وضع داكن
29-03-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الأول - الفقرة : 05 - بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

بين العالمية الإسلامية والعولمة الغريبة :

 مما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام ضرورة الفصل بين العالمية التي جاءت بها شريعة الإسلام، والتي تبنى على الوازع الديني، حيث الإسلام دين سماوي، وليس موضوعاً من الموضوعات البشرية، وما تحمله من رسالة حب ورحمة إلى العالم أجمع، وبين العولمة وما تعنيه من الهيمنة واستلاب الآخرين لحساب قوى الاحتكار العاتية، بل لحساب حفنة من المتضلعين في دماء الآخرين وأموالهم.
 إن العالمية الإسلامية التي تحيل العالم إلى قرية كونية واحدة، يتمتع الإنسان فيها بحق الاختيار، ويسود فيها البر والقسط، ويتفيأ الإنسان فيها ظلال العدل والرحمة، وتصان فيها حرمات المخالفين وحقوقهم، هذه العالمية يجب ألا تلتبس في ذهننا بالعولمة التي يدعو لها حملة المشروع الغربي، والتي تحيل العالم إلى غابة عالمية واحدة، يأكل القوي فيها الضعيف، ويزداد فيه الأغنياء غنى، والفقراء فقراً.
 إن الاتجاه إلى العالمية برسالة حضارية عادلة لا حرج فيه، ولا تثريب على دعاته، ولكن الحرج كل الحرج إنما يكمن في روح الهيمنة، والجشع، والأنانية، والابتزاز الذي تحمله هذه العولمة الجامحة، كما يدعو إليها أباطرة العولمة وقراصنتها من غير ضابط من دين أو خلق، فليس الحرج في التوجه إلى العالمية في ذاته، والتعامل مع الكيان البشري كأمة واحدة، وإنما يكمن الحرج في المشروع الذي يحمله القائمون على هذا التوجه، عندما لا يرون في الآخرين إلا أحجاراً على رقعة الشطرنج، يعبثون بمقدراتهم ومصائرهم كما يشاؤون، الأمر الذي لا تقام به دنيا، ولا يصلح به دين، ولا يزداد به العالم إلا شقاءً فوق شقاء !
 إننا ـ نحن المسلمين ـ نحمل مشروعاً حضارياً رائداً، لُحمته الربانية، وسُداه البر والقسط، نبذله إلى العالمين ما داموا لا يقاتلوننا في الدين، ولا يصادرون علينا حقنا في أن نبسط دعوتنا إلى الآخرين. فليس على دعاة الدين الحق والرسالة الخاتمة من حرج أن يطوفوا بدعوتهم في المشارق والمغارب، يوطِّئون للحق مهاداً، وينشرون له أعلاماً في إطار قاعدة :

 

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾

 

( سورة البقرة الآية : 256 )

 وتحت خيمة الربانية التي ترعى حقوق الموافقين والمخالفين، حتى يتفيأ العالم ظلال هذه الرحمة العامة، يفيء إليها من هجير الظلم، ورمضاء الأثرة والجشع والأنانية، ويجد له موقعاً في سفينة الإسلام، التي تمخر به عباب هذه الفتن المتلاطمة حتى ترسو على شاطئ النجاة في الآخرة.

 

إن مصير العولمة سيكون كمصير غيرها من الحضارات التي صالت ثم انهارت :

 إن هذه العولمة في إطارها اللا ديني الجامح لَتحمل في طياتها بذور إخفاقها، وعوامل انهيارها ؛ فإنه لا دوام لظلم، ولا بقاء لتعسف ولا جور، لقد حدثنا القرآن الكريم عن دول قامت ثم زالت، وعن حضارات صالت ثم انهارت، قال تعالى :

 

 

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾

 

( سورة الفجر )

 

 وقال تعالى :

﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (39)﴾

( سورة الفرقان)

 وقال تعالى :

 

﴿ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾

 

( سورة العنكبوت)

نص مقتبس من خطاب السيد الرئيس عن العولمة والنظام العالمي الجديد :

 قال أحد حكماء الرومان حين وقف على أطلال روما : "إن أول رجل تسبَّب في خراب الإمبراطورية هو الذي بدأ يقدم لها الأسلاب والغنائم " ؛ لأنه هو الذي أثار لدى أهلها شهوة النهب والسيطرة، وحرك شياطين الأثرة والأنانية الكامنة وراء جلودهم، وقديماً قال نابليون : "إن الإمبراطوريات تموت دائماً بمرض التخمة"، أي أن جوفها يعجز عن هضم ما تلتهمه من الأقاليم والشعوب.
 وقد أشار السيد الرئيس إلى العولمة والنظام العالمي الجديد في كلمته التي ألقاها في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في الدوحة : "هو نظام دولة أو بضع دول على هذه الكرة الأرضية، أما ما تبقى منها فهو دول سابحة في هذا النظام الغريب، بعضها يعوم على السطح بصعوبة، وعليه أن يثبت وباستمرار حسن النية والطاعة والالتزام، ومع ذلك فهو دائما مخطئ، ومطلوب منه أن يكفر عن ذنوبه، وبعضها الآخر غارق في القاع إلى أجل غير مسمى، وأصبح كل ما يتماشى مع رغبات تلك الدول الكبرى ديمقراطية وعدلاً، وكل ما يحقق مصالحها هو حقوق إنسان، وحضارة بشرية، ولم يعد مستغرباً أن تصدر لوائح تحدد فيها قيمة الإنسان لدى شعب، وما يقابلها لدى الشعوب الأخرى كأسعار العملات ".
 ثم أشار إلى تلك الهجمة الشرسة التي تشنها قوى البغي والظلم على الإسلام، فقال : " هذا العدو الجديد الذي ظهر في التسعينات هو ديننا الإسلامي الحنيف، دين الأخلاق والعدل والمحبة الذي تم تشويهه إعلامياً وتثقيفياً وتربوياً ليغدو دين القتل والتطرف والإرهاب، فكلما حدث اضطراب في منطقة ما من العالم وجهت أصابع الاتهام للإسلام، ولو لم يكن للمسلمين وجود في تلك المنطقة، وكل عملية تخريب أو عمل إرهابي منفذه هو مسلم، حتى يثبت العكس، وغالباً ما يثبت العكس، أما الاتهام فيبقى كما هو، وبالتوازي حورب الإسلام الصحيح من خلال تغذية التطرف واستخدامه في ضرب الإسلام والمسلمين، والآن يصور هذا التطرف الذي جرت تنميته من خارج الأمة الإسلامية على أنه الإسلام الحقيقي، وذلك إمعاناً في تشويه صورته الناصعة، وإسرائيل أبرع من شوه هذه الصورة، وأية صورة حقيقية أخرى ". انتهى النص المقتبس من خطاب السيد الرئيس.
 هذا وإن الأهم من هذا كله أن نبعث في هذه الأمة روح المواجهة لهذه الأعاصير، وأن نستثير مذخور طاقاتها الإيمانية والجهادية , وأن نرشد توجيه هذه الطاقات على طريق المحافظة على الهوية، واستئناف ما توقف من مسيرتها الحضارية.

 

إخفاء الصور