وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0880 - إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا..
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

التّغيير :

 أيها الأخوة الكرام ؛ المحنة التي يمر بها المسلمون محنة كبيرة ، فمهما حدثتكم عنها أنتم ترون وتسمعون ثناياها وتفاصيلها وجزئياتها . ولكن السؤال الأول ما العمل ؟ العمل هو بكلمة واحدة التغيير ، انطلاقاً من آيتين كريمتين ، الأولى تقول :

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الرعد : 11 ]

 والآية الثانية :

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الأنفال الآية " 53 ]

 أي التغيير نحو الأحسن لا يكون إلا بتغيير ما في النفس ، والتغيير نحو الأسوأ لا يكون إلا باقتراف المعاصي والآثام .
 محور هذه الخطبة كلمة واحدة هي التغيير ، التغيير من أين يبدأ ؟ يبدأ من الدعوة، كيف تقنع الناس بالتغيير إن لم تدعهم إلى التغيير ؟ والدعوة بمن أنيطت ؟ قد يتوهم المسلمون أنها أنيطت بعلماء المسلمين فحسب ، الدعوة أناطها النبي بكل مسلم ، والدليل في صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

الدعوة إلى الله فرض عين على كلّ مسلم :

 أكبر وهم يتوهمه المسلم أن الدعوة من اختصاص الخطباء والدعاة والعلماء وما إلى ذلك ، وهو مرتاح ومعفو عنه إن بقي صامتاً ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:

((بلغوا عني ولو آية ))

 وهذا يدعونا أيها الأخوة إلى التفرقة بين الدعوة التي هي فرض عين انطلاقاً من قوله تعالى :

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾

[ سورة آل عمران : 104 ]

 منكم : من للتبعيض ، هذه الدعوة التي معها التفرغ ، ومعها التعمق ، ومعها الإحاطة ، ومعها الجهد الكبير ، هذه الدعوة معرفة أدق الأمور والرد على كل الشبهات والأدلة التفصيلية ، التفرغ التام ، والحرص التام ، والاندفاع التام ، هذه دعوة أنيطت بمن نهض لها، هذه الدعوة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، أما الدعوة التي هي فرض عين فكيف أنك مكلف أن تصلي ، والصلاة فرض عين مكلف أن تدعو إلى الله ، والدعوة إلى الله بهذا المعنى في حدود ما تعلم ومع من تعرف فرض عين على كل مسلم انطلاقاً من هذا الحديث الشريف الصحيح .

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

 وانطلاقاً من قول الله عز وجل :

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾

[ سورة يوسف : 108 ]

 فإن لم تدعُ إلى الله على بصيرة لست ممن يتبع النبي عليه الصلاة والسلام ، دله على مسجد تثق بمن فيه ، دله على شريط يسمعه ، دله على كتاب انتفعت به ليقرأه ، دله على شيء كمن انتفعت منه ينتفع به ، بيّن له بلسانك ، بيّن له بقلمك ، بيّن له بلقائك معه .

 

التّغيير الشّمولي :

 أيها الأخوة : لا بد من التغيير ، ولا بد من أن يكون التغيير شاملاً ، لذلك نبدأ بالدعوة ، بعض علماء المسلمين فهم هذا التوجيه النبوي الكريم " بلغوا عني ولو آية " أن يكفي أن تفهم شرح آية في خطبة ، أو في مجلس علم ، أو أن تقرأ شرح آية في كتاب ، فتنقلها لمن حولك من خاصة نفسك ، من أقربائك ، من جيرانك ، من زملائك ، من أصدقائك ، من أخوتك المقربين إليك ، تكون قد أديت ما عليك :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

 وقال بعض العلماء : إن هذه الآية هنا بمعنى الحجة الدامغة ، أي بلغوا عني ما في الكتاب وما في السنة ، إما أن نفهمها فهماً جزئياً فنكتفي بآية ، أو بحديث ، أو بواقعة ، أو بحكم شرعي ، أو بآية كونية ، وإما أن نفهمها فهماً شمولياً فالآية هي الحجة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ إذاً يحتاج كل منا إذا استمع إلى خطبة وتأثر بها وقنع بدقائقها وتفاصيلها أن يحاول جاهداً في خلال الأسبوع أن ينقلها إلى الآخرين ، إلى خاصة نفسه ، ودع عنك أمر العامة ، إلى خاصة نفسه ، إلى أخوته ، أخواته ، أولاد إخوته ، أولاد أخواته، إلى جيرانه ، إلى أصدقائه ، إلى زملائه ، إلى من يحتك بهم ، إلى من يلتقي معهم ، إلى من يسمر معهم .

 

الخير العظيم للدعاء التالي :

 أيها الأخوة الكرام ؛ وفي حديث آخر يدعو إلى الدعوة إلى الله بشكل عام إلى دعوة فرض العين النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ، فأداها كما سمعها ، فرب مبلغ أوعى من سامع ))

[ رواه أصحاب السنن عن ابن مسعود رضي الله عنه]

 وكم من إنسان محدود التفكير يبلغ إنساناً نصاً سمعه ، أو آية فهمها ، أو حديثاً شرح له ، فإذا بهذا الذي نقل له الحديث يتألق أيما تألق ، لا تدري ماذا يحدث الله لك من هذا التبليغ .

(( . . .فرب مبلغ أوعى من سامع ))

[ رواه أصحاب السنن عن ابن مسعود رضي الله عنه]

 لا تدري الخير العظيم الذي ينتهي به هذا الدعاء المحدود .

 

التمنيات بضائع الموتى :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك مشكلة عالجتها مرات عديدة ، وأجد نفسي مسوقاً إلى معالجة أخرى لهذه المشكلة ، هذه المشكلة أن بعضهم يحتج بأن العمل اليسير الذي يستطيعه لا جدوى له ، وأن الموقف الخطير يتطلب عملاً إيجابياً ضخماً يغير موازين القوى ، وهذا ليس بالمقدور ، الذي بإمكانك أن تفعله لا تفعله ، بتوهمك أنه لا يحدث شيء ، ولا يؤثر في مجريات الأمور ، والذي لا تستطيعه لا تفعله طبعاً لأنك لا تستطيعه ، في النهاية مجموع المسلمين قاعدون لا يتحركون ، مجموع المسلمين لا يسعون إلى التغيير ، ليس شأنك أن تحكم على هذا العمل أنه يجدي أو لا يجدي ، إنك عبد لله ، شأنك مع الأمر الإلهي أن تطبقه وانتهت مهمتك لأن الله عز وجل يقول :

﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾

[ سورة الزمر : 66]

 الشيء اليسير الذي بإمكان كل مسلم أن يفعله يزهد فيه ، أو أن الشيطان يزهده فيه، يزهد فيه مدعياً أنه لا جدوى منه في تغيير هذا الواقع المرير ، وأن الشيء الخطير الذي ينبغي أن يغير موازين القوى لا يستطيعه ، ففي النهاية لم يفعل شيئاً ، لم يفعل ما يستطيع وبالمقابل لن يفعل شيئاً ، لا يستطيع ، إذاً بقي المسلمون على حالهم وعطلوا قوله تعالى :

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾

[ سورة التوبة : 105 ]

 عطل قوله تعالى أن الله ربط الرجاء برحمته بالعمل ، قال تعالى :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 110]

 وعنف أولئك الذين يتعلقون بالأمنيات :

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾

[ سورة النساء : 123]

 بين مجتمع مسلم ناهض يجعل العمل سبيلاً للتغيير ، وبين مجتمع مسلم كسول يجعل الأمل والتمنيات سبيلاً للتغيير ، التمنيات بضائع الحمقى ، الله عز وجل لا ينظر إلى تمنياتنا أبداً .
 هذا أيها الأخوة الكرام ؛ من تلبيس إبليس أن يزهدك فيما تستطيع وأن يدفعك إلى ما لا يستطيع ، والذي لا تستطيعه لا تستطيعه ، إذاً لا تفعل شيئاً ، إذاً عطلنا الآيات الكريمة التي تدعو إلى العمل ، أنت أحياناً تتوهم أن هذا العمل لا يفعل شيئاً ، والله أيها الأخوة هناك قصص سمعتها أن فتاة محجبة حجاباً إسلامياً دقيقاً كاملاً سببت أن يسلم ملحد ، وأن يغدو الآن من أكبر الدعاة في الغرب ، ما فعلت شيئاً ، ولا تكلمت كلمةً ، شاب يدرس في بلد غربي سكن في أسرة غضّ بصره عن فتيات البيت سبب هداية الأب وأصبح مسلماً ، أنت لا تقدر أن هذا العمل يجدي أو لا يجدي هذا من سوء فهمك للدين ، أنت عليك أن تفعل ما أمرت به ، وما كلفك الله فوق ما تستطيع ، الدعوة الآن لا أن تفعل شيئاً لا تستطيعه ، الدعوة الآن أن تفعل ما أنت قادر عليه ، ما أنت تستطيع أن تفعله من دون حرج ، ومن دون مسائلة ، ومن دون سؤال ، هذه أكبر فرية للشيطان وهي من تلبيس إبليس ، يزهد المسلمين بفعل ما يستطيعون ويدفعهم بلا طائل إلى فعل ما لا يستطيعون .

 

الفهم السيئ لقضايا الدين :

 أيها الأخوة الكرام ؛ بالمعيار الشرعي لا وجود في الأرض لحالة لا يملك الإنسان في أن يعمل أبداً ، هذا الذي يقول لا أستطيع أن أفعل شيئاً ، هو سيئ الفهم لكل قضايا الدين ، ليس في المعيار الشرعي حالة لا تستطيع أن تفعل فيها شيئاً ، على كلٍّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ؛ وذلك أضعف الإيمان ))

[ مسلم عن أَبُي سَعِيدٍ الخُدريّ]

 وقد قال العلماء : إن الله لا يقبل أن تنكر منكراً بقلبك وتستطيع أن تنكره بلسانك، كما أنه لا يقبل أن تنكر منكراً بلسانك وتستطيع أن تنكره بيدك ، الشرع واقعي ، هذا لا تستطيعه دعه إلى ما تستطيع ، تستطيع باللسان افعل ، لا تستطيع باللسان دعه إلى القلب ، والقلب له عمل والله عز وجل يتقبل عمل القلب .

(( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها))

[أبو داود عن بن عميرة ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ تحريك الفاعلية في الإنسان المسلم دفعه إلى أن يتحرك ، إلى أن يقف موقفاً ، إلى أن ينطق بكلمة ، إلى أن يمد يد المساعدة ، إلى أن يفعل شيئاً ولو في بيته، ولو في عمله ، نحن بحاجة إلى التغيير ، هذا الواقع الذي نحن عليه لا يستوجب النصر، إذاً لا بد من التغيير ، وهذه الآية ينبغي أن تكون شعار المسلمين .

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الرعد : 11 ]

 أي إن الله لا يصلح أحوال قوم إلا إذا أصلحوا ما بأنفسهم . والآية الثانية :

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الأنفال : 53]

 من الأحسن إلى الأسوأ لا بد من التغيير ، تغيير ما في النفس ، أي اقتراف المعاصي الآثام والشرك وما إلى ذلك ، والتغيير من الأسوأ إلى الأحسن لا بد من أن تغير ما بنفسك .

 

كلّ حركة تبدأ من تغيير ما في النّفس :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ما من مسلم على وجه الأرض إلا ويتحدث عن التغيير ، ولكن لا بد من أن نمتلك التصور السليم لهذا التغيير ، كيف يحدث ؟ ما قواعده ؟ ما سننه ؟
 أيها الأخوة : مبدئياً هذا الذي لا يستطيع أن يغير خلقاً من أخلاقه السيئة ، ولا يستطيع أن يغير طبعاً من طباعه السيئة ، ولا يستطيع أن يغير عادة من عوائده السيئة ، هذا الإنسان لا أمل منه في أن يحرك ساكناً ، أي إن لم تنتصر على نفسك لا تستطيع أن تفعل شيئاً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الشيء الدقيق جداً أن تؤمن أن كل حركة تبدأ من تغيير ما في النفس ، هناك مشروعات كثيرة طرحت على الساحة الإسلامية في المئة عام السابقة ، كل هذه المشروعات تبدأ بالتغيير من الخارج ، ولا حاجة لذكر أمثلة عنها ، كل مشروعات التغيير سواء كانت ضمن المرجعية الدينية أو بعيدة عن المرجعية الدينية إن لم تبدأ من الداخل لا جدوى منها، والدليل أنها جميعاً فشلت ، ولم تحقق النجاح ، لأن الله عز وجل وهذا كلام خالق الأكوان: الكلمة ، الحرف ، الحركة في القرآن الكريم لها معنى :

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الرعد : 11 ]

 جميع المشاريع ، مشروع العلمانية لم ينجح ، مشروعات كثيرة طرحت على الساحة وجمدت ، لها قوى كبيرة ، وأموال طائلة لم تحقق الهدف ، لأنها ابتعدت عن كلمة في آية :

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الرعد : 11 ]

أصل الدين معرفة الله و معرفة منهجه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ من منا لا يطمع أن يقوى المسلمون ؟ من منا لا يطمع أن تكون كلمتهم هي العليا ؟ من منا لا يطمع أن يكون أمرهم بيدهم ؟ من منا لا يطمع أن يقرروا هم مصيرهم ؟ من منا لا يطمع أن يحملوا هذه الرسالة التي شرفهم الله بها ؟ هذه كلها من مطامح المسلمين ، ولكن هذه الأهداف الكبيرة تحتاج إلى حركة ، إلى عمل ، إلى نهضة شاملة، تكون هذه النهضة رداً على كل عوامل التخلف في حياتنا الإسلامية .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لا بد من التعرف على الله عز وجل لأن أصل الدين معرفة الله عز وجل ، ولا بد من التعرف على منهجه ، لأنك إن عرفت الله ولم تعبده ما نفعتك هذه المعرفة، وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن ، لا بد من أن تتعرف إلى حقائق أساسية في الحياة ، من أنا ؟ ما حقيقة الإنسان ؟ لماذا أنا على سطح الأرض ؟ ماذا بعد الموت؟ ما حقيقة الحياة الدنيا ؟ ما حقيقة الكون ؟ ما حقيقة هذا القرآن الذي بين يدي المسلمين؟ لا بد من أن تتعرف إلى الله المعرفة العميقة الصحيحة التي تحملك بشكل طبيعي على أن تبحث عن أمره ونهيه ، لا بد من أن تحملك هذه المعرفة على أن تسأل ما حكم الشرع في هذا ؟ وإذا قيل لك حكم الشرع كذا تشعر برغبة غير محدودة إلى تطبيق هذا الأمر ، ولا تعبأ لا بالتقاليد ولا بالعادات .
 أيها الأخوة الكرام ؛ إن صحت معرفتنا بالله عز وجل وصحت معرفتنا بمنهجه ، وصحّ يقيننا بالآخرة إن لم تنعكس مقاييسنا مئة و ثمانين درجة فإن معرفتنا غير صحيحة ، لا بد من أن تنتقل إلى العطاء بدل الأخذ ، إلى الصدق بدل الكذب ، إلى الرحمة بدل القسوة ، حال المسلمين في وضع سيئ جداً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا كان الأنبياء الكرام وهم قمم البشر ، وهم منارات الأمم ، حينما يواجهون عدواً يراجعون أنفسهم بقي النبي يدعو في بدر حتى سقط رداءه من عليه ، لماذا كان يدعو هذا الدعاء الملح ؟ كان يخاف كما يشرح علماء السيرة ألا يكون قد أدى ما عليه من واجبات لئلا يفوته النصر ، من منَ المسلمين يبحث عن أن نصر الله يحتاج إلى شروط ؟ نحن لمجرد أننا مسلمون ، لمجرد أننا ننتمي لهذا الدين نطمع أن ننتصر ، بلا استقامة ، وبلا توبة ، وبلا عمل تعاوني ، وبلا بذل إطلاقاً ، هذا من التمنيات .

واقعية هذا الدين أنه أمرنا أن نتحرك ولكن في حدود استطاعتنا :

 أيها الأخوة الكرام ؛ مرة ثانية من رحمة الله بنا ، من رحمته بنا أنه ما كلفنا فوق ما نستطيع قال تعالى :

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾

[ سورة التغابن : 16 ]

 قال تعالى :

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾

[ سورة البقرة : 286 ]

 قال تعالى :

﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾

[ سورة آل عمران : 97 ]

 قال تعالى :

﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾

[ سورة النساء : 25 ]

 إذاً واقعية هذا الدين أنه أمرنا أن نتحرك ، ولكن في حدود استطاعتنا ، والاستطاعة لا أقدرها أنا بل يقدرها الشرع ، هناك مزلقان خطيران مزلق المصلحة ، ومن أجل المصلحة خالفنا كل قواعد الدين ، والمزلق الثاني الاستطاعة ، أي شيء وجده صعباً يقول : لا أستطيع، الاستطاعة والمصلحة لها ضوابط شرعية ، فإن لم تتبع ضوابط المصلحة الشرعية وضوابط الاستطاعة الشرعية فأنت تلعب بدين الله ، من اللعب بدين الله أن تدّعي أن كل شيء كلفك الله به لا تستطيعه ، وأن الاستقامة في هذه الأيام صعبة جداً ، وأن معظم المال مال حرام ، وأن الاختلاط لا سبيل إلى مجانبته ، هذا كلام المسلمين ، ألفوا عادات اقتبسوها عن الغرب ، ألفوها وأحبوها وحرصوا عليها ويدعون أنهم لا يستطيعون ، الاستطاعة لها ضوابط ، والمصلحة لها ضوابط ، والاستطاعة والمصلحة منزلقان خطيران إلى التحلل من منهج الله عز وجل .

 

موازين الشرع دقيقة جداً :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الشريعة - كما قلت سابقاً وكثيراً نقلاً عن أحد العلماء الكبار -مصلحة كلها ، والشريعة عدل كلها ، والشريعة رحمة كلها ، والشريعة حكمة كلها ، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة ، ومن الحكمة إلى خلافها ، ومن الرحمة إلى القسوة ، ومن العدل إلى الجور فليست من الشريعة ، ولو ادخلت عليها ألف تأويل وتأويل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ من واقعية الشرع أنه إذا تعارضت مصلحتان لزمنا المصلحة الأكبر ، وإن تعارضت مفسدتان ابتعدنا عن المفسدة الأكبر ، وإن تعارض حكم شرعي مع مفسدة نقول : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، موازين الشرع دقيقة جداً فمن أراد أن يتفقه في الدين فليشمر .

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم))

[ الحاكم في المستدرك عن أنس عن أبي هريرة ]

(( ابن عمر دينك دينك إنما هو لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ الدين عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين قالوا))

[ كنز العمال عن ابن عمر ]

 بربكم أيها الأخوة لو أن إنساناً يقرأ ويكتب كان يحب أن يقرأ بعض المجلات الطبية وأدمن على قراءتها هل يستطيع أن يفتح عيادة ويسمي نفسه طبيباً ؟ هذه الثقافة التي تتأتى من مطالعات منوعة غير منضبطة لمقالات بعضها صحيح ، و بعضها غير صحيح ، هذا لا يصنع طبيباً ، الطب منهج ، الطب له كليات ينبغي أن تحوطه ، و في الدين كل إنسان شاهد ندوة ، أخذ موقفاً ، سمع مقالة ، قرأ بمجلة ، يجمع ثقافة منوعة ، متناقضة بأدلة مهترئة ، بنظرة قصيرة ، يدعي أنه يفهم في الدين ، وكأن الدين كلأ لكل إنسان ، لا يستطيع الإنسان أن يقول كلمة في الطب إلا ويحاسب ، وكلمة في القانون ويحاسب ، أما كل إنسان يدلي برأيه في الدين كما يشاء ، من دون ضابط ، من دون منهج ، من دون دليل ، من دون فحص نوع الدليل فلذلك هذه المتاهة التي عاشها الناس في زحمة ثقافتهم المجزئة المبسترة التي ليست منضبطة ولا ذات منهج سبب قناعات لا نهاية لها .

 

على الإنسان إعادة حساباته و مراجعة نفسه قبل فوات الأوان :

 أيها الأخوة الكرام ؛ نحن في أمس الحاجة إلى التغيير ، وخلاصنا في التغيير ، تغيير ما في النفس ، تصحيح العقيدة ، تحرير النية ، ضبط العمل ، البذل والعطاء ، هذا على المدى البعيد ، نسأل الله جل جلاله أن نكون سبباً لنصر أمتنا ، ولا سبيل عند الله إلا هذا السبب ، والآية واضحة هذا كلام خالق الأكوان :

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة الرعد : 11 ]

 واجبنا أيها الأخوة أن نعيد حساباتنا ، أن نراجع أنفسنا ، أن ندقق في دخولنا ، في إنفاقنا ، في تربية أولادنا ، في خروج بناتنا ، أن ندقق في وسائل لهونا ، هل هي وسائل مشروعة أو غير مشروعة ؟ ما الذي يتغذاه أفراد الأسرة ؟ ما الذي يغذيهم ؟ حق أو باطل ؟ رحمن أم شيطان ؟ إنسان إباحي أم إنسان ملتزم ؟ ما الذي يغذي أبناءنا ؟ ما الذي يغذي فتياتنا؟ إذا كانت التغذية فاسدة فالنتيجة واضحة جداً ، سلوك منحرف بسبب تغذية فاسدة ، فالقضية قضية نكون أو لا نكون ، وقضية بقاء أو فناء ، والطرف الآخر يستهدف كل المسلمين، لا يستهدف السيطرة عليهم فحسب ، بل إبادتهم ، وهذا شيء واضح جداً من كل ما تسمعون من أخبار ، الهدف القضاء قضاء مبرماً على المسلمين .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التفكير الجديّ بالتغيير الجذري في حياة كل منا :

 قالوا أيها الأخوة ؛ إن كنت تقرأ كتاباً سخيفاً تنتهي من قراءته فتتثاءب وتنام ، بينما إذا قرأت كتاباً قيماً تنتهي من قراءته فتبدأ متاعبك ، علامة أنك تأثرت ، أنه ما إن تنتهي هذه الخطبة حتى تقول ماذا أفعل ؟ كيف أعالج هذه القضية في بيتي ؟ كيف أعالج خروج بناتي؟ كيف أعالج العادات التي لا ترضي الله والتي ألفناها ؟ كيف أصنع في هذا الضغط الذي علي من أسرتي ؟ علامة أننا تأثرنا واقتنعنا بالتغيير أنه تبدأ متاعبنا بعد فهم هذه الخطبة ، ينبغي أن نغير ، وأهم شيء قلته في الخطبة أنت لست مؤهلاً أن تقول : إن هذا العمل لا يجدي ، هذا ليس من شأنك ، أنت عليك أن تفعل ما أمرك الله به ، أما النصر فعلى الله عز وجل ، هو يتكفل بالنصر ، إذاً

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾

 فكل واحد منا وأنا أخاطب نفسي معكم والله ولا أميزها عنكم أبداً إذا ما فكر تفكيراً جدياً بتغيير جذري في حياته ، في أسرته ، في بيته ، في عمله ، لعل الله سبحانه وتعالى يتوفانا على الإيمان في الحد الأدنى ، الإنسان إذا توفاه الله على الإيمان في الحد الأدنى يكون قد حقق شيئاً ، أي كسب الآخرة ، والله قصص لا تعد ولا تحصى أسمعها ، صلى الظهر العصر كان مدفوناً ، صلى الفجر العصر كان مدفوناً، دون أن يشكو شيئاً ، الموت يأتي بغتةً ، والقبر صندوق العمل ، هناك حد أدنى أدنى أدنى تملكه أن تموت مؤمناً ، كل هذه الأخبار بعد الموت لا تعنيك ، يعنيك أن تموت مؤمناً ، يعنيك أن تموت موحداً ، يعنيك أن تموت مستقيماً ، يعنيك أن تموت عابداً ، يعنيك أنك تموت وقد علمت أهلك الصلاة وضبط النفس ، يعنيك أن تكون فيمن حولك نافعاً ، فهذا اسمه نصر مبدئي ، هذا بأيدي كل مسلم ، بيدك وبإمكانك أن تفعله ، إن لم يتح لنا هذا النصر الذي نرجو الله أن يرزقنا إياه ، هذا النصر المبدئي نصر جيد جداً ، مات مؤمناً كسب الجنة ، خسر الدنيا وكسب الآخرة .

 

الاستقامة على أمر الله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل :

﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

[ سورة الانفطار : 6]

 من أدق الآيات التي تخاطب القلب والعقل معاً .

﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾

[ سورة الانفطار :6-7]

 ما الذي خدعك حتى عصيت الواحد القهار ؟ ما الذي خدعك فاقترفت الآثام بالليل والنهار ؟ ما الذي خدعك ففرطت في حدود الله ؟ ما الذي خدعك فتهاونت في الصلاة ؟ ما الذي خدعك فأطلقت بصرك في الحرام ؟ ما الذي خدعك فلم تخش الله كما تخشى الأنام ؟ أهي الدنيا ؟ أما كنت تعلم أنها دار فناء وقد فنيت ، أهي الشهوات ؟ أما تعلم أنها إلى زوال وقد زالت، أم هو الشيطان ؟ أما علمت أنه لك عدو مبين ، ما الذي خدعك ؟!!

﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾

[ سورة الانفطار :6-7]

 أيها الأخوة الكرام ؛ انطلاقاً من أعلى درجة من حب الذات علينا أن نستقيم على أمر الله ، انطلاقاً من حب الذات - من الأنانية المفرطة - انطلاقاً من حبك لذاتك ينبغي أن تستقيم على أمر الله كي تنال الجنة ، كي تسلم في الدنيا وفي الآخرة ، هذا الذي يفعل معاصياً لا حدود لها على أي شيء يتكئ ؟ على أي شيء يعتمد ؟

((يا فاطمة بنت محمد ، يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار ، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً . .))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

((لا يأتين الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه ))

[ أحمد عن أبي هريرة]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافينا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، واقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعل ِكلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، دمر أعداءك أعداء الدين ، يا رب العالمين ، اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم واجعل الدائرة تدور عليهم ، واجعل بأسهم فيما بينهم يا أكرم الأكرمين ، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور