وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0885 - أسباب التقاعس3. الاستقامة السلبية - غشاء الطبل في الأذن .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإكراماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الاستقامة السلبية وحدها لا تكفي :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قبل خطبتين بدأت موضوعاً ذكرت لكم فيه أنه ليس موجهاً لعامة المسلمين بل ولا لرواد المساجد جميعاً لكن لأولئك الذين يعملون في حقل الدعوة ، أو بمصطلح آخر أولئك السالكون إلى الله ، هناك عقبات تقف في طريقهم ، وهناك أعذار يضعونها تبريراً لتقصيرهم ، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإياكم بهذه الحقائق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ أناس كثيرون يحمدون الله عز وجل وهم محقون فيما يقولون على أنهم مستقيمون على أمر الله ليس غير ، يمتنعون عن الكذب والغيبة والنميمة والمال الحرام، وكل ما من شأنه أن يغضب الله عز وجل ، هذا إنجاز ولا شك ، ولكن يتقاعسون عن الأعمال الصحيحة ، كأن استقامتهم سلبية لم يفعلوا كذا ولا كذا ولا كذا ، ولكن ماذا قدموا ؟ بمثل بسيط جداً : لو أن طالباً في المدرسة لم يؤذ أحداً من رفاقه ولم يتأخر لكنه لم يدرس ، هذه الفضائل سلبية لابد منها لكن لا تكفي ، فالذي يقول : أنا مستقيم والحمد لله ، مالي حلال ، بيتي إسلامي ، ولم يقدم شيئاً بين يديه يوم القيامة ، ولم يبذل ، ولم يضحِّ ، ولم يتحرك ، ولم يأمر بمعروف ، ولم ينه عن منكر ، ولم يحمل همّ المسلمين ، ولم يخفف عنهم ، لم يكن فالحاً بالمقياس القرآني والنبوي .

من معاني الآية الكريمة التالية :

1 ـ على المؤمن ألا يخاف من الكفار فلن يضروه إن اهتدى :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الآية التي يظنها بعضهم على غير ما أراد الله بها :

﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾

[سورة النحل : 127]

 ماذا قال عنها بعض العلماء ؟ قال : هذه الآية تعني ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين ، فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً .
 أيها الأخوة ؛ من باب اليقين والطمأنينة لا يستطيع مخلوق على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة أن يفسد على الله هدايته لخلقه ، ولو سمعتم في الأخبار أن هناك تحديداً لتلاوة القرآن ، وأن كل القرآن الكريم ليس مسموحاً أن يتلى ، وأن تغلق بعض المعاهد الشرعية، وأن تأتينا المناهج من بلاد بعيدة ، هذا كلام بكلام ، لا يستطيع مخلوق على وجه الأرض مهما كان قوياً أن يحول بين البشر وبين الهداية ، ولا يسمح الله له بذلك ، بل إن من عظمة هذا الدين أنه كلما قاومته يزداد قوة ، هذا الذي يقمع الدين تماماً كالذي يطفئ النار بالزيت ، إن الزيت يزيده اشتعالاً ، فلا يضركم من ضلّ ولو كان قوياً ، ولو كان يملك أعتى الأسلحة إذا اهتديتم ، لأن الله معكم ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ هذا المعنى الأول .

 

2 ـ من وصل إلى الله وعرف سرّ وجوده لن يستطيع أحد أن يضره :

 أيها الأخوة ؛ المعنى الثاني : يقول الله عز وجل :

﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾

[سورة النحل : 127]

﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾

[سورة إبراهيم : 46]

 ومع ذلك :

﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾

[ سورة آل عمران : 120 ٍ]

 معنى :

﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾

[ سورة المائدة : 105 ]

 أنه إن وصلت إلى الله وعرفت سر وجودك ، وطبقت منهجه في حياتك ، لا يستطيع أحد أن يضرك ولو كان قوياً .

﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾

[سورة النحل : 127]

 مكرهم تزول منه الجبال ، لكن الله يلغي كل هذا المكر إذا كنت معه ، لكن الله يحبط كل أعمالهم إذا كنت ملتجئاً إليه ، ومتوكلاً عليه ، منيباً إليه ، ومقبلاً عليه.

 

3 ـ عدم الركون إلى أهل المعاصي :

 ومعنى :

﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾

[ سورة المائدة : 105 ]

 ينبغي ألا نركن إليهم ، وألا نمد أعيننا إلى ما آتوه من مال وسلطان وشهوات ، لقوله تعالى :

﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾

[سورة الحجر : 88]

4 ـ عدم المبالغة في العدوان على أهل المعاصي :

 الرابع : ألا تعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم .

 

5 ـ على الإنسان أن يأخذ حقه بالتمام و الكمال :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا المقام من أدق الآيات التي تعبر عنه :

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾

[ سورة المائدة : 2]

 أي ولا يحملنكم .

﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

[ سورة المائدة : 2]

 إذا كنت عادلاً تقربه إلى الله ، لا تعتد عليه ولو كان عاصياً ، لا تبالغ في العدوان عليه ، خذ حقك بالتمام والكمال من دون زيادة أو عدوان .
 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

[سورة البقرة : 190]

﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾

[سورة البقرة :193]

6 ـ أن يقوم الإنسان بالأمر والنهي على الوجه المشروع :

 أيها الأخوة الكرام ؛ المعنى السادس :

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾

[ سورة المائدة : 105 ]

 أن يقوم الإنسان بالأمر والنهي على الوجه المشروع مع العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد ، فإن ذلك داخل في قوله تعالى :

﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾

[ سورة المائدة : 105 ]

الإسلام حركة و ليس سكوناً :

 أيها الأخوة : الظروف السيئة والقوى المخيفة ينبغي ألا تصرف عن العمل الصالح، وليس القصد أن تمتنع ، أنا أسميها استقامة سلبية ، ما أكلت مالاً حراماً - ما - ما اغتبت - ما فعلت – ما اعتديت - ما أكلت ما ليس لي – ينبغي أن تضفي للطاعات المسبوقة بما : ماذا عملت ؟ ماذا قدمت ؟ بماذا عملت ؟ بماذا ضحيت ؟
 أيها الأخوة : الإسلام حركة وليس سكوناً ، وليس تقوقعاً ، وليس مراقبة عن بعد، وليس انسحاباً من المسؤولية ، وليس تقييماً للآخرين ، الإسلام حركة ، ما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس المؤمن حتى يتحرك لخدمة الخلق ، وللدعوة إلى الله ، الإناء إذا امتلأ لابد من أن يفيض على من حوله .
 أيها الأخوة الكرام ؛ علمنا النبي عليه الصلاة والسلام أنه من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، حينما يحشر المسلم أنفه فيما لا يعنيه ، ويوهم نفسه أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، ولكن قد تكون الحقيقة على خلاف ذلك ، إنها حبّ الفضول ، حينما يكتفي كل إنسان بطاعة الله عز وجل ، وحينما لا ينصب الإنسان نفسه وصياً على المسلمين ، وليس معنياً بتقييمهم ، إذا هو ترك ما لا يعنيه هذا معنى قول النبي : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".

ما أمر الله أمراً إلا والشيطان له فيه مزلقان الغلو أو التقصير :

 أيها الأخوة الكرام ؛ كلام رائع قاله بعض العلماء : ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين ، لا يبالي الشيطان بأيهما ظفر ، غلو أو تقصير ، الغلو أخو التقصير ، إما أن نقصر وإما أن نغالي وأن نبالغ ، وحينما نأخذ فرعاً من فروع الدين ونجعله أصلاً ونقاتل من أجله وقعنا في الغلو ، وحينما نهمل بعض أحكام الدين وقعنا في التقصير ، ما أمر الله أمراً إلا والشيطان له فيه مزلقان ، يريد للمؤمن أن ينزلق في أحدهما ، ولا يبالي أن ينزلق لأيهما ، غلو أو تقصير ، شيء صغير يجعله كبيراً ، ويكبر الناس عليه ، وشيء من فروع الدين يجعله أصلاً ويقلب الناس من خلاله .

الإسلام عالمي لا يفرق بين كبير وصغير و قوي وضعيف :

 أيها الأخوة الكرام ؛ نحن معنيون أيضاً بهذه الآية قال تعالى :

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾

[ سورة النساء : 171 ]

 أيها الأخوة ؛ هناك من يعمل في حقل الدعوة ، ويركز على طبقة معينة ، أو على شريحة معينة ، ويعلق عليها الآمال ، فإذا خيبت ظنه انصرف عن الدعوة ، الذين اتبعوا الأنبياء هم من ضعاف الخلق وفقراء الناس ، هذا الإسلام لكل البشر ، غنيهم وفقيرهم ، قويهم وضعيفهم، أي إنسان معني بهذا الدين ، فالداعية الصادق يدعو كل الخلق ، كل من حوله ، لا يصطفي شريحة بعينها ، ولا أناساً بعينهم يعلق عليهم الآمال ، يدعو كل إنسان .

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ))

[الترمذي عن أنس ]

((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ))

[البخاري عن حارثة بن وهب الخزاعي ]

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا " فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا" ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة الكرام ؛ أي مخلوق ولو كان في مقاييس المجتمع في الدرجة السفلى قد يكون عند الله في مكان علي .

((يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام رحب برجل دخل عليه ترحيباً اندهش له الصحابة ، قال له : أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ! قال : أو مثلي يا رسول الله ؟ قال : نعم يا أخي خامل في الأرض علم في السماء ))

[ورد في الأثر]

(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا))

[البخاري عن سهل بن سعد الساعدي]

 هذا الذي لا يعجبك لأنه فقير هذا خير من ملء الأرض مثل هذا .
 أيها الأخوة الكرام ؛ قال الإمام الشاطبي : واجب على الجميع في فرض الكفاية أن يقوموا به ، ولكن بعضهم مطالبون أن يقوموا به على وجه الإيجاب ، وبعضهم الآخر الذين لا يحسنون هذا الفرض الكفاية أن يدعموا القائمون به ، لا بد من تعاون ، إن لم تكن أهلاً لهذا العمل رشح من هو أهل ، وكن معه ، وساعده ، وهذا من علامة الإخلاص .
 أيها الأخوة الكرام ؛ خطأ كبير أن توجه الدعوة لشريحة معينة ، أو لطبقة معينة ، أو لأناس معينين ، فالإسلام عالمي ، والإسلام لا يفرق بين كبير وصغير ، وبين قوي وضعيف، وبين غني وفقير ، وبين متفوق ومتخلف .

 

الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الذي رأى عموم الفساد وانحراف الخلق فقبع في بيته ، ولم يعمل شيئاً ، الدعوة إلى الله لا تتوقف في أي عصر ، وأي مصر ، ورب كلمة لا تلقي لها بالاً كانت سبب هداية لأناس كثيرين ، قصص كثيرة جداً في زحمة الفساد ، وانتشار الفتن ، وفي الضلالات التي غمرت الناس ، كلمة صادقة ، ونصيحة مخلصة ، وعمل طيب قد ينقذ إنساناً ، وحول هذا الإنسان خلق كثير ، العزلة عن الخلق سهلة جداً ، ترك المسؤولية أهون .
 لذلك فيما يروى أن التابعي الفقيه عامر الشعبي قال : " إن رجالاً خرجوا من الكوفة ونزلوا قريباً يتعبدون ، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم ، فقال لهم : ما حملكم على ما صنعتم ؟ قالوا : أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد ، فقال عبد الله : لو أن الناس فعلوا مثلما فعلتم فمن كان الذي يقاتل العدو ؟ فما أنا ببارح حتى ترجعوا " .
 أيها الأخوة الكرام ؛ بعض العلماء الكبار يقول : " الزهاد الذين انسحبوا من الحياة، وتقوقعوا في عزلتهم ، ولم يهتموا بأمر المسلمين ، هم في مقام الخفافيش ، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن الناس ، وهي حالة حسنة إن لم تمنع من خير ، فإن منعت من خير فليست حسنة".
 أيها الأخوة الكرام ؛ الأنبياء كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كانوا يخالطون الناس ، كيف لهم أن يهدوهم لولا أنهم كانوا يخالطوهم ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ إن الدعوة إلى الله تعالى أعظم وأجلّ من أن يحتكرها أناس ، وأكبر من أن تحد بمواسم خاصة ، وبمناسبات محدودة ، الدعوة إلى الله آية تتلى ، وحديث يروى ، ودرس يلقى ، وكتاب يصنف ، وخطبة تحرر ، وموعظة تؤثر ، ومجلة تنشر ، وشريط يوزع ، ونصيحة تهدى ، وأذكار تحفظ ، ومال من حلال ينفق ، وعلم نافع ينشر ، وأمر ونهي وصلة وبر وإحسان وتفقد للفقراء والمعوذين .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يجب أن نتيقن أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم بدليلين قطعيين ، الأول :

﴿ وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر : 1-3 ]

 والدليل الثاني :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف : 108]

 والدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ))

[ البخاري عن عبد الله بن عمرو]

من أقامه الله بعمل عظيم عليه أن يلزم مكانه :

 هذا الذي يقول : أنا مستقيم ولا شأن لي بالناس ، هذا في إيمانه خلل ونقص كبير، لأن دوائر الباطل تتنامى وتضيق على دوائر الحق ، إن عطلنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ، من أجل أن يقف الحق في وجه الباطل ، وتتنامى دوائره ، كما تتنامى دوائر الباطل لابد من الدعوة إلى الله ، ومن لم يجاهد ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على ثلمة من النفاق ، ومن الجهاد ما هو متاح لكل المسلمين .

﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾

[سورة الفرقان : 52]

 جهاد النفس والهوى متاح ، الجهاد الدعوي متاح ، الجهاد البنائي متاح ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الجهاد الرابع وهو الجهاد القتالي .
 أيها الأخوة الكرام ؛ أحياناً الإنسان يحب أن يكون في مكان ، قد يكون هذا المكان فيه تألق ديني ، وقد أقامه الله في بلد آخر ، و لكن له دعوة جيدة فعليه أن يلزم مكانه .
 فقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان : " هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب سلمان : إن الأرض لا تقدس أحداً وإنما يقدس العبد عمله " وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء ، في أي مكان وجدت فيه ما دمت تستطيع أن تعبد الله ، وقد أقامك الله بعمل عظيم فالزم هذا المكان ، فقد يكون هناك مكان أفضل منه ، ومكانك مفضول ، إلا أن هذا المكان أفضل لك من المكان الأفضل ما دمت تستطيع أن تدعو لله عز وجل . أحياناً هؤلاء السالكون إلى الله يقصرون ، فيمتنعون عن متابعة العلم ، فإذا امتنعوا عن متابعة العلم ازداد تقصيرهم ، أضافوا لتقصيرهم تقصيراً آخر .
 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾

[سورة الأحزاب : 23]

 أحد الصحابة قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة في المكره والمنشط ، في الغنى والفقر ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها .

 

طلب العلو في الأرض يدمر الدعوة إلى الله عز وجل :

 أيها الأخوة : أحياناً طلب العلو في الأرض شيء يدمر الدعوة إلى الله عز وجل .

(( مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ))

[الترمذي عن ابن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه ]

 قد يتمتع إنسان بمكانة ، هذه المكانة لا يسمح لمن تفوق عليه أن يكون معه لئلا يظهر عيبه ، يعتزل طلب العلم لئلا يكون أقل ممن تفوق عليه ، هذه حظوظ النفس التي لا ترضي الله عز وجل .
 أيها الأخوة : أجمل كلمة قال بعضهم : والله لأن أكون ذنباً في الحق خير من أن أكون رأساً في الباطل ، قال تعالى :

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾

[سورة النور : 37]

 أيها الأخوة : قد تأتي شواغل وأعمال وتأسيس عمل فينسى السالك إلى الله الدعوة كلها من أجل هذا العمل ، آثروا دنياهم على آخرتهم . "إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل" وأحياناً هناك من يدع العمل كله والدعوة كلها في ظروف صعبة ، أين الثبات على المبدأ ؟ أين قول النبي عليه الصلاة والسلام : " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ؟!" الثبات على المبدأ والثبات في السير إلى الله من لوازم الدعاة المخلصين إلى الله عز وجل .

 

الإسلام ليس قناعات أو علم فقط بل هو حبّ و إيمان :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل :

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾

[سورة المائدة : 54]

 أيها الأخوة : هذا الإنسان الذي يحب الله عز وجل استنباطاً من هذه الآية لا يمكن أن يرتد عن دين الله ، ليس الإسلام قناعات ، أو علم فقط ، أو ثقافة فقط ، بل هو حب ، والعقل غذاؤه العلم ، والقلب غذاؤه الحب ، والجسم غذاؤه الطعام والشراب ، فإذا أهمل القلب واكتفى بالفكر والمعلومات والنصوص ولم يقم اتصالاً مع الله عز وجل قد يرتد هذا الإنسان عن دينه .

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾

[سورة المائدة : 54]

 يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم لا يرتدون ، لماذا لا يرتدون ؟ لأن الله يحبهم ويحبونه . الإنسان أحياناً يرجح مصلحة في الدنيا على دعوته ، وعلى ابتغاء وجه الله عز وجل ، والحقيقة الدقيقة أنه من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد له مما رجا وأقرب مما اتقى .

(( أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ ))

[ أحمد عن أبي سعيد الخدري]

 ليس في الكون كله إلا الله فلا تخش أحداً سواه ، لا تخافن لومة لائم ، إنك إن أرضيت الله وأسخطت الناس رضي الله عنك وأرضى عنك الناس ، وإنك إن أسخطت الله وأرضيت الناس سخط الله عنك وأسخط عنك الناس .

 

ثبات المؤمن على عقيدته من قوام الإيمان المنجي :

 أيضاً أيها الأخوة : ما علم من الدين بالضرورة كيف يأتي وقت يتبدل ؟ كيف يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؟ كيف يصبح الحرام حلالاً ؟ كيف يصبح الحلال حراماً؟ هذا التبدل الخطير في آخر الزمان مع البقاء على إطار صغير للدين هذا هو الخطر ، الدين بقي اسماً والقرآن بقي رسماً ، أما الربا فأصبح حلالاً بفتوى رسمية ، والاختلاط حلالاً ، ونزع الحجاب في بعض البلاد اتقاء لشر أصبح حلالاً ، تستمع لفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان وكأن الدين تبدل تبدلاً جذرياً وحافظنا على شكله الخارجي ، أصبح الدين غلافاً هشاً لمضمون يتناقض مع الدين ، لذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال له أبو مسعود الأنصاري : أوصني ؟ قال : إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن تنكر ما كنت تعرف ، وإياك والتلون في الدين فإن دين الله واحد .
 ويقول عدي بن حاتم : إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون ، وتنكروا ما كنتم تعرفون ، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف فأنتم بخير .
 ويرى بعضهم أن التلون في الدين من شك القلوب في الله عز وجل .
 وقال مالك : الداء العضال التنقل في الدين ، يصبح الحلال حراماً والحرام حلالاً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ثبات المؤمن على عقيدته وعلى منهج الله الذي أعلمه الله لرسوله الكريم هو من قوام الإيمان المنجي .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

غشاء الطبل في الأذن :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الله عز وجل يقول :

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[سورة الذاريات : 21]

 هذا غشاء الطبل الذي نسمع به جميعاً ، الحقيقة غشاء عجيب لا تزيده سماكته عن نصف ميليمتر ، ولا يزيد قطره عن تسعة ميليمتر ، متين كالصلب ، مرن كالمطاط ، حيوي جداً لنقل الأصوات ، لو تعطل هذا الغشاء لفقد الإنسان سمعه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الأذن الوسطى - ولا تزال الأذن سراً من أسرار صنعة الله عز وجل - موصولة بقناة إلى البلعوم لماذا ؟ أي صوت شديد كان بإمكانه أن يخرق هذا الغشاء ونفقد السمع ، فحينما وصلت الأذن الوسطى بالبلعوم تواصل الضغطان ، أليس هذا علم وخبرة من الله عز وجل ؟ هذا الغشاء مربوط بأربع عظيمات ، والتي لا يزيد وزنها عن خمسة وخمسين مليغراماً ، ولا يزيد طولها مجتمعة عن تسعة عشر ميليمتراً ، أربع عظيمات ، هذه العظيمات لها وظيفة رائعة تكبر الأصوات الضعيفة إلى عشرين مثلاً ، وتخفض الأصوات الضخمة المؤذية ، جهاز واحد يكبر ويخفض ، إذا جاء الصوت فوق طاقة الأذن هذه العظيمات تخفض شدة الصوت ، وإذا كان الصوت ضعيفاً هذه العظيمات تكبر الصوت ، شيء فوق خبرة الإنسان أن يصنع جهاز تكبير وتخطيط في وقت واحد .
 أيها الأخوة : الصوت اهتزاز ينتقل عبر وسط مرن ، فالهواء وسط مرن ، والعظيمات وسط صلب ، وفي الأذن الداخلية وسط مائع ، فالصوت ينتقل عبر وسط مرن هو الهواء ثم وسط صلب هو العظيمات ثم وسط سائل هو السائل الذي في الأذن الداخلية ، وهذا كله من أجل تنقية الصوت ، وتصفيته ، وتكبيره ، وتخطيطه ، ولكن الشيء الذي لم يعرف حتى الآن كيف تميز الأذن بين صوت الضجيج وصوت النغم ؟ قد تنسحق قطعة زجاج تحت باب فتخرج من جلدك ! هذا هو الضجيج ، وقد تستمع إلى صوت شلال صوت لا يقابل ، ترتاح لصوت الشلال وتنزعج لصوت انسحاق قطعة الزجاج تحت الباب ، كيف تفرق الأذن بين الضجيج وبين النغم ؟ هذا بقي سراً حتى الآن .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك خمسة وعشرون ألف خلية سمعية تنقل السمع إلى الدماغ، هذا من خلق الله عز وجل ، و قد ذكر الله في القرآن الكريم كيف أنشأ لنا السمع والأبصار والأفئدة .

 

تحميل النص

إخفاء الصور