وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0891 - الصفات السلبية في المسلم - الهيكل العظمي في الإنسان .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

السلبية أكبر صفة يتصف بها المسلمون اليوم :

 أيها الأخوة الكرام، كلما التقى المسلمون فيما بينهم، وتداولوا في شأن حال المسلمين وما هم عليه من تخلف، وكيف أن أعداءهم تطاولوا عليهم، ونهبوا ثروتهم، واحتلوا أرضهم، و فعلوا بهم الأفاعيل، يقفز سؤال لا جواب له، لماذا نحن كذلك؟ أو أين الخلل؟
 أيها الأخوة الكرام، يبدو أن تحليل الواقع قد ينطوي على بذور العلاج، فأكبر صفة يتصف بها المسلمون وأقول عامة المسلمين لأكون موضوعياً هي السلبية، والهمة الدنية، همته متدنية وسلبي في كل شيء، هذا الداء الخطير أيها الأخوة أصاب الكثير من المسلمين، ولاسيما الشباب والشابات، السلبية والهمة المتدنية.
 أيها الأخوة الكرام: أين تجدون الشباب؟ في أماكن اللهو، في الاستراحات، في الملاعب، وراء الشاشات، كذلك الفتيات في الأماكن، في الأسواق، أهذا هو الإنسان المسلم؟ أهذا هو الشاب المسلم الذي تنعقد عليه الآمال؟
 أيها الأخوة الكرام، المشكلة أننا إن لم نتحرك فالوقت قصير، والأمر خطير، والمسؤولية كبيرة، لو أن الإنسان لا يستطيع أن يغير لما كان هناك من فائدة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولكن لأن هذا الإنسان خلقه الله بفطرة عالية، وبخصائص غالية، هذه الخصائص تمكنه من أن يغير.

الموت نهاية الجميع :

 مرةً أيها الأخوة قبل أعوام مديدة سقت خطبة تحت عنوان ((ثم ماذا؟))

 الإنسان إذا بلغ أقصى غاياته المادية ثم ماذا؟ ينتظره الموت، الإنسان إذا جمع أكبر ثروة مالية، ثم ماذا؟ ينتظره الموت، الإنسان إذا بلغ أعلى مقام في الدنيا، ثم ماذا؟ ينتظره الموت، هذا الموت الذي تحدثت عنه في الخطبة السابقة لا يدخل في حسابات المسلمين، وكأن الناس مخلدون، لكن الموت غاية كل حي أيها الأخوة، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يشكك في واقعية الموت، ولكن الناس يتفاوتون في مدى استعدادهم لهذا الحدث الخطير الذي هو أخطر حدث ينتظر الإنسان، ألم يقل سيد الكائنات وحبيب رب العالمين:

(( بادِرُوا بالأعمال سبعاً: هل تُنْتظَرون ... ))

[ أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]

 فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ ثم ماذا؟ بلغت قمة المجد، بلغت قمة الثروة، غصت في كل ألوان الملذات والمتع، ثم ماذا؟ ما بعد هذا كله إلا الموت، الموت نهاية الجميع، ولكن أيها الأخوة شتان بين من مات في أمر حقير وبين من مات في أمر خطير، شتان بين من يموت وهو على طاعة الله، وبين من يموت وهو على معصية الله، شتان بين من يموت وهو يحمل همّ الإسلام ويحترق قلبه لصلاح المسلمين وبين من يموت وهو يحمل همّ شهواته وملذاته وحظوظه.

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾

[ سورة الحديد: 16 ]

إلى متى وأنت باللذات مشغول  وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
***
تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في المقال شنيــع
لو كان حبك صادقاً لأطـعته  إن المحب لمن يحـب يطيــع
***

تفاصيل السلبية والهمة الدنية :

 أيها الأخوة الكرام، لعل من تفاصيل السلبية والهمة الدنية أن صفة الخمول والكسل تغلب على المسلمين، لا يكلف المسلم نفسه القيام بشيء، ولا بمصالحه الشخصية، ولا في ضروريات حياته، ولا في مستقبل أبنائه، الخمول والكسل، إذا كان في أساسياته كسول فكيف في مثالياته؟ فكيف في طاعة ربه؟ فكيف في نوافل عباداته؟ فكيف في تلاوة القرآن؟
أيها الأخوة الكرام: يقول عليه الصلاة والسلام من أدعيته الجامعة المانعة:

(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ... ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

 أي أنا أعجز عن أن أطلب رضاك، أن أميل إلى أن أعيش حياتي البهيمية من العجز والكسل يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ... وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 استعن بالله ولا تعجز، كلنا ضعاف، ولكن الذي يطلب من الله بصدق يعطيه قوة لم تكن في حسبانه، كلنا ضعاف، كلنا مفتقرون لله عز وجل، كلنا لا نملك شيئاً، لكننا نملك أن نطلب، نملك أن نطلب بصدق، نطلب أن ننصر، فإذا عجزنا عن أن نطلب فهذا أشد أنواع العجز، تعجز عن أن تطلب.

﴿ كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾

[ سورة الإسراء:20 ]

 فما أعجز عن أن أطلب وأتكاسل في وسائل هذا الطلب، أعجز عن أن أطلب من الذي خلقني، ومنحني نعمة الحياة، ومنحني نعمة الإمداد، ومنحني نعمة الهدى والرشاد، أعجز أن أطلب شيئاً فيه صلاح لديني ودنياي وعاقبة أمري. ثم إنني أتكاسل عن أن أدفع الثمن، لذلك كان دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:

(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ... ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

 العجز والكسل إلى ماذا تؤدي هذه الصفات؟ قال: تؤدي إلى الجبن والبخل، يجبن عن مواجهة العدو، وهاتان الصفتان دميمتان لا يمكن أن يتصف بهما المؤمن، الجبن والبخل ماذا بعد هذه وتلك؟ العلاج الإلهي.

(( ....وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ ... ))

[ أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

معية الله لها ثمن :

 بادئ ذي بدء: تعجز عن أن تطلب من الله ما فيه صلاح دينك ودنياك، ثم تتكاسل عن أن تدفع هذا الطلب ثم ينتج عن هذا شيء قبيح بالإنسان الجبن والبخل، ثم تأتي المعالجة الإلهية.

(( ....وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ ... ))

[ أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

 أيها الأخوة الكرام، الصفة الأولى هو أن نعجز عن أن نسأل الله شيئاً، وأن نتكاسل أن ندفع هذا الثمن.

﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾

[ سورة المائدة: 12]

 معية الله لها ثمن، فالإنسان المسلم يعجز عن أن يطلب ويتكاسل عن أن يدفع الثمن، إذاً هو جبان، هو بخيل، المعالجة الإلهية:

(( ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ ... ))

[ أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

علو الهمة من الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام، من خصائص الدراسة أن الذي يجعل هدفه أن ينجح لا ينجح، لكن الذي يجعل هدفه التفوق قد ينجح، فهناك مرض خطير هو أن ترضى بمرتبة متدنية مع أنك تستطيع أن تكون في مرتبة علية، قال بعض العلماء: من علامة كمال العقل علو الهمة، أما الرضا بالدون فهو الدناءة في النفس، علو الهمة من الإيمان، كيف ربانا الله عز وجل؟ قال يقول المؤمنون المتقون:

﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾

[سورة الفرقان: 74 ]

 لمَ لم يقل واجعلنا من المتقين قال:

﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾

 ؟ من هنا كانت الحقيقة أن علو الهمة من الإيمان، اطلب الدرجات العلا، يقول عليه الصلاة والسلام تأكيداً لهذه الحقيقة:

(( إذا سألتم الله الجنة فسألوه الفردوس الأعلى ))

[السنة لابن أبي عاصم عن أبي هريرة ]

 ينبغي أن تطلب الكمال في كل شيء.
 أيها الأخوة الكرام، لا ينبغي أن ترضى بالدون، أناس كثيرون يقولون لك: نحن نريد أن نكون وراء باب الجنة، لا نريد مراتبها العلية، فهذا الذي يرضى بالدون قد لا يتاح له.
 شيء آخر أيها الأخوة أن كل واحد من المسلمين له عادات ألفها، لا يغير ولا يتغير.

الإنسان يستجيب للحق أو لنداء الشهوة :

 أيها الأخوة الكرام، ثمة خصيصة ثالثة يتصف بها هؤلاء الذين لا يستجيبون لله عز وجل، هم يستجيبون لنفوسهم الأمارة بالسوء.

﴿َ فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾

[سورة القصص:50]

 إما أن تستجيب للحق وإما أن تستجيب لنداء الشهوة.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكم ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 أما الذي لا يستجيب إلا لمصالحه، لا يستجيب إلا لشهواته، فهذا على خط آخر مناقض لخط الإيمان، اعلم علم اليقين إن لم تطلب الحق فأنت مع الباطل، إن لم تطلب الآخرة فأنت مع الدنيا، إن لم تستجب لله تستجب للشيطان، النفس فيها فاعلية، نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر.

الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر :

 أيها الأخوة الكرام، يقول عليه الصلاة والسلام:
 

((إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ))

[أحمد بسند صحيح عن عائشة ]

 كنت أقول دائماً أيها الأخوة أن عامة المسلمين لا يقتلون، ولا يشربون الخمر، ولا يزنون، ولا يسرقون، هذه الكبائر، لكن آلاف المخالفات، في العلاقات الاجتماعية، في كسب المال، في البيع، في الشراء، في الاتصالات، آلاف المخالفات، هذه الذنوب التي تبدو لمرتكبها صغيرة إذا أصرّ عليها انقلبت إلى كبيرة، إذاً هي تقطع عن الله عز وجل.
 وقال عليه الصلاة والسلام:

(( إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تخافون من أعمالكم ))

[الطبراني عن معاذ ]

 فلا تظنن أن هذه المخالفة الصغيرة لا تقدم ولا تؤخر، إنها تقدم وتؤخر إذا أصررت عليها، أما إذا تبت منها فلا تقدم ولا تؤخر.

 

امتلاء الحياة المعاصرة بالنشاطات الدنيوية :

 أيها الأخوة الكرام، تكاد الحياة المعاصرة أن تكون ممتلئة بالنشاطات ولكنها نشاطات دنيوية، فمن لقاء إلى لقاء، ومن سهرة إلى سهرة، ومن سفرة إلى سفرة، ومن مشكلة إلى مشكلة، هذا الإنسان استهلك، يأتيه ملك الموت فإذا هو في طامة كبرى، لم يعد لهذه الساعة عدتها، هناك انشغال في توافه الأمور، قال عليه الصلاة والسلام:

(( إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها ))

[الطبراني عن الحسن بن علي ]

 فيا أيها الأخوة الكرام، لقاءات ولقاءات، سهرات وسهرات، ندوات وندوات، ما لم ينتج عن هذه اللقاءات علم ينتفع به، وموقف يثمر عند الله اتصالاً به فإنه لا جدوى منه، الإنسان ينبغي أن يختار نشاطاته وفق منهج الله عز وجل، ألِف الناس أن يجتمعوا وأن يتكلموا بالغيبة والنميمة وكلام لا يقدم ولا يؤخر ولا يسمو بالإنسان، لكن لو أن الناس جلسوا وذكروا الله عز وجل أي ذكروا آياته، ذكروا كتابه، ذكروا حديث رسوله، ذكروا أحكام دينهم، ذكروا واقع أمتهم، وضعوا الحلول لكانوا في حال غير هذا الحال.
 يا أيها الأخوة الأكارم، هناك نموذج عجيب التهرب من أي عمل جدي، ليس عنده أمل أن يتحرك، ولا أن يغير الله ما بنا، مع أن أسباب النصر بين أيدينا.

العقل مناط التكليف :

 أيها الأخوة الكرام، والله الذي لا إله إلا هو إن أسباب النصر يملكها كل واحد منكم، لكن الشيطان كما كنت أقول دائماً يزهدنا فيما نحن قادرون عليه ويدفعنا إلى ما لا يستطيع، يدفعنا إلى ما لا يستطيع كي تكون فتنة تحرق الأخضر واليابس، أما الشيء الذي نستطيعه أن نكون صادقين، أن نكون أمناء، أن نكون أعفة، أن نربي أولادنا، أن نختار نساءنا بحيث يربن أولادنا تربية إسلامية، الأشياء التي بين أيدينا والتي بمقدورنا لا نفعلها.
 أيها الأخوة، ثم إن هذا العقل قد يعطل أحياناً، أي الإنسان حينما يجعل عقله في خدمة شهواته كأنه استخدمه في غير ما خلق له، هذا العقل مناط التكليف، هذا العقل يمكن أن تسأل نفسك من حين إلى آخر لماذا أنا في الدنيا؟ هل أنا أحقق الهدف من وجودي؟ هل أنا في رضا الله عز وجل أم في سخطه؟ ابحث عن دخلك، ابحث عن إنفاقك، ابحث عن بيتك، العقل مسخر لجلب الأموال، العقل مسخر لتحقيق المصالح، أما أن يستخدم هذا العقل لدراسة واقع الإنسان، لتحليل مشكلاته، للبحث عن حلول، لطلب العلم، للسؤال عن حكم الله في هذا الموضوع، فهذا بعيد عن معظم المسلمين.
 أيها الأخوة، شيء آخر كأنه نما في أعماقنا أن الذي ينبغي أن يكون مستحيلاً هذا التفكير السلبي الماحق يضعف الهمم، دائماً شيء مستحيل، هذا لا يكون، هذا لا يوافق عليه، هذا ممنوع، هذا محظور، كيد الأجانب كبير، أسلحتهم خطيرة، مسيطرون على الإعلام في العالم، على الاقتصاد، على الجامعات، وكأن الله لهم وليس لنا، وكأن الله عز وجل أراد أن يقويهم ويضعفنا، هذا كلام فارغ أيها الأخوة، الله رب الجميع، لله عز وجل منهج قويم، أنت إذا طرقت باب الله عز وجل، وعقدت معه الصلح، واستسلمت لمشيئته، فإن الله يبطل كيد الكافرين.

آيات الله التي فيها حلّ لكل مشكلات المسلمين :

 والله أيها الأخوة الكرام، من آيات الله التي فيها حل لكل مشكلات المسلمين:

﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾

[ سورة آل عمران: 120 ٍ]

 لذلك قال بعضهم: من قال لا أقدر أقول له حاول، ومن قال لا أعرف أقول له تعلم، ومن قال مستحيل أقول له جرب، كم من أشياء تبدو مستحيلة حققها الله عز وجل، وكم من آمال تبدو ميتة أحياها الله عز وجل، استعن بالله ولا تعجز.

(( ِإنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْز))

[أبو داود عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه ]

التيئيس من صفة الشيطان :

 شيء آخر أيها الأخوة نعوذ بالله منه، أن الإنسان لا يكتفي بالتقصير بل يدعو إلى التقصير، يدعو إلى التثبيط، يدعو إلى التيئيس، وهذه الطامة الكبرى، إن رؤوا إنساناً متحمساً متوثباً متطلعاً إلى حياة أفضل، إلى منهج أفضل، إلى علاقة مع الله أمتن، يثبطونه وكأن هذا الدين ليس لهذا الزمان، وكأن الله عز وجل لا يعلم حقيقة النفس البشرية فكلفها ما لا تطيق، أو كلفها بالمستحيل، هذا كله أيضاً من صفات هؤلاء المثبطين الميئسين، لذلك في بعض الأحاديث الموضوعة التي أراد بها أعداء المسلمين إقعاد همهم أو إضعاف هممهم " كل الناس هلكى إلا العالمون، و العالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.
 صفة التيئيس من صفة الشيطان، الله موجود، والله عز وجل يمكن أن يبدل كل الموازين في لمح البصر، والله يستجيب لمن دعاه مخلصاً ومضطراً، والله في عون كل إنسان إذا رفع أكفه إليه، بل إن الله كما ورد في بعض الأحاديث يستحي من عبده إذا بسط إليه يديه أن يردهما إليه خائبتين.
 النموذج الخطير فاسد مفسد، ضال مضل، بخيل يدعو للبخل، همته متدنية يدعو إلى همة متدنية، دائماً يخوفك.
 أيها الأخوة الكرام، ومن صفات هذا النموذج وأنا والله لا أتمنى أن أتحدث عن صفات النقص عند المسلمين ولكن لأنها أصبحت خطيرة، ولأنها أصبحت عقبة كأداء أمام تقدمهم، في حالة النشاط مع شهواته، وفي حالة الخوف والقلق يائس قانط ذو دعاء عريض، هذا النموذج أيها الأخوة هو الذي أودى بالمسلمين إلى ما هم عليه.
 أيها الأخوة الكرام، يقول الإمام علي رضي الله عنه: "إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم".

بُعد المسلم المعاصر عن مضمون الإسلام :

 أيها الأخوة الكرام، قبل خطبتين تقريباً وصفت أن المسلم المعاصر يؤدي العبادات أداءً شكلياً لكنه بعيد عن مضمون هذا الإسلام العظيم، بعيد عن الاستقامة، بعيد عن الورع، بعيد عن إتقان العبادة، بعيد عن محبته للمسلمين، بعيد عن إخلاصه لله عز وجل، هذا المسلم يشبه إنساناً ارتدى ثياب عالم، ثياب طبيب أمضى خمسين عاماً في دراسة الطب، هما في الشكل متشابهان ولكنهما في الحقيقة والمخبر متباينان، فينبغي أن نقترب مما هم عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 مرةً ثانية أيها الأخوة: الأمر خطير، والأمر مصيري، وهناك حقيقة أن الإنسان إن توهم أنه ليس بإمكانه أن يبدل وأن يغير فمعنى ذلك أن إرسال الأنبياء ليس مجدياً، الله أرسل أنبياء، وأنزل كتباً، وهيأ دعاة، لأن الإنسان بإمكانه أن يغير، وهذا الذي يقول أنا لا أغير هو إنسان ضعيف الهمة، هو إنسان بعيد عن الموضوعية في العلم.

الأشياء المهلكة تبدأ بخاطرة :

 أيها الأخوة الكرام، بقيت فكرة قبل أن أنهي الخطبة الأولى، أحد كبار العلماء الكبار رحمه الله تعالى قال: الأشياء المهلكة تبدأ بخاطرة، فإن لم تدفع أصبحت فكرة، فإن لم تدفع أصبحت شهوة، فإن لم تحارب أصبحت عزيمة وهمة، فإن لم تدفع صارت فعلاً، فإن لم تدارك بالتوبة أصبحت عادة، وإذا أصبحت عادة أغلب الظن أن الإنسان يموت عليها، من خاطرة إلى فكرة، إلى شهوة، إلى عزيمة، إلى فعل، إلى عادة، هناك ملمح دقيق في قوله تعالى يصف المؤمنين:

﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾

[ سورة النساء: 17]

 أما إذا مضى على الذنب سنوات وسنوات، وحقب وآماد طويلة فيصبح هذا الذنب عادة، بدأ خاطرة فانقلب إلى فكرة، فأصبح شهوة، فأصبح عزيمة وإرادة، أصبح فعلاً، ثم أصبح عادة، والإنسان أسير عاداته.
 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التفكر :

 أيها الأخوة الكرام، الله عز وجل دعانا إلى التفكر وقال:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

 أيها الأخوة، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:

(( ويل لمن لم يتفكر في هذه الآية ))

 فالله عز وجل يصف المؤمنين بأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض.

الهيكل العظمي من آيات الله الدالة على عظمته :

 من هذه الآيات التي أقرب شيء إلينا نفسك التي بين جنبيك أقرب شيء إليك، والله عز وجل يقول:

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات: 21 ]

 هذا الهيكل العظمي الذي هو قوام أجسامنا، قال: هو نسيج متين، يقاوم قوى الشد ونسيج قاس يقاوم قوى الضغط في آن واحد، هناك أشياء أيها الأخوة لا تقاوم قوى الشد كالإسمنت، وأشياء تقاوم قوى الضغط، هذا النسيج في آن واحد يقاوم قوى الشد، وهو يقاوم قوى الضغط.
 أولاً: هذا النسيج المتين القاسي يحمي أخطر أجهزة في الإنسان، فالجمجمة تحمي الدماغ، والقفص الصدري يحمي القلب، والحوض يحمي الرحم، والنخاع الشوكي يحميه العمود الفقري، ومعامل كريات الدم في داخل نقي العظام، أخطر أجهزة الإنسان دماغه، ونخاعه الشوكي، وقلبه، ورحم المرأة، ومعامل كريات الحمراء، كلها في هذا النسيج المتين القاسي.
 أيها الأخوة، هذا الجهاز مؤلف من مئتي قطعة، بنيتها قاسية، محكمة من الخارج، مسامية إسفنجية من الداخل، لو أن بناء العظام من الداخل كما هو في الخارج لكان وزن الإنسان أربعة أمثال.
 أيها الأخوة، عظم عنق الفخذ يتحمل من قوى الضغط ما يزيد عن مئتين و خمسين كيلو غرام، فالعظمان يحملان خمسمئة كيلو غرام، الإنسان الشاب القوي بإمكانه أن يحمل نصف طن تقريباً، من أين هذه المتانة ومن أين هذه القساوة؟ لكن الشيء الذي لا يصدق أيها الأخوة أن هذا الجهاز العظمي فيه خاصة هي الهدم والبناء، هناك تبدل مستمر في بنية الخلايا، بعضها يهدم وبعضها يبنى من جديد، بحيث أن الإنسان في كل سبعة أعوام يتجدد هيكله العظمي تجدداً تاماً، هيكلك العظمي قبل سبعة أعوام ليس الذي هو الآن موجود، ما الذي يحدث؟ الهدم والبناء هناك حكم لا تعد ولا تحصى، الهدم والبناء يعينا على التئام الكسور، ولولا الهدم والبناء لما كان التئام الكسور، والهدم والبناء يجعل هذا الجهاز العظمي فضلاً عن أنه هيكل يحمي قوام الإنسان هو مخزن للكلس، فلو أن الجنين احتاج إلى كمية كلس ولم تراع الأم في طعامها وجود كميات من الكالسيوم، يأخذ الجنين حظه من الكلس من هيكل أمه العظمي، الهدم والبناء جعله مخزناً، الهدم والبناء جعل الكسور تلتئم.
 أيها الأخوة الكرام، هذا الجهاز ما الذي يحكمه؟ قال: هناك هرمونات للنمو وهرمونات لمضاد النمو فلو أن هرمونات النمو لم تتوقف لتعملق الإنسان، ولو أن مضادات النمو لم تعمل لتقزم الإنسان، شيء خطير.
 أيها الأخوة الكرام، الشيء الذي يلفت النظر أن هذا الجهاز في معظم أجزائه عند الوليد غضروفي لين كي تسهل الولادة، وبعدئذٍ تتحول هذه الخلايا من خلايا غضروفية إلى خلايا عظمية، ولابد من بقاء قسم غضروفي في النهاية، ليكون كهذه المادة المطاطية بين القطع القاسية، هذا من أجل امتصاص الصدمات، وكأن هذا الإنسان مصمم وفق علم مطلق، علم ميكانيك، علم حركة، علم متانة، علم جدوى، كل هذه العلوم متحققة في هذا الهيكل، فالإنسان إذا تفكر في آيات الله الدالة على عظمته عندئذٍ يخشع قلبه، فضلاً عن ذلك أن هذه المفاصل أيها الأخوة فيها مادة لزجة تتولد ذاتياً كما يقولوا الأطباء، أي هذا الزيت في المفاصل لولاه ما تمكن الإنسان من أن يحرك مفاصله.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافينا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما يحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، أهلك أعداءك أعداء الدين، اجعل تدميرهم في تدبيرهم، أجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، واجمع بينهم على خير، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور