وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0764 - وسائل تقوية الإيمان4 - خطبة قاضي دمشق محي الدين القرش يوم فتح القدس على يد صلاح الدين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

التنويع بين العبادات و القربات و الطاعات يجعل الإنسان مع ربه دائماً :

 أيها الأخوة الكرام، هذه الخطبة الرابعة والأخيرة في سلسلة خطب ضعف الإيمان، بينت في أول خطبة مظاهر ضعف الإيمان، وفي الخطبة الثانية أسباب ضعف الإيمان، وفي الخطبة الثالثة علاج ضعف الإيمان، وقلت وقتها للموضوع صلة، وهأنذا أتابع بنود معالجة ضعف الإيمان.
 أيها الأخوة الكرام، من فضل الله علينا أن العبادات في الإسلام منوعة، والإنسان حينما ينوع عباداته يبعد عن نفسه السأم، ولعل هذه العبادة تقربه أكثر من هذه العبادة، فكلكم يعلم أن في الإسلام عبادات بدنية كالصلاة، وهناك عبادات مالية كالزكاة، وهناك عبادات تجمع بين البدنية والمالية كالحج، وهناك عبادات باللسان كالذكر والدعاء، والعبادة الواحدة كالصلاة مثلاً تتوزع بين الفرائض والسنن المستحبة، والسنن الراتبة، وهناك فرائض ثنائية، وثلاثية، ورباعية.
 هناك قاعدة في الدراسة تفيدنا في هذا الموضوع، الطالب إذا أراد أن ينتج إنتاجاً كبيراً في دراسته، ينبغي أن ينوع الكتب، فكلما قرأ فصلاً من كتاب، انتقل إلى كتاب آخر، هذا يبعده عن السأم، ويقربه من هدفه أكثر، فيا أيها الأخوة الكرام للجنة أبواب كثيرة، وكل عبادة باب من أبواب الجنة، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، وكلكم يعلم أن سيدنا الصديق رضي الله عنه حينما سأل النبي عليه الصلاة والسلام:

((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ ))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 فكان هذا الصحابي الجليل الذي يأتي مقامه بعد رسول الله منوعاً في عباداته، وهذا مما يقرب من الله عز وجل، ولعل أبلغ مثل أن النبي عليه الصلاة والسلام في بدر، حينما رأى الرواحل قليلة، لا تزيد عن ثلاثمئة، ورأى أصحابه يزيدون عن ألف، قال: كل ثلاثة على راحلة، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، ركب النبي عليه الصلاة والسلام ولما جاء دوره في المشي أراد صاحباه أن يبقى راكباً، فقال عليه الصلاة والسلام كلمة لا تُنسى، قال:

((كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ فَقَالَ مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا ))

[أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]

 المؤمن قوي، حتى في جسده قوي، لأنه يتبع سنة رسول الله، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر، هو سيد الخلق، وحبيب الحق، يطمع أن ينال أجراً عندما يمشي وصاحباه يركبان، هناك شخص يدعو إلى الله، يترفع عن كل الأعمال الصالحة، يترفع عن عيادة مريض، عن إطعام مسكين، هو داعية كبير، ماله ولهذه الأعمال، سيد الخلق، وحبيب الحق، قال: ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر، يجب أن تُنوع العبادات، أن تُنوع الطاعات، أن تُنوع القربات، إطعام مسكين، أن ترشد رجلاً ضالاً في مكان، وأن تعتني بيتيم، وأن تُعالج مريضاً، نوِّع بين العبادات، وبين القربات، وبين الطاعات، فهذا يجعلك مع ربك دائماً.

 

كلّ عمل صالح قرض لله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام، يقول عليه الصلاة والسلام، عنِ ابْنِ الْأَحْمَسِي قَالَ:

((لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُحَدِّثُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَا تَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَمَا الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ وَثَلَاثَةٌ يَشْنَؤُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: قُلْتُ: وَسَمِعْتَهُ قُلْتُ: فَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحِبُّ اللَّهُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يَلْقَى الْعَدُوَّ فِي الْفِئَةِ فَيَنْصِبُ لَهُمْ نَحْرَهُ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لِأَصْحَابِهِ، وَالْقَوْمُ يُسَافِرُونَ فَيَطُولُ سُرَاهُمْ حَتَّى يُحِبُّوا أَنْ يَمَسُّوا الْأَرْضَ فَيَنْزِلُونَ فَيَتَنَحَّى أَحَدُهُمْ فَيُصَلِّي حَتَّى يُوقِظَهُمْ لِرَحِيلِهِمْ، وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ، قُلْتُ: وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْنَؤُهُمْ اللَّهُ؟ قَالَ: التَّاجِرُ الْحَلَّافُ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ الْحَلَّافُ وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ))

[ أحمد عنِ ابْنِ الْأَحْمَسِي]

 هذا من أنواع القربات، وأنواع العبادات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: أتحب أن يلين قلبك وأن تدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك. أي لا تزهد في معروف، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، أمط الأذى عن الطريق، دلَّ الضال، هناك أعمال لا تُعد ولا تُحصى، هناك من يترفع عنها، ويرى أن مقامه فوق ذلك، إن النبي علمنا أن كل معروف صدقة، وأن كل عمل صالح صدقة، بل أن كل عمل صالح قرض لله عز وجل، في قوله تعالى:

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾

[ سورة البقرة: 245 ]

الخوف من سوء الخاتمة يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان في القلب :

 أيها الأخوة الكرام، أحد الوسائل التي تدفعنا إلى الله عز وجل، وإلى طاعته، وإلى القرب منه، الخوف من سوء الخاتمة، لأنه يدفع المسلم إلى الطاعة، ويجدد الإيمان في القلب، أما سوء الخاتمة فأسبابها كثيرة، يقول عليه الصلاة والسلام:

((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

 هذا من سوء الخاتمة، هذا في صحيح مسلم، وهذا الرجل الذي كان في عسكر المسلمين يقاتل الكفار قتالاً لم يُقاتله أحد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام- وقد أطلعه الله على خاتمته-: أما إنه من أهل النار، دُهش أصحابه، تتبعه رجل من المسلمين، فأصاب الرجلَ جرحٌ شديد، فوضع سيفه بين ثدييه، واتَّكأ عليه، فقتل نفسه.
 أيها الأخوة الكرام، يجب أن يخاف الإنسان من سوء الخاتمة، العبرة كيف يخرج من الدنيا، قال تعالى:

﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾

[سورة الإسراء: 80]

 لكن أروع ما في هذه الآية أنه قال بعدها:

﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾

[سورة الإسراء: 80]

 يجب أن تكون الخاتمة خاتمة طيبة، العبرة بالخاتمة، الأمور بخواتيمها، من شبّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء حشر عليه.
 أيها الأخوة الكرام، يروي بعض العلماء نماذج من سوء الخاتمة، قيل لبعضهم عند موته قل: لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع أن أقولها، لأن لحظة الوفاة فيما أعلم تلخص حياة الإنسان كلها، وقيل لآخر، قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، وقيل لتاجر ممن ألهته تجارته عن ذكر الله وحضرته الوفاة، قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: هذه قطعة جيدة، هي تلائمك، اشترها، وقيل لبعض جنود الملك الناصر، قل: لا إله إلا الله، فقال الناصر مولاي، فأعاد عليه القول، وأبوه يكرر: الناصر مولاي، وقيل لآخر، قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، وكذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا وكذا، وقيل لأحد المرابين، قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول، عشرة بأحد عشر، يكررها حتى مات.

 

لحظة مغادرة الدنيا تلخص حياة الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام، لحظة مغادرة الدنيا، تلخص حياة الإنسان كلها، بل إن بعضهم وهو على فراش الموت، قال: إن ربي قد ظلمني، فالخوف من سوء الخاتمة، والإعداد لهذه الساعة التي لابد منها، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن ينجو منها، الناس لا يتفاوتون في تصديقهم لحدث الموت، فلا أحد في رأسه ذرة عقل بإمكانه أن ينكره، ولكن الناس يتفاوتون في مدى استعدادهم لهذه اللحظة التي لابد منها.

وسائل تقوية الإيمان :

1 ـ الإكثار من ذكر الموت :

 من وسائل تقوية الإيمان الإكثار من ذكر الموت، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

((أكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ ))

[الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]

 ويقول في حديث آخر:

((أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ))

[ البزار عن أبي هريرة]

 ما يجمعه الإنسان في عمر مديد يخسره في ثانية واحدة، إذا كان الإنسان غارقاً في النعيم، النعيم المادي، وذكر الموت، ضيق عليه سعة العيش، وإذا كان في ضيق من العيش، وقد وعده الله جنة تجري من تحتها الأنهار، إن تذكر الموت، يوسع عليه ضيق عيشه، يقول عليه الصلاة والسلام:

((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها ترقق القلوب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هُجرًا))

[الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه ]

 وفي حديث آخر، يقول عليه الصلاة والسلام:

((زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ ))

[مسلم عن أبي هريرة ]

 وكان إذا دخل إلى مقبرة، يقول:

((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا، والمستأخرين، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون ))

[ مسلم عن بريدة ]

 أيها الأخوة الكرام، على من عزم زيارة القبور أن يتأدب بآدابها، وأن يُحضر قلبه في إتيانها، وأن يقصد بزيارته وجه الله، وإصلاح فساد قلبه، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه، الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل بعدهم نساؤهم، وشمل ذلّ اليتم أولادهم، وليتذكر آفة الانخداع بالأسباب، والركون إلى الصحة والشباب، والميل إلى اللهو واللعب، وأنه لابد صائر إلى مصيرهم، فليتفكر في حال الميت، كيف تهدمت رجلاه، وسالت عيناه، وأكل الدود لسانه، وأبلى التراب أسنانه، هذا ما جاء في بعض الكتب، لبعض العلماء الأجلاء.
 أيها الأخوة الكرام، من أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء، تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط في العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء، تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة، ومما يؤثر في النفس أيها الأخوة رؤية مشاهد المحتضرين، فإن النظر إلى الميت، ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورته بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذتها، ويمنع الأجفان عن النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل ويزيد في الاجتهاد، دخل الحسن البصري على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال لهم: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، والله لقد رأيت مصرعاً، لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
 أيها الأخوة الكرام، ومن تمام الشعور بالموت الصلاة على الجنازة، وحملها على الأعناق، والذهاب بها إلى المقبرة، ودفن الميت، ومواراة التراب عليه، فهذا يذكر بالآخرة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

((عُودُوا الْمَرْضَى وَاتَّبِعُوا الْجَنَائِزَ تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ))

[ مسلم عن أبي سعيد الخدري ]

 وفي حديث آخر، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة الكرام، بعض السلف الصالح، نصح رجلاً وقع في غيبة، فقال واعظاً له: اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك، اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك.

2 ـ تذكر منازل الآخرة :

 أيها الأخوة الكرام، ومن الأمور التي تقوي الإيمان تذكر منازل الآخرة، من صحت فكرته ظهرت له بصيرته نور في القلب، يبصر به الوعد والوعيد، والجنة والنار، وما أعدّ الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، كأنه يرى الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت الملائكة، وأحاطت بهم، وجاء الله، وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الكتاب، وجيء بالنبيين، والكتاب، وقد نصب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العطاش، وقل الوراد، ونُصب الجسر للعبور، واجتمع الناس إليه، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين، من اتقى الله عز وجل كشف الله عن بصيرته، فرأى ما لا يرى الناس، وسمع ما لا يسمعون.

3 ـ التفاعل مع الآيات الكونية :

 أيها الأخوة الكرام، ومن الأمور التي تجدد الإيمان التفاعل مع الآيات الكونية، روى البخاري ومسلم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:

((مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة الكرام، وقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري أنه قال: "خُسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة".

4 ـ ذكر الله تعالى :

 أيها الأخوة، من أسباب تقوية الإيمان ذكر الله تعالى، وهو جلاء القلوب وشفاؤها، ودواؤها عند اعتلالها، وهو روح الأعمال الصالحة، وقد أمر الله به فقال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب: 41 ]

 ووعد بالفلاح من أكثر من ذكر الله، قال تعالى:

﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[ سورة الجمعة : 10]

 وقال تعالى:

 

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾

[ سورة العنكبوت: 45 ]

 وقال لأحد أصحابه لما قال له لقد كثرت عليَّ شرائع الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام:

((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ))

[ أحمد عن عبد الله بن بسر]

 أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:

﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾

[ سورة الرعد: 28]

 أي أن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا تسعد إلا بذكر الله، وصيغة هذه الآية صيغة حصر وقصر، لم يقل الله عز وجل تطمئن القلوب بذكر الله، فلو قال كذلك معنى هذا أنها تطمئن بذكر الله وبغير ذكر الله، أما حينما قال: ألا بذكر الله تطمئن القلوب، فمعنى ذلك أن القلوب تطمئن حصراً بذكر الله.
 أيها الأخوة الكرام، في القلب قسوة، لا يُذيبها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله، ومعنى قسوة القلب أن تقرأ القرآن فلا تتأثر، أن تصلي فلا تتأثر، أن تذكر الله فلا تتأثر، معنى ذلك أن القلب قاس.
 أيها الأخوة الكرام، جاء رجل إلى الحسن البصري سيد التابعين، قال، يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذبه بالذكر، ذلك أن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار، فما أُذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل، وذكر الله شفاء القلب، ودواؤه، والغفلة مرضه.
 أيها الأخوة الكرام، بذكر الله يصرع العبد الشيطان، إذا تمكن الذكر من القلب، ودنا منه الشيطان صرعه.
 أيها الأخوة الكرام، أكثر من تمسهم الشياطين هم أهل الغفلة، الذين لا يتحصنون بالأوراد والأذكار، ولهذا سهل عليهم تلبس الشياطين بهم، وبعض من يشكون من ضعف الإيمان تثقل عليهم بعض وسائل العلاج، كقيام الليل، ونوافل الصلاة، فيكون من المناسب لهم البدء بهذا العلاج، والحرص عليه، فيحفظون من الأذكار المطلقة ما يرددونه باستمرار، هذه الأذكار التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأذكار الصباح والمساء، والنوم، والاستيقاظ، والرؤى، والأحلام، والأكل والخلاء، والسفر، والمطر، والأذان والمسجد، والاستخارة والمصيبة، والمقابر والريح، إلى آخر ما هنالك من كتب الأذكار، التي صحت عن رسول الله سيد الأخيار.

5 ـ مناجاة الله و الانكسار بين يديه :

 أيها الأخوة الكرام، ومن وسائل تقوية الإيمان، مناجاة الله، والانكسار بين يديه عز وجل، وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعاً كان إلى الله أقرب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:

((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ))

[مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ]

 لأن حال السجود فيها ذلة وخضوع ليست في بقية الهيئات، فإذا وضع العبد جبهته على الأرض، وهي أعلى شيء فيه، صار أقرب ما يكون من ربه، يقول بعض العلماء، بعض العلماء وهو ساجد، قال: أسألك بعزتك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني، وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، ولا ملجأ ولا منجى، منك إلا إليك، أسألك مسألة المساكين، أبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلّ لك قلبه.
 فعندما يأتي العبد من باب الانكسار يناجي الواحد القهار يشعر أنه قريب من الله، وباب الانكسار باب ليس فيه ازدحام، هناك من يأتي من فوق، الله عز وجل كلما تذللت إليه أعزك، ورفعك بين الناس، وكلما تكبرت قصمك، لذلك قال الله عز وجل :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾

[سورة فاطر: 15]

6 ـ قصر الأمل :

 ثم إن طول الأمل من أسباب ضعف الإيمان، وقصر الأمل من أسباب قوة الإيمان، قال تعالى، كلما دخل سيدنا عمر بن عبد العزيز إلى دار الخلافة قرأ هذه الآية:

﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾

[سورة الشعراء: 205-207]

 وقوله تعالى:

﴿ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ﴾

[ سورة يونس: 45 ]

 قال بعض السلف لرجل: صلّ بنا الظهر، قال الرجل: إن صليت بكم الظهر لن أصلي بكم العصر، فقالوا له: وكأنك تؤمل أن تعيش لصلاة العصر.
 حدثني أخ كريم قال لي: والله صليت الفجر مع أحد الأصدقاء، وكان ذا دعابة، ولا يشكو شيئاً إطلاقاً، رأيته في رابعة النهار، في وقت الظهيرة في موقف سيارات، الشيء الذي لا يصدق أنني صليت العصر عليه، في يوم واحد صلى معه الفجر، ولمحه وسط النهار، وصلى عليه العصر.
 أيها الأخوة الكرام، نعوذ بالله من طول الأمل، من قصر أمله حسن عمله، التفكر في حقارة الدنيا حتى يزول التعلق بها من قلب العبد، قال تعالى:

﴿ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

[ سورة آل عمران: 185]

 وقال عليه الصلاة والسلام:

((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا))

[الترمذي عن أبي هريرة]

7 ـ تعظيم حرمات الله :

 مما يقوي الإيمان أيها الأخوة تعظيم حرمات الله، يقول الله تعالى:

﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾

[سورة الحج:32]

 وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى، قد تكون في الأشخاص، وقد تكون في الأمكنة، وقد تكون في الأزمنة، فمن تعظيم حرمات الله في الأشخاص القيام بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطبيق سنته تعظيم لحرمات الله عز وجل، ومن تعظيم حرمات الله في الأمكنة تعظيم الحرم مثلاً، ومن تعظيم حرمات الله في الأزمنة تعظيم شهر رمضان، ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه، ومن تعظيم حرمات الله عدم احتقار الصغائر، فقد روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((إياكم ومحقرات الذنوب ))

[أحمد عن عبد الله بن مسعود ]

 هذا الذي يقول: ذنب بسيط، هذه من اللمم، كلما احتقرت ذنباً كبر هذا الذنب عند الله، إذا كبر عندك هو عند الله صغير، أما إذا احتقرته فهو عند الله كبير، لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت، يقول عليه الصلاة والسلام،:

((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ))

 يعني الشيطان حينما أغرى الإنسان ليكفر فرآه مستعصياً، أغراه أن يشرك، فرآه موحداً، أغراه أن يرتكب الكبيرة، فرآه على طاعة، أغراه بالبدعة، فرآه على سنة، أغراه بالصغيرة، فرآه على ورع، أغراه بالمباحات، حتى يصل إلى محقرات الذنوب، هذه لا قيمة لها، الإنسان طبيعته حركية، فإذا اجترأ على صغيرة، في اليوم التالي سيجترئ على أكبر منها، وهكذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا))

[أحمد عن عبد الله بن مسعود ]

 أي هذه النار العظيمة من أعواد صغيرة، ومشكلة المسلم اليوم يقول لك: أنا لا أقتل، ولا أزني، ولا أسرق، ولا أشرب الخمر، جيد، هذه كبائر، أما هذه الصغائر، كإطلاق البصر، والمصافحة، والغيبة، والنميمة، يتوهمها صغائر، وهي عند الله كبائر، فهذا الوهم، أنا لا أفعل الكبائر، هناك صغائر هي في حكم الكبائر تماماً، مثلاً يذكر بعض العلماء: من يستعير كتابا، ولا يرجعه إلى صاحبه هذا ذنب، ذنب كبير، منعته الكتاب وهو كتابه، منعته أن ينتفع به، وأنت لم تقرأ به.

8 ـ الولاء و البراء :

 من أسباب قوة الإيمان أيها الأخوة والتي تجدد الإيمان في القلب الولاء لأهل الإيمان، ولو كانوا فقراء، وضعفاء، والبراء من أهل الكفر والعصيان، ولو كانوا أغنياء، وأقوياء، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الولاء والبراء أصل من أصول الدين، يجب أن تحب المؤمنين، أن تتبرأ من الكفار، والمنحرفين، أما حينما تميل إلى أهل الكفر، لمنفعة وصلتك منهم، فهذا نوع من الشرك.

9 ـ التواضع :

 أيها الأخوة الكرام، التواضع له دور فعال في تقوية الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام:

((الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ))

[أحمد عن أبي أمامة]

 أحياناً يلبس ثوباً متواضعاً، يقوم بعمل، يكنس داره، يصغي الإناء للهرة، يحلب شاته، القيام بأعمال متواضعة، أو أن ترتدي ثوباً بسيطاً ليس فيه بهرج، وليس فيه فخامة، هذا من الإيمان، ومما يقوي الإيمان في القلب من ترك اللباس تواضعاً لله عز وجل وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء لبسها.

10 ـ محبة الله و الخوف منه :

 أما أعمال القلوب التي تقوي الإيمان، فمحبة الله، والخوف منه، ورجاؤه، وحسن الظن به، والتوكل عليه، والرضا بقضائه، وقدره، والشكر له، والصدق معه، واليقين به، والثقة به، والتوبة إليه، هذه كلها من أعمال القلوب، التي تقوي الإيمان.

11 ـ محاسبة النفس حساباً دقيقاً :

 ثم إن الله عز وجل قال:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾

[سورة الحشر: 18]

 محاسبة النفس محاسبة دقيقة، كما قال سيدنا عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وإن التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح، وقال بعض العلماء: هلاك النفس من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها، واتباع هواها،
 أيها الأخوة الكرام عود على بدء، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم))

[ الحاكم عن عبد الله بن عمرو]

 يا أيها الأخوة الكرام، كل هذه الخطب لا تجدي نفعاً إن لم تكن محل التطبيق، إن لم نبادر إلى تطبيق مضامينها، لأن العلم ليس هدفاً بذاته، العلم وسيلة، وليس غاية، وكل علم وبال على صاحبه، ما لم يعمل به.
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

خطبة قاضي دمشق محي الدين القرشي يوم فتح القدس على يد صلاح الدين :

 أيها الأخوة الكرام، لا أدري لماذا هفت نفسي إلى شيء من التاريخ، ليس البعيد جداً، حينما نعود عبر بعد الزمان إلى يوم الجمعة، الواقع في السابع والعشرين من شهر رجب، عام خمسمئة وثلاثة وثمانين للهجرة، الموافق للثاني من تشرين الأول، عام ألف ومئة وسبعة وثمانين للميلاد، في هذا اليوم تمّ فتح مدينة القدس من قبل المسلمين، وبقيادة البطل صلاح الدين، وتمّ تحريرها من أيدي الغزاة الطامعين، وها نحن نرى القلوب قد امتلأت بالفرح، والوجوه قد عمها البشر، ونسمع الألسنة، وقد لهجت بالشكر، لقد علت الرايات، وعلقت القناديل، ورُفع الأذان، وتُلي القرآن، واصطفت الأرجل للعبادات، وأقيمت الصلوات، وأديمت الدعوات، وتجلت البركات، وانجلت الكربات، وزال العبوس، وطابت النفوس، وفرح المؤمنون بنصر الله، رب هؤلاء الذين انتصروا هو ربنا، وقرآنهم قرآننا، ودينهم ديننا، ونبيهم نبينا، وسنن الله هي هيَ لم تتبدل، ولم تتغير، ها نحن أولاء ندخل المسجد الأقصى، فإذا المسلمون يجلسون على الأرض، لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عنهم، وقد خشعت جوارحهم، وسكنت حركاتهم، هؤلاء الذين كانوا فرساناً في أرض المعركة، استحالوا رهباناً خشعاً، كأن على رؤوسهم الطير، في حرم المسجد، وها هو خطيب المسجد محي الدين القرشي، قاضي دمشق، يصعد المنبر، ويلقي خطبته، ولو ألقيت على رمال البيد لتحركت، وانقلبت فرساناً، ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة، لقد افتتحها بقوله تعالى: فقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
 نرجو الله سبحانه وتعالى أن يعيد هذه الانتصارات، رأينا بعضها، نرجو الله أن يعيد هذه الانتصارات لهذه الأمة، ها نحن أولاء أيها الأخوة، نستمع معكم إلى فقرات من خطبته:
 " أيها الناس أبشروا برضوان الله تعالى، الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المعتدين الغاصبين قريباً من مئة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع، ويُذكر فيه اسمه، من رجس الشرك والعدوان، - ثم قال محذراً- إياكم عباد الله أن يستزلكم الشيطان، فيخيل لكم أن هذا النصر كان بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، لا والله، وما النصر إلا من عند الله. لابد من الصلح مع الله، إن ذنوبنا أخطر علينا من عدونا، إن ذنوبنا أخطر علينا من عدونا، قال تعالى:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾

[ سورة مريم: 59]

 لا والله ما النصر إلا من عند الله، فاحذروا عباد الله، بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل أن تقترفوا كبيرة، انصروا الله ينصركم، خذوا في حسم الداء، وقطع شأفة الأعداء.
 أيها الأخوة الكرام، أكرر ثانية، ربهم هو ربنا، وإلههم هو إلهنا، ودينهم هو ديننا، وكتابهم هو كتابنا، ونبيهم هو نبينا، والسنن الكبرى الإلهية هي هيَ، لم تتبدل، ولم تتغير، قال تعالى:

﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾

[سورة الحج : 40]

 لا سبيل إلا أن نعود إلى الله، حتى ينصرنا الله نصراً عزيزاً، أذاقنا بعض أنواع النصر، فيما مضى.

 

حاجة النصر إلى شيئين ؛ إيمان عميق و إعداد :

 أيها الأخوة الكرام، لابد من الصلح مع الله، لابد من طاعة الله، لابد من التوحيد، لابد من أن نتبرأ من كل جهة قوية نتأمل من أن تعيننا على عدونا، ما من أحد ينصرنا إلا الله، ولا ناصر إلا الله، وما النصر إلا من عند الله، ونسأل الله أن يعيننا على أن ننتصر على أنفسنا، حتى نستحق أن ينصرنا على عدونا، والله الذي نراه ونسمعه في الأخبار شيء يتقطع له القلب، ويدمى له الفؤاد، ما مرت على الأمة فترة كهذه الفترة، نحن في هذا الشعور الذي عمّ كل الناس، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يلهم كلاً منكم أن يعود إلى الله، أن يعود إليه تائباً منيباً، أن يقيم الإسلام في بيته، وأن يقيمه في عمله، وأن يكون صادقاً أميناً حتى يستحق نصر الله عز وجل، قال تعالى:

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾

[ سورة آل عمران:126 ]

 هكذا دخل أجدادنا بيت المقدس وفتحوه، وأعادوا له مكانته التي أراد الله عز وجل، وأرجو الله سبحانه وتعالى بتوبتنا، وصلاح أمرنا، وصلحنا مع ربنا، وتعاوننا، وتكاتفنا، أن يعبد هذه الأيام المشرقة، أنا لست ممن يخبر الناس بالماضي المجيد، من صفات الأغبياء أنهم يتفاخرون بماضيهم، لابد من أن نحسن واقعنا المر، لابد من أن ببحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ما نحن عليه، لابد من أن نصطلح مع الله، هؤلاء العرب الذين شرفهم الله بالإسلام كانوا رعاة للغنم، فصاروا بإسلامهم قادة للأمم، كانوا رعاة للغنم فصاروا قادة للأمم، بفضل طاعتهم لله عز وجل، ومع ذلك قال تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

[ سورة الأنفال : 60 ]

 النصر يحتاج إلى شيئين، إلى إيمان عميق، وإلى إعداد، لا أقول إعداد القوة المكافئة، هذا فوق طاقتنا، إعداد القوة المتاحة، أن نؤمن بالله، وأن نوحده، وألا نعلق الآمال على سواه، ثم نعد القوة المتاحة، فمشكلتنا مع أعدائنا أيها الأخوة كما ترون وتسمعون مشكلة نكون أو لا نكون، مشكلة حياة أو موت، ولا يمكن أن ننتصر إلا بمعونة الله عز وجل، والله عز وجل لا ينصرنا إلا بطاعته، وطاعة نبيه، فهذا هو الطريق الواضح جداً أيها الأخوة، نحن وإن رأينا بعض النصر، الذي نتمناه هو النصر الحاسم، قال تعالى:

﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً﴾

[ سورة الفتح: 3]

 النصر الحاسم، النصر النهائي...

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور