وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0649 - محبة الله - الشدة النفسية .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

مقام المحبة :

 أيها الأخوة الكرام ، موضوع الخطبة اليوم محبة الله جل جلاله ، وموقع المحبة من الدين كما يتضح من المثل التالي: بيت فيه عشرات الأجهزة الكهربائية ، من براد إلى غسالة إلى مروحة ، إلى مكيف ، إلى فرن ، إلى مسجلة ، هذه الأدوات الكهربائية لا معنى لها من دون طاقة كهربائية ، تصبح عبئاً ، تشغل حيز أنت في أمس الحاجة إليه ، لأنها لا تقدم شيئاً ، أما إذا سرت الطاقة الكهربائية في هذه الأجهزة فكل جهاز يقدم لك خدمات لا تنتهي ، موقع المحبة من الدين كموقع الطاقة الكهربائية من الأجهزة الكهربائية ، من دون كهرباء لا معنى لها ، ولا قيمة لها ، ولا تؤدي شيئاً ولا وزن لها .
 أيها الأخوة الكرام ، مقام المحبة تنافس فيه المتنافسون ، وشمر إليه السابقون ، وتفانى فيه المحبون ، المحبة قوت القلوب ، وغذاء الأرواح وقرة العيون ، هي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات ، وقد وصف الله تعالى الكافرين فقال:

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة النحل: 21 ]

 هذه الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات ، هي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، هي الشفاء الذي من عدمه حلت به جميع الأسقام هي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام .

المحبة من الدين كموقع الروح من الجسد :

 أيها الأخوة الكرام ، موقع المحبة من الدين في أهم موقع ، أصحابها وقفوا على الحقائق ووقف سواهم على الصور والأشباح .
 ما معقد النسبة بين العبد والرب ؟ لا نسبة بين العبد وبين الرب إلا محض العبودية له ، فالعبد عبد والرب رب ، محض العبودية للعبد ومحض الربوبية للرب ، ولا نسبة بينهما إلا المحبة ، والمحبة تعني العبودية لله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ، العبد عبد من كل وجه ، والرب رب من كل وجه ولا نسبة بينهما إلى المحبة ، يعني علاقتك بخالق الكون هي المحبة فلولا المحبة لما كان هذا الدين المحبوبية أساس العلاقة بين الله وبين عباده ، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يحملنا جميعاً على الطاعة لحملنا ، ولكن هذه الطاعة القسرية لا قيمة ولا تسعد أصحابها ، لذلك لا إكراه في الدين .

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾

[ سورة هود: 118 ]

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة يونس: 99 ]

المحبة هي روح الإيمان :

 هذه ولكن تنتفي المحبوبية ، ينتفي الحب ، ينتفي الاختيار ، تنتفي المبادرة . . المبادرة والطاعة الطوعية ، والاختيار ، والحب والشوق أساس الدين ولولا هذه الأسباب لجعل الله الناس أمة واحدة ، لحملهم جمعاً على الطاعة لسيرهم على نحو أو آخر .
 أيها الأخوة الكرام ، المحبة هي روح الإيمان ، هي روح الأعمال ، هي روح المقامات ، هي روح الأحوال ، فمتى خلت منها كانت هذه الأعمال ، وهذا الإيمان وهذه الأحوال وتلك المقامات ، كالجسد الخالي لا روح فيه .
 ذهب أهل المحبة بشرف الدنيا والآخرة ، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب ، لقد قضى الله يوم خلق السماوات والأرض أن المرء مع من أحب إذا كنت محباً لله فأنت معه وإذا كنت معه كان معك ، وإذا كان معك نصرك ، وإذا كان معك حفظك ، وإذا كان معك أيدك ، وإذا كان معك وفقك ، إذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان عليك فمن معك ويا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟ .
 قضى الله يوم خلق السماوات والأرض ـ هذا من سنة الله في خلقه ـ أن المرء مع من أحب ، فإذا أحببت الله كنت معه ، وإذا كنت معه كان معك ، وإذا كان معك وطمأنك، ووفقك ، وحفظك ، وأيدك ونصرك وأسعدك وهذه مطالب الإنسان إلى نهاية الدوران .

المحبون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين :

 أيها الأخوة الكرام ، أقيمت المحبة للعرض في سوق من يزيد ، فلم يرض الله لها بثمن دون بذل النفوس ، فقام المحبون يتنافسون عليها ، فوقعت بيدي أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، أولا صفات المحبين ؛ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، أما صفات المنافقين عكس ذلك ؛ أذلة على الكافرين أعزة على المؤمنين ، هذه أهم خصيصة للمؤمنين ، أن تكون متواضعاً للمؤمنين عزيزاً على الكافرين .

المحبون يتبعون سنة النبي :

 أيها الأخوة الكرام ، لما كثروا مدّعوا المحبة ، طولبوا بإقامة البينة على صحة دعواهم فلو يُعطى الناس بدعواهم ، لادعى الخلي حرقة الشجي ، فهذه الدعوى لا تُقبل إلا ببينة ، والبينة:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

 لا تقع في وهم خطير ، لا تظنن نفسك محباً إن لم تتبع سنة النبي ، لا تتوهم أنك محب لله إن لم تكن متبعاً لحبيبه في أقواله ، وأفعاله وأحواله وأخلاقه ، علامة حبك لله اتباع سنة النبي ، وأية دعوى لا تأتي بالدليل والبينة فدعوى باطلة .
 تأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب ، في أفعاله وأقواله وأخلاقه طولبوا فوق الدليل بعدالة التزكية ، فوصفهم الله عز وجل بأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، ولا يغيب عن أنظاركم أن الجهاد أنواع في أعلى مراتبه جهاد النفس والهوى ، فالذي يُهزم أمام نفسه لا يستطيع أن يقاتل ، ثم جهاد الدعوة فقد وصفه الله عز وجل بأنه الجهاد الكبير ، فقال تعالى:

﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾

[ سورة الفرقان: 52 ]

 وجهاد النفس والهوى مُتاح لكل مسلم أي مكان وزمان ، وجهاد الدعوة مُتاح لمعظم المسلمين في أي زمان ومكان .

المحبون باعوا أنفسهم لله :

 أيها الأخوة الكرام ، لما طُولبوا بهذه التزكية تأخر أكثر المحبين ، وقام المجاهدون ، فقيل لهم إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم ، فهلموا إلى بيعة ـ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجهة ـ بيع قطعي ، وفي أكثر الآيات التي فيها بذل بدأ الله بالمال ثم بالنفس ، لأن بذل المال أهون من بذل النفس إلا في هذه الآية بدأ الله عز وجل ببيع النفس ثم بيع المال فقال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

[ سورة التوبة: 111 ]

 فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم منذ أن صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأصفى مما كانت:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 169]

 وحينما غُرست شجرةُ المحبة في القلب ، وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أينعت ثمارها .

المحبة هي الميل الدائم بالقلب الهائم :

 أيها الأخوة الكرام ، لو عدنا إلى معاجم اللغة وبحثنا عن مادة الحب ، وحب ، وأحب ؛ نجد هذه المعاني تتمحور حول خمس معاني ، الصفاء والبياض ، العلو والظهور اللزوم والثبات ، اللب ، الحفظ والإمساك ، هذه معاني المحبة في قواميس اللغة ، فلا بد من صفاء المودة ، ولابد من هيجان إرادة القلب للمحبوب ولابد من علو المحبة وظهورها ، ولابد من ثبات إرادة القلب على حب محبوبك ، ولابد من لزوم محبوبه لزوماً ثابتاً ، وإعطاء المحبوب لب القلب وسويداءه .
 أيها الأخوة الكرام ، المحبة من تعاريفها الدقيقة ، هي الميل الدائم بالقلب الهائم ، المحبة إيثار المحبوب على جميع المصحوب ، المحبة موافقة المحبوب في المشهد والمغيب ، الذي يحب الله عز وجل لا يتأثر بزمان ومكان ، هو مع الله والله معه في كل زمان ومكان ، أما هؤلاء الذين ينضبطون في مكان ، ويتفلتون في مكان هؤلاء لا يخضعون لله ، بل يخضعون لتقاليد وعادات وهذه تنفي عنهم المحبة ، أناس كثيرون في بعض البلاد ، في بلادهم يصلون الصلاة بأوقاتها ، يؤدون ما عليهم من واجبات دينية ، فإذا سافروا إلى بلاد أخرى تفلتوا من منهج الله ، هؤلاء لم تدخل المحبة إلى قلوبهم ولكنهم خضعوا لتقاليد وعادات هي بشكل أو بآخر لا تقدم أو تؤخر .

المحبة أن تهب كلكَ لمن أحببت :

 أيها الأخوة الكرام ، المحبة استكثار القليل في جنب الله عز وجل ، استكثار القليل من فضل الله عز وجل ، وفضل الله كثير ، واستقلال الأعمال الصالحة مهما كبرت يعني إذا فُعل معك خير رأيته كثيراً ، فإذا فعلت شيئاً رأيته قليلاً وهذه من علامات المحبين .
 المحبة أن تهب كلكَ لمن أحببت فلا يبقى لك منه شيء ، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة الأنعام: 162]

 ماذا أبقيت يا أبا بكر ؟ " قال الله ورسوله " ، أعطى كل ماله للنبي عليه الصلاة والسلام ، هذه مرتبة السابقين السابِقين .
 المحبة أن تهب إرادتك وعزمك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحب وأن تجعلها حبساً في مرضاته وفي محابه فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك الله ، فتأخذ منه له ، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾

[ سورة هود: 86]

 بقي لك من هذا ما سمح الله لك به ، بقي لك من المال الكسب المشروع بقي لك من النساء زوجتك ومحارمك ، بقي لك من العلو في الأرض الزهو بطاعة الله لا بمخالفة أمره .

من الأسباب الجالبة لمحبة الله :

1 ـ قراءة القرآن :

 أيها الأخوة الكرام: من الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها أن تقرأ القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به ، تلاوة كلام الله عز وجل أحد الأسباب الموجبة لرحمته ، إن أردت أن تحدث ربك فادعه ، وإن أردت أن يحدثك الله فاقرأ القرآن ، فقراءة القرآن أحد أسباب محبة الله عز وجل ، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض توصل المحب إلى درجة المحبوبية ودوام ذكر الله عز وجل على كل حال بالقلب واللسان والعمل ، فالإنسان أيها الأخوة نصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر ، من أحب شيئاً أكثر من ذكره " ابن آدم إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني " ، " برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله " .
 قراءة القرآن بالتفهم والتدبر والتطبيق ، أحد الأسباب الموصلة إلى محبة الله عز وجل ، التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أحد أسباب بلوغ محبة الله عز وجل ، دوام الذكر:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾

[ سورة الأحزاب: 41-44]

 دوام الذكر على كل حال بالقلب واللسان والعمل ، إذاً نصيب المحبة على قدر النصيب من الذكر ، والآية الكريمة: ]

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا

[ ، قال العلماء: الأمر ينصب لا على الذكر فحسب بل على الذكر الكثير .

2 ـ أن تكون محبوباً عنده :

 يا أيها الأخوة الكرام ، ومن أسباب بلوغ محبة الله عز وجل وأن تكون محبوباً عند الله ، أن تؤثر محابه على محابك ، تحب شيئاً ، ويحب الله شيئاً ، فعندما تتوافق الأشياء التي تحبها مع الأشياء التي يحبها الله عز وجل ليس هناك من مشكلة وليس هناك من غضاضة ، وليس هناك من حرج ، وليس هناك من تضحية أما حينما تتعارض محابك مع محاب الله ، أي حينما يتعارض الذي تحبه مع الذي يحبه الله عز وجل ، هنا تظهر محبتك ، لا تكون المحبة إلا إذا آثرت ما يرضه على ما يرضيك ، إلا إذا آثرت ما تشتهيه على ما يريده لك .

3 ـ إيثار محابه على محابك :

 أيها الأخوة الكرام ، إيثار محابه على محابك عند غلبة الهوى ، والتطلع إلى محابه وإن صعب المرتقى ، لابد من مجاهدة النفس والهوى ، لأن أصل التكليف يتناقض مع ظاهر الطبع ، ويتوافق مع الفطرة ، فلا بد من التضحية برغبات النفس أمام طاعات الله عز وجل ، قال تعالى:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[ سورة النازعات: 40-41]

4 ـ التأمل في أسمائه الحسنى :

 أيها الأخوة الكرام ، موضوع دقيق دقيق وخطير خطير ، وهو أنك إذا عرفت أن الله خلق الكون وكفى كيف تحبه ، أما إذا طالعت أسماءه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، وقفت ملياً عند اسم الرحيم ، عند اسم الكريم ، عند اسم الغني عند اسم الملك ، عند اسم القادر ، عند اسم العفو ، عند اسم الرؤوف إذا طالعت أسماءه اسماً اسْماً ، وتأملت في دقائقها ، وفي مظاهرها ، وفي أحوالها وصلت إلى محبة الله عز وجل .
 أنت بالأمثلة الظاهرة إذا رأيت إنسان في الطريق لماذا تحبه ؟