وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0805 - التواضع - موضوع قصصي يصف أخ متكبر جبار ظالم لأخوته .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

التّواضع :

 يقول عليه الصلاة والسلام محدداً أهداف بعثته:

((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ))

[أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 لأن الإيمان من لوازمه أن تكون أخلاقياً، والاستقامة والعمل الصالح ثمن جنة الله عز وجل، فالحق كما تعلمون وسط بين طرفين، والفضيلة مكرمة بين رذيلتين، والكمال في الوسط، والنقص في التطرف، فقد ينحرف التواضع إلى الذل، عندئذ ليس تواضعاً، وقد يصبح غلافاً للكبر، عندئذ ليس تواضعاً، وفي الطرفين انحراف بالتواضع عن الموقع الصحيح الذي أراده الله عز وجل.
 التواضع أيها الأخوة أساسه معرفة الله، إن عرفت الله تواضعت، وإن جهلته تكبرت واستعليت فقصمت، قد ينطوي المرء أيها الأخوة على نفس تتصف بأشدّ حالات الكبر، لكنه يسلك مع بعض الناس سلوك المتواضعين، توصلاً بهذا السلوك إلى تحقيق مصالحه المادية، إن هذا ليس من التواضع في شيء، إنه موقف ذكي أساسه المصلحة الراجحة، أما الكبرياء على العباد فهي صفة رب العباد، قال تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾

[ سورة الأعلى : 2-3]

 والذي إذا ظهر قهر، وإذا تجلى طاشت بأنوار جلاله ألباب البشر، يمتحن العباد امتحانين؛ الامتحان الأول يقوى الكافر ويفعل ما يريد إلى أن يقول ضعيف الإيمان أين الله؟ ثم يُظهر الله آياته حتى يقول الكافر: لا إله إلا الله، الكبرياء على العباد صفة رب العباد:

﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾

[ سورة الأعلى : 2-3]

 والذي إذا ظهر قهر، وإذا تجلى طاشت بأنوار جلاله ألباب البشر:

﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[ سورة الجاثية : 36-37]

ذلّ العباد لربهم بالحق لا بالباطل :

 أيها الأخوة الأكارم، ذلّ العباد لربهم بالحق لا بالباطل، فهو الخالق العظيم، والرب الرحيم، والمُسيِّر الحكيم، بديع السموات والأرض، ذو الفضل العظيم، رب العزة والجبروت، ذو الجلال والإكرام، إليه يرجع الأمر كله، قال تعالى:

﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾

[ سورة يونس: 24 ]

 هناك نماذج مصغَّرة، وهناك نماذج مكبَّرة.
 أيها الأخوة الأحباب، مصائر العباد رهن مشيئته، وطوع إرادته، وهم إنما يكونون في أزكى أحوالهم ساعة تحنو جباههم لربهم خاضعين، منيبين إليه، عندئذ يعرفون حجمهم ووضعهم، فيلزمون حدَّهم، ولا يتجاوزونه، كان رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ))

[ أحمد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف ]

 أيها الأخوة، المتكبر مُبطِل متطاول، يزعم لنفسه ما ليس لها، والكِبر جملة من الخصائص الخسيسة في طليعتها جحد الحق، وتجاهل الواقع، وسوء العِشرة، وتجاوز القَدر، وتحقير الفضل.

 

تحريم الله على المسلم أن يهون أو أن يضعف :

 وقد يجهل الإنسان حقائق التوحيد، أو يعتقد اعتقاداً فاسداً أساسه الشِرك، فيُضِلُّ نفسه، ويقبل الدنيَّة في دينه، إما لخوف أن يُصاب برزقه، أو أن يُصاب بأجله، مع أن الله جل جلاله قطع سلطان البشر عن الآجال والأرزاق جميعاً، فليس لأحد إليهما سبيل، وبيَّن في كتابه العزيز أن البشر لو اجتمعوا بأسرهم أذلُّ من أن يمنعوا شيئاً أعطاه الله، وأقل من أن يعطوا شيئاً منعه الله، قال تعالى:

