وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0669 - سورة الكهف3 - أنواع الهدى - قصة أصحاب الكهف - قصة عن الصحابة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر.
 وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر.
 اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

في كل القصص الله عز وجل أخفى أسماء أبطالها وجزئياتها :

 أيها الإخوة الكرام، في خطبتين سابقتين، تحدثت عن قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام، وبينت لكم أن هذه القصة تفيد أنه:

﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة :216]

 لكنَّ سورة الكهف، فيها دروس كثيرة، وخطيرة، فيها قصة أصحاب الكهف، وفيها قصة صاحب الجنتين، وفيها قصة يأجوج ومأجوج وفيها قصة ذي القرنين، ولكل قصة من المعاني والدلالات، والإشارات ما نحن في أمسِّ الحاجة إليه.
 سورة الكهف، حقائق أساسية، معروضة بشكل قصص بليغة، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

[سورة يوسف: 111]

 لكنَّ شيئاً في هذه القصص كلها يلفت النظر، هو أن الله عز وجل أخفى أسماء أبطالها، وأخفى زمان حدوثها، وأخفى مكان حدوثها وأخفى جزئيات كثيرةً من هذه القصص، لحكمة بالغة، ما السبب وما العلة، وما الحكمة، وما الغاية؟..

أبطال القصص يتكررون في كل زمان ومكان إلى نهاية الدوران :

 لو أن الله عز وجل، ذكر أسماء أبطال هذه القصص، لتوهم قارئ القرآن أن هذه خصوصية أشخاص، أن هؤلاء الذين حدث لهم ما حدث لن يحدث مرةً ثانية، هذه خصوصية شخص، ولو أن الله جل جلاله ذكر الأمكنة التي وقعت هذه القصص فيها، لتوهم متوهم أن هذه خصوصية مكان، وأنها لن تتكرر بغير هذا المكان، ولو أن الله جل جلاله، حدد زمناً معيناً، لتوهم متوهم، أن لهذا الزمن خصوصية، ولن تقع في زمن آخر، ولو أن جزئيات كثيرة، وردت في هذه القصص، لتوهم متوهم رابع أن هذه الجزئيات لن تتكرر، هذا الذي يبحث عن أسماء الأشخاص ويجهد، ويبحث عن الأمكنة ويجهد، ويبحث عن الزمان ويجهد ويبحث عن التفاصيل ويجهد، نقول له إنك تسير في طريق مسدود؛ لأن الله ما أراد هذه التفاصيل، ولا أراد الأشخاص بعينهم، ولا المكان بعينه، ولا الزمان بعينه، أراد الحقيقة أن تصل إليك، أراد المغزى، أرادك أن تشعر أن هؤلاء الأشخاص يتكررون في كل زمان ومكان إلى نهاية الدوران، وأن الذي وقع في هذا المكان، يقع في أي مكان آخر في العالم، وأن الذي وقع مع هؤلاء الأشخاص، يقع مع كل الأشخاص إذا توافرت فيهم هذه الشروط.

أراد الله من هذه القصص أن تعدهَّا قوانين :

 إن بحثت عن التفاصيل، إن بحثت عن أسماء الأشخاص، إن بحثت عن الأمكنة المحددة، إنك تمشي في طريق مسدود، إنك تخالف حكمة الله عز وجل، حينما أغفل هذه التفاصيل، أراد الله من هذه القصص الحقيقة التي تشع منها، أراد الله من هذه القصص، العبرة التي يمكن أن تستخلص منها، أراد الله من هذه القصص أن تعدهَّا قوانين.

قصة سيدنا يونس مثلاً مركزاً مختصراً فهي ملك لكل مؤمن :

 أضع بين أيديكم مثلاً مركزاً مختصراً: سيدنا يونس، فجأةً وجد نفسه في بطن الحوت، في ظلمة بطن الحوت وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة الليل، وهل من مصيبة على الإطلاق أشد من هذه المصيبة، قال تعالى:

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة الأنبياء:87]

 انتهت القصة، ليست هذه خصوصية لسيدنا يونس، وليست خصوصية لمكان بعينه، ولا لزمان بعينه، ولا لظروف بعينها، ولكنها ملك كل مؤمن، والدليل تعقيب الله على هذه القصة:

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة الأنبياء:88]

 أي أيها المؤمن، هل من مصيبة تقلقك في مستوى هذه المصيبة، ومع ذلك، بدعاء خالص، وبقلب منيب، وبصلح مع الله عز وجل، أزيحت هذه المصيبة، لا ينبغي أن تفسد على الله حكمته حينما تبحث عن التفاصيل.

في القصص لا تبحث عن شيء أغفله الله :

 من فرعون موسى؟.. هو رمسيس الثاني، ما علاقتك بهذا البحث هذا طريق مسدود، يا ترى يوسف عليه السلام تزوج بامرأة العزيز؟.. ما شأنك بهذا؟ !.. هذه حقيقة خطيرة ـ أيها الإخوة ـ لا تبحث عن شيء أغفله الله، إنك تمشي في طريق مسدود، كان من الممكن أن تغرق في التفاصيل، في أسماء أشخاص القصة، وفي مكانها وزمانها وجزئياتها لكنَّ الله أغفلها لعلم ولحكمة أرادهما، فأنت كن مع مغزى القصة، كن مع الحقيقة..

 مرةً وضحت هذه الحقيقة بمثل، لو أن أستاذاً جامعياً في كلية الاقتصاد أراد أن يبين للطلاب عوامل نجاح التجارة، وكان أديباً، فوق أنه عالم اقتصادي، فعرض عوامل نجاح التجارة بشكل قصة، قال لطلابه لي صديق اختار محلاً في موضع تزاحم الأقدام، واختار بضاعةً أساسية في حياة الإنسان، واختار نوعاً جيداً يستعمله هو، يتعامل معه هو، ووضع سعراً معتدلاً، وكانت معاملته للناس طيبة، فربح أرباحاً جيدةً، فتزوج واشترى بيتاً، وأنجب أولاداً، وربى أولاده، وحقق الهدف من هذه التجارة. فسأله طالب يا أستاذ، هذا الذي حدثتنا عنه ما لونه؟ أبيض أم أسمر؟ هذا الذي حدثتنا عنه طويل أم قصير، ما اسمه، ما اسم أبيه؟. هذا الذي يسأل هذه الأسئلة، لم يفهم من الأستاذ حكمته، ولا مغزى هذه القصة التي أرادها الأستاذ تعليماً لطلابه..

في كل القصص الهدف هو الحقيقة التي يمكن أن تستنبطها :

 يا أيها الإخوة الكرام، الحقيقة الأولى من كل هذه القصص، قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة يأجوج ومأجوج، وقصة ذي القرنين، كل هذه القصص، أغفل الله أسماء شخصياتها، ومكان حدوث هذه الأحداث وزمان حدوثها وكثيراً من تفاصيلها، أغفلها لحكمة بالغة بالغة، لئلا تكون القصة هدفاً، الهدف هو الحقيقة التي يمكن أن تستنبطها من القصة، آية ثانية:

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾

[ سورة القصص: 14]

 هذه قصة، لكنَّ تعقيب الله عليها، وكذلك نجزي المحسنين، يعني أي محسن إلى نهاية الدوران، هكذا يُعامل، وأي مؤمن إلى نهاية الدوران لجأ إلى الله بالدعاء الصادق، الله جل جلاله، ينجيه، هؤلاء أصحاب الكهف، إنهم فتية، فتية، وأكرم بالشباب، ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب، " أحب الطائعين، وحبي للشاب الطائع أشد " هذه الحيوية، هذه الطاقات، كلها توجه في الخير، في رضوان الله عز وجل، في طاعة الله.

أول أنواع الهدى أنه هداك إلى مصالحك :

﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾

 قال العلماء: هناك هدى الغريزة؛ الله عز وجل هدى الإنسان إلى مصالحه، منعكس المصِّ الذي أودعه الله في الوليد، لولا هذا المنعكس لما كنا في هذا المسجد جميعاً.. هدى الله الوليد طريقة تغذيته يضع شفتيه على حلمة ثدي أمه، ويحكم إغلاقهما، ويسحب الحليب عملية معقدة، ولكن الله هدى الناس إليها بالفطرة، بالغريزة.
 إن لك حواساً خمساً تأتيك بكل المعلومات عن المحيط الخارجي، هذه نعمة هداية الله لمصالحك. هذه هداية الله لمصالحك، فأول أنواع الهدى، أنه هداك إلى مصالحك جهاز التوازن، التئام الجروح التئام الكسور، الغرائز الأساسية منعكس المص، الإحساس بالجوع الإحساس بالعطش، هذه كلها غرائز ومنعكسات وحاجات، هداك الله من خلالها إلى مصالحك، هذه الهداية الأولى.

ثاني أنواع الهدى هو هداية الوحي :

 والهداية الثانية: هي هداية الوحي الله عز وجل عرفك بذاته، عرَّفك بسرِّ وجودك، عرَّفك بغاية وجودك، عرَّفك بجوهر الحياة الدنيا، عرَّفك لماذا خلقك؛ خلقك لجنة عرضها السماوات والأرض، هذه هداية الوحي، دققوا الآن: الإنسان حينما يؤمن بالله، ويستجيب له، ويعقد العزيمة على طاعته والتوبة إليه.

ثالث أنواع الهدى هو هداية التوفيق :

 تأتيه هداية ثالثة، هداية التوفيق يوفقك الله عز وجل إلى الحقيقة، يشرح صدرك لها، يعطيك وقتاً فارغاً لطلب العلم، يمكنك من النطق بالحقيقة، يجري الخير على يديك، يجمعك مع أهل الحق، ييسر لك السبل، يذلل لك العقبات، يلقي محبتك في قلوب الخلق، هذه الهداية الثالثة..

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾

[سورة الكهف: 13]

 لمجرد أن تختار الهداية، وأن تختار الطاعة، وأن تختار القرب من الله عز وجل، ربنا عز وجل يشرح صدرك، ييسر أمرك، يزيل عن كاهلك كل الضغوط، هذه هداية التوفيق ـ دققوا أيها الشباب ـ لمجرد أن تعقد العزم على طاعة الله، السبل تُيسر لك، يجمعك الله مع أحبابه يعطيك القوة على متابعة طلب العلم، يجري الخير على يديك، يلقي محبتك في قلوب الخلق، يعطيك الشيء الثمين في الوقت القليل، يبارك لك في وقتك، يبارك لك في علمك، يبارك لك في مالك، هذه الهداية الثالثة.

رابع أنواع الهدى هو الهداية إلى الجنة :

 وأما الهداية الرابعة، فهي نهاية المطاف إلى الجنة، قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ *وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾

[ سورة محمد:4- 6]

 هداك إلى مصالحك، عن طريق المنعكسات والغرائز، وهداك إليه عن طريق الوحي، وهداك توفيقاً إلى ما اتخذت فيه قراراً، ثم هداك إلى الجنة، قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾

[ سورة محمد:17]

 والإنسان مخيَّر:

﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

[سورة فصلت: 17]

أصحاب الكهف آثروا الكهف على القصور :

 قصة أصحاب الكهف، أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم خافوا على دينهم، خافوا على عقائدهم، أن يجبرهم القوي على أن يعبدوا غير الله فروا إلى الكهف، كهف في الجبل، مغارة في الجبل، كانوا يسكنون القصور، فآثروا الكهف على هذه القصور، اختبؤوا في هذا الكهف مكان ضيق، لا يستطيع الإنسان أن يمضي فيه إلا وقتاً قصيراً لكنَّ الله عز وجل، منحهم من رحمته في هذا الكهف، فألغى ضيق المكان كان رحباً واسعاً، وألغى ضيق الزمان، فعطل فعل الزمان فيهم، وألغى حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لئلا يبحثوا عن طعامهم فيتبعهم هؤلاء الذين أرادوا قهرهم، وهذه رحمة الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾

[سورة الكهف: 16]

 أي إذا كنت في عمل لا يرضي الله، ولك فيه شراكة ودخل كبير فأويت إلى وظيفة ذات دخل محدود لكنها ترضي الله، هذه الوظيفة ذات الدخل المحدود مع رحمة الله، خير من كل هذا الدخل غير المحدود مع سخط الله، ماذا نستفيد من هذه القصة في حياتنا اليومية؟..
 إذا كنت في بيت يُعصى الله فيه، بيت واسع، فيه كل وسائل الراحة لكنَّ المعاصي تُرتكب فيه كل يوم، فاشتريت بيتاً في طرف المدينة الحياة فيه خشنة جداً، هذا المكان الضيق مع رحمة الله، خير من هذا المكان الواسع مع سخط الله.
هذا العمل ذو الدخل المحدود مع رحمة الله، خير من هذا الدخل الكبير مع معصية الله، هؤلاء الفقراء المؤمنون حينما تأوي إليهم تشعر بالسعادة والراحة، والطمأنينة ما لو كنت مع أغنياء كثر من الشباب المترفين، الذين يغدقون عليك الأموال الطائلة. قضية أصحاب الكهف يجب أن يعيشها المؤمن، لا تُؤْثر الدنيا على الآخرة، تركوا القصور وآووا إلى الكهف، فنشر الله لهم من رحمته كل شيء..

أي مكان مهما يكن ضيقاً سيجعله الله عز وجل رحباً واسعاً :

 أيها الإخوة الكرام، كما قلت قبل قليل، مغارة صغيرة، تضيق بهم، وليس في الكهف حَدَث، لو أن إنساناً عزلته في مكان عشرين يوماً، يختل توازنه العقلي ربنا جل جلاله، ألغى تأثير الزمن، وألغى ضيق المكان، فرحمة الله عز وجل جعلت هذا المكان الضيق رحباً واسعاً ورحمة الله عز وجل جعلت هذا الزمن الرتيب زمناً ممتداً.. كل من يفرُّ بدينه إلى مكان غير المكان الذي يقيم فيه، إن هذا المكان مهما يكن ضيقاً سيجعله رحباً واسعاً، وإن هذا المكان مهما يكن ضيقاً في الرزق سيجعل الله فيه رزقاً وفيراً، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

[سورة النساء: 100]

 كلام رب العالمين، وزوال الكون أهون على الله من أن لا يحقق وعده، هناك ألف حادثة وحادثة، تعينك على فهم هذه الخطبة.. قد تسكن في بيت صغير، وتركت البيت الكبير، تركت البيت الكبير الذي لا يرضي الله أن تقيم فيه، وأويت إلى بيت صغير فنشر الله لك من رحمته، فكان هذا البيت قطعةً من الجنة.
 تركت الدخل الوفير الذي لا يرضي الله، وقبلت بدخل محدود فبارك الله لك في هذا الدخل، وحفظ الله لك صحتك، وأجرى البركة في هذا الدخل القليل. هؤلاء الفتية آمنوا بربهم، فرُّوا بدينهم، خافوا على عقيدتهم، خافوا أن يعبدوا غير الله، خافوا أن يفعلوا شيئاً لا يرضي الله، آووا إلى الكهف، فنشر الله لهم في الكهف من رحمته، وجعل لهم من أمرهم مرفقاً.

الفارُّ بدينه لا يمكن أن يخزيه الله عز وجل :

 أيها الإخوة الكرام، الفارُّ بدينه لا يمكن أن يخزيه الله عز وجل، قد يتوافر لك عند أبيك وأمك المترفين حياة تفوق حد الخيال، ولكنَّ المعاصي تُرتكب في هذا البيت، ففررت بدينك إلى مكان ليس فيه شيء من الأساسيات، الله جل جلاله يعاملك كما عامل أصحاب الكهف، إن أصحاب الكهف، نماذج متكررة، يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان.
 الفارُّ بدينه، لا يمكن أن يخزيه الله، بل معه رحمة الله، وإن رحمة الله قريب من المحسنين.

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[سورة فاطر: 2]

الذي حصل لأهل الكهف في الغار برحمة الله عز وجل :

 أيها الإخوة الكرام، هذا الذي حصل لأهل الكهف في الغار، لم يكن من فعلهم، ولا بأسباب اتخذوها، ولكنْ برحمة الله عز وجل، حينما تعلق الأمل برحمة الله، وحينما تعلق الأمل بنصر الله، وحينما تعلق الأمل بتوفيق الله وحينما تعلق الأمل بحفظ الله عز وجل، والله لن يخزيك الله أبداً.
 السيدة خديجة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ قبل أن تأتيها رسالة السماء، رأت النبي صادقاً، رأته أميناً، رأته يحفظ العهد، ينجز الوعد يقري الضيف، يعين على نوائب الدهر، فلما جاء الوحي قالت: والله لا يخزيك الله أبداً..
 ويا أيها الشباب: مهما ضاقت بكم السبل، مهما رأيتم الطرق أمامكم مسدودة، علقوا آمالكم بالله، وكونوا عند الأمر والنهي، احذروا أن يراكم الله في مكانٍ نهاكم عنه، احذروا أن يفتقدكم الله في مكان أمركم أن تكونوا فيه، كونوا مع طاعة الله عز وجل، واللهِ لن يخزيكم اللهُ أبداً، لا تقبل أن تعصي الله لا تقبل دخلاً لا يرضي الله، ضعه تحت قدمك، قل: الله الغني والله جل جلاله يمتحنك، فإذا نجحت يعطيك عطاءً مذهلاً.

الله عز وجل أبطل فعل الزمن في أجسام أهل الكهف :

 الله جل جلاله، أبعدهم عن الإحساس بالاضطهاد، حتى لا يعيشوا في قلق ورعب، كما أزال من حياتهم همَّ البحث عن الطعام ألقى عليهم أمنةً نعاساً، وألقى عليهم نوماً مديداً، فلا يعثر عليهم أحد ولا يشعرون بالوقت، ولا يحتاجون إلى طعام وشراب..

﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾

[سورة الكهف : 19]

 الإنسان في العادة ينام يوماً أو بعض يوم، الإنسان مصمم أن ينام في أحسن الأحوال يوماً بأكمله، نهاراً أو ليلاً.. قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، الله جل جلاله، بقدرته، وحكمته، ورحمته، أبطل فعل الزمن في أجسامهم، وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود.

إذا أردت أن تكون أقوى الناس فكن مع الله :

﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[سورة البقرة: 259]

 ليريه آيته العظمى، أبطل الله فعل الزمن في الطعام والشراب:

﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[سورة البقرة: 259]

 يعني المؤمن حينما يتعامل مع الله، والله على كل شيء قدير، هو أقوى الناس.
 إذا أردت أن تكون أقوى الناس فكن مع الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس، فكن فيما بين يدي الله أوثق منك بما في يديك، إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله.

إعجاز القرآن العلمي في قوله ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال :

 أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة.. أما الشيء الذي يلفت النظر أن الله عز وجل يقول: ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وهذا من إعجاز القرآن العلمي، فالإنسان إذا استلقى على فراشه، هيكله العظمي، مع العضلات التي فوق الهيكل العظمي، تضغط على العضلات التي تحت الهيكل العظمي، فالأوعية الدموية تضيق لمعتها، وتضعف التروية ويشعر الرجل بما يُسمى بالتنميل، إذا جلس الإنسان جلسة معينة، مدةً طويلة، يشعر بالتنميل في رجليه، يعني ضعفت التروية، ربنا جل جلاله هيأ في الجسم مراكز الإحساس بالضغط، هذه المراكز حينما تنضغط تعطي إشارةً إلى الدماغ، الدماغ وأنت نائم، وأنت غارق في النوم، يعطي أمراً إلى العضلات، فتتقلب ذات اليمين مرةً، وذات الشمال مرةً أخرى، وقد صُور نائم دون أن يشعر، فتقلب أكثر من ثمانية وثلاثين مرةً في الليلة الواحدة، الإنسان إذا جلس على جنب واحد لو أنه أصيب بالسبات، أو لو أنه مُنع من الحركة، خلال أيام يتفسخ لحمه، ويصاب بقرحة الفراش، كما يُسميها الأطباء، الآن يوجد فرش تعمل على الكهرباء، تقلب الإنسان يمنةً ويسرة لهؤلاء الذين أصيبوا بالسبات، فأصحاب الكهف، لولا أنهم يتقلبون لتفسخت أجسامهم، هذا من نعمة الله عز وجل أن في جسم الإنسان في كل مكان نقاط تحس بالضغط، وهذه النقاط ترسل إشارة إلى الدماغ، والدماغ يرسل أمراً إلى العضلات، فالإنسان يتقلب في اليوم أكثر من ثمانية وثلاثين مرة، هذا التقلب سبب سلامته، وإلا فتفسخ اللحم، وقرحة الفراش تنتظر الإنسان الذي يجلس على حالة واحدة.

الإنسان حينما ينام كل أجهزته تتعطل إلا جهاز السمع :

 الإنسان ـ أيها الإخوة ـ حينما ينام كل أجهزته تتعطل إلا جهاز السمع فهو جاهز لاستقبال أي صوت، أنت كيف توقظ النائم؟.. صوت عالٍ العين تُغمض، الإحساسات كلها تتعطل، بل إن السيالة العصبية في جسم النائم تتباعد الأعصاب، فينقطع استمرار السيالة العصبية، فإذا جاء صوت قوي، هذه المسافة بين الأعصاب، يتغلب عليها الصوت القوي فيقفز إلى الطرف الآخر، فيصل الصوت إلى الإنسان، فيستيقظ، من أجل أن يناموا نوماً مريحاً لمدة طويلة، ثلاثمائة عام، قال:

﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾

[سورة الكهف: 11]

 وهذه آية ثانية، جهاز استقبال الصوت أغلق، جهاز الإيقاظ أغلق لذلك قال تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾

[سورة يونس: 67]

 وأي إنسان يحدث جلبةً، وضجيجاً في الليل، هذا يعتدي على حق الناس في النوم.

قصص القرآن نموذجاً بشرياً قابلاً ليتكرر في كل زمان ومكان :

 إغفال الزمان، وإغفال المكان، وإغفال الأشخاص، والتفاصيل من أجل أن لا تعدَّ هذه قصة وقعت ولن تقع، بل من أجل أن تعدَّ هذه قصة نموذجاً بشرياً قابلاً ليتكرر في كل زمان ومكان، دققوا في هذه الآية:

﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾

[سورة الكهف: 22]

 هؤلاء الذين يبحثون عن العدد، يسيرون في طريق مسدود، كان من الممكن أن يقول الله بآية واحدة لقد كانوا ثمانية، انتهى الأمر، أغفل الله عددهم لحكمة بالغة، والناس يسيرون في طريق آخر لا يرضي الله عز وجل.

﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾

[سورة الكهف: 22]

الدنيا كلها تأتيك وهي راغمة حينما تضحي من أجل دينك :

 يا أيها الإخوة الكرام، علاقتنا بهذه القصة، بهذا الدرس البليغ، بدرس أصحاب الكهف بدرس سورة الكهف، علاقتنا بهذه القصة بالذات؛ أن فرَّ بدينك، حافظ على دينك، حافظ على طاعتك، حافظ على عبادتك، دينك دينك إنه لحمك ودمك خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا، إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، وحينما تضحي بشيء من أجل دينك فإن الدنيا كلها تأتيك وهي راغمة:

((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ))

[انفرد به الترمذي عن أنس بن مالك]

 العبرة أن تتخذ هذا القرار الصحيح، القرار العقلاني، القرار الموفق أن ترجو رحمة الله، وأن ترجو طاعة الله، وأن ترجو رضوان الله وكل شيء بعدها في خدمتك:

من أحبنا أحببناه  ومـن طلب منا أعطيناه
ومن اكتفى بنا عما لنا   كنَّا له وما لنــا
***

في زمن الفتن آوي إلى بيتك واعبد الله فيه :

 الإنسان أحياناً في زمن الفساد، في زمن ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، في زمن نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات فالعنوهن فإنهن ملعونات، في زمن المال الحرام، في زمن كل ما يغضب الله عز وجل، في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر في زمن " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قيل أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله، قال: لا أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، في زمن الفتن، في زمن الشرود عن الله، في زمن تطبيق مناهج الأرض، في زمن رفض مناهج السماء، في مثل هذا الزمن فرَّ بدينك آوي إلى مسجد تركن إليه، آوي إلى حقيقة تلوذ بها، آوي إلى أخ مؤمن يعينك على دينك، آوي إلى بيت الله، إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحق على المزور أن يكرم الزائر.
 آوي إلى بيتك واعبد الله فيه، كلٌ منا له بيت، وبإمكانه أن يصلي في بيته، وأن يقرأ القرآن في بيته، وأن يسمع العلم في بيته، فأووا إلى الكهف، ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً، إذا كان عملك لا يرضي الله، فابحث عن عمل يرضي الله، وليكن هذا العمل الثاني كهفاً لك، إذا كان البيت الذي تسكنه، تُرتكب فيه المعاصي، فابحث عن بيت صغير يكون كهفاً لك لينشر الله لك من رحمته، إذا كان لك مجتمع لا يرضي الله، فابحث عن مجتمع ولو كانت دنياهم متواضعة، ولو كانوا فقراء، قال تعالى عن قوم نوح عليه السلام:

﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾

[سورة هود: 27]

قصة أصحاب الكهف منهجاً للإنسان في حياته اليومية :

 أيها الإخوة الكرام، قصة أصحاب الكهف، يمكن أن تُوسع كثيراً، لتكون منهجاً للإنسان في حياته اليومية.. ابحث عن طاعة الله، ابحث عن الاتصال بالله ولا تعبأ في الدنيا، فاركلها بقدمك، الله عز وجل ينشر لك من رحمته ويهيئ لك من أمرك مرفقاً، هذه قصة أصحاب الكهف، آثر ما عند الله على الدنيا، هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم، وزادهم الله هدىً جعلهم الله موعظة لكل الخلق، أبطل فيهم فعل الزمان، وأبطل فيهم حاجتهم إلى الطعام والشراب، وأنامهم نوماً مريحاً، وأكسبهم رضوانه.
 وطبعاً كل إنسان يؤثر طاعة الله، له عند الله إكرامٌ لا يراه ظاهراً ولكن في النهاية يصل إليه.
 أيها الإخوة الكرام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :

 

قصة صحابي جليل أسره الكفار :

 أيها الإخوة الكرام، قصة عن صحابي جليل، مؤثرة أبلغ التأثير فيما رواه الإمام البخاري:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، سريةً وأمر عليها عاصم ابن ثابت الأنصاري، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدئة وهو بين عسفان ومكة، ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنوا لحيان، فنفروا لهم قريباً من مئتي رجل، كلهم رامٍ، فاقتصوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم تمراً تزودوه من المدينة، فقالوا هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه، لجؤوا إلى فدفد (مكان مرتفع) فأحاط بهم القوم، وقالوا لهم انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق لا نقتل منكم أحداً.. ))

[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]

 يمكن أن نستنبط من هذه القصة عشرات الحقائق.

(( انزلوا وأعطونا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق لا نقتل منكم أحداً))

لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له :

 ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، من لا عهد له لا دين له ومن لا دين له لا عهد له.

(( ...قال عاصم أمير السرية أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصم في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة، ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث، هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي في هؤلاء لأسوة (يريد القتل) فجرجروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى، فقتلوه بقي اثنان، فانطلقوا بخبيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيباً بنوا الحارث...))

[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]

((...وكان خبيب هو قاتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً تمهيداً لقتله فأخبرني عبيد الله ابن عياض، أن بنت الحارث أخبرته ....))

 الآن دققوا في أخلاق الصحابة في أخلاق هذا الأسير، في هؤلاء الرجال الذين رباهم رسول الله، ماذا فقدنا اليوم؟ !. مساجد موجودة، مكتبات موجودة مظاهر إسلامية صارخة موجودة، لكن هذه الأخلاق، التي ربى عليها النبي أصحابه هذه المفقودة، لذلك فقدنا دفاع الله عنا، فقدنا الاستخلاف، فقدنا التمكين فقدنا التطمين، فقدنا النصر، هذا الأسير يعلم علم اليقين أنه مقتول لا محالة .

((...فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته، أنهم حين اجتمعوا استعار منها خبيب موسى ليستحد بها قبل موته، ليلقى الله طاهراً. ...))

[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]

المؤمن لا يقتل طفلاً :

(( ...فأعارته فأخذ ابناً لي وأنا غافلة حين أتاه ...))

 لها ابن صغير سار نحوه، وهو مقيد في الحديد.

((...قالت: فوجدته مجلسه على فخذه ...))

 هذا الأسير بيده موسى، وابن الذي سيقتله على حضنه وبيده موسى، وهو يعلم علم اليقين أنه مقتول لا محالة،

((... ففزعت فزعةً عرفها خبيب ...))

 فزعت أنه سيذبحه، لأنه مقتول،

(( فعرف خبيب في وجهها هذه الفزعة، فقال تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل هذا، قالت: والله ما رأيت أسيراً قط خير من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة من ثمر إطلاقاً، وكانت تقول، إنه لرزق من الله رزقه خبيباً ))

 هم سيقتلونه ويعلمون أنه على حق، سيقتلونه ويعلمون أنه قريب من الله عز وجل،

(( فلما أخرجوه من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب ذروني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين ثم قال، لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتهما، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بدداً، ولا تغدر منهم أحداً ))

[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]

وما أبالي حين أقتل مسلماً
على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإلهي وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
***

خبيب هو من سنّ ركعتين لكل امرئ مسلم قُتل صبراً :

((...فقتله ابن الحارث، فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قُتل صبراً، فاستجاب الله لعاصم ابن ثابت، وأُخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فأخبر أصحابه خبرهم، وما أصيبوا به، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم، ليأخذوا منه مزعة لحم فما استطاعوا..))

[البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]

 أيها الإخوة الكرام، إذا كان الله عليك فمن معك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ هذا الذي كان في سكرات الموت، سعد بن الربيع، تفقده النبي فلم يره أرسل إلى ساحة المعركة من يتفقده، قال له أحد الأصحاب، يا سعد هل أنت من الأحياء أم من الأموات؟ قال من الأموات، ولكن أبلغ رسول الله مني السلام، وقل له جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أصحابه وقل لأصحابه لا عذر لكم إذا وُصل إلى نبيكم وفيكم عين تطرف..

طريق الإيمان طريق السعادة :

 أيها الإخوة الكرام، طريق الإيمان طريق السعادة، طريق الحفظ، طريق التوفيق، طريق النصر، طريق العز، وأصحاب الكهف قدوة لنا، فرَّ بدينك إلى مكان تطيع الله فيه، إلى أصدقاء يعينوك على طاعة الله، لا على معصية الله لا تبحث عن الدنيا مع المعصية، ابحث عن الطاعة، وتأتيك الدنيا وهي راغمة.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك.
 اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك، ما تحول به بيننا وبين معصيتك من طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين.
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين.
 اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء.
 اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب.
 اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور