وضع داكن
19-04-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الثالث - الفقرة : 26 - أثر الإيمان في نزول الرحمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 

إنَّ المتفكِّرَ في خلق السماوات والأرض يتبدى له من خلال جولته التأمُّلية أنّ الله ثبَّت أشياء كثيرة، منها النواميس والقوانين التي تحكم حركة الحياة، وثبَّت خصائص الأشياء التي نتعامل معها، وثبَّت دورة الأفلاك المحيطة بنا، وكل ذلك ترسيخا للنظام الكوني، وتحقيقاً لتسخير الأشياء لنا، كي ننتفع بها في حياتنا الدنيا، ولكي ترشدنا إلى ربنا، فنعرفه، ونطيعه، ونسعد بقربه في الدنيا والآخرة
 وحَرَّك أشياء قليلة، منها الصحة والرزق، لتكون وسائل لتربيتنا والأخذ بيدنا إلى الله وإلى جنته، فالإنسان حريص على سلامته وعلى رزقه.
ومن الثابت أن التقنين الإلهي هو تقنينُ تأديبٍ وتربية لا تقنين عجز وبخل، قال تعالى:

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾

[ سورة الشورى: الآية 27]

 وقال سبحانه:

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

[ سورة الحِجْر: الآية 21 ]

 ثم إن الله جل وعلا لا يسوق لعباده شِدَّة إلا بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير، قال عز وجل:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ﴾

[ سورة النساء: الآية 147 ]

 وقال عزَّ مِن قائلٍ:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾

[ سورة الشورى: الآية 30 ]

 إخوة الإيمان في كل مكان، روى ابن ماجة والبزار والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ))

[ ابن ماجه ، والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما]

 ولكنْ ما العمل بعد نزول المصائب ؟ … !!! القرآن الكريم أجاب عن هذا السؤال، قال سبحانه وتعالى:

﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾

[سورة السجدة: الآية 21 ]

 إنّ الهدفُ الأولُ والأوحدُ من سوق العذاب في الدنيا هو رجوعُ العباد إلى الله، والشيء الأول والأوحد الذي يصرف البلاء عن الإنسان في الحياة الدنيا هو طاعةُ الله، وطاعةُ رسوله مخلصاً فيها.
يا أيها الإخوة الكرام، قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾

[ سورة الأنفال: الآية 33 ]

 قال علماء التفسير: ما دامت سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية مطبَّقةً في حياتهم، وفي بيوتهم، وفي علاقاتهم الأسرية، ومطبَّقةً في أعمالهم، وفي كسب أرزاقهم، مطبَّقةً في حلهم وترحالهم، وفي أفراحهم وأحزانهم، مطبقة في مَنشَطِهم ومَكرَههم، في يسرهم وعسرهم ؛ فهُمْ في مأمن من عذاب الله ؛ أما لو حيَّرتْهُم الشبهاتُ، وغلبتْهم الشهواتُ
  فزلت أقدامهم، وانحرفت مسيرتهم، فأمامهم فرصةٌ ثمينة منحَها الله لهم، وبها يأمنون عذاب الله مرة أخرى، إنها الاستغفار، قال الغفور الرحيم:

﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾

[ سورة نوح: الآية 10-12 ]

 لقد أطمعهُم ربُّهم إنْ هم استغفروه في الرزق الوفير الميسور، من أول أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير، الذي تنبت به الزروع، وتتفجر به الينابيع، وتسيل به الأنهار، كما وعدهم برزق آخر من الذرية التي يحبونها ـ وهي البنون ـ والأموال التي يطلبونها ويحرصون عليها:

﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾

[ سورة نوح: الآية 11-12 ]

 وقد ربط اللهُ جل جلالُه بين الاستغفار وهذه الأرزاق الوفيرة، وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق، وعموم الرخاء.
وجاء في موضع ثانٍ:

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا *لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

[ سورة الجن: الآية 16-17 ]

 .. وجاء في موضع ثالث:

﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾

[ سورة هود: الآية 3 ]

 ... وجاء في موضع رابع:

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾

[ سورة المائدة: الآية 66 ]

 إخوتي المؤمنين أعزائي المستمعين، وهذه القاعدة التي يؤكدها القرآن في مواضع متفرقة، قاعدة تقوم أسبابها على وعد من الله، ومن سنن الحياة ؛ كما أن الواقع العملي يشهد بتحقيقها على مدار القرون، والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد. وما من أمة قام فيها شرع الله، واتجهت اتجاها حقيقيا إليه الله عبادة واستقامة وعملاً صالحاً واستغفاراً يشعر بخشية الله.. وما من أمة اتقت الله وعبدته وأقامت شريعته، فحققت العدل والأمن للناس جميعا، إلا فاضت فيها الخيرات، ومكن الله لها في الأرض، واستخلفها على خلقه قيادة وهداية، وبدَّل خوفَها أمنًا، قال تعالى:

﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾

[ سورة الأنبياء: الآية 35 ]

 ولقد نشهد في بعض الفترات أمما لا تتقي الله ولا تقيم شريعته ؛ وهي ـ مع هذا ـ موسع عليها في الرزق، ممكن لها في الأرض.. ولكن هذا إنما هو الابتلاء ثم هو بعد ذلك رخاء ظاهري، تأكله آفات الاختلال الاجتماعي والانحدار الأخلاقي، فقد صرح مسؤول كبير في العالم الغربي إن هناك أخطارا كبيرة تهدد المجتمع الغربي منها تفكك الأسرة، وشيوع الجريمة، وانتشار المخدرات، وسقوط القيم ثم انتشار مرض الإيدز..
أيها الإخوة... حضوراً ومستمعين، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ *ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾

[ سورة الأعراف: الآية 94-95 ]

 إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم، إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثم يتكشف أن هناك سنة تكوينية تجري عليها الأمور ؛ وتتم وفقها الأحداث ؛ ويتحرك بها تاريخ الإنسان في هذه الأرض. وأن الرسالة ذاتها ـ على عظم قدرها ـ هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس الأكبر وأن الأمور لا تمضي جزافا ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض ـ كما يزعم الجاهلون الشاردون ! ـ وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية. وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق إرادة الله الطليقة ؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس.
 ومن ملامح هذه السنة الكونية أنَّ هداية الله تسير مع هذا الإنسان الذي خلق لجنة عرضها السماوات والأرض في أربع مراحل:

إخفاء الصور