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾

[ سورة فاطر: 2 ]

 وقال:

﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

[ سورة يونس: 107 ]

 هذا الذل أيها الأخوة - ذل الشِرك والخوف - ليس من التواضع في شيء، قد يقصِّر الإنسان في أداء واجبه، وقد يهمل عمله أو صنعته، أو يسيء إلى الناس في تعامله معهم، فيأتيه اللوم والتقريع فيتطامن، وهذا الذل ذل التقصير والإهمال والإساءة ليس من التواضع في شيء. إذاً ذلة العبد لعبد مثله باطلة بلا ريب، فقد حرَّم الله على المسلم أن يهون أو أن يذل أو أن يضعف، قال تعالى:

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة آل عمران: 139 ]

 وفي الحديث الشريف:

((من أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس منا ))

[ الطبراني عن أبي ذر]

 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((من أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على ربه، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو الله تعالى، ومن تضعضع لغني لينال مما في يديه أسخط الله تعالى ))

[ الطبراني عن أنس بن مالك]

 لا ينبغي للمؤمن أن يُذِل نفسه، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير))

[ابن عساكر عن عبد الله بن بسر]

 وقد قيل: احتج للرجل تكن أسيره، واستغن عنه تكن نظيره، وأحسن إليـه تكن أميره.
 وشرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس، إنّ اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو عِزة الإيمان، وعزة الإيمان غير كبرياء الطغيان، فرق كبير بين عزة الإيمان وبين كبرياء الطغيان، إنها أنَفَة المؤمن أن يَصغُر لجهة، أو أن يتضعضع في مكان، أو أن يكون ذنباً لإنسان، إنها ترفُّع عن مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها انخفاض إلى خدمة المسلمين، والتبسط معهم، واحترام الحق الذي يجمعه بهم. إنها إتيان البيوت من أبوابها، وطلب العظمة من أصدق سبُلها، قال تعالى:

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً﴾

[ سورة فاطر: 10 ]

 في الإنسان دوافع ثلاثة؛ دافع إلى الطعام والشراب لحفظ الفرد، ودافع إلى الجنس لحفظ النوع، ودافع إلى تأكيد الذات، وكل هذه الدوافع لها قنوات مشروعة نظيفة، قال تعالى:

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 1-4]

ما من مؤمن يعتصم بالله إلا ويرفع الله ذكره.

 على الإنسان ألا يطالب بما له من حق حتى يؤدي ما عليه من واجب :
 أيها الأخوة الكرام، والعزة حق يقابله واجب، وليس يسوغ لامرئ أن يطالب بما له من حق حتى يؤدي ما عليه من واجب، فإذا كُلِّفت بعمل فأديته على أصح وجوهه عندئذ لا سبيل لأحد عليك، ولا يستطيع من فوقك ولا من دونك أن ينالك بلفظ جارح، وتستطيع أن تحتفظ بعزة نفسك أمام كل الناس على اختلاف مراتبهم حين تسدُّ الثغرات التي ينفذ منها اللوم إليك، إن ألدّ أعدائك حينئذ يتهيَّبك، قال تعالى:

﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

[ سورة يونس: 26 ]

 هذا قانون العزة، وقانون الذل:

﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

[ سورة يونس: 27]

 لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((إياك وما يُعتَذَر منه))

[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمر ]

 من أجل أن تبقى عزيزاً، أيُّ عمل يُلجئك إلى أن تعتذر لا تفعله.

