وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0868 - الولاء1. الولاء بين المؤمنين - كلمة عن موعظة الموت .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغـاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسـلم رسول اللـه سـيد الخلق والبشر، مـا اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الولاء و البراء :

 أيها الأخوة الكرام: عدد ليس بالقليل من آيات الله، وعدد ليس بالقليل من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستنبط منها في مجموعها قاعدة إيمانية أساسية، بل هي أساس الإيمان، وهي من لوازم الإيمان، هذه القاعدة هي قاعدة الولاء والبراء، وقد عالجت هذا الموضوع في عدة خطب سابقة من زوايا متعددة، وهأنذا أعالجه مجدداً من زاوية أخرى.
 أيها الأخوة الكرام، لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، ديننا دين أدلة، ديننا دين نصوص، ديننا دين منهج، فالأدلة على الولاء والبراء كثيرة جداً، منها أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾

[ سورة الحجرات: 10 ]

 أي بتعبير لغوي في الآية قصر وحصر، من كلمة إنما، ليس المؤمنون إلا أخوة فإن لم يكونوا أخوة فليسوا بمؤمنين، هذه الحقيقة الأولى، إذا انتهت الأخوة انتهى الإيمان، في آية أخرى، وقبل أن أذكر الآية الأخرى، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى قَالَ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ...))

[الترمذي عن أبي الدرداء]

 وفساد ذات البين العداوة والبغضاء، المنافسة، الحسد، المشاحنة، لا أقول حالقة الشعر بل أقول حالقة الدين.

 

آيات من القرآن الكريم تؤكد الولاء بين المؤمنين :

 يقول الله عز وجل:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾

[سورة الأنفال: 72]

 الولاء بين المؤمنين جزء من الدين، الولاء بين المؤمنين جزء من الإيمان، هذا تأكيد من الله عز وجل، جاء بصيغة الخبر وكأنه أمر مستقر مفروغ منه، كيف أن الله سبحانه وتعالى قال بصيغة الخبر:

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾

[سورة البقرة: 233]

 لم يقل الله عز وجل: أيتها الوالدات أرضعن أبناءكن، لأن الأمر يقتضي تصور العكس، قد لا يستجيب، لأنه أمر مستقر ومفروغ منه، جاء التوجيه بصيغة الخبر ولم يأت بصيغة الإنشاء:

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾

[سورة البقرة: 233]

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾

[سورة الأنفال: 72]

 المقصود أن يوالي المؤمنون بعضهم البعض، آية أخرى:

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾

[سورة الأنفال:75]

 أيها الأخوة الكرام: لو تأخر مجيء الإنسان إلى آخر الزمان، فهو من الرعيل الأول مكانة، وهو من الرعيل الأول انتماء، لذلك تقرأ حياة الصحابة إذا كنت مؤمناً حقاً، إذا كنت متفوقاً، تشعر أنك معهم، أنك مع قيمهم، مع مبادئهم، مع تنافسهم الشريف، مع همومهم التي حملوها.

﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة الحشر: 10]

 أيها الأخوة الكرام: هذه آيات تبين الولاء للمؤمنين، أنا مضطر أن أوضح هذا بمثل، لو أن شاباً له أب على علم، و على خلق، وعلى فضل، الفضل يعني العمل الصالح، سمع من أحدهم تهمة ألصقت بأبيه، هذا الابن الذي له ولاء لأبيه ماذا يحدث عنده؟ يحدث عنده اضطراب شديد، لأن ولاءه لهذا الأب كامل، هل يصدق هذه التهمة؟ يردها فوراً، وإن كان الخصم معانداً يسأل أباه: ما ملابسات هذه التهمة يا أبي؟ ثم يحلل أدلة الخصم، ليكتشف خللها وضعفها، ثم يأتي بالأدلة القوية، هذا المثل المبسط لو وسعناه، أنت مسلم لو ألصقت بالإسلام تهمة ينبغي أن تضطرب، ينبغي ألا تنام الليل، لأن ولاءك لهذا الدين ينبغي أن تسأل أهل العلم: ما الرد على هذه الشبهة؟ ينبغي أن تحلل الأدلة التي جاء بها الخصم، لتكشف زيفها وخللها، ينبغي أن تأتي بالأدلة الناصعة، اليقينية، القاطعة، النقلية، والعقلية، والواقعية، والفطرية لترد هذه الشبهة، هذا هو الولاء أما إذا استمعت إلى تهم لا تنتهي وكنت مرتاحاً، ولم تكلف نفسك عبء البحث والدرس، ولا السؤال ولا التوضيح، ولا كشف أدلة الخصم، فأنت ليس لك ولاء لهذه الأمة، ولهذا الدين العظيم، وأفرق بين الأمة وبين الدين الذي هي عليه الأمة.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

[سورة التوبة : 71]

 هذا ما في القرآن الكريم من بعض الآيات التي تؤكد الولاء.

أحاديث من السنة المطهرة تؤكد الولاء بين المؤمنين :

 أما في السنة المطهرة فيقول عليه الصلاة والسلام:

((المسلم أخو المسلم))

[ متفق عليه عن أبي هريرة ]

((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ))

[متفق عليه عن أبي موسى الأشعري ]

(( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاضدهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))

[ مسلم عن النعمان بن بشير ]

((المسلمون كرجل واحد، إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله))

[ مسلم والترمذي عن النعمان بن بشير ]

 هذه الأحاديث أيها الأخوة تؤكد أن الولاء للمؤمنين جزء من الدين.

 

علامات الولاء للمؤمنين :

1 ـ الحبّ :

 هذه مقدمة لو دخلنا في التفاصيل: أولاً: هناك حقوق لكل مسلم عليك، أول هذه الحقوق أن تحبه، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))

[رواه الشيخان واللفظ للبخاري عن أنس ]

 هذا أدنى درجات المحبة، والمقصود أن كل مسلم يجب أن يحب لأخيه من خير الدنيا والآخرة ما يحبه هو لنفسه، وهناك إضافة لهذا الحديث، ينبغي أن يكره له ما يكره لنفسه، ولمجرد أن تتألم إذا أصاب الخير أخاك هذه علامة نفاق، لمجرد أن تفرح إذا أصاب الشر أخاك هذه علامة نفاق، إن أردت أن تكتشف عمق إيمانك فانظر إن أصاب الخير أخاك، كدرجة علمية، تجارة ناجحة، منصب رفيع وهو مستقيم على أمر الله، ينبغي أن تفرح له كما لو أن هذا لنفسك، هذا من علامات الإيمان، ومن علامات الولاء للمؤمنين.
 أيها الأخوة الكرام، أن تحب له من الخير ما تحب لنفسك، وأن تكره له من الشر ما تكره لنفسك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ... وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 هذا الحب، ينبغي أن يخفق قلبك بالحب لأخيك، السبب هناك تفسير علمي، لأن قيمك كقيمه، لأن مبادئك كمبادئه، لأن أهدافك كأهدافه، تطابق عجيب في الأهداف، في المنطلقات، في الوسائل، في الأساليب، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))

[مسلم عن أنس ]

 وقد يظن ظان أن المحبة عمل قلبي، لكن الله سبحانه وتعالى أمرك أن تأخذ بأسباب المحبة، أنا لا أتصور إيماناً من دون حب، والله عز وجل بنى خلق الكون على المحبوبية، ما أرادنا أن نطيعه مكرهين.

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾

[ سورة البقرة: 256 ]

 أرادنا أن نأتيه محبين، أرادنا أن نأتيه طائعين، أرادنا أن نأتيه بمبادرة منا، أرادنا أن نطيعه محبة، فيا أيها الأخوة الكرام هذه الحقيقة تؤكدها الآية الكريمة:

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

[ سورة المائدة: 54 ]

 ولو ألغيت الحب في الدين لوجدت الدين جثة هامدة من دون روح، المحبة أيها الأخوة تفعل الأعاجيب، المحبة تفعل مع الإنسان ما لا يتصور، يقول عليه الصلاة والسلام - هذا كلام دقيق، هذا كلام سيد الخلق - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 أي ينبغي ألا تتصور أن مؤمناً يكره أخاه المؤمن، لا إيمان قبل المحبة، المحبة أولاً والإيمان ثانياً، فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن أقول حالقة الدين، إفشاء السلام.

 

2 ـ المجاملة :

 أيها الأخوة من لوازم الولاء المجاملة، جمعت المجاملة في خمس خصال وردت في حديث صحيح واحد: ففي الحديث المتفق عليه أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ؛ رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 تلبية الدعوة تنمي المحبة بين المؤمنين، من دعي فلم يلب فقد عصا أبا القاسم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 والكراع رجل الماشية، أي أخشن طعام، أقل طعام.

 

3 ـ النّصرة :

 ومن لوازم الولاء للمؤمنين النصرة، أي أن يقف المسلم في صف إخوانه المؤمنين، فيكون معهم يداً واحدة، على أعدائهم، لا يسلم إخوانه إلى الكافر بتاتاً، الله عز وجل يقول:

﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ﴾

[سورة النساء: 75]

 علامة الولاء أن تنصر أخاك المؤمن، أن تنصره ظالماً بأن تكف يده عن الظلم، وأن تنصره مظلوماً بأن ترد عنه الظلم، هكذا

 

الحقوق الخاصة :

1 ـ حق النبي عليه الصلاة و السلام :

 أيها الأخوة الكرام: هذه الحقوق العامة، المحبة والمجاملة والنصرة، وأما الحقوق الخاصة فعلى رأسها حق النبي صلى الله عليه وسلم، هو هادي هذه الأمة، وقائدها، ورسولها صلى الله عليه وسلم، إليه المرجع في التبليغ والاتباع، وحق كل مسلم في هذه الأمة أن يحبه أكثر من نفسه وماله ووالده وولده والناس أجمعين، ما معنى هذا الكلام؟! أي إذا كان هناك أمر من الأب، أو رجاء من الزوجة، أو مصلحة الولد تقتضي أن يخالف سنة النبي، فسنة النبي تقتضي أن تخالف كل من حوله، هذا هو المعنى الدقيق للحديث، أي إذا كان هناك ضغط شديد عليه من قبل أقرب الناس إليه ليعمل عملاً مخالفاً للسنة محبته للنبي عليه الصلاة والسلام أبلغ من إرضاء من حوله، قد يُفهَم هذا الحديث فهماً سطحياً، أنني أنا والله أحب رسول الله أكثر من كل شيء، هذا كلام، أما حينما تتعارض سنة النبي مع مصلحتك، مع رغبة زوجتك، مع ضغط والدك، مع ضغط شريكك، حينما تتعارض الضغوط التي حولك مع منهج رسول الله وأنت تحب رسول الله أكثر من كل هؤلاء فلا تعبأ، تطبق السنة ولو غضب الغاضبون:

فـليتك تحـلو و الحياة مريــــرة  وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامراً  وبيني وبين العـالمين خراب
***

محبة الرسول الكريم جزء من الدين :

 أيها الأخوة الكرام: الله عز وجل يقول:

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾

[سورة الفتح: 8-9]

 محبة هذا الرسول الكريم جزء من الدين، والصحابة ما كانوا على ما هم عليه إلا بمحبتهم لرسول الله، وأنا أقول دائماً والأسى يعتصر قلبي ترى في العالم الإسلامي اليوم المظاهر الصارخة للدين، مساجد تكلف مليارات، مؤتمرات، مكتبات، وسائل رائعة جداً، لكن لا ترى المحبة بين هؤلاء، كلٌ يكيد للآخرين، حينما تفقد المحبة يفقد جزء كبير من الدين، لذلك الله عز وجل يقول:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾

[سورة الحجرات: 2]

 حتى الانتقاص من مكانة النبي دون علم هذا مما يحبط العمل، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً ﴾

[سورة الأحزاب : 57]

 إذاً محبة رسول الله أي أن تؤثر طاعته على طاعة من سواه، هذه الترجمة العملية للمحبة:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في المقال شنيع
إن كـان حبك صادقاً لأطعتــــه  إن المحب لمن يـحب مطيع
***

2 ـ حقوق العلماء :

 وينسحب على هذا أن توقر وأن تحب من ينطق بدعوة الله عز وجل، هذا ينسحب على محبة النبي صلى الله عليه وسلم.

3 ـ حق الوالدين و الأرحام :

 أيها الأخوة الكرام: حق الوالدين والأرحام. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ:

((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ ))

[البخاري عن أبي هريرة]

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾

[سورة الإسراء: 23]

 الولاء في الدرجة الأولى لرسول الله، والولاء للعلماء الربانيين المخلصين العاملين، والولاء للوالدين الذين كانوا سبب وجودك.
 أيها الأخوة الكرام: ثم الولاء للأرحام، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ))

[البخاري عن عائشة]

4 ـ حق الجوار و الزمالة و الصداقة :

 بل إن التضامن الاجتماعي في الإسلام أساسه القرابة والجوار علاقات النسب وعلاقات الجوار. عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ))

[البخاري عن عائشة]

 أيها الأخوة الأحباب: نبدأ برسول الله ثم بالعلماء الربانيين العالمين المخلصين ثم بالوالدين والأقربين وأولي الأرحام، ثم ننتقل إلى علاقات الجوار والزمالة والصداقة.

﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾

[سورة النساء: 36]

 بعد علاقات القربى علاقات الجوار والصحبة والشراكة والضيافة، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ))

[البخاري أَبِي شُرَيْحٍ]

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ))

[البخاري عن أبي هريرة]

أيضاً الولاء لهؤلاء.

5 ـ حق الفقير و المسكين و السائل و ابن السبيل :

 ثم حق الفقير والمسكين وابن السبيل والسائل، هؤلاء أيضاً لهم حق عليك.

الحياة حقوق و مسؤوليات :

 أيها الأخوة: الحياة كلها حقوق ومسؤوليات، نحن في دار عمل لا في دار جزاء:

((إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي))

[كنز العمال عن ابن عمر ]

 يا أخوة الإيمان: الحياة من دون حب وقيم ومبدأ ومن دون تضحيات لا تعاش، وهذه الحياة الدنيا هي مطية للآخرة، فيها تدفع ثمن الآخرة، أهل الجنة وهم في الجنة:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ﴾

[ سورة الزمر: 87 ]

 لولا أننا جئنا إلى الدنيا، وتعرفنا إلى الله، وانضبطنا بشريعة الله، وبذلنا من الخير ما نستطيع، ما كنا في الجنة، كما لو أن طبيباً ذاع صيته وعلا دخله جداً مرّ أمام جامعته التي تربى فيها لولا أنه كان طالباً في هذه الجامعة ما كان بهذه المكانة، وما كان بهذا الدخل الوفير.

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾

[ سورة الزمر: 87 ]

ملخص لما سبق :

 ملخص هذه الخطبة: ولها خطب متتابعة، هنا الولاء، الولاء العام أن تحب المؤمنين وتجاملهم وتنصرهم، والولاء الخاص لسيد الخلق وحبيب الحق، ألا يعلو صوتك على صوته! مات ! ألا تأتي برأي مناقض لسنته، ألا تقترح اقتراحاً يناقض منهجك.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[سورة الحجرات: 1]

 لأنه معصوم ولا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، والحب الذي عنته الأحاديث فضلاً عن معناه الحقيقي أن يميل قلبك إليه، له ترجمات عملية، أي ألا تطيع من حولك ممن لهم قوة الضغط عليك، وتعصي رسول الله وتخالف سنته، أنت تطيع من تحب، ثم أن توالي الوالدين والأقربين وأولي الأرحام، ثم أن توالي الزملاء والأصدقاء والجيران والشركاء والضيوف، ثم أن توالي الفقراء والمساكين، وأبناء السبيل والسائلين، هذا هو الولاء الذي عنته الآيات الكريمة، والذي يفتقده المسلمون اليوم.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وأجمعين وبعد:

موعظة الموت :

 أيها الأخوة الكرام: قبل يومين توفي أخ أظنه صالحاً، ولا أزكي على الله أحداً، توفي في سن مبكرة من دون سبب ظاهر، وكانت وفاته صدمة لأصدقائه، لكن الوفاة تعلمنا شيئاً كثيراً، الموت لا يعرف كبيراً ولا صغيراً، ولا صحيحاً ولا مريضاً، ولا شاباً ولا شيخاً، ولا قوياً ولا ضعيفاً.

﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾

[سورة الأعراف: 34]

 أيها الأخوة: الشيء الثاني: أن الله عز وجل يقول في آية دقيقة:

﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾

[سورة البقرة: 132]

 يا رب ما معنى هذه الآية؟ هل الموت بيدي حتى أموت مؤمناً؟ معنى الآية مادام الموت لا تعرفه متى قد يأتي في سن مبكر وفي سن متأخر، قد يأتي وأنت في البيت، وأنت تسافر، وأنت في الطريق، قد يأتي بعد التخرج، أو بعد الانتهاء من كسوة البيت، أو في مواقف حرجة غير متوقعة، مادام الموت يأتي بغتة ينبغي أن تكون مستعداً له، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْت))

[الترمذي عن أبي هريرة]

 مفرق الأحباب، مشتت الجماعات، عش ما شئت فإنك ميت، اعمل ما شئت فإنك مجزي به.
 أيها الأخوة: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت إنساناً أعقل ممن عمل لهذه الساعة التي لا بد منها، من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت ، الموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل، الدنيا ساعة اجعلها طاعة والنفس طماعة عودها القناعة، الإنسان إن كان له عمل طيب يشعر أن الله راض عنه، وقع الموت عليه ليس كوقع الموت على إنسان شارد، لم يعد لهذه الساعة العدة، لذلك من هو العاقل؟ هو الذي يصل إلى الشيء بعقله قبل أن يصل إليه بجسده، هو الذي يعيش المستقبل، أخطر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا، من هنا قال الله عز وجل:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾

[سورة الملك: 2]

 بدأ بالموت وثنّى بالحياة، لماذا بدأ بالموت؟ لخطورته، إنك حينما تولد أمامك خيارات لا تعد ولا تحصى، أما حينما يأتي ملك الموت فأنت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما إلى جنة يدوم نعيمها، وإما إلى نار لا ينفد عذابها.
 أيها الأخوة الكرام: من تمام عقل الإنسان أن يعد للموت العدة المناسبة، اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فـيمن تـوليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر مـا قضيت، فـإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل مـن واليت، ولا يعز مـن عـاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الـتي فـيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا مـن كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم شتت شملهم واجعل تدميرهم في تدبيرهم، واجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحب وترضى، اجمعهم على الحق والخير والهدى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور