وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0688 - حقيقة الموت من خلال القرآن الكريم - الموت بين المؤمن والكافر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

فهم حقيقة الموت جزء من ديننا :

 أيها الأخوة الكرام، يموت عشرات الناس، بل مئات الناس، بل آلاف الناس، ولا يكون لموتهم أي صدى، وقد يموت بعض الأشخاص ويكون لموتهم صدىً كبير، ما حقيقة الموت ؟ أن تفهم حقيقة الموت جزء من عقيدتك، أن يكون مفهوم الموت واضحاً جزء من دينك، جزء من إيمانك.
 أيها الأخوة الكرام، الإنسان في أدق تعاريفه بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، هو وقت، هو زمن، رأس ماله هو الزمن، أثمن شيء يملكه هو الزمن، الزمن وعاء عمله.
 أيها الأخوة الكرام، مركب في أعماق الإنسان أن الوقت أثمن من المال، والدليل على ذلك أن الإنسان إذا أصيب لا سمح الله ولا قدر بمرض يقتضي العلاج أن يبيع بيته لا يتردد أبداً في بيع بيته لدفع نفقات علاج، أو عملية جراحية، يتوهم أنها تطيل عمره بضع سنوات، ففي أعماق أعماقه مركب فيها أن الوقت أثمن من المال، فالذي ينفق ماله جزافاً، الذي يحرق مئة ألف ليرة أمام عينيك ألا تحكم عليه بالسفه الشديد؟ هذا الذي يبدد وقته، يتلف وقته، لا يستثمر وقته هو أشدّ سفهاً، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، وما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا بن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
 أيها الأخوة الكرام، تصوروا أن إنساناً يسكن في بيت مستأجر، ولو افترضنا فرضاً أن نظام الإيجار في بلد ما مالك البيت يطرد المستأجر بلا سبب وبلا مبرر وبلا إنذار، في ثانية واحدة يجعله خارج البيت، ولهذا المستأجر دخل كبير أيعقل أن يضع كل دخله في تزيين هذا البيت المستأجر وهو في أية لحظة يغادر هذا البيت بلا سبب وبلا إنذار؟ له بيت بعيد على الهيكل ألا يقتضي العقل أن ينفق دخله الكبير في كسوة ذلك البيت الذي يملكه والذي مصيره إليه، أن نفهم حقيقة الموت جزء من ديننا أن نعد للموت هو عقلنا، هو التوفيق الذي ما بعده توفيق أن تعد لساعة لابد منها، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾

[ سورة الأنعام : 94]

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

الموت يسوي بين الخلق جميعاً :

 موضوع الخطبة الموت، وهذا الموضوع مستقى من آيات القرآن الكريم، في هذه الخطبة إن شاء الله، ومن الحديث الصحيح في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى.
 يقول الله عز وجل:

﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾

[ سورة الواقعة : 60]

 الموت من قدر الله، الموت ينهي قوة القوي وضعف الضعيف، ينهي صحة الصحيح ومرض المريض، ينهي وسامة الوسيم ودمامة الدميم، ينهي غنى الغني وفقر الفقير، الموت يسوي بين الخلق جميعاً فيما يبدو لكن المشكلة ما بعد الموت.
 تصور طريقاً أعدّ ليكون مكاناً لسباق سيارات، السيارات من مختلف الأنواع والأشكال والأحجام والنماذج، ينتهي هذا الطريق بحفرة ليس لها من قرار، فالكبيرة تسقط، والصغيرة تسقط، والمسرعة تسقط، والمبطئة تسقط، والحديثة تسقط، والقديمة تسقط، ما هذا السباق ؟ هذا سباق الناس في الدنيا، يأتي الموت ينهي كل شيء، ينهي قوة القوي، ينهي ضعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم، ينهي دمامة الدميم، ينهي صحة الصحيح، ينهي سقم السقيم، ينهي غنى الغني، ينهي فقر الفقير.
 أيها الأخوة الكرام، من لم يعمل للآخرة فإن خللاً كبيراً في عقله لأن الإنسان إذا عمل للدنيا فهو أكبر مقامر، وأكبر مغامر، إنسان يملك بيتاً لا يملك غيره باعه بأعلى ثمن وقبض ثمنه شيكاً على أحد المصارف الكبرى، ثم اكتشف أن الشيك مزور، ما الذي يحدث له ؟ الله عز وجل يقول:

﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾

[ سورة ق : 19]

 الحق الذي جاء به الأنبياء يعرفه كل ميت عند الموت.

 

خيارنا مع الإيمان خيار وقت فقط :

 أيها الأخوة الكرام، خيارنا مع الإيمان خيار وقت، لك أن تختار خيار قبول أو خيار رفض مع ملايين الأشياء، يعرض عليك بيت فترفض شراءه، تعرض عليك فتاة فترفض الزواج منها، تعرض عليك شراكة فتقبل أن تشارك، يعرض عليك سفر فتسافر أو لا تسافر، لك مع هذه الأشياء خيار قبول أو رفض لكن مع الموت ليس هناك من خيار إلا خيار وقت، والدليل أن فرعون وهو أكفر كفار الأرض الذي قال: أنا ربكم الأعلى حينما جاءه ملك الموت قال:

﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾

[ سورة يونس : 90]

 فيا أيها الأخوة الكرام، جزء من عقيدتنا، وجزء من ديننا، وجزء من عقلنا أن نستعد للموت لأنه ما من واحد عاقل بإمكانه أن ينكر حدث الموت، ولكن الناس يتفاوتون في مدى الاستعداد له، قال العلماء: الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، والذي يقدر على الخلق يقدر على البعث، وقال بعضهم في تفسير هذه الآية: سوينا أهل السماء والأرض فقضينا عليهم الموت وكتبنا عليهم الموت، قال تعالى:

﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾

[ سورة الرحمن : 26-27]

تسمية الموت بالمصيبة :

 أيها الأخوة الكرام، آية ثانية تبين أن الموت قدر المخلوقات، قال تعالى:

﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً﴾

[ سورة الفرقان : 3]

 هنا دققوا:

﴿ نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً ﴾

[ سورة الفرقان : 3]

 من الذي يملك الموت والحياة والنشور ؟ هو الله الواحد الديان، القرآن الكريم سمى الموت مصيبة، من زاوية واحدة، هو أن الشيء الذي تجمعه في الدنيا يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، وعقداً بعد عقد تخسره في ثانية واحدة أبداً، لو سكنت أجمل بيت، وركبت أجمل مركبة، ولك أجمل زوجة، ولك أولاد نجباء، ولك مكانة علية، ولك دخل غير محدود، لابد من ساعة تفارق هذا كله إلى القبر، هذه حقيقة الإنسان.

كل مخلوق يموت ولا يبقى  إلا ذو العزة والجبروت
***
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجــــــر  والعمر مهما طال فلابد من نزول القبـــــــر
***
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته  يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنــــــــازةً  فاعلم بأنك بعدها مــحمـــــــول
***

 فسمى القرآن الكريم الموت مصيبة من زاوية أن الشيء الذي تحصله في الدنيا تخسره في ثانية واحدة، هناك أناس كثيرون دخلوا إلى بيوت للتعزية البيت بخمسين مليوناً، أين صاحب البيت ؟ في قبر لا يزيد عن مترين مساحةً وليس فيه شيء، لذلك أية نعوة على الجدران فيها كلمة مؤثرة وسيشيع إلى مثواه الأخير، فالمثوى الذي نسكنه هو المثوى المؤقت.

 

مفارقة الدنيا صعبة جداً على غير المؤمن :

 شيء آخر: القرآن أشار إلى أن مفارقة الدنيا صعبة جداً على غير المؤمن، قال تعالى:

﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال : 6]

 الإنسان أحياناً يصاب بأمراض عضالة حينما يلوح له شبح الموت قد يصاب بمرض عضال من شدة الخوف، سمعت أن طبيباً على الطريقة الغربية قال لمريضه: معك مرض خبيث وستموت بعد أربعة أشهر فقط، لم يحتمل هذا النبأ في اليوم التالي مات، الله عز وجل قال:

﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال : 6]

النّفس تذوق الموت ولا تموت :

 أيها الأخوة الكرام: الآية الكريمة لها بعد دقيق، قال تعالى:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت : 57]

 النفس تذوق الموت ولا تموت، لأن الإنسان خلق من روح الله فهو يعيش إلى أبد الآبدين، ولكن الموت قطع العلاقة بين النفس وبين الجسم مادام هناك ارتباط بين النفس وبين الجسم فهناك حياة، الموت فك هذا الارتباط، أما النفس فموجودة، قال تعالى:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت : 57]

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾

[ سورة المدثر : 38-42]

العبرة بالأعمال الصالحة لأن الجزاء يوم القيامة :

 يقول الله عز وجل:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت : 57]

 أي أيها الإنسان لابد من أن تموت، انظر إلى عملك:

﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾

[ سورة آل عمران: 185 ]

 الحساب، الرصيد يوم القيامة، الدنيا دار ابتلاء، قد يموت الإنسان ويكون لموته صدىً كبير، وقد يموت من دون صدى فالعبرة بالعمل الصالح لأن الجزاء يوم القيامة:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

[ سورة آل عمران: 185 ]

 كلام دقيق، وكلام خطير.
 أيها الأخوة الكرام، عند الموت قال تعالى:

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾

[ سورة ق : 22]

 حديد أي ثاقب، الذي جاء به الأنبياء والمرسلون يعرفه كل إنسان جاءه ملك الموت:

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾

[ سورة ق : 22]

 الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، البطولة أن ترى الحقيقة طواعيةً قبل أن تراها قسراً هذه البطولة، أن تراها وأنت حي، لأنه يوم:

﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾

[ سورة الأنعام: 158]

 وليست التوبة:

﴿ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾

[ سورة النساء : 18]

 هذه اللحظة الطريق مسدود، إذا أخر الإنسان توبته إلى الموت لا توبة له عند الموت:

﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾

[ سورة النساء : 18]

امتحان الإنسان في كل شيء :

 أيها الأخوة الكرام، ثلاث آيات في كتاب الله تبدأ بقوله تعالى:

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾

[ سورة العنكبوت : 57]

﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾

[ سورة الأنبياء: 35]

 أنت ممتحن فيما أعطيت، ممتحن فيما منع عنك، من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:

(( اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب))

[ الترمذي عن عبد الله بن يزيد الخطميّ الأنصاري]

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾

[ سورة الأنبياء: 35]

 المال الذي بين يديك أنت ممتحن فيه، الصحة التي تنعم بها أنت ممتحن فيها، الفراغ الذي تستمتع به أنت ممتحن فيه، الأمن الذي تشعر فيه أنت ممتحن فيه، الزوجة التي وهبك الله إياها أنت ممتحن فيها، الأولاد الذين رزقتهم أنت ممتحن فيهم، حرمت الأولاد أنت ممتحن في حرمان الأولاد، لم ترزق الزوجة التي ترضيك أنت ممتحن في ذلك، لم ترزق المال الذي يكفيك أنت ممتحن في ذلك، لم ترزق الصحة التامة أنت ممتحن في ذلك:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾

[ سورة الأنبياء: 35]

الموت هو فك ارتباط النفس بالجسد فقط :

 والآية الثالثة:

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾

[ سورة العنكبوت : 57]

 فك ارتباط الجسم عن النفس هذا هو الموت، أما الإنسان فموجود وجوداً صارخاً والدليل الآية الثانية، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً ﴾

[ سورة آل عمران: 169]

 إياك أن تتوهم أن الموت عدم، الموت ليس عدماً، الموت خلع ثوب كنت ترتديه فقط، خلع ثوب كنت ترتديه، فك ارتباط الجسم بالثوب أو فك ارتباط النفس بالجسد هذا هو الموت، فالوجود قوي، النبي عليه الصلاة والسلام خاطب كفار قريش وصناديد قريش القتلة في معركة بدر سماهم بأسمائهم، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:

((سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ اللَّيْلِ بِبِئْرِ بَدْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُنَادِي: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ تُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا ؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا))

[ مسلم عن أنس ]

 هذه التتمة لم توجد، لقد كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس.

((... فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا ))

[ مسلم عن أنس ]

 وجود الإنسان صارخ بعد الموت، موجود بوعيه وأعماله التي فعلها وحالته مع الله التي كان بها أو التي لم يكن عليها، هذا كله موجود.

 

قهر الله عز وجل عباده بالموت :

 أيها الأخوة الكرام، من أسماء الله القهار، أو من أسماء الله القاهر، والله عز وجل قهر عباده بالموت، لو أن مليون طبيب قمم في الطب قدموا كل خبراتهم وكتب الله على الإنسان الموت هؤلاء لا ينفعونه شيئاً، لو أنك تملك أموال الدنيا وجاء ملك الموت لا تنتفع بها شيئاً، لو أنك أقوى إنسان في العالم وجاء ملك الموت لا ينتفع الإنسان به إطلاقاً.
 أيها الأخوة الكرام يقول الله عز وجل:

﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 61]

 أيها الأخوة الكرام، يقول الله عز وجل:

﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ﴾

[ سورة النساء : 78]

 قال علماء التفسير في أية مكانة كنت، وفي أي مكان كنت، في أية مكانة أنت فيها، وفي أي مكان أنت فيه:

﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾

[ سورة النساء : 78]

 قال الشاعر أبو العتاهية:

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس  وإن تمنعت بالحجاب و الحـــــــــــــرس
فما تزال سهام المــــــــوت نافـــــــــذةً في  جنب مدرع منها و مـتـــــــــــــــــرس
أراك لست بوقــــــــــاف ولا حــــــــــــذر  كالحاطب الخــابط الأعواد في الغلس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكـــــها  إن السفينة لا تجري على اليبـــــــــــس
***

 أيها الأخوة الكرام، هناك معنى آخر مستنبط من قوله تعالى والآية الكريمة:

﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾

[ سورة الجمعة : 8]

 الإنسان أحياناً يتوهم الموت بمرض معين، سمعت عن أخ كريم حدثني عن قريب له أصيب بمرض عضال، فاهتم بصحته اهتماماً يفوق حدّ الخيال، وهو ينتظر الموت من هذا المكان، من هذا الجهاز، من هذا العضو، اعتنى عناية تفوق حدّ الخيال، جاء ابنه من بلد ومعه مركبةٌ أخذه نزهةً إلى مصيف جميل، وفي طريق العودة حدث حادث فمات بحادث، هو يتوهم الموت من جهة، من زاوية، من جهاز، من عضو،، فجاءه من طريق آخر، شأن الذي يهرب من الموت فيجده أمامه، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الجمعة : 8]

العاقل من يستغل حياته قبل موته :

 أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾

[ سورة المؤمنون : 99-100]

 هذه آية دقيقة جداً الإنسان حينما يأتيه ملك الموت يندم على أهم شيء في الدنيا، يندم على الشيء الذي خلق من أجله، يندم على الشيء الذي إنما جاء إلى الدنيا من أجل أن يفعله، هذا الذي يندم عليه، ليس هناك إنسان قال: رب ارجعوني لعلي أنهي هذا البناء، لعلي أنهي هذه الصفقة، لعلي أسكن هذا البيت، لعلي أتزوج بفلانة.

﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا﴾

[ سورة المؤمنون : 99-100]

 أيها الأخوة الكرام، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمشي مع أصحابه فمروا بقبر فقال: " صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم"، نحن الآن أحياء والقلب ينبض، ومعنا فسحة أن نصلي، وأن نقرأ القرآن، وأن نطلب العلم، وأن نضبط ألسنتنا، وأن نغض من أبصارنا، وأن ننفق من أموالنا، وأن نحضر مجالس العلم، وأن نقدم المساعدات لمن يحتاج، نحن أحياء، نحن في بحبوحة كبيرة، العاقل من يستغل حياته قبل موته. عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

((أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ، فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا))

[ البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ]

((اغتنم خمساً قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))

[أخرجه الحاكم في المستدرك، وابن أبي شيبة، والمنذري في الترغيب والترهيب عن ابن عباس ]

تقديم الموت على الحياة لخطورته :

 أيها الأخوة الكرام، يقول الله عز وجل:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

[ سورة الملك: 2 ]

 قال العلماء: بدأ الله بالموت لأنه أقدم، هناك في موت العدم الأصل في الخلق أنهم ميتون موت عدم ثم أحياهم الله عز وجل ثم يميتهم في نهاية الحياة ثم يحييهم يوم القيامة، بدأ الله بالموت وقال بعضهم: لخطورته، الإنسان حينما يولد أمامه خيارات كثيرة أما حينما يموت فأمام خيارين لا ثالث لهما، والذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
 أيها الأخوة الكرام، مفهوم الزمن واضح في هذه الآية:

﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾

[ سورة المنافقون : 10]

 كلام عام؛ العلم رزق، والجاه رزق، والمال رزق، والصحة رزق، والذكاء رزق، وطلاقة اللسان رزق، والقدرة على الإقناع رزق:

﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾

[ سورة المنافقون : 10]

 فجاء الجواب الإلهي:

﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة المنافقون :11 ]

الموت نوعان؛ موت مؤقت و موت أبدي :

