وضع داكن
27-04-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الثالث - الفقرة : 35 - قصة وفد اليمن
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

قصة عن القناعة عند المؤمن:

 أيها الأخوة الكرام، إليكم هذه القصّة، قدمَ على النبي صلى الله عليه وسلّم وفد من اليمن وهم ثلاثة عشر رجلاً، ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ النبي عليه الصلاة والسلام بهم، وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله سُقنا إليك حقّ الله في أموالنا، فقال عليه الصلاة والسلام: رُدّوها على فقرائكم، فقالوا: يا رسول الله، ما قدمنا عليك إلا بما فضَل عن فقرائنا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما وفدَ من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من اليمن، فقال عليه الصلاة والسلام: إنّ الهدى بيد الله عز وجل فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان، وسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أشياء فكتبَ لهم بها، فجعلوا يسألونه عن القرآن والسّنن، فازداد النبي عليه الصلاة والسلام بهم رغبةً، وأمر بلالاً أن يُحسن ضيافتهم، فأقاموا أيّاماً ولم يُطيلوا المكث، فقيل لهم: ما يُعجّلكم ؟ فقالوا: نرجع إلى من وراءنا فنُخبرهم برُؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكلامنا إيّاه، وما ردّ علينا، ثمّ جاؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يودِّعونه، فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يُجيز به الوُفود، قال: هل بقي منكم أحد ؟ فقالوا: نعم، غلامٌ خلَّفْناه على رِحالنا، هو أحدثُنا سِنّاً، فقال عليه الصلاة والسلام: أرسلوه إليّ، فلمّا رجعوا إلى رحالهم، قالوا إلى الغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاقْضِ حاجتك منه، فإنّا قد قضيْنا حوائجنا منه وودَّعْناه، فأقبلَ الغلام حتى أتى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، إنِّي امرؤٌ من بني أبذى، يقول: من الرّهط الذين أتَوْك آنفاً، فقد قضَيْتَ حوائجهم، فاقْض حاجتي يا رسول الله ؟ فقال: وما حاجتك ؟ قال: إنّ حاجتي ليْسَت كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنّي والله يا رسول الله ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غِنَايَ في قلبي، فقال عليه الصلاة والسلام وقد أقبل على الغلام: اللهمّ اغفر له وارحمهُ، واجعل غِناه في قلبه، ثمّ أمرَ له بمثل ما أمر لرجلٍ من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهلهم، ثمّ وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الموسم بمِنى سنة عشرٍ، فقالوا: نحن بنو أبذى يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم ؟ قالوا: ما رأينا مثلهُ قطّ، ولا سمعنا بأقْنَعَ منه بما رزقه الله تعالى، لو أنّ الناس اقْتسَموا الدنيا ما نظر نحوها، وما التفت إليها، فقال عليه الصلاة والسلام: إنِّي لأرجو أن يموت جميعاً، فقال أحدهم: يا رسول الله، أوَ لَيس يموت الرجل جميعاً ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تتشعّب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعلّ أجلهُ يدركه في بعض تلك الأودية فلا يُبالي الله عز وجل في أيّ أوديتها هلكَ، قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رُزق، فلمّا توفّي النبي عليه الصلاة والسلام ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه فذكّرهم بالله وبالإسلام فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر رضي الله عنه يذكرهُ ويسأل عنه حتى بلغهُ حاله، وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيب يوصيه به خيراً.

 

المؤمن سد أبواب الخوف كلها فلا يخاف إلا من الله وحده:

 هذه هي القناعة عند المؤمن، فالناس أيّها يموتون على ما عاشوا عليه، فمن عاش جميعاً مات جميعاً، ومن عاش أوزاعاً شتّى وأجزاءً متنافرة مات كما عاش، وقليلٌ من الناس، بل أقلّ من القليل، ذلك الذي يعيشُ لغايةٍ واحدة، ويجمع همومه في همّ واحد، يحيى له، ويموت له، ذلك المؤمن البصير الذي غايته الفرار إلى الله، وسبيله اتّباع ما شرع الله تعالى، كلّ شيءٍ في حياته لله وبالله، وحالهُ تنطق به هذه الآية:

 

 

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾

 

 

( سورة الأنعام )

 أيها الأخوة الأحباب حُضوراً ومستمعين، قال تعالى:

 

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

 

 

( سورة الأنعام )

 إن الناس يخافون من أشياء كثيرة، وأمورٍ شتّى، ولكنّ المؤمن سدّ أبواب الخوف كلّها، فلا يخاف إلا من الله وحده، يخاف أن يكون فرَّط في حقّه أو اعتدى على خلقه، أما الناس فلا يخافهم لأنّهم لا يملكون له ضرّاً، ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياةً، ولا نشوراً، والمؤمن آمنٌ على رزقه أن يفوته، لأنّ الأرزاق في ضمان الله تعالى، الذي لا يخلف وعده، ولا يضيّع عبده، وهو الذي يُطعم الطّير في وكناتها، والسّباع في الفلوات، والأسماك في البحار، والدّيدان في الصّخور، وهو الذي يسمع دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، لقد كان المؤمن يذهب إلى ميدان الجهاد حاملاً رأسه على كفّه، متَمَنِّياً الموت في سبيل عقيدته، ومن خلفه ذريّة ضعاف، وأفراخٌ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، ولكنّه يوقن أنّه يتْركهم في رعاية ربٍّ كريم هو أبرّ بهم، وأحمى عليهم، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهبٌ في سبيل الله تعالى: إنِّي عرفتهُ أكالاً وما عرفته رزّاقاً، ولئن ذهب الأكّال لقد بقي الرزاق، هو آمنٌ على أجله، فإنّ الله قدّر له ميقاتاً مسمّى، أيّاماً معدودة، وأنفاساً محدودة، ولا تملكُ قوّة في الأرض أنْ تنقص من هذا المقدار أو تزيد فيه، هدَّد الحجاج سعيدَ بنَ جبير التابعيَّ الجليلَ بالقتل، فقال له سعيد بن جبير: لو علمْتُ أنّ الموتَ والحياة في يدك ما عبدتُ غيرك.

 

الإيمان والأمل متلازمان:

 أيها الأخوة الكرام حضوراً ومستمعين، إنّ الإيمان والأمَل متلازمان، فالمؤمن أوْسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤُلاً واستفساراً، وأبعدهم عن التشاؤم والتبرّم والضّجر، الإيمان معناه الاعتقاد بقُوّة عليا تدبّر هذا الكون لا يخفى عليها شيءٌ، ولا تعجزُ عن شيءٍ، وبيدها كلّ شيء، المؤمن يعتصم بهذا الإله العظيم، البرّ الرحيم، العزيز الكريم، الغفور الودود، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، يُجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السوء، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيّئات، أرحم بعباده من الأم بولدها، وأبرّ بالخلق من أنفسهم، المؤمن إذا حاربَ كان واثقاً بالنّصر لأنّه مع الله تعالى فالله معه، ولأنّه لله فالله له، قال تعالى:

 

 

﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾

 

 

( سورة الصافات)

 هذا درسٌ بليغ لنا في معركتنا مع أعدائنا، والمؤمن إذا مرض لم ينقطع أمله من العافية، وإذا مرضتُ فهو يشفين، والمؤمن إذا اقترف ذنباً لم ييْأس من المغفرة قال تعالى:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾

( سورة الزمر الآية: 53 )

المؤمنون هم أصبر الناس على البلاء وأثبتهم في الشدائد وأرضاهم نفسا في الملمات:

 المؤمن إذا أعسر لم يزل يؤمّل اليُسْر، قال تعالى:

 

﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)﴾

 

 

( سورة الشرح )

 إذا انتابتهُ كارثةٌ من الكوارث كان على رجاءٍ من الله أن يأجرهُ في مصيبته، وأن يخلفه خيراً منها، وإذا رأى الباطل يقوم في غفلة الحق يصول ويجول، أيقن أنّ الباطل إلى زوال، وأنّ الحق إلى ظهور وانتصار، وإذا أدركتهُ الشيخوخة واشتعل رأسهُ شيباً لا ينفكّ يرجو حياةً أخرى، شبابٌ بلا هرم، وحياة بلا موت، وسعادةٌ بلا شقاء.
 أيها الأخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام، المؤمنون هم أصبر الناس على البلاء، وأثبتهم في الشدائد، وأرضاهم نفساً في المُلِمّات، عرفوا أنّ هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، وأنّ من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وعطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليُعطي، ويبتلي ليجزي، وعرفوا أنّ ما ينزل من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنّه وفْق قدرٍ معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة إلهيّة، فآمنوا بأنّ ما أصابهم لمْ يكن ليُخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليُصيبهم، وعرفوا أنّ الله يقدّر ويلْطف، ويبتلي ويخفّف، ومن ظنّ انفكاك نفسه عن قدره فذلك لقُصور نظره، وعرفوا أنّ لكلّ شِدّة شَدَّة، وأنّ وراء كلّ محْنةٍ مِنْحةً منه سبحانه.

 

إخفاء الصور