وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0803 - ألوان العذاب النفسي الذي يعانيه أهل النار - الإعجاز العلمي في الآية : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإنسان يحركه البيان والحيوان يحركه الواقع :

 أيها الأخوة الكرام، هذه الخطبة الأخيرة في موضوع الدار الآخرة، بقي علينا ألوان العذاب النفسي الذي يعانيه أهل النار، ولكن قبل أن أشرع عن هذه العذابات، لا بد من مقدمة.
 أيها الأخوة، الإنسان الذي أودع الله فيه عقلاً هذا العقل كما قال العلماء مناط التكليف، سأوضح لكم دور العقل في المثل التالي: لو أن إنساناً يركب مركبته يتجه إلى حمص في أيام البرد القارس، وإدارة المرور وضعت لافتة في مدينة عدرا أن الطريق مغلق بسبب تراكم الثلوج، ماذا يفعل هذا الإنسان الذي يركب هذه المركبة؟ فوراً يعود إلى دمشق، الطريق جاف ليس هناك أمطار، لكن هذه دعوة بيانية، هو يقرأ ويكتب ويعقل أن الطريق عند مدينة النبك مغلق بسبب تراكم الثلوج، لو أن دابة تسير في هذا الطريق أين تقف؟ تقف عند الثلج، هذا هو فرق الإنسان عن الحيوان، الإنسان يحركه البيان، بينما الحيوان يحركه الواقع، الإنسان يقف عند البيان، وبينما الحيوان يقف عند الواقع، فكلما كان الباعث إلى مواقفك الواقع هذا دليل تعطيل العقل الذي أودعه الله في الإنسان، وكلما كان البيان باعثاً لك على الحركة أو الوقوف فهذا دليل أنك تعقل.

 

القوة الإدراكية في الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام، أودع الله في الإنسان قوة إدراكية، هذه القوة الإدراكية يجب أن يستغلها الإنسان لسعادته الأبدية، أما إذا استخدمها لغير ما خلقت له فقد أخفق مسعاه وباء بجزاء عمله الذي لا بد منه.
 مثل آخر أيها الأخوة، راكب دراجة يمشي على طريق مستو، واجه طريقين، الطريق الأول صاعد وعر فيه عقبات وأكمات وحفر، والطريق الثاني طريق نازل معبد وحوله حدائق غنّاء وأشجار باسقة، فقائد الدراجة يحتاج إلى قوة عضلية، هذا الواقع يدعوه إلى أن يمشي في الطريق النازلة لأنه يرتاح من جهد عضلي، والطريق معبد و مزفّت، وحوله أشجار، وما إلى ذلك، بينما الطريق الصاعد طريق وعر، القرار الواقعي أن يمشي في الطريق النازل، لو أن لافتة عند مفرق الطريقين كتب عليها: الطريق الصاعد ينتهي بقصر مباح لمن دخله فيه كل شيء، والطريق النازل ينتهي بحفرة سحيقة مالها من قرار، فيها وحوش كاسرة، هذا البيان يجب أن يعكس قراراه فوراً يلغى الواقع المحبب المريح، لابد من أن يتخذ قراراً معاكساً وفق هذا البيان، لأنك إنسان، ولأن الله أودع في الإنسان العقل، ولأن الدعوة البيانية هي أرقى دعوة، هذه اللافتة على مستوى الطريقين لابد من أن تحمله على أن يصعد ويركب المشاق طمعاً بهذا القصر، وإذا شئتم تفصيلاً أكبر معلق على اللافتة منظار، إن أردت أن ترى مناظر القصر تراه بالمنظار، إن أردت أن ترى ملامح الحفرة تراها بالمنظار، ماذا تفعل؟ لابد من أن تتخذ قراراً معاكساً للقرار الأول.

من عطّل عقله و إيمانه عذبه الله في الدنيا و الآخرة :

 أيها الأخوة، ماذا يحرك الناس الآن؟ الواقع، هو في بحبوحة، ويرتكب من المعاصي ما شاء، هو في قوة وصحة ومنصب رفيع، هو في ثروة طائلة، يتحرك وفق هذا الواقع، وينسى تلك الساعة التي لابد منها، ساعة المغادرة.
 أيها الأخوة، قد تركب مركبة على اليمين شمس محرقة، وعلى الطرف الآخر ظل ظليل، إذا كانت هذه المركبة ستدور حول نصب وستنعكس الآية إلى نهاية الطـريق أين نـركب؟ فـي الشـمس، لأن هذه الشمس تبقى دقيقة واحـدة إلى أن تدور المركبة دورة كاملة فتنعكس الآية، هذا الذي يعيش المستقبل هو الإنسان الذي وفقه الله لسعادة الدنيا والآخرة، أما هذا الذي يعيش الواقع فهو الإنسان الذي عطّل عقله فاسـتحق مقابل تعطيل عقله، وتعطيل إيمانه وفطرته عذاباً في الدنيا وعذاباً في الآخرة.

سياسة الله في معاملة عباده :

 أيها الأخوة الكرام، إتماماً لهذا الموضوع الله جل جلاله من رحمته بعباده يبدأ بالهدى البياني، قرآن كريم بين أيدينا، وحديث صحيح شريف بين أيدينا، قصص من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، مواقف الصحابة وأحكام الفقه بين أيدينا، علة وجودنا وغاية وجودنا بين أيدينا، هذا الهدى البياني، أكمل شيء في الهدى البياني أن تستجيب:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكم ﴾

[ سورة الأنفال: 24 ]

 فإن لم نستجب دخلنا في معالجة أصعب، المعالجة الأولى سهلة جداً وأنت صحيح معافى في أوج نشاطك، وحياتك، وقوتك يأتيك الهدى، لابد من أن تستجيب، فإن لم تستجب دخلت في معالجة أصعب إنه التأديب التربوي:

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 21]

 فإن لم نرجع تائبين دخلنا في معالجة ثابتة خطيرة الإكرام الاستدراجي:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره، هذا الإكراه الاستدراجي:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 فإن لم يشكر ويتب بعد الإكرام الاستراتيجي لابد من القصم.

﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

.

 

على الإنسان أن يستجيب لله قبل أن يأتي يوم لا ينفع الندم :

 أيها الأخوة الكرام، لا يليق بنا إلا أن نستجيب للبيان الإلهي، هذه الخطة الخامسة التي تتحدث عن أحوال أهل النار، ينبغي أن نأخذ القرار بالتوبة النصوح، وبالإقبال على الله، وبالالتزام بمنهجه قبل أن يأتي يوم لا ينفع الندم.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾

[سورة الشعراء:88]

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾

[ سورة الكهف:46]

 زينتها، وليس المال والبنون حقيقتها.

 

الرجاء و الخوف :

 أيها الأخوة الكرام، سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: لو أن الله أنزل أنه معذب واحداً من خلقه لخشيت أن أكون أنا، واحد وهو عمر، ولو أنه أنزل أنه راحم واحداً من خلقه لرجوت أن أكون أنا، فالموقف الكامل أن ترجو الله بقدر ما تخافه، وأن تخافه بقدر ما ترجوه، وأن تكون بين الرجاء والخوف.

﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾

[سورة الأنبياء:90]

 هذا هو الموقف الكامل، لو أن رجاءك غلب على خوفك أدبك الله عز وجل، ولو أن خوفك غلب على رجائك رحمك الله عز وجل، لابد من أن توازن بين الخوف والرجاء.

عذاب أهل النار يكون بـ :

1 ـ التقريع الدائم من خزنة النار :

 أيها الأخوة الكرام: ماذا عن عذاب أهل النار النفسي؟ التقريع الدائم من خزنة النار.

﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾

[ سورة الزمر : 71 ]

 أنت متى تندم؟ متى يعتصر القلب ندماً؟ حينما يكون الشيء في متناول يديك وترفضه، ثم تتضح لك الخسارة الكبرى حينما فاتك هذا الشيء، تندم حينما يكون بإمكانك أن تصل إلى الجنة، حينما تكون أسباب الجنة بين يديك.

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها﴾

[سورة البقرة:286]

 ليس في الإسلام حرمان، ما حرمك المرأة سمح لك أن تتزوج، ما حرمك الطعام والشراب سمح لك أن تأكل، ما حرمك العلم سمح لك أن تعمل،
 العبرة أن تسير وفق منهج الله، الشهوات أيها الأخوة إنما هي قوى محركة أو قوى مدمرة، هي حيادية، سلم نرقى به إلى أعلى علّيين، أو دركات نهوي بها إلى أسفل سافلين.
أيها الأخوة الأحباب، التقريع الدائم:

﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾

[ سورة الزمر : 71 ]

 الله عز وجل جبل الإنسان على أشياء كثيرة، قد يؤلمه التقريع أكثر مما يؤلمه الجرح، جراح السنان لها التئام، أما جراح اللسان ليس لها التئام.

 

2 ـ إهمال الملائكة لاستغاثاتهم وصراخهم :

 نوع آخر من عذاب أهل النار النفسي إهمال الملائكة لاستغاثاتهم وصراخهم، أو أن يرقوا لحالهم، بل مضاعفة العذاب لهم كلما استغاثوا، قال تعالى:

﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾

[ سورة الكهف: 29]

الله عز وجل لا يقول كلاماً لا يعنيه :

 مرة ثانية أخواننا الكرام: لا يمكن أن يقول الله تعالى في قرآنه كلاماً لا يعنيه ولا معنى له، أو أن يكون كلاماً للتخويف فقط، أو للمبالغة، الله عز وجل ليس من شأنه جل جلاله أن يبالغ ولا أن يخوف ولا أن يقول كلاماً لا يعنيه.
 الذي يؤلمني أشد الألم أن الإنسان يحسب ألف حساب لتهديد إنسان، ويأخذ حذره ألف مرة من وعيد إنسان، أما إذا قرأ القرآن الكريم ورأى في هذا القرآن الكريم تهديداً ووعيداً من الواحد الديان لا يتأثر، يقول لك: نحن عباد رحمة لسنا عباد عذاب، يقول لك: هذا الواقع ماذا نفعل؟ بلوى عامة، الله يغفر لنا، هذا كله كلام فارغ لا يعني شيئاً.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ﴾

[ سورة غافر : 49]

 التقريع:

﴿ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾

[ سورة غافر : 50]

طريق التوبة لا يكون في مجتمع منحرف :

 الإنسان أحياناً يصل إلى طريق مسدود، أي أنه لو ارتكب جريمة قتل وحكم عليه بالاستئناف بالإعدام، ثم رفع الأمر إلى محكمة النقد وصدقت الحكم ثم رفع الأمر إلى رئاسة الجمهورية وصدقت الحكم، ثم سيق هذا المجرم ليعدم في أحد الأيام، قبل أن يعدم سواء عليه بكى أم لم يبك، رجا أم لم يرج، تجلد أو انهار كله سواء، لأنه وصل إلى طريق مسدودة.
 كل بطولتنا أيها الأخوة ألا نصل مع الله إلى طريق مسدود، نحن الآن في الدنيا القلب ينبض التوبة ممكنة، إصلاح الأخطاء ممكن، تأدية الحقوق ممكنة، أن تستسمح ممن ظلمته ممكن، مادمت في الدنيا كل شيء ممكن، حتى لو قتل الإنسان كما يروي الإمـام البخاري تسعة وتسعين رجلاً، فسأل أحد الرهبان فقال له: ليس لك توبة فكمل به المئة، ثم سأل عالماً آخر فقال: اخرج من هذه الأرض، أعطاه أملاً في التوبة ولكن دله على طريق التوبة ألا تكون في مجتمع منحرف.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119]

 لا يمكن أن تتوب وأنت في مجتمع منحرف، وكل ما فيه يدعو إلى المعصية، وإلى أكل المال الحرام، الذي يأكل المال الحرام اسمه شاطر ذكي، والذي ينافق اسمه مرن لبق، عنده ذكاء اجتماعي، والفتاة المتفلتة من منهج الله التي هي في الأحاديث الشريفة زانية، نحن أمام مصطلحات كلها مزورة، لابد من أن تلزم المؤمنين، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((..... عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ وَسَلَّمَ ))

[الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ]

 انتشر الهاتف الخلوي في بلدنا، اسألوا أصحاب هذه الهواتف إن نسي أن يشحنه لا ينطق، لابد من شحنه شحناً دورياً، وأنت كهذا الهاتف لابد من أن تشحن وإلا لا تنطق، تغفل عن الحقائق، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا.

 

حال أهل النار في النار :

 أيها الأخوة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ فِي النَّارِ غَمْسَةً فَيُغْمَسُ فِيهَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا مَا أَصَابَنِي نَعِيمٌ قَطُّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلَاءً فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً فَيُقَالُ لَهُ أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ أَوْ بَلَاءٌ فَيَقُولُ مَا أَصَابَنِي قَطُّ ضُرٌّ وَلَا بَلَاءٌ))

[ابن ماجة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 أهل النار حينما يرون مكانهم في النار يصيحون صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا.
 مرة ثانية: لا يعقل أن يبالغ الله، ولا أن يخوف، ولا أن يقول قولاً لا معنى له، أو قولاً لا يعنيه، أنت مع كلام خالق الكون.
 أيها الأخوة الكرام، وحينما يبلغ بأهل النار كربهم وهمهم غايته يسألون مالك خازن النار وهو أشد ملائكة العذاب شدة وغلظة.

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 77 ]

 فيرد عليهم بعد ألف عام،

﴿إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾

 هذه الحياة التي لا موت فيها ولا حياة، كل أسباب الموت ولا موت.

 

من أراد الدنيا و الآخرة فعليه بالعلم :

 أيها الأخوة، وإذا بلغ الغم منهم مداه عادوا بالمقت على أنفسهم فقالوا:

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ سورة الملك: 10]

 الآن نحن نسمع وأنا أسمع معكم، والله أعامل نفسي كما أعاملكم، أنا أسمع معكم:

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ سورة الملك: 10]

 إذاً إما أن تستمع إلى الحق صرفاً جاهزاً، وإما أن تفكر في سرّ وجودك وفي غاية وجودك، لم أنت على وجه الأرض؟

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ سورة الملك: 10]

 أزمة علم فقط، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم.

 

مصطلح الإصغاء :

 أيها الأخوة الكرام، وهذا اعتراف منهم بالذنب أنهم لم يكونوا ذوي آذان تسمع النداء في الدنيا، ولا ذوي عقول تعي دعوة الحق التي جاءتهم على ألسنة الرسل، لن يعمل عقله، ولن يصغي بأذنه.
 بالمناسبة أيها الأخوة، مصطلح الإصغاء في القرآن دقيق جداً غير مصطلح الإصغاء عند الناس، الله عز وجل يقول:

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾

[ سورة التحريم: 4 ]

 أي استمعتم إلى الحق، علامة الاستماع إلى الحق أن تأخذ موقفاً.
 إنسان يمشي في بستان رأى أفعى علامة إدراكه أنها أفعى، انفعاله، وعلامة انفعاله حركته إما لقتلها، أو للفرار منها، هذا قانون جاؤوا به علماء الاجتماع قانون التعامل مع المحيط، لن تنفعل إلا إذا أدركت، ولن تتحرك إلا إذا انفعلت، إدراك انفعال سلوك، رأيت أفعى أدركت أنها قاتلة اقتربت قتلتها أو هربت، هذا هو التعامل.
 دققوا في هذا المثل: لو أن واحداً قال لآخر: احذر على كتفك عقرب، فهذا الذي سمع هذا الكلام بقي هادئاً مرتاحاً، فالتفت إليه بنعومة بالغة، وقال له: شكراً على هذه الملاحظة القيّمة، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يلهمني أن أكافئك عليها، هل سمع ما قال له؟ لا والله، كل هذا الكلام اللطيف يعني أنه لم يسمع، لو سمع لقفز ولخرج من جلده فوراً، فهذا الذي يستمع إلى خطبة يقول: ما شاء الله خطبة رائعة وهو هو والله ما سمعها، هذا الذي يقرأ القرآن هو هوَ.

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾

[ سورة النور: 30 ]

 وهو يحملق يبحلق، يملأ عينيه من الحرام، والله ما سمع القرآن، ولا قرأه، ولا فهمه، في القرآن علامة السماع الحق الاستجابة.

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾

[سورة الأنفال: 21 ]

 ففي القرآن علامة السماع الحقيقي الاستجابة.

 

مقت الكافر نفسه أشد المقت وهو في النار :

 أيها الأخوة، حينما علموا أن السبب الحق في ضلالهم هم أنفسهم ولم يسمعوا ولم يعقلوا ندموا حيث لا تنفع الندامة، وتحسروا حيث لا تزيدهم الحسرة إلا حسرة أخرى، ومقتوا أنفسهم، دققوا الآن في هذه الآية:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾

[ سورة غافر : 10]

 الكافر وهو في النار يمقت نفسه أشد المقت، أحياناً الإنسان إذا ارتكب معصية كبيرة يحتقر نفسه احتقاراً لا حدود له، يسقط من عين نفسه، يشعر بصغار وبعقدة الذنب، هذا في الدنيا، هذا الإنسان حينما يخسر الآخرة كلها، ويخسر الأبد، ويبني في الدنيا مجده على أنقاض الآخرين، وحينما يبني غناه على إفقار الآخرين، ويبني أمنه على إخافة الآخرين، حينما يدمر الإنسان هؤلاء الذين يفعلون ما يفعلون في الأراضي المحتلة، هؤلاء يقول الله في حقهم:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾

[ سورة إبراهيم: 42]

 أيها الأخوة، هذا الكافر ينادى يوم القيامة: مقت الله لك حينما كان يدعوك فلا تستجيب أشد من مقتك الآن لنفسك، الأب الذي يرى ابنه لا يدرس يحضه على الدراسة، لا يدرس يدعوه إلى الدراسة، لا يدرس يهيئ له غرفة خاصة فلا يدرس، يهيئ له أستاذاً خاصاً فلا يدرس، يعطيه مبلغاً ضخماً ليغريه بالدراسة فلا يدرس، يضعه في أفضل مدرسة فلا يدرس، الأب بحكمته وخبرته رأى مصير ابنه، فتألم أشد الألم، الابن متى يتألم؟ حينما يكبر لا شهادة، ولا صنعة، ولا حرفة، فقير مشرد، زملاؤه في أرقى المناصب وفي أحلى البيوت، عندئذ يتألم، الأب كان ألمه يوم دعاه فلم يستجب.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾

[ سورة غافر : 10]

 إذ بمعنى حين هنا.

 

3 ـ العذاب النفسي عند رؤية المؤمنين :

 أيها الأخوة الكرام، ومن العذاب النفسي لأهل النار مقابلة أهل الجنة، المؤمن حينما يؤمن إيماناً صحيحاً، ويشهد وحدانية الله، ويشهد بلسانه وحدانيته ورسالة رسوله، ويعمل عملاً صالحاً ميسوراً، يستعذبه المؤمن في الدنيا، فالصائم يفرح بالدنيا بصومه، والمصلي يشعر بالرضا لصلاته، والمتصدق يسكب الله في قلبه من معاني الخير والفضل ما هو خير من إمساكه، والحاج يستعذب المشقة في سبيل الله، وذاكر الله يقول: إنا والله في نعمة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف، والراضي بالحلال والحرام في المأكل والمشرب والمنكح يشعر بسعادة ورضا لا يشعر بها من يعيش بها فيما حرم الله عليه.

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه: 124 ]

 والله أيها الأخوة، لو لم يكن في الإيمان إلا هذه الراحة النفسية، وهذا الشعور بالأمن.

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 81-82]

 لو لم يكن للمؤمن إلا هذه المشاعر المطمئنة الثابتة المسعدة لكفاه نجاحاً في الدنيا أنه تمتع بحياة نفسية لا يذوقها الكافر.

 

4 ـ قمعهم بالمطارق وتأنيبهم :

 أيها الأخوة الكرام، ومن العذاب النفسي بأهل النار قمعهم المطارق وتأنيبهم مع هذا العذاب المذل وصنوف الإذلال، كقول الملائكة لهم بعد صب العذاب فوقهم:

﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾

[ سورة الدخان: 49 ]

 هذا الذي أخذته العزة بالإثم في الدنيا.
 ألا يا رُبّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رُبّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة. ألا يا رُبّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾

[ سورة الدخان: 49 ]

 هذا من العذاب النفسي أيضاً.

﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾

[ سورة الدخان: 49 ]

﴿ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الطور: 15]

5 ـ سحبهم على وجوههم في النار :

 أيها الأخوة الكرام، أحياناً هناك عذاب هو في طبيعته إذلال، فمن هذا العذاب:

﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ﴾

[ سورة القمر : 48]

6 ـ مسكهم من شعر مقدمة الرأس :

﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴾

[ سورة الرحمن: 41]

 يمسك من شعر مقدمة الرأس، هذا غاية الإهانة، هذا هو العذاب المهين، هناك عند الله عذاب أليم، وهناك عند الله عذاب عظيم.

 

7 ـ دفعهم إلى نار جهنم :

 عذاب آخر مهين:

﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴾

[ سورة الطور: 13]

 الدفع هو الدفع العنيف.

﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا* هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾

[ سورة الطور: 13-14]

بطولة الإنسان أن يضحك آخراً :

 أيها الأخوة الكرام، كل بطولتك أن تضحك آخراً، هناك من يضحك أولاً، وهذا يضحك قليلاً، ويبكي كثيراً، لكن من يضحك آخراً يبكي قليلاً، ويضحك كثيراً.
 أيها الأخوة، المولود حينما يولد كل من حوله يضحك، وهو يبكي وحده، فإذا فارق الحياة كل من حوله يبكي إن كان بطلاً يضحك وحده.

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾

[ سورة يس: 26-27]

 وفي آية ثالثة:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾

[ سورة لقمان: 6]

 والعياذ بالله عذاب مهين.

 

8 ـ حلول غضب الله وسخطه عليهم والتخلي عنهم :

 وأعظم عذابات النار النفسية يوم القيامة نعوذ بالله منها هي: حلول غضب الله وسخطه عليهم، والتخلي عنهم ونسيانه جل جلاله لهم ومقته قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 77 ]

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾

[ سورة المطففين: 15 ]

 أما المؤمنون:

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾

[ سورة القيامة:22-23]

9 ـ الفضيحة بالذنب على رؤوس الأشهاد :

 من هذا العذاب النفسي الفضيحة بالذنب على رؤوس الأشهاد، والتشهير بهم على الملأ، بل على رؤوس الناس جميعاً منذ أن خلق الله الإنسان إلى يوم القيامة.

﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ *﴾

[ سورة الطارق:9-10]

 نواياه الخبيثة، حقده، اتجاهاته المنحطة، قذارته، دناءته تنكشف أمام الملأ.

﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ *﴾

[ سورة الطارق:9-10]

 معنى تبلى أي تهتك، يظهر ما كان في الخفاء مما أسره أصحاب الذنوب والمعاصي.
 وفي آية أخرى:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾

[ سورة هود:103]

 مرة سأل بعض أصحاب النبي النبي سؤالاً فقال:

((يا رسول الله والله إني لنؤوم؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فضحت نفسك أيها الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ))

[ورد في الأثر]

 فضوح الدنيا أمام عشرة أشخاص، أما فضوح الآخرة فأمام البشر جميعاً، منذ أن خلق الله آدم إلى يوم القيامة.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾

[ سورة هود:103]

 وفي قول الله عز وجل:

﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾

[ سورة آل عمران: 192]

﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء : 87-89]

 هو القلب الذي برئ من شهوة لا ترضي الله، وبرئ من تصديق خبر يتناقض مع وحي الله، وبرئ من تحكيم شرع غير الله، وبرئ من عبادة غير الله.
 عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَحَدُهُمَا يُنْصَبُ وَقَالَ الْآخَرُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ))

[البخاري عَنْ أَنَسٍ]

 له بقدر غدره.

 

10 ـ الخلود في النار :

 وأعظم عذاب النار هو الخلود، فأهل النار قسمان؛ خلدون خلوداً لا انقطاع له ولا موت معه، وهم درجات؛ أعلاهم من يوضع في جب في أسفل النار لو فتح هذا الجب فإن جهنم نفسها تستغيث بالله من حره، وأدناهم منزلة وأقلهم عذاباً من يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، أهون الناس عذاباً.
 أيها الأخوة، تصور أنك في مكان لا يحتمل وقد صدر حكم بأن تبقى فيه مادمت حياً غير العذاب الجسمي، العذاب النفسي لا أمل منه، انقطاع الأمل أشد أنواع العذاب.

الذنب والوعيد متحققان والتوبة والمغفرة مظنونتان :

 أيها الأخوة الكرام، بقي حقيقة دقيقة جداً وهي أن الذنب والوعيد متحققان، ذكرت هذا في الخطبة السابقة ولم أشرحه، والتوبة والمغفرة مظنونتان، الإنسان حينما يقع بذنب هذا الذنب سجل عليه، الآن دققوا: علم أو لم يعلم، عدّه ذنباً أو لم يعده ذنباً، تذكره أو نسيه، قبله أو رفضه، ما دام قد وقع بالذنب سجل عليه، كيف؟ لو أن إنساناً ركب طائرة وقال: أنا لا أعبأ بقانون السقوط هذا كلام فارغ لا معنى له، ونزل من دون مظلة، عدم تصديقه لهذا القانون هل يحميه من آثار هذا القانون؟ أبداً صدق أو لا تصدق، آثار هذا القانون مطبقة عليك، هنا المشكلة، لو كذبت بيوم الدين وبيوم الوعيد كذبت أو لم تكذب، صدقت أو لم تصدق، شعرت أو لم تشعر الذنب متحقق، سميته ذنباً، سميته عملاً حضارياً، سميته انفتاحاً، سميته تطوراً، سميته رقياً، سميته فهماً عميقاً للدين، سميته قراءة معاصرة، سمِّه ما شئت، هو ذنب متحقق عليك، كما أن القانون إن كرهته أو لم تصدقه، أو لم تعبأ به، أو استهزأت به، مطبقة أحكامه عليك شئت أم أبيت، لذلك قالوا: الذنب والوعيد متحققان، والتوبة والمغفرة مظنونتان، قد تتوب وربما لا تتوب، هناك إنسان لا يتوب من ذنبه، استمرأ المعصية، تدعوه إلى التوبة فلا يتوب، أما حينما لا تكون مذنباً فهذا شيء متيقن، فهذا الذي يعتمد على التوبة، التوبة مظنونة، أما الذنب فمحقق، والذي يعتمد على المغفرة، المغفرة مظنونة، قد يغفر، وربما لا يغفر، وقد تتوب، وربما لا تتوب، أما الذنب والوعيد فمتحققان.

طريق أهل الجنة إلى الجنة طويل وطريق أهل النار إلى النار قصير :

 أيها الأخوة الكرام، طريق أهل الجنة إلى الجنة طويل، وطريق أهل النار إلى النار قصير، في المثل الذي بدأت به الخطبة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَأَوْمَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلَاثًا أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا ))

[ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 يكفي أن تترك الصلاة، وأن تملأ عينيك من الحرام، وأن تتكلم ما تحب غيبة ونميمة، وما إلى ذلك، هذا يكفي كي يكون الإنسان من أهل النار.

 

الفرصة التي أعطاها الله للإنسان في الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام، هذه آخر خطبة في موضوع الدار الآخرة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها، والله عز وجل أعطانا فرصة، نحن في الدنيا معنا فرصة.

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة الزمر: 53 ]

 ثم إن الله عز وجل فيما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام مثل تمثيلاً رائعاً فقال: رجل يقطع الصحراء، وعلى ناقته زاده وطعامه وشرابه، جلس ليستريح فأفاق فلم يجد الناقة، فأيقن بالموت، فبقي يبكي حتى أدركه النعاس، فأفاق فرأى الناقة أمامه، اختل توازنه قال: اللهمّ أنا ربك، وأنت عبدي، يقول عليه الصلاة والسلام:

((للهُ أفرح بتوبة عبده من هذا البدوي بناقته))

[البخاري عن أنس بن مالك]

 هذا موقف الله عز وجل:

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾

[ سورة النساء: 27 ]

 أيها الأخوة، هذه النصوص في القرآن أعيد وأكرر لا يمكن أن تكون تخويفاً، ولا يمكن أن يكون مبالغ بها، ولا يمكن أن تكون كلاماً لا معنى له، ولا يمكن أن يكون هذا الكلام لا يعنيه الله عز وجل، هذه أربع مستحيلات، هذا كلام واقع، لكن باب التوبة مفتوح، والصلحة بلمحة كما يقولون.
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

***

الخطبة الثانية :

 

 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، و أشهد أن سيدنا محمداً سيد الأولين و الآخرين.

الإعجاز العلمي في الآية: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً .... :

 أيها الأخوة الكرام، من الإعجاز العلمي في قوله تعالى:

﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾

[ سورة النساء: 56 ]

 لأن أعصاب الحس نهاياتها غزيرة في سطح الجلد، فإذا احترق الجلد توقف الألم، إذاً لابد من تبديل الجلد حتى يستمر الألم، وهذا من إعجاز القرآن العلمي، أما الأمعاء:

﴿ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾

[ سورة محمد: 15 ]

 ليس هناك إحساس بالحرارة ولا بالألم في الأمعاء، ولكنه إحساس بالضغط، فإذا جاء الضغط كافياً تقطعت الأمعاء.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا به مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، ونعوذ بك من عضال الداء، وشماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اللهم انصر عبادك المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي شمالها وفي جنوبها، وفي الأراضي المحتلة يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور