتياقاً لقربنـــا
***

كيف نخرج مما نحن فيه؟

 إخوتنا الكرام ، إله الصحابة إلهنا ، ورب محمد ربنا ، وقوانينه بين أيدينا ، والطرق إليه سالكة ، والله يُسترضَى :

(( إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء ))

[ أخرجه الترمذي ]

 والصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد المسكين .

(( باكروا بالصَّدقة ، فإن البلاء لا يتخطاها ))

[ رواه أبو الشيخ وابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس رضي الله عنهم ]

 سيدنا يونس وجد نفسه فجأة في ظلمات ثلاث ، في ظلمة الليل ، وفي ظلمة البحر وفي ظلمة بطن الحوت :

 

﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة الأنبياء ]

 والقصة انتهت ، وقلبها الله إلى قانون لتشمل كل مؤمن من آدم إلى يوم القيامة .

 

﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة الأنبياء]

 في ظل الخوف ، والتهديد ، والقهر ، وفي ظل الطغاة في العالم ، وفي ظل شبح المقاطعة ، ليس لنا إلا الله ،

﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

  والله عز وجل يستجيب للمضطر برحمته ، ويستجيب للمظلوم بعدله ، والدعاء سلاح المؤمن

(( إن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع ))

[ رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه عن أنس ]

 إن الله يحب من عبده أن يسأله ملح طعامه ، وإن الله يحب من عبده أن يسأله حاجته كلها ، اصطلحوا مع الله ، وتوبوا إليه ، وعاهدوه على الطاعة ، وادعوه ليلاً نهاراً ليكشف عن الأمة الغمام ، الغمامة التي حلت بنا .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور