وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0468 - الوقت3 - مواقف الناس من الوقت - غدة البنكرياس.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ، ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتِّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

مواقف الناس المتباينة من الماضي و الحاضر و المستقبل :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قبل أسبوعين بدأنا في موضوع الوقت ، لا زال في هذا الموضوع بقيَّة ، فالزمن كما تعلمون أيها الأخوة زمنٌ ماض ، وزمن حاضر ، و زمن مستقبل ، و الناس عادة يقفون مواقف متباينة من هذه الأزمان الثلاثة ، بعض هذه المواقف فيه تطرُّف ، و بعض هذه المواقف فيه اعتدال النظر للماضي دون العمل للحاضر نظرة خاطئة ومتطرفة
فالمواقف المتطرفة من الزمن هي على النحو التالي ، هناك أناس أيها الأخوة لا يعنون إلا بالماضي ، و لا يشيدون إلا به ، و لا يعتقدون إلا به ، هؤلاء نسوا حاضرهم ، و نسوا مستقبلهم ، هؤلاء الأشخاص أيها الأخوة يفخرون بماضيهم ، و يتغنَّون به ، و يعتزُّون به ، و يشيدون به ، من دون أن يكون حاضرُهم متَّصلاً بماضيهم ، من دون أن يعملوا أن يكون واقعُهم كسالفهم ، من دون أن يتَّصل الماضي عندهم بالحاضر ، هؤلاء الذين يعتقدون بالماضي ، ويشيدون به ، ويعتزُّون به ، و يفتخرون به ، وهم كسالى لا يفعلون شيئاً ، لا يصنعون بطولة ، لا يتطلّعون إلى مثُل عليا ، لا يريدون أن يكونوا خلفاء لأسلاف عظماء ، هؤلاء الذين يتعلقون بالماضي من دون أن يكون حاضرهم متَّصلاً بطريقة أو بأخرى بماضيهم ، هؤلاء نظروا إلى الماضي نظرة متطرّفة على حساب حاضرهم ، و قد ذكرت لكم أيها الأخوة ؛ في خطبة سابقة أنه هناك فرق كبير بين التفوُّق و بين التطرُّف ، فالتطرف أن ينمو جزءٌ من الدين نموًّا عشوائياً على حساب أجزائه الأخرى ، أما النظرة المتوازنة والنمو المتوازن في كل أجزاء الدين فهذا هو التفوُّق ، و ذكرت لكم وقتها أن من الدين جانباً فكرياً ، و أن من الدين جانباً سلوكياً ، وأن من الدين جانباً انفعالياً ، فمن نمَّى فكره الديني من أن يكون عملُه متطابقاً مع معتقده فقد تطرَّف ، و من نمَّى جانبه السلوكي من دون أن يُعنى بعقيدته فقد تطرَّف ، ومن نمَّى انفعالاته الدينية من دون أن يعمل ، ومن دون أن يطلب العلم فقد تطرف ، أما من عمل على تنمية هذه الجوانب كلًّا جنباً إلى جنب بشكل متوازٍّ فهذا قد تفوَّق ، لأن النبي عليه الصلاة و السلام كان المثلَ الأعلى ، فبقدر ما كان أصحابُه الكرام ينطوون على فكر دقيق و عقيدة راسخة بقدر ما كانت أعمالهم منضبطةً ومحسِنة بقدر ما كانت أحوالُهم راقية .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الاعتزاز بالماضي ، والافتخار به ، والقعودُ عن صنع بطولة في الحاضر هذه نظرة خاطئة إلى الماضي ، نظرة ليست متوازية .

لئن فخرتَ بآباء ذوي حســـــــــب  لقد صدقتَ و لكن بئس ما ولدوا
***
كن ابنَ من شئت و اكتسب  أدبا يغنيك محموده عن النســـــــــــــب
***

الوجه الإيجابي للاعتزاز بالماضي :

 أيها الأخوة ؛ الاعتزاز بالماضي له وجهٌ إيجابي ، الاعتزاز بالماضي مفيد بشرط أن يحفزنا إلى بطولة مستقبلية ، الافتخار بالماضي مفيد بشرط أن يكون حاضرُنا متَّصلاً بماضينا ، الإشادة بالآباء مفيد بشرط أن يكون الأبناءُ على منهج الآباء .
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ قال الشاعر :

ألهى بني تغلبٍ عن كلِّ مكرمة قصيدة قالها عمرُو بنُ كلثوم
***

 الاعتزاز بالماضي مفيد على أن يحفزنا إلى بطولة مستقبلية
هذا الشاعر أشاد بقبيلته ، هذه القبيلة تغنَّت بهذه القصيدة حتى نسيت أن تصنع مجداً لأبنائها أو لحاضرها .
 أيها الأخوة الكرام ، هناك من يُعنى - كما قلت قبل قليل - بالتراث من دون أن يضعه في الغربالِ ، من دون أن يزنه بموازين الشرع ، من دون أن يقيِّمه تقييماً في ضوء الكتاب والسنة ، كلُّ شيء قديم صحيح و حقٌّ و لا شكَّ فيه ، و كلُّ شيء جديد مرفوض ، هذه نظرة مرضية ليست صحيحة .
أيها الأخوة الكرام ؛ كلُّ شيء يوزَن بميزان الشرع ، الحسنُ ما حسَّنه الشرع و القبيح ما قبَّحه الشرع ، لو درجنا على عادات و تقاليد ، لو فعل آباؤنا أشياء يجب أن نقيسها بالشرع ، يجب أن نقيسها بالكتاب و السنة ، فهذا الشرع هو الميزان الدقيق الذي هو من عند خالق الكون ، من عند الصانع ، وهو بشكل أو بآخر تعليمات للصانع .

 


الاتباع على بصيرة :

 أيها الأخوة ؛ قال تعالى :

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾

[سورة البقرة: 170]

 أليست هذه الآية تكفينا ؟ قال تعالى :

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾

[سورة البقرة: 170]

 الاتباع الأعمى من دون تبصر يهلك صاحبه
لا يُقبل من الإنسان أن يقلِّد تقليداً ، لا ينبغي إلا أن يتفهَّم ، إلا أن يتبصَّر ، إلا أن يطلب الدليل ، إلا أن يطلب التعليل ، لا ينبغي أن يتَّبع على عمى ، قال تعالى :

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾

[سورة يوسف: 108]

 فالاتباع على بصيرة ، وليس الاتباع من دون تبصّر . قالوا لسيدنا هود :

﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾

[سورة الأعراف: 70]

 و قالوا لسيدنا صالح :

﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾

[سورة هود: 62]

 و قالوا لسيدنا إبراهيم :

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾

[سورة الأنبياء: 52-53]

 و قالوا لسيدنا شعيب :

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾

[سورة الأنبياء: 52-53]

 إذًا لا بدَّ من التبصر ، لا بدَّ من التأمُّل ، لا بدَّ من طلب الدليل ، لا تعتقد شيئاً قبل أن تستوثق من دليله ، لأن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم :

((ابن عمر دينك دينك ، إنه لحمك و دمك ، خذ عن الذين استقاموا و لا تأخذ عن الذي مالوا))

[ كنز العمال عن ابن عمر ]

 لقد لخَّص الله سبحانه و تعالى أقوال هؤلاء لأنبيائهم فقال :

﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾

[سورة الزخرف: 23]

 ومن أدقِّ الآيات الكريمة التي تشير إلى هذه المعاني إشارة لطيفة ، هي قوله تعالى حينما قال الشيطان :

﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾

[سورة الأعراف: 16-17]

 أي أزيِّن لهم ما كان عليه آباؤهم ، أو أزيِّن لهم ما ينبغي أن يفعلوه في المستقبل:

﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾

[سورة الأعراف: 17]

 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك أناس آخرون يعيشون الماضي وحده متحسِّرين على ما مضى منه من فرص ، متحسِّرين على ما فاتهم ، هؤلاء تغلب عليهم السوداوية ، هؤلاء يغلب عليهم التشاؤم ، النبي عليه الصلاة و السلام حسم هذا الأمر بحديث صحيح ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 و في حديث حسن يقول عليه الصلاة و السلام :

((الإيمان بالقدر يذهب الهم و الحزن))

[السيوطي عن أبي هريرة]

 هذه لو يجب أن تُشطب من قاموس المؤمن ، إلا أن العلماء كما قلت لكم من قبل استثنوا لو الإيجابية ، وقد استُنبط هذا من قوله تعالى :

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

[ سورة الجن: 16-17 ]

الاستفادة من تجارب الماضي و استخلاص العبر و الدروس منها :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هؤلاء عبَّاد الماضي ، الذين تركوا العمل في حاضرهم فكان ماضيهم منقطعاً عن حاضرهم ، هؤلاء ما فعلوا شيئاً ، و أما الذين يتعبَّدون المستقبل ، يهتمّون به ، يلغون كلَّ التراث ، يلغون كل ماضيهم ، يلغون كل أمجادهم ، يحتقرون سلفهم ، هؤلاء أيضاً تطرَّفوا ، هؤلاء أيضاً نظروا نظرة ليست صحيحة ، هؤلاء أيضاً نظروا نظرة مرضية للمستقبل ، إعراضهم عن الماضي إعراضاً كلِّياً ، ما فيه من بطولات ، ما فيه من حقائق ، ما فيه من دروس و عبر ، ما فيه من أشياء صنعها الآباء لتكون المثل الأعلى للأبناء ، هؤلاء أعرضوا عنها إعراضا كلِّيًّا ، لكن الله سبحانه و تعالى يقول :

علينا أن نأخذ من تجارب الماضي العبر ونتجنب أخطاءهم

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

[ سورة الجن: 16-17 ]

 معنى ذلك أن الإنسان يكن أن يستفيد من تجارب الماضيين ، يمكن أن يستخلص الدروس والعبر ، يمكن أن يأخذ الحقائق ، يمكن أن يتعلَّم ما شاء له التعلم من دروس الآباء و الأجداد ، لذلك قيل : " السعيد من يتَّعظ بغيره ، و الشقي لا يتَّعظ إلا بنفسه " هؤلاء الذين نظروا إلى المستقبل أيضاً بعضهم تشاءم ، و بعضهم ظن أن المستقبل لا يلد إلا السوء ، وأننا من سيَّئ إلى أسوأ ، و من أسوأ إلى الأسوأ ، و هكذا ما من يوم إلا و الذي بعده أشرُّ حتى تقوم الساعة ، فهموا هذا الحديث فهماً على غير ما أراد النبي عليه الصلاة و السلام .
 الحياة أيها الأخوة من دون أمل ، الحياة من دون تفاؤل ، هذه ليست حياة ، إنها نوع من الموت .

 

الحياة من دون أمل و تفاؤل نوع من الموت :

 أيها الأخوة ؛ ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ، الحياة من دون أمل أضيق من خاتم ، أضيق من سمِّ خياط ، لا معنى للحياة مع اليأس ، و لا معنى لليأس مع الحياة ، قال تعالى :

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا

﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾

[ سورة الشرح: 6]

 ومن أدق ما في هذه الآية أن المعنى هو كما يلي : إن بعد العسر يسراً و لكن الله سبحانه و تعالى استعار كلمة مع لبعد ليطمئن المؤمن أن هذا العسر الذي يواجهه قد خُلق اليسرُ معه خلقاً ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾

[ سورة الشرح: 6]

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾

[ سورة الشرح:1-6]

 أيها الأخوة الكرام ؛ قال تعالى :

﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾

[سورة يوسف: 87]

 و قال تعالى :

﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾

[سورة الحجر: 56]

 و قال أحدهم :

ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتـــى  ذرعا و عند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتُها  فُرجت و كنا نظنُّها لا تُفــــرج
***
و ذكرت لكم في الخطبة السابقة قول الشاعر :
كن عن همومك معرضاً  وكِل الأمور إلى القضا
و أبشر بخير عاجـــــــل  تنسى به ما قد مضـــــى
فلرُبَّ أمر مسخــــــــــــــط  لك في عواقبه رضـــــــــــا
و لربما ضاق المضيق  و لربما اتَّسع الفــضـــــــا
الله يفعل ما يشـــــــــــاء  فلا تكن معتـــرضـــــــــــــــــا
الله عوّدك الجميـــــــــــل  فقِس على ما قد مـضى
***

النظرة المثالية للمستقبل :

 أيها الأخوة الكرام ، يقول عليه الصلاة و السلام عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ))

[أحمد عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ]

 مواجهة المستقبل بالأماني نوع من الضياع
هل بعد الحديث من حديث ؟ هل بعد هذا الحديث من حُجَّة للكسول ؟ إذا قامت الساعة وانتهت الدنيا و انتهى كلُّ شيء ، و قدِم الناسُ على ربهم ، وفي يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها ، ترك العمل نوعٌ من الحمق ، يجب أن تعمل لأن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾

[سورة النحل: 32]

 أيها الأخوة الكرام ؛ الإمام ابن سيرين سُئل مرة من قِبل رجل ، قال : يا إمام رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء ، و أني أطير بغير جناح فما تفسير هذه الرؤيا ؟ قال : أنت رجل كثير الأماني ، ما الفرق بين الأمنية و الرجاء ؟ الأمنية أن تتمنى خيراً كثيراً دون أن تعمل له إطلاقاً ، فأنت من أهل الأماني ، أما إذا كنت من أهل الرجاء فقد قال تعالى :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[سورة الكهف: 110]

 و قال تعالى :

﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾

[سورة الأنعام: 158]

 فمواجهة المستقبل بالأماني نوعٌ من الضياع ، أما أن تعِد للمستقبل العمل الصالح ، والتوبة النصوح ، وإنفاق المال ، وضبط الجوارح ، وضبط الدخل ، والاستقامة على أمر الله ، إذا أعددت للمستقبل هذه الأعمال فأنت من الرابحين الناجحين .
 أيها الأخوة الكرام ، الإمام عليٌّ كرم الله وجهه يقول : " إياك والاتكال على المُنى فإنها بضائع الحمقى" ، الاتكال على المنى ، و قد ذكر الله سبحانه و تعالى مقولة اليهود فقال :

﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾

[سورة البقرة: 111]

 قال تعالى :

﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾

[سورة البقرة: 111]

 قال تعالى :

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً﴾

[سورة النساء: 123]

 وقال تعالى :

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾

[سورة النساء: 124]

 إذًا النظرتان المرضيتان للمستقبل أن تنظر إليه بتشاؤم شديد ، و يأس قاطع ، أو تنظر إليه بأحلام ، وآمال لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، كلتا النظرتين خاطئة لأنها انحرفت عن الصراط المستقيم ، أما أن تعدَّ للمستقبل التوبة والاستقامة والعمل الصالح فهذه النظرة المثالية للمستقبل ، عندئذ تقول كما قال الله عزوجل :

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾

[سورة التوبة: 51]

الفرق بين الرجاء و الأماني :

 أيها الأخوة الكرام ؛ فرَّق العلماء تفريقاً دقيقاً بين الرجاء الذي يقارنه العمل و بين الأماني التي تفتقر إلى العمل ، أثنى على الراجين ووبَّخ المتمنِّين ، وبَّخهم فقال :

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾

[سورة النساء: 123]

 إنما هؤلاء الذين يرجون الله عز وجل ، وأكَّدوا رجاءهم بالعمل قال تعالى :

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾

[سورة الإسراء: 19]

 و قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[سورة الكهف: 110]

 ثم يقول الله عز وجل :

﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[سورة الأعراف:56]

 أي أن رحمة الله شيء ثمين جدًّا ، لكن كل مؤمن بإمكانه أن يصل إليها باستقامته وإخلاصه وعمله الصالح ، إنها مبذولة ، وليست ممنوعة ، قال تعالى :

﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[سورة الأعراف:56]

 و قال تعالى :

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾

[سورة القصص:14]

 و قال تعالى :

﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾

[سورة الأعراف:156]

 أيها الأخوة الكرام ، الحديث النبوي الذي تعرفونه جميعاً ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ))

[رواه الترمذي عن شداد بن أوس]

 رجاء المغفرة يقترن بالعمل والتوبة
المتمنِّي الذي لا يعمل ، وأما الراجي فهو الذي يعمل ، واللهُ أثنى على الراجين ، و قال بعض الصالحين : " طلب الجنة بلا عمل ذنبٌ من الذنوب ، و ارتجاء الشفاعة بلا اتِّباع للسنة نوع من الغرور ، و ارتجاء رحمة الله مع المعاصي حمقٌ و جهل " ، وقال الإمام الحسن: " إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا و لا حسنة لهم " ، ما أكثر هؤلاء ، كلما قلت له : لِم تفعل كذا ؟ يقول : الله يغفر لنا ، يدعو الله بالمغفرة من دون أن يتوب ، من دون أن ينوي التوبة ، كلما وجِه بمخالفة يقول : اللهم اغفر لنا و ارحمنا ، لذلك : " إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا و لا حسنة لهم " ، إذا قال أحدُهم : إنني أحسن الظنًّ بربِّي نقول له : كذبت ، لو أحسنت الظن بربك لأحسنت العمل له ، قال تعالى :

﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾

[سورة فصلت:11]

 أن تظن به أن يغفر لك من دون أن تقدِّم ثمن المغفرة ، لذلك قال عليه الصلاة و السلام :

(( مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ))

[رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى]

 قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[سورة الكهف: 110]

 و قال تعالى :

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة النحل: 119]

 كل الآيات التي تبشّر بمغفرة الله عز وجل يأتي بعدها آيات التوبة و الإنابة و الإخلاص و الإصلاح و ما شاكل ذلك .

 

كيفية النظر إلى الماضي و المستقبل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا نظرنا إلى الماضي مفتخرين و قعدنا عن العمل فقد أخطأنا ، و إذا نظرنا إلى الماضي مقدَّسين و ألغينا الحاضر كله فقد أخطأنا ، و إذا نظرنا إلى المستقبل على حساب إلغاء الماضي ، ألغينا الماضي بكل ما فيه من بطولات ، وتاريخ ، وتراث، وحقائق فقد أخطأنا ، وإذا نظرنا إلى المستقبل بسذاجة بالأماني ، وبالأحلام فقد أخطأنا ، فلا بد أن ننظر إلى الماضي ، وأن نأخذ منه ما يحفزنا للبطولة ، وأن نغربله بالكتاب والسنة ، فما كان وفق الكتاب والسنة على العين والرأس ، وما كان خلاف الكتاب والسنة ننبذه ، ولا نلوي على شيء ، أما المستقبل فننظر إليه متفائلين ، لكن بعد أن نعدَّ العدَّة له من توبة ، و استقامة، وعمل صالح .

نظرةُ بعض الناس إلى الحاضر :

 أيها الأخوة الكرام ؛ بقيت نظرةُ بعض الناس إلى الحاضر ، هناك أشخاص لا يلتفتون إلى ماضيهم ، ولا إلى مستقبلهم ، وإنهم يعيشون لحظتهم الحاضرة ، هؤلاء ضيِّقو الأفق، هؤلاء يأتيهم الهلاكُ بغتة دون أن يشعروا ، هؤلاء ينطلقون من قول الشاعر :

ما مضى فات و المؤمل غيب  ولك الساعة التي أنت فــيها
***

 أصل هذا البيت :

إنما هذه الحياة متــــــــــــــــــــاعٌ  و السفيه الغوي من يصطفيها
ما مضى فات والمؤمل غيب  و لك الساعة التي أنت فــيـــها
***

 في الحقيقة هذه مقولة سيقولها المؤمن ، ويقصد بها معنى ، ويقولها غيرُ المؤمن و يقصد بها معنى آخر ، إذا قالها المؤمن ، قال لك :

ما مضى فات و المؤمل غيب  ولك الساعة التي أنت فــيها
***

 يقصد أن الماضي لا يعود ، فالحديث عنه تضييع وقت ، و المستقبل لا تملكه ، هو غيب ، ربما لا نصل إليه ، ماذا تملك أيها المؤمن ؟ هذه الساعة التي أنت فيها ، إذًا تُب من فورك إلى الله ، اصطلح معه ، شمِّر و انطلق إليه ، فِرَّ إليه ، هذا المعنى الذي يفهمه المؤمن من هذا القول ، أما أهل الدنيا :

فإن كنت لا تستطيع دفعَ منيتي  فدَعني أبادرها بما ملكتْ يدي
***

 الحاضر فرصتنا الوحيدة للنجاة والسعادة
ينكبُّ على شهواته وسقطاته وإرواء غرائزه انكباب الأعمى ، و ينسى ماضيه ، و ينسى مستقبله ، و يعيش لحظته و كأنه يعطِّل فكرَه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لا بد من أن تُصحَّح النظرات ، لا بد من أن تستقيم هذه النظرات إلى الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، لا بد من أن نأخذ من الماضي ما يحفزنا للبطولة ، لا بد من أن نستخلص الدروس والعبر ، لأن السعيد من اتَّعظ بغيره ، والشقيُّ لا يتَّعظ إلا بنفسه ، ولا بد من أن ننظر للحاضر على أنه فرصة وحيدة لا تُعوَّض ، فرصة لنجاتنا و لسعادتنا ، و لا بد من أن ننظر للمستقبل نظرة متفائلة على أساس التوبة ، والاستقامة ، والعمل الصالح .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطِّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

غدة البنكرياس :

 أيها الأخوة ؛ مرض شائع جداً هو مرض السكر ، هذا المرض سببه اضطراب في وظائف البنكرياس ، ما البنكرياس ؟ قالوا : إنه عضوٌ حيويٌّ هامٌّ جدًّا ، يقع على الجدار الخلفي للبطن ، وزنه خمسة و تسعون غراماً ، أي أقلُّ من نصف أوقية ، أبعاده عشرون سنتيمتراً طولاً ، و ستة عرضاً ، و سنتمتراً ارتفاعاً أو سماكة ، هذا البنكرياس يفرز عصارة هاضمة تتكون من أربعة إنزيمات ، هي هامة جداً ، لكن خطورته تأتي من الهرمونات التي يفرزها ، في البنكرياس من اثنين إلى ثلاثة ملايين جذيرة ، أبعاد الجذيرة المتوسطة مئتا ميكرون، وزن هذه الجذر - المئتا مليون جذيرة - واحد بالمئة من وزن البنكرياس ، أي غرام ، تقريباً غرام واحد فيه مئتان إلى ثلاثة ملايين جذيرة ، أبعاد كل جذيرة مئتا ميكرون ، وزن كل هذه الجذر - الاثنين أو الثلاثة مليون - واحد غرام ، أي واحد من المئة من وزن البنكرياس ، هذه الجذر كل جذيرة تفرز ثلاثة أنواع من المواد ، النوع الأول خلايا (إلفا) تفرز مادة معاكسة للأنسولين ، أي إذا انخفضت كميةُ السكر في الدم هذه المادة تحث الكبد على إخراج كميات من السكر استثنائية ، و(بتا) تفرز الأنسولين وله بحث طويل ، لا مجال إلى التفصيل فيه ، و الخلايا الثالثة (دلتا) هذه لم تُعرف وظيفتُها بعد حتى الآن ، فحياة الإنسان تصبح نوعاً من الجحيم إذا كفَّت بعضُ خلايا (بتا) عن إفراز الأنسولين الذي يحرق السكر في درجة حرارة الجسم.
 يفرز البنكرياس هرمونات تنظم نسبة السكر في الدم
الإنسان أيها الأخوة مركَّب من أجهزة ، ومن أعضاء بالغة الدقَّة ، بالغة التعقيد ، والإنسان في قبضة الله ، و هذا الذي يقول : أنا إنسان أحمق ، لأنه لا يعرف أيُّ عضو من أعضائه ، وأيَّة غدَّة من غدده ، وأيّ جهاز من أجهزته ، وأي نسيج من أنسجته لو اضطرب إما في بنيته التشريحية ، أو في بنيته الوظيفية لأصبحت حياةُ الإنسان جحيماً لا يُطاق ، لذلك يقول الإمام الشافعي : " كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " ، والإنسان كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً لله عز وجل ، وازداد عبودية له ، حياة الإنسان ، واستقامة حياته منوطة بهذه الجذر التي تعدُّ من اثنين إلى ثلاثة مليون ، والتي لا تزيد في مجموعها عن الواحد غرام ، و التي تفرز ثلاثة أنواع من الإفرازات ، واحد مضاد للأنسولين ، وواحد يحرق السكر في الدرجات الدنيا ، ولولا هذا الهرمون لكانت حياةُ الإنسان جحيماً لا يُطاق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لا تنسوا هذه الآية قال تعالى :

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

[ سورة فصلت: 53 ]

 و قال تعالى :

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات: 21 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور