وضع داكن
24-04-2024
Logo
المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الرابع - الفقرة : 1 - إنسانية الإسلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 

قال بعض العلماء: مِن أعجب الأشياء أنْ تعرفه ثم لا تحبَّه، وأنْ تسمعَ داعيه ثم تتأخّر عن الإجابة، وأنْ تعرف قدْرَ الربح في معاملته ثم تعامل غيرَه، وأنْ تعرف قدرَ غضبه ثم تتعرض له، وأنْ تذوق ألمَ الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأنْ تذوق العذابَ عند تعلق القلب بغيره، ولا تهرب منه بنعيم الإقبال عليه، والإنابة إليه.
وأعجبُ مِن هذا علمُك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوجُ شيء إليه، وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغبٌ.
 وأشهد أنّ سيدنا محمد عبده ورسوله أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، أرسلته ليخرجنا من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومِن ذل الشرك إلى عز التوحيد، ومِن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعلى أصحاب محمد وعلى ذرية محمد وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله ؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير.
 إنّ الإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، إنها تشغل حيزاً كبيراً في منطلقاته النظرية، وفي تطبيقاته العملية، وقد ربطت بعقائده وشعائره ومنهجه وآدابه ربطاً محكماً ؛ فالإنسانية في الإسلام ليست مجرد أُمْنية شاعرية تهفو إليها بعضُ النفوس، وليست فكرة مثاليةً تتخيَّلها بعضُ الرؤوس، وليست حِبراً على ورق سطّرته بعضُ الأقلام، إنها ركنٌ عقدي، وواقع تطبيقي، وثمار يانعة.
فمِن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة مبدأُ الإخاء الإنساني، إنه مبدأ قرَّره الإسلامُ بناءً على أنّ البشرَ جميعاً أبناءُ رجُلٍ واحد، وامرأة واحدة، ضمَّتهم هذه البنوّةُ الواحدةُ المشتركة، والرحمُ الواصلة، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾

[ سورة النساء: الآية 1 ]

 ولعل كلمة:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾

  وكلمة

﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾

 تلزمنا أن نفهم كلمة ]الْأَرْحَامَ[ في هذه الآية على أنها الرحم الإنسانية العامة التي تسع البشر جميعاً
 والنبي صلى الله عليه وسلم يقرِّر هذا الإخاء ويؤكِّده كل يوم أبلغ تأكيد ؛ فقد روى الإمام أبو داود وأحمد في مسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ:

((اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ،أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ،اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ،اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْنِي مُخْلِصًا لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ،اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُمَّ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ))

[ أبو داود، وأحمد]

 فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلن من خلال هذا الدعاء المتكرر الأخوة بين عباد الله جميعاً، لا بين العرب وحدهم، ولا بين المسلمين وحدهم، بل هي أخوة بين بني البشر جميعاً، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وطبقاتهم ومللهم ونحلهم، والبشر جميعاً عند الله جل جلاله نموذجان ؛ رجل عرف الله، وانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فَسَلِمَ وسعِد في الدنيا والآخرة، ورجل غفَل عن الله، وتفلَّت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقيَ في الدنيا والآخرة .
 وهذا الإخاء الإنساني في الإسلام ليس للاستهلاك المحلي، ولا للتضليل العالمي، إنما هي حقيقة دينية لا ريب فيها، تنطلق من كلمتي التوحيد والرسالة ؛ فشهادة أنْ لا إله إلا الله: إسقاط لكل المتألهين في الأرض، الذين طغوا وبغوا، وشهادة الرسالة وصفت محمداً e أنه عبده ورسوله، يتبع ما يوحى إليه قال تعالى:

﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾

[ سورة يونس: الآية 15 ]

 وقال تعالى:

﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾

[ سورة الحاقة: الآية 44-47 ]

 ويزداد هذا الإخاء توثقاً وتأكداً إذا أضيف إليه عنصر الإيمان فتجتمع الأخوة الدينية إلى الأخوة الإنسانية فتزيدها قوة إلى قوة، ولما كان باب الإيمان مفتوحاً لكل الناس، بلا قيد، ولا شرط، ولا تحفظ على جنس أو لون أو إقليم أو طبقة، فإنّ الإخاء الديني المتفرع عن الإيمان والعقيدة المشتركة لا يضعف الإخاء العام بل يشده ويقويه، فلا تناقض بين الإخاء البشري العام وبين الإخاء الديني الذي تشير إليه الآية الكريمة:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾

[ سورة الحجرات: الآية 10 ]

 ويشير إليه الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))

[البخاري ومسلم]

 بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ربط ربطاً محكماً بين الأخوة الإنسانية وبين الإيمان، بل جعلها مِن مقوماته ، فعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))

[ رواه البخاري، ومسلم ]

 وفي رواية: وحتى يكره له ما يكره لنفسه، وقد ذكر بعض شُرَّاح الحديث أن كلمة أخيه في الحديث لم تُقيد بصفة تحدُّ إطلاقها والمُطلق في النصوص المحكمة على إطلاقه.
إذاً فالأخوة التي قصدها المصطفى صلى الله عليه وسلم هي الأخوة الإنسانية
لقد طبَّق الإسلامُ هذا الإخاء الرفيع، وأقام على أساسه مجتمعاً ربانياً إنسانياً فريداً، اضمحلَّتْ فيه فوارق الجنس واللون والقبيلة والطبقة.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((سلمان منا أهل البيت))

[لحاكم في المستدرك ، والطبراني في المعجم الكبير عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده ]

 و:

((نِعْم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه))

[كشف الخفاء للعجلوني ]

 ومن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة ؛ مبدأ المساواة الإنسانية، فقد قرره الإسلام ونادى به، وهو ينطلق من أن الإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان، لا من أي حيثية أخرى، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

[سورة الحجرات: الآية 13]

إخفاء الصور