 

أنواع التواضع :

 أيها الأخوة الكرام، وبعد الحديث عن الكِبر وبطلانه، والذلة وأسبابها، والعزة ومقوماتها يطيب الحديث عن التواضع.
 هناك تواضع متَصَنَّع، غلاف لكِبر عميق، وهناك تواضع الذل، وهناك تواضع الخطأ، وتواضع الإساءة، وهناك كِبر الطغيان، لكنّ التواضع الذي هو من ألزم أخلاق المؤمن أيها الأخوة تواضع العزيز لا تواضع الذليل، إنه تواضع القوي لا تواضع الضعيف، إنه تواضع المنتصر لا تواضع المنهزم، إنه تواضع الشريف لا تواضع الخسيس، إنه تواضع المؤمن، لأن الأمر كله بيد الله لا تواضع المشرك الذي استحوذ الخوف على قلبه، إنه تواضع المؤدي لواجبه لا تواضع المقصِّر فيه، إنه تواضع المتقن لعمله لا تواضع المهمل له، إنه تواضع المحسن، لا تواضع المسيء.

 

تعريف التواضع :

 أيها الأخوة الكرام، لو وصلنا إلى صيغة (تواضَعَ) لعلِمنا أنه على وزن تفاعَلَ، وهذا الوزن يفيد إظهار ما ليس في الواقع، فالمتواضع ليس وضيعاً، كما أن المتمارض ليس مريضاً، وكما أن المتكبر ليس كبيراً، وكما أن المتعاظم ليس عظيماً، التواضع في حقيقته رؤية صحيحة لعظمة خالق الأكوان، وشعور واقعي بضعف الإنسان، وسلوك أصيل أساسه الانضباط والإحسان، التواضع مظهر لعبودية الإنسان لله عز وجل، ونتيجة لرؤية افتقاره لفضله، وليس سلوكاً ذكياً أساسه مصلحة راجحة، هذا المتواضع في الظاهر الذي يجعل من تواضعه أساساً لتحقيق مصالحه، فلو ضُربت مصالحه لرأيته كالوحش الكاسر يظهر بمظهر آخر، يخلع القناع عن وجهه، ويُنشب أنيابه، ويدوس على كرامات الخلق بحافره.
 أيها الأخوة الكرام، ليس التواضع ضعفاً إنسانياً، ولا ضعفاً نفسياً أساسه توهَّم باطل، أو رؤية ضبابية، أو تقصير، أو إهمال، أو إساءة، التواضع فضيلة الفضائل، وهو وسطٌ بين دناءة الذل، وغطرسة الكِبر:

(( ليس كل مصلّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ))

[الديلمي عن حارثة بن وهب ]

 قرأت عن نور الدين الشهيد، الذي وقف في وجه التتار قال: يا رب مَن هو الكلب نور الدين حتى تنصره ؟ انصر دينك يا رب.
 التواضع في أدق تعاريفه: خضوع العبد لسلطان الحق، والانقياد له والدخول تحت مظلته، ومن تكبر عن أن ينقاد للحق أذلّه الله، وصغَّره، وحقَّره، ومن تكبر عن أن ينقاد للحق ولو جاء من صغير أو بعيد أو عدو فإنما تكبره على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق والحق صفته. يروى أن أبا حنيفة النعمان فيما تروي الكتب رأى طفلاً على شفا حفرة، قال: يا غلام إياك أن تسقط، فقال هذا الطفل النبيه: بل أنت يا إمام إياك أن تسقط، إني إن سقطتُ سَقطتُ وحدي، وإنك إن سقطتَ سقط معك العالَم. المؤمن المتواضع يقبل الحكمة من صغير، من أدق تعريفات الكِبر: بطر الحق وغمط الناس، أن ترد الحق، ألا تقبل بالحق، أن تحتقر الناس، أن تستعلي عليهم، أن تصغِّرهم، أن تطعن فيهم، إن احتقار الناس وازدراءهم من جملة الكِبر، وقد عُرِّف التواضع بناءً على هذا الحديث بمفهوم المخالفة إنه الخضوع للحق وإنصاف الناس.
 قومي يا عائشة - بعد أن برَّأها الله - فاشكري رسول الله، قالت: والله لا أشكر إلا الله، تبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: عرفت الحق لأهله. إنه الخضوع للحق وإنصاف الناس، لذلك قيل: من عرف نفسه عرف ربه، ومن لم يعرف نفسه فهو مغرور، ومن نظر بعين المعرفة إلى سلطان الله فني عن سلطان نفسه، ومن نظر إلى عظمة ربه صغرت عنده نفسه، وقُهِر تحت جلال هيبته المؤمنون ـ
 أيها الأخوة ـ قوم فرَّغ الله قلوبهم من الكِبر، وجعل رحيق محبته مشروبهم، وأطال على باب خدمته وقوفهم، وجعل رضاه وقربه مطلوبهم، وغضبه وبُعدَه مخوفهم، هم من خشيته مشفقون، ومن هيبته مطرقون، إن تواضعوا فلرفعته، وإن تذللوا فلعزته، وإن طمعوا ففي فضله، وإن خضعوا فلعظَمَته، إلى الله افتقارهم، وبالله افتخارهم، وإلى الله استنادهم، هو كنزهم وعزهم وفخرهم وذخرهم ومعبودهم ومقصودهم.

 

مشكلة المسلمين اليوم الفصل بين المُثُلِ النظرية والواقع العملي :

 أيها الأخوة الكرام، قل للواقفين لغير باب الله: يا طول هوانكم، قل للعاملين لغير الله: يا عظيم خسرانكم، قل للآملين لغير فضل الله: يا خيبة آمالكم، قل للساعين لغير وجه الله: يا ضيعة أعمالكم.
 أيها الأخوة الكرام، إن هذا الانفصال بين المُثُلِ النظرية والواقع العملي هو مشكلة المسلمين اليوم، مسافة كبيرة بين ما يقرؤون وبين ما يسلكون، بين ما يسمعون وبين ما يفعلون، بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن، هذه المفارقة الحادة، وهذه المسافة الكبيرة بين ما ينبغي وبين ما هو واقع يرفضه الإسلام أشدّ الرفض، لقد رفع الإسلام الواقع إلى مستوى المُثل، وشدّ المُثل لتكون واقعية، فصار في الإسلام ما يسمى الواقعية المثالية، أو المُثل الواقعية.

شمائل النبي صلى الله عليه و سلم :

 أيها الأخوة الكرام، كان عليه الصلاة والسلام مع أنه سيد الخلق وحبيب الحق، مع أنه سيد ولد آدم ولا فخر، مع أنه أول من يُمسك بِحِلَق الجنة، مع أنه الذي يعطيه الله الوسيلة التي لا تنبغي إلا لواحد من خلقه، والنبي الكريم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:

(( سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ))

[مسلم عن ابن عمر ]

 كان عليه الصلاة والسلام وافر الأدب، جمَّ التواضع، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكُلِّه إلى محدِّثه صغيراً كان أم كبيراً، وكان آخر من يسحب يده إذا صافح، إذا تصدق وضع الصدقة في يد المسكين، وإذا جلس جلَس حيث ينتهي به المجلس، لم يُرَ مادّاً رجليه قط، لم يكن يأنف مِن عملٍ لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار، كان يذهب إلى السوق ويحمل حاجته بيده ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والمسكين، وكان يقبل عذر المعتذر، وكان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويكنس داره، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، وكان في مهنة أهله - أي في خدمة أهله - وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، كان يمشي هوناً، خافض الطَرف، متواصل الأحزان، دائم الفكر، لا ينطق من غير حاجة، كان طويل السكوت، إذا تكلمَ تكَلمَ بجوامع الكلم، وكان دمثاً، ليس بالجاحد ولا المُهِين، يُعظِّم النعم وإن دقَّت، ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم مذاقاً ولا يمدحه، ولا تُغضبه الدنيا ولا ما كان منها، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضَّ طرْفه، كان يؤلف ولا يُفرِّق، يُقرِّب ولا يُنفِّر، يُكرِّم كريم كل قوم ويولِّيه عليهم، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، يُحسِّن الحسن ويُصوّبه، يُقبِّح القبيح ويوَهنه، لا يُقصِّر عن حق ولا يتجاوزه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، هل تستطيع ذلك؟ هل تستطيع أن تُجالس الناس جميعاً - من المؤمنين طبعاً - وكل واحد منهم يظن أنه أقرب الناس إليك، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو ما يسره من القول، كان دائم البِشر، سهل الخُلُق، ليِّن الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مزَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يُخيب فيه مؤمله، وكان لا يذم أحداً ولا يُعيِّره، ولا يتكلم إلا فيما يُرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه اندماجاً معهم، تواضعاً لهم، يتعجب مما يتعجبون، يصبر على الغريب وجفوته. قال له أعرابي يومًا: أعطني من مال الله فهذا المال يا محمد ليس مالك وليس مال أبيك، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: صدقت .
 لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه، والحديث عن شمائله لا تتسع له المجلدات، ولا خطب في سنوات، ولكن الله جل جلاله لخّصها في كلمات قال:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

عناية النبي بأصحابه و تواضعه لهم :

 أخوة الإيمان، من زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان، من عنايته بأصحابه وتواضعه لهم ما رواه الحاكم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعض بيوته فدخل عليه أصحابه حتى غصّ المجلس بأهله وامتلأ، فجاء جرير البجلي فلم يجد مكاناً فقعد على الباب، فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه وألقاه إليه، فأخذه جرير ووضعه على وجهه وجعل يُقبِّله ويبكي، وأعاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك يا رسول الله، أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام يميناً وشمالاً فقال:

(( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ))

[ ابن ماجة عن ابن عمر ]

 عن عدي بن حاتم أنه قال: لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليّ وسادة من أَدَم محشوة ليفاً، قال: اجلس عليها، فقلت: بل أنت، قال: بل أنت اجلس عليها، فجلستُ عليها وجلس رسول الله على الأرض، فقلت: أشهد أنك لا تبغِي علواً في الأرض ولا فساداً، وأسلم عدي بن حاتم.
 روى البيهقي في الدلائل أنه وَفَدَ وَفْدُ النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم بنفسه، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله القيام بضيافتهم وإكرامهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كانوا لأصحابنا مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم.
 وكان صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم، وكانت الأمَة - أي الطفلة الصغيرة- تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت، لقد كان هيِّن المؤنة، ليِّن الخُلُق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسَّاماً، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، ليِّن الجانب لهم.
 وفي مختصر السيرة للطبري أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة ذبحت، فقال رجل: عليّ طبخها، وقال آخر: عليّ ذبحها، وقال عليه الصلاة والسلام: وعلي جمع الحطب، قالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال: علمت أنكم تكفونني ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه. هكذا علمنا النبي، ما من موقف أيها الأخوة ينزلق فيه صاحبه إلى الكِبر والاستعلاء والغطرسة والعنجهية كأن يفتح مدينة، أو أن ينتصر، أو أن يقوى، ثم يزعم أنه القوة الوحيدة في العالَم.
 دخل عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً، وقد ناصبه أهلها العداء عشرين عاماً، أخرجوه، وقتَّلوا أصحابه، ونكَّلوا به، وحاربوه ثلاثة حروب طاحنة، دخلها وبإمكانه أن يبيدهم، بإمكانه أن يُلغي وجودهم، دخل مكة متواضعاً، مطأطئ الرأس لله تعالى، حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، من شدة تواضعه لله عز وجل، وحينما سألهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. لذلك قال أبو سفيان: يا بن أخي ما أعقلك! وما أحكمك! وما أرحمك! وما أوصلك! هذه هو الدين، الدين خُلُق.

 

وفاء النبي و حنكته :

 أيها الأخوة، حينما انتهى المسلمون من غزوة حنين راح النبي صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم على المسلمين، واهتم يومئذ اهتماماً خاصاً بالمؤلفة قلوبهم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا العطاء، كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين، أما أولو الإسلام المكين فقد وكلهم إلى إسلامهم، ألا يوجد في المسجد أخوة كرام أقوياء الإيمان؟ لو أن أحدًا تجاوزهم في دعوة إلى وليمة ألا يتألمون؟ يتألمون أشدّ الألم ويحسبون أنهم في الصف الثاني، ألا يستطيع من أوكل اللهُ الدعوة إليه أن يتجاهل بعض الأقوياء من الإيمان، هذه سُنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أوكلَ أولي الإسلام المكين إلى إسلامهم، ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئاً، وكان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً عظيماً يحرص عليه جميع المؤمنين، وهكذا تساءل الأنصار في مرارة لِمَ لَمْ يعطِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حظنا من الفيء والغنيمة؟ وسمع زعيم الأنصار قومه يتهامسون بهذا الأمر، فلم يرضِه هذا الموقف واستجاب لطبيعته الواضحة الصريحة، وذهب من فوره إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك - أي هم متألمون منك- في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، وسأله النبي عليه الصلاة والسلام: وأين أنت من ذلك يا سعد؟ أي هل أنت مُبَلِّغ أم مُتَبَنٍ؟ سؤال دقيق، فأجابه سعد بصراحة ما بعدها صراحة قال: ما أنا إلا من قومي، أي وأنا متألم أيضاً، فقال: اجمع لي قومك، وقبل أن نتابع القصة أيها الأخوة لا بد من أن نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه هذا التساؤل وهو في أعلى درجات قوته، فقد دانت له الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، وكان يتمتع بأعلى درجة من القوة، وفي منطق العصر بإمكانه أن يلغي وجود هؤلاء الذين انتقدوه، وبإمكانه أن يهملهم، وبإمكانه أن يهدر كرامتهم، وبإمكانه أن يعاتبهم لصالحه، ماذا فعل؟ جمعهم، وذكَّرهم بفضلهم عليه، قال: يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وجِدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم، من أجل لعاعة تألفتُ بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، يا معشر الأنصار ألا إنكم لو قلتم فلصَدَقتَم ولصُدِّقتم به - لو قلتم ما سأقول كنتم صادقين، والناس يصدقونكم - أتيتنا مُكذَّبَاً فصدَّقناك، طريداً فآويناك، مخذولاً فنصرناك، يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله؟ وعالَة فأغناكم الله؟ وأعداء فألَّف بين قلوبكم؟ أوجدتم علي في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ فبكوا حتى أخضلوا لِحاهُم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار وهكذا... يا رب هذه القصة أين تُوضع؟ أمع وفائه أم مع رحمته أم مع حكمته أم مع صبره أم مع حنكته؟ هكذا كان عليه الصلاة والسلام.

حكمة النبي جعلت العدو صديقاً :

 أيها الأخوة، بحكمة النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل العدو صديقاً، وبحمقٍ الأقوياءُ يجعلون الأصدقاء أعداء، القوي أحمق، والمؤمن متصل بالله، فيهبَه الله الحكمة قال تعالى:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[ سورة البقرة: 269 ]

 أيها الأخوة الكرام:

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾

[ سورة محمد: 1 ]

 مستحيل، وألف مستحيل أن يكون الكافر حكيماً، لا بد أن يكون أحمقَ، لا بد أن يفجر حوله المشكلات، لا بد من أن يملأ قلوب الخلق نقمة عليه، لذلك هم يقولون: القوة تصنع الحق، نقول: لا، القوة تحتاج إلى حكمة، وإلا تصبح سبب دمار صاحبها، القوة تحتاج إلى حكمة، وهي هبة من الله، وإلا تجعل صاحب القوة أحمقَ، قوته سبب دماره:

﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾

[ سورة الحشر: 2 ]

 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

موضوع قصصي يصف أخاً متكبراً جباراً ظالماً لأخوته :

 أيها الأخوة، بينما كنتُ أراجع أوراقي القديمة عثرت على مقال ينتمي في الأدب إلى المقال القصصي، ووجدت من المناسب أن أقرأه لكم، هذا المقال يبدأ: هناك رجل عنده عشرة أولاد مختلفون من حيث الذكاء والمحدودية، والطيب والخبث، والالتزام والطاعة، وعدم الالتزام والتفلت، ولكل ولد من أولاده هؤلاء ذرية من الذكور والإناث، أراد هذا الأب الحكيم أن يعطي أولاده من أمواله ليمتحنهم، وليرى مدى التزامهم بتوجيهاته، أعطاهم من أمواله بشكل متساوٍ كماً، مختلف نوعاً، فهذا بيت، وهذا محل تجاري، وهذا أرض، وهذا مركبة، وهذا أعطاه مالاً سائباً، أعطاهم أموالاً متنوعة، لكنّ واحداً من أولاده أولئك يتمتع بذكاء متقد، وبقدر ذكائه المتقد يتصف بخبث شديد، وبقدر خبثه الشديد ينطوي على أنانية مفرطة، وحب للذات، لكن الشيء الذي يلفت النظر أنه كان يتمتع بقدرة عجيبة على أن يظهر بأعلى مظهر أخلاقي علمي حضاري، ومن أجل أن يوفر هذا الابن الذكي الخبيث المنافق الأناني لأسرته حياة رغيدة ناعمة مستقرة، لا توفرها له أمواله التي أخذها من أبيه، ولا الأموال التي يمكن أن يحصِّلها بكدِّه وعمل جبينه، بدأ بالعدوان على أموال إخوته بشكل مُقَنَّع تارة ومكشوف تارة أخرى بحسب الظروف المحيطة به، فتارة يغريهم بأن يستثمر أموالهم في محله التجاري، فيحجزها عنده، ويعطيهم من أرباحها النزر اليسير، وتارة يبيعهم سلعاً، يزينها لهم، ويوهمهم بأنهم في أمسِّ الحاجة إليها بأغلى الأثمان، وتارة يشتري ما عندهم من مواد هو في أشدّ الحاجة إليها بأبخس الأسعار، وتارة يدَّعي أنه يدافع عن إخوته ضد أخطار موهومة، ويتقاضى على دفاعه هذا أكرم أموالهم، وكلما تردد إخوته بإعطائه المال الذي يطلبه منهم أغرى بعض أعوانه، وما أكثرهم بتهديدهم وتخويفهم، هكذا جمع الأموال، وفي نهاية المطاف وبعد أن تمكن من إزاحة آخِر منافس له من ساحة الصراع كشَّر عن أنيابه، وأزاح القناع عن وجهه، واغتصب معظم أموال إخوته، ولم يبقَ لهم إلا النزر اليسير، وجعلهم يعيشون في فقر مدقع، وفي اضطراب وهلع، والذي أعانه على ذلك أن إخوته مختلفون فيما بينهم، بل إن بعضهم حريص على حسن علاقته معه، لذلك يتفضل عليهم ببعض الفتات الذي هو جزء من مالهم المغتصب، ومع كل الحرص الذي يبدو من بعضهم على حسن العلاقة معه لم يحصِّلوا منه شيئاً، بل فقدوا كل شيء، وهكذا بنى مجده على أنقاضهم، وغناه على فقرهم، وأمنه على تخويفهم، ثم إن هذا الأخ الخبيث اغتصب أرضاً واسعة الأرجاء كثيرة الخيرات، وطرد أهلها وشردهم، واشترى أرضاً أخرى بأبخس الأثمان، وبنى عليها بيتاً عظيم البنيان، واسع الأبهاء، فاخر الأثاث، زوده بكل الوسائل المريحة، والأجهزة العصرية، وألحق به حديقة غناء، فيها من الجمال ما يبهر العيون، وفيها من الثمار ما لذّ وطاب، وجعل لكل ولد من أولاده جناحاً في هذا البيت العظيم، ومنحه مركبة وكل وسائل الحضارة ومنجزات العصر، وكان مولعاً باقتناء الكلاب، وبدافع من إنسانيته، ورحمته بالكلاب، أجرى لأحد كلابه عملية جراحية في قلبه، فكلفته عشرات ألوف الدولارات، وبَدَّلَ لكلب آخر مفصلاً في ركبته، وأصلح لكلب آخر أسنانه- زرع له أسناناً- هذا كله شيء واقع، وبحث عن طبيب نفسي، يعالج كآبة ألمت بأحد كلابه، وكان يطعم كلابه من اللحم في اليوم الواحد ما لا يستطيع أولاد إخوته جميعاً أن يأكلوه في شهر، وقد اشترى أرضاً وجعلها مقبرة لبعض كلابه، الذين ماتوا من فرط العناية بهم، وأولاد إخوته يعانون من فقر في الدم، وهشاشة في العظام، لأن غذاءهم فقير بالمواد المغذية، وكم من ولد من أولاد إخوته قضى نحبه، وهو في أمسِّ الحاجة إلى عمل جراحي، حيث امتنع عن مساعدته، وتفريج كربه، فصار بهذا الغنى ناعمَ الملمس، حسن المظهر، لطيف العبارة، مخملي المعشر، يتأنق في مظهره تأنقاً لا حدود له، ويتقيد في مواعيده ويحرص على صحته وصحة أولاده، هيأ لهم الملاعب، واشترى لهم الأجهزة الرياضية، رفعاً لمعنوياتهم، وتثبيتاً لمكانتهم، وسمح لهم أن ينتقدوه، وكان يستشيرهم في كل صغيرة وكبيرة، وأوهمهم أنهم أفضل الناس قاطبة، بسبب ذكائهم المفرط، وعملهم الدؤوب، ومعيشتهم الناعمة، وأخفى عنهم السبب الحقيقي، في هذا الغنى الذي ينعمون به، وكان إذا التقى بإخوته وجَّه لهم نقداً لاذعاً، لأنهم عنيفون في طباعهم، خشنون في مظهرهم، متخاصمون فيما بينهم، وتجاهل أنه هو الذي أثار بينهم هذه الخصومات، ضماناً لمصالحه، وكان ينتقدهم أيضاً بأنهم لا يعتنون ببيوتهم، ولا يحسنون اختيار ألوان ثيابهم، ولا يتقيدون في مواعيدهم، ولا يتقنون أعمالهم، بل يتمسكون بقيم ومبادئ هي سبب فقرهم وتخلفهم.
 أيها الأخوة: الرجل الذي يتمتع بنظرة ثاقبة وعاطفة عميقة أساسها مبدأ صحيح، وقيم عالية، يقيِّمه تقييماً، والرجل الذي يتصف بنظر قاصر وعاطفة سطحية وتحكمه المصالح، فالقيم يقيِّمه تقييماً آخر، فقل لي أيها الأخ الكريم: بم تقيِّم هذا الإنسان أقل لك من أنت؟ إنك إن عظمته كنت محتقراً عند الله، وإن احتقرته كنت معظماً عند الله، لكن الأب أيها الأخوة يسجل على أبنائه كل حركاتهم وسكناتهم، وفي أية لحظة يراها مناسبة لم تكن في حسبانهم ينزل بالمسيء منهم أشدّ العقاب، يذل كبرياءه، وبعد حين يأخذ من أولاده كل شيء ويحاسبهم على كل شيء، ويجزي كلاً منهم بحسب عمله.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمِنّا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين،، اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أَعْلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور