- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، و نستعين به، و نسترشده، و نعوذ به من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له و من يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له إقراراً بربوبيته، و إرغاماً لمن جحد به و كفر، و أشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه و سلم رسول الله سيد الخلق و البشر، ما اتَّصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلِّم و بارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا، و أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الدينَ كلٌّ لا يتجزَّأ على الإنسان المحافظة عليه من الزيادة و النقصان :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ سؤال كبير يراود معظم المسلمين، لماذا وصل الصحابةُ في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و في عصر التابعين و تابعي التابعين إلى مشارق الأرض و مغاربها و رفرفت راياتُهم فوق الآفاق و لماذا نحن حالُنا كما ترون؟ و الإسلام هو الإسلام، و الدين هو الدين، و القرآن هو القرآن، وإله الصحابة إلهنا و ربُّهم ربُّنا، فما الذي تغيَّر حتى غيِّر اللهُ عز وجل؟ الله عز وجل قال:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾
و الله عز وجل يقول:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾
أين الاستخلاف ؟
﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾
إن ارتضى دينهم، إن كان دينهم كما يرضى اللهُ عز وجل، إن كان دينُهم كما جاء به النبيُّ عليه الصلاة و السلام من دون زيادة أو نقصان، أو انحراف أو تأويل، إن كان دينُهم كما يرضي اللهَ عز وجل يمكنهم في الأرض، فإن لم يمكِّنهم في الأرض هناك استنباطٌ قطعيٌّ، فإن لم يمكنهم في الأرض فمعنى ذلك أن الله عز وجل لم يرتضِ دينهم الذي جعلوه كما يشتهون، و فصَّلوه على وضعهم و ظروفهم كما يرغبون.
يا أيها الأخوة الكرام ؛ لا بدَّ من البحث في الخلل، أين الخلل؟ لعلَّ المسلمين توهَّموا أنهم إذا أدَّوا الصلوات المفروضة، بأيِّ شكل، و أدَّوا بعضَ ما ألِفوه من عادات إسلامية و تقاليد، فقد انتهى كلُّ شيء، و الحقيقة أنه لم ينتهِ شيءٌ، لا بدَّ من تطبيق منهج الله عز وجل بتفاصيله الدقيقة، لأن هذا الدينَ كلٌّ لا يتجزَّأ، ينبغي أن تأخذه كلَّه، و دين الله عز وجل منهجٌ تفصيلي في شتى شؤون الحياة. هذه مقدِّمة أردتُ أن أصل من خلالها إلى أن هناك كبائر كثيرة يرتكبها المسلمون دون أن يعلموا، و إن كانوا قد علموا فالمصيبة أعظم، و سأجعل من بعض الخطبة القادمة موضوعات في الكبائر، الكبائر الباطنة الاعتقادية، و الكبائر الظاهرة، و هذه الكبائر ينبغي أن نعرفها معرفةً دقيقة، وهذه الخطبة مقدِّمة إن شاء الله تعالى لسلسلة خطب عن الكبائر.
تحذير الله عز وجل عباده من معصيته :
أيها الأخوة الكرام ؛ إن الله تعالى حذَّر عبادَه من معصيته، بما أعلمهم به من نواميس ربوبيته، و إقامة هذا المنهج كي يتَّبعوه، لا ليتغنَّوا به دون أن يتَّبعوه، قال تعالى:
﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
أي أغضبونا، هذه الآية الأولى، و قال تعالى:
﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾
و قد يقع هذا في كل زمان، قد يُمسَخ الإنسانُ قرداً بأنانيته، و حيوانيته، و شهوانيته، و قذارته، و انحطاطه، وبهيمته، قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
و قال تعالى:
﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً ﴾
والآيات في ذلك كثيرة جدًّا، هي في كتاب الله، و كتاب الله بين أيديكم، و هذا وعيد من الله عز وجل، فإذا تلبَّس الإنسان بإحدى هذه الكبائر، أو بإحدى تلك المعاصي، يقع عليه وعيدُ الله عز وجل، و في الحديث الصحيح:
((إن الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها))
فرض فرائض فلا تضيِّعوها، بإهمالها، أو التقصير فيها، و حدَّ حدوداً فلا تعتدوها، و حرَّم أشياء فلا تنتهكوها، و سكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها.
غيرة الله عز وجل على عبده المؤمن :
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:
((إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ))
يغار عليه فيعاقبه كي يوقفه عند حدِّه، و في حديث آخر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ))
وفي الحديث الصحيح أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال:
((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ - أي حتى تغشِّيه و تغطيه تلك النكتة السوداء - وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))
فذلك هو الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه، قال تعالى:
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ:
((إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))
و في بعض الروايات ولو كان كافراً، قال تعالى:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
و قال تعالى:
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
وعن أم أنس بن مالك رضي الله عنهما قالت:
((يا رسول الله أوصني؟ قال: اهجُري المعاصي فإنها أفضل الهجرة، و حافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد، و أكثري من ذكر الله فإنه لا يأتي العبدُ بشيء أحبَّ إلى الله تعالى من كثرة ذكره))
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
((قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْهِجْرَة - أيْ أيُّ أصحابها – أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ هِجْرَةُ الْحَاضِرِ وَهِجْرَةُ الْبَادِي، فَأَمَّا الْبَادِي فَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَهُوَ أَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرً))
وهذا ممكن في كل زمان و مكان.
المعاصي حدِّية لا بدَّ من تركها و تركها لا يكلِّف جهداً :
أيها الأخوة الكرام ؛ بنو إسرائيل مُسِخوا قردةً خاسئين، لأنهم إذا أُمروا بشيء تركوه، و إذا نُهوا عن شيء ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم، كما ينسلخ الرجلُ من قميصه، و عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنه قال: " يا صاحب الذنب لِمَ تأمن سوءَ عاقبته؟ فهناك أعظم من الذنب، قلَّة حيائك من ملَك اليمين، و ملَك الشمال، و أنت على الذنب أعظم من الذنب الذي عملتَه، و فرحك بالذنب إذا ظفرتَ به أعظم من الذنب، و ضحكك و أنت لا تدري ما اللهُ صانعٌ بك أعظم من الذنب، و حزنُك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب، و خوفك من الريح إذا حرَّكت سترَ بابك و أنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادُك من نظر الله إليك أعظم من الذنب"، و سيدنا بلال قال: "لا تنظر إلى صِغر الخطيئة لكن انظر إلى من عصيتَ " و قال الإمام الحسنُ: " يا بن آدم تركُ الخطيئة أيسرُ من طلب التوبة "
و قال بعض العلماء: " ما عُبِد اللهُ بشيء أحبَّ إليه من ترك المعاصي"، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))
أيها الأخوة الكرام ؛ المعاصي حدِّية لا بدَّ من تركها، و تركها لا يكلِّف جهداً، و لكنَّ الذي أُمرنا به من فعل الخيرات هذا بقدر طاقتنا و جهدنا و إمكاناتنا.
الإنسانُ حيٌّ إذا أطاع الله و ميت إذا عصاه :
أيها الأخوة الكرام ؛ لعلَّ كما قال الفضيلُ بن عياض: " بقدر ما يصغر الذنبُ عندك يعظم عند الله، و بقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله "، و قيل: " أوحى الله تعالى إلى موسى أن يا موسى أوَّل من مات - أي هلك و خسر - من خلقي إبليس، و ذلك أوَّل من عصاني، و إنما أعدُّ من عصاني من الأموات"، الإنسانُ حيٌّ إذا أطاع الله عز وجل، فإذا عصاه فهو من الأموات، و قال تعالى:
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾
وقال تعالى:
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميتُ ميتُ الأحياء و قال تعالى:
﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ﴾
و قال تعالى:
﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
ورد في بعض الآثار القدسية:
((إني إذا أطاعني العبدُ رضيتُ عنه، و إذا رضيت عنه باركت فيه، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصاني العبدُ غضبتُ عليه، وإذا غضبت عليه لعنتُه، ولعنتي ليست لها نهاية ))
وفي الحديث:
((وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَالدِّينُ الْجَزَاءُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِالدِّينِ بِالْحِسَابِ، مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ ))
أي كما تفعل يُفعل بك.
أيها الأخوة الكرام ؛ العبدُ إذا عمل بمعصية الله عاد حامدُه من الناس ذامًّا، قال أبو الدرداء - دقِّقوا في هذا المعنى -: " اِحذرْ أن تبغضك قلوبُ المؤمنين و أنت لا تشعر " قال الفضيلُ: "هو العبد يخلو بمعاصي الله فيلقي اللهُ بغضَه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر"، ولو كان ذكياً، و ظهر أمامهم بمظهر طيِّب، مادام يعصي اللهَ في خلوته يتولَّى اللهُ في عليائه أن يلقيَ بغضَه في قلوب المؤمنين، و بالمقابل ما أخلص عبدٌ لله إلا جعل قلوبَ المؤمنين تهفو إليه بالمودَّة و الرحمة.
و قال بعضُ العلماء: "عجبتُ من ذي عقلٍ يقول في دعائه: " اللهم لا تشمت بيَ الأعداء، ثم هو يشمت بنفسه كلَّ عدوٍّ "، حينما يعصي الإنسانُ ربَّه يستحقُّ العقوبةَ فيشمت به أعداؤه.
من صَغُر الذنب عنده عَظُم عند الله :
أيها الأخوة الكرام ؛ لا زلنا في موضوع الذنوب، أوحى الله إلى نبيٍّ من الأنبياء:
((أن قل لقومك: لا يدخلوا مداخل أعدائي، ولا يلبسوا ملابس أعدائي، ولا يركبوا مراكب أعدائي، و لا يطعموا مطاعم أعدائي، فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي ))
لا تقلِّد الكفارَ، ولا تكن مستهوياً لهم و لعاداتهم ولتقاليدهم ولأنماطهم في الحياة، كن مسلماً قلباً و قالباً، قال بعض العلماء: هانوا على الله فعصوه و لو عزُّوا منه لعصمهم.
أيها الأخوة الكرام ؛ في صحيح البخاري عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ:
((إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ قَالَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ ))
كلما صغر الذنبُ عندك عظم عند الله، و كلما عظم الذنبُ عندك صغر عند الله، وقال عمَّار:
(( يا أبا سلمة أذنبتُ ذنباً فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة ))
أيها الأخوة الكرام ؛ ورد أنه :
(( لما خلق اللهُ الملائكةَ رفعت رؤوسَها إلى السماء فقالت: يا ربَّنا أنت مع من؟ فقال : مع المظلوم حتى يُؤدَّى إليه حقُّه ))
وقال بعضُ السلف: " يا أهل المعاصي لا تغترُّوا بطول حلم الله عليكم، واحذروا أسفَه - أي غضبه - بسبب المعاصي، فإن الله قال:
﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾
وقال يعقوب القاري: " رأيتُ رجلاً آدمَ و الناسُ يتبعونه، فقلتُ: من هذا ؟ قالوا: أُويسُ القرني، فاتَّبعتُه فقلت لك: أوصني - رحمك الله تعالى - فقال: ابتغِ رحمةَ الله عند طاعته، و احذر نقمته عند معصيته، و لا تقطع رجاءك منه في خلال ذلك، ثم ولَّى و تركني.
و قد ورد في بعض الكتب القديمة أن يا بني إسرائيل إني كنتُ أحبُّكم، فلما عصيتموني أبغضتكم .
المسلمُ إذا عصى اللهَ عز وجل يبغضه اللهُ و لو كان من أمة سيدنا محمد.
الحكم الشرعي لكلّ جزئيات حياتنا :
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا بعض ما جاء في الكتاب و السنة و الآثار الطيَّبة و أقوال بعض العلماء في موضوع الذنوب، و الذنوبُ هي القواطع، و لا يخافنَّ العبدُ إلا ذنبَه و لا يرجونَّ إلا ربَّه، و بالذنوب الصغيرة و الكبيرة يُفسَّر ما هم به المسلمون اليوم، في تفكُّك و ضعف، و من أنَّ كلمتهم ليست هي العليا، و أن أمرهم ليس بيدهم، و أن للكفار عليه ألفُ سبيل و سبيل.
أيها الأخوة الكرام ؛ قد يقول قائل: هل هناك حكمٌ شرعي لكلَّ جزئيات حياتنا ؟
يا أيها الأخوة الكرام ؛ قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾
قال الإمام الشافعي: " أولو الأمر هم العلماء الذين يعلمون الأمرَ، والأمراء المكلَّفون بتنفيذ الأمر "، قال تعالى:
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾
بينكم وبين علمائكم أو بينكم و بين أمرائكم :
﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
إن تنازعتم في شيء، قال علماء الأصول: شيء، نكرة جاءت في سياق الشرط إذًا هي تعمُّ كلَّ شيء، أي في أيِّ موضوع من موضوعات الحياة الدنيا و موضوعات الدين، إن تنازعتم فيه، ردُّوه إلى الله و الرسول.
الردُّ إلى الله و إلى النبي من موجبات الإيمان :
هناك استنباط دقيق و خطير؛ ما هذا الاستنباط؟ أيُّ موضوع من موضوعات الدين، دقيقه و جليله، جليِّه و خفيِّه، لو لم يكن في كتاب الله و سنة رسوله بيانُ حكم ما تنازعوا فيه، لما أمر الله بالردِّ إليه، و إلا كلامه لا معنى له، و اللهُ جلَّ جلاله منزَّه عن أن يقول كلاماً لا معنى له، أو أن يقول كلاماً غير واقعي:
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾
وشيء نكرة جاءت في سياق الشرط:
﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
معنى ذلك أيُّ شيء بحثنا فيه، و اختلفنا فيه، و تنازعنا عليه، في حكمه الشرعي هو موجود في كتاب الله و سنة رسوله، إذ من الممتنع أن يأمر الله تعالى بالرد عند النزاع إلى من يوجد عنده فصلُ النزاع، هذا مستحيل، و أن الناسَ أجمعوا أن الردَّ إلى الله سبحانه و تعالى هو الردُّ إلى كتابه، و أن الردَّ إلى النبيِّ عليه الصلاة و السلام هو الردُّ إليه نفسه في حياته، و إلى سنته بعد وفاته، و الردُّ إلى الله و إلى النبي من موجبات الإيمان، إنه جُعل هذا الردُّ من لوازم الإيمان، فإذا انتفى هذا الردُّ انتفى الإيمان.
أيها الأخوة الكرام ؛ ثم إن الله جل جلاله أخبرهم أن هذا الردَّ خيرٌ لهم و أن عاقبته أحسن عاقبة، ثم أخبر سبحانه و تعالى أنه من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبيُّ عليه الصلاة و السلام فقد حكَّم الطاغوت، و تحاكم إليه، و الطاغوت من الطغيان، فكلُّما تجاوز به العبدُ حدَّه فهو طاغوت، و كلُّ من أمر بتجاوز الحدود فهو طاغوت.
من أطاع غير الله عدل عن عبادة الله إلى عبادة من سواه :
أيها الأخوة الكرام، هؤلاء الذين يتَّبعون بعضهم بعضاً على غير بصيرة، و على غير هدى من كتاب الله، و على غير هدى من سنة رسول الله، يتَّبعون كبراء الناس و أقوياءهم و أغنياءهم، لا يفكِّرون في مطابقة كلامهم لكتاب الله و سنة رسوله، هذا الإنسان قد ضلّ ضلالاً بعيداً.
أيها الأخوة الكرام؛ هذا الذي يطيع غير الله عدل عن عبادة الله إلى عبادة من سواه.
يا أيها الأخوة الكرام، من عدل عن عبادة الله، وعن التحاكم إلى الله ورسوله إلى التحاكم إلى الطاغوت، و عن طاعته و متابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت، أيُّ إنسان طغى، وأمرك أن تتبعه، فهو طاغوت، و من تبعه طاغوت، و الطاغوت صيغة مبالغة من طغى، هؤلاء الذين يتَّبعون غير سبيل المؤمنين لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة، و هم الصحابة و من تبعهم، و لا قصدوا قصدهم، بل خالفوهم في الطريق و القصد معاً، قال تعالى:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾
أيها الأخوة الكرام، دقِّقوا في هذه الآية، إن الله توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم، أو أديانهم، أو بصائرهم، أو أبدانهم، أو أموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به النبيُّ عليه الصلاة و السلام و تحكيم غيره كما قال تعالى:
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾
اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان و التوفيق.
نفيِ الإيمان عن العباد حتى يحكِّموا الرسول و ينقادوا له :
يا أيها الأخوة الكرام، موضوع دقيق جداً في هذا الموضوع الكبير قال تعالى:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾
أقسم اللهُ سبحانه بنفسه على نفيِ الإيمان عن العباد حتى يحكِّموا رسوله فيما شجر بينهم، من الدقيق و الجليل، و لم يكتف بإيمانهم في هذا التحكيم بمجرَّده حتى ينتفيَ عن صدورهم الحرجُ و الضيق عن قضائه و حكمه، و لم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلِّموا تسليماً، و ينقادوا انقياداً. موضوع دقيق ثالث في هذا الموضوع الخطير، قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
فأخبر سبحانه أن ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه و قضاء رسوله، و من تخيَّر بعد ذلك، فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً. و موضوع رابع، هو التقدُّم بين يدي الله و رسوله، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
أي لا تقولوا حتى يقول، و لا تأمروا حتى يأمر، و لا تفتوا حتى يفتي، و لا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه و يمضيه، روى عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: " لا تقولوا خلاف الكتاب و السنة "و روى العوفي أنه قال:" نُهوا عن أن يتكلموا بين يدي كلامه" . و القول الجامع في معنى هذه الآية: لا تعجلوا بقول و لا بفعل قبل أن يقول الرسولُ عليه الصلاة والسلام أو يفعل، و قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾
استئذان النبي الكريم في الأقوال و الأفعال :
يا أيها الأخوة الكرام ؛ إذا كان رفعُ أصوات فوق صوت النبيِّ سبباً لحبوط أعمالهم، فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم و معارفهم على ما جاء به النبيُّ عليه الصلاة و السلام؟ أليس أن يكون هذا أولى محبِطاً لأعمالهم ؟! قال تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾
فإذا جُعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألاّ يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، و إذنه يُعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذِن فيه، وفي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))
وفي رواية أخرى: " لا ينزع الله العلم من صدور الرجال و لكن ينزع العلم بموت العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فقالوا بالرأي، يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحلّ الله و يحلون ما حرم الله"، هذا هو القياس المرفوض الذي هو على غير أصل، و الكلام في الدين بالظن كبيرة، و أيَّةُ كبيرة، بل إن الله عز وجل رتَّب المعاصي ترتيباً تصاعدياً و جعل في أعلاها :
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، و سيتخطى غيرنا إلينا، فلنتَّخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، و العاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.