 أيها الأخوة الكرام، نحن في فرصة ذهبية بإمكاننا أن نستغفر، بإمكاننا أن نتوب، بإمكاننا أن نصلح ما مضى، أن نؤدي الحقوق التي علينا، أما حينما يأتي ملك الموت فختم العمل وصار الحساب. كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من منامه يقول: " الحمد لله الذي ردّ إلي روحي، وعافاني في بدني، وأذن لي بذكره". فالله عز وجل يقول:

﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾

[سورة الزمر:42]

 نموت كل يوم موتاً مؤقتاً، النوم موت، سماه الله موتاً، لذلك كان عليه الصلاة والسلام قبل أن يأوي إلى الفراش يدعو، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ بَعْدُ، ثُمَّ لِيَقُلْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِاسْمِكَ أَرْفَعُهُ، اللَّهُمَّ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 فكل يوم نموت موتاً مؤقتاً، هناك موت أبدي هو ساعة الموت التي وعدنا فيها.
 ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا بن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.

 

معرفة الكافر الحقيقة التي جاء بها الأنبياء عند الموت :

 أيها الأخوة الكرام، قال العلماء: وجاءت سكرة الموت بالحق هناك من يفسر هذه الآية - جاءت سكرة الحق بالموت- أي أنت تعرف الحقيقة عند الموت، الحقيقة المطلقة التي لا شك فيها ولا ريب، الحقيقة التي جاء بها الأنبياء، الحقيقة التي جاء بها الوحي، هذه الحقيقة هي الحق، والحق هو الله، المعرفة المطلقة تكون عند الموت، وفي الدنيا أقنعة كثيرة وخرافات كثيرة وكذب كثير، هذا كله في الدنيا أما عند الموت:

﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾

[ سورة ق : 19]

 يقول الإنسان عند مجيء الموت:

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾

[ سورة الفجر : 24-26]

 الإنسان إذا عمل عملاً اعتنى به عناية فائقة لئلا يموت، هذا كلام مضحك، قال تعالى:

﴿ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾

[ سورة الأحزاب : 16]

 أعرف شخصاً في بلد عربي كان يخشى الموت خشية تفوق حدّ الخيال، ما ركب طائرةً، أكل أكلاً بأعلى درجة من الدقة، كان يمارس كل أنواع التدريبات كي يبقى صحيح الجسم ثم مات، فالإنسان مهما اعتنى، مهما بذل من طاقات لابد من أن يموت، فإذا أراد الدنيا ورفض الآخرة، إذاً لا يمتع إلا قليلاً. يقول عليه الصلاة والسلام:

((إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي))

[ كنز العمال عن ابن عمر ]

 هناك حالات كثيرة يعاني منها الإنسان في سكرات الموت ما يعاني قال تعالى:

﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾

[ سورة الأنعام : 93]

 حدثني أخ هكذا قال لي، أروي لكم ما سمعت من دون تحقق طبعاً قال: رأيت أخي في المنام يشتعل من النار فقال: يا أخي الثمانية آلاف التي أكلتها حراماً.

﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 93]

 عندما يسرق اللص، ويبتسم، ويضحك، ويرى نفسه ذكياً لو تراه حينما يلقى القبض عليه ويوضع في الزنزانة، ويحاكم وبصره إلى الأرض لو تراه في ذلّ ما بعده ذلّ، وفي خوف ما بعده خوف، وفي يأس ما بعده يأس، العبرة بخواتيم الأعمال، ومن يضحك آخراً يضحك كثيراً.

 

من آخّر توبته و جاءه الموت لا ينفعه عمله أبداً :

 أيها الأخوة الكرام، الشيء الثابت أنك إذا أخرت توبتك، وصلحك مع الله، واهتمامك بالدين، وطلبك للعلم، إذا أخرته إلى أمد غير محدود وجاء الموت فجأةً عندئذ لا تستطيع أن تفعل شيئاً، انتهى الأمر، قال تعالى:

﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾

[ سورة النساء : 18]

 فرعون قال:

﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[ سورة يونس : 90]

 هل نفعه هذا الإيمان ؟ أبداً.
 أيها الأخوة الكرام، الإنسان أحياناً يحتاج إلى مقاييس، مقياس دقيق هو الموت، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة البقرة : 94]

 أقول لكم هذه الكلمة همساً: الذي إذا تصور أنه اقترب أجله فكان مطمئناً وأكرمه الله بعمل صالح يلقى الله به، ويرجو رحمة الله، هذا وقع الموت عنده، أو وقع شبح الموت عنده خفيف جداً، أما الذي غرق في الدنيا، وغرق في المعاصي والآثام، وعاش على المال الحرام، وبنى مجده على أنقاض الآخرين، بنى غناه على إفقارهم، إنسان جمع ثروة طائلة من الغش، من الكذب على الناس أحياناً، هذا حينما يلوح له شبح الموت ينهار، لأن عمله سيئ، لا يستطيع أن يسمع بكلمة موت، ولا يحب أن يسمع القرآن لأنه يذكره بالموت أحياناً.
 فيا أيها الأخوة الكرام هل تحبون لقاء الله ؟ قال تعالى:

﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[سورة آل عمران : 158]

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾

[سورة آل عمران :159 ]

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

[ سورة الزخرف : 32]

 قالت: وا كربتاه يا أبت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. اقرأ تاريخ الصحابة كلهم لا تجد صحابياً إلا كان في أسعد لحظات حياته حينما لقي الله عز وجل، هكذا تصور طالباً يدرس ليلاً نهاراً عشر ساعات في اليوم من أول أيلول وحتى الامتحان، هذا حينما يدخل الامتحان يكاد يرقص من شدة الفرح لأن الدروس مهيأة، تحضيره جيد، معلوماته دقيقة جداً، فإذا طرحت الأسئلة أمامه يكتب بشكل واضح جداً، يمضي عليه الوقت كثانية، أما الذي لم يدرس فالفحص عنده مصيبة، الفحص طامة كبرى.

 

تمني الموت مقياس دقيق لإيمان الإنسان و لعمله الصالح :

 أيها الأخوة الكرام، آية ثانية تبين أن الموت مقياس قال تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة الجمعة : 6]

 تمني الموت مقياس دقيق لإيمانك، مقياس لعملك الصالح، مقياس لاستقامتك على أمر الله، و النبي عليه الصلاة و السلام قال:

(( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ))

[ النسائي عن أبي هريرة]

((عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))

[ أخرجه الحاكم عن سهل بن سعد أو عبد الله بن عمر ]

(( من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ))

[ الترمذي عن أنس]

 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الموت بين المؤمن و الكافر :

 أيها الأخوة الكرام، المؤمن يموت، ولكن سكرات الموت هي آخر شيء في متاعبه في الدنيا، وبعده سعادة ما بعدها سعادة، أي أصعب شيء عند المؤمن ساعة الموت كما قال عليه الصلاة والسلام:

((... يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ...))

[ البخاري عن عائشة ]

 وبعد الموت هو في سعادة ما بعدها سعادة، ولكن الكافر الموت عنده أهون مما بعده، أهون شيء الموت لكن ما بعد الموت الحساب الدقيق، قال تعالى:

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

 أيها الأخوة الكرام، قضية الموت قضية مصيرية، الإنسان العاقل يعيش المستقبل، والأقل عقلاً يعيش الحاضر، والإنسان المحدود يعيش الماضي، يتغنى بالماضي، أما الإنسان العاقل فيعيش المستقبل، ما هو أخطر حدث بالمستقبل ؟ إنه الموت، ما من حدث أشدّ واقعية من الموت، لأن الإنسان لابد من أن يموت، ملكاً أو غفيراً أو فقيراً، قوياً أو ضعيفاً، صحيحاً أو مريضاً، أي إنسان نبياً أو ولياً لابد من الموت، الحدث الواقعي الوحيد الذي لاشك فيه، وسمي يقيناً لأن وقوعه يقيني ثم يقيناً لأنك عند الموت تعرف اليقين، تعرف الحقيقة حق اليقين.

 

العاقل من يستعد للموت قبل وقوعه :

 فيا أيها الأخوة الكرام، من الاستعداد للموت التوبة النصوح، من الاستعداد للموت ضبط الدخل، وضبط الإنفاق، من الاستعداد للموت طلب العلم، من الاستعداد للموت صلاح ذات البين، قال تعالى:

﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 1 ]

 أنهِ كل المشكلات، أنه كل الحقوق، من الاستعداد للموت العمل الصالح، قال تعالى:

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾

[ سورة الكهف : 46]

 سمى الأعمال الصالحة في أرجح التفاسير هي الباقيات الصالحات لأنها تبقى والمال والبنون يفنى، بالمفهوم المخالف ما دام والباقيات إذاً المال والبنون يفنى.
 أيها الأخوة الكرام التفكر بالموت جزء من الدين لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((إن أكيسكم أكثركم للموت ذكراً، وأحزمكم أشدكم استعداداً له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور))

[ابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر المدايني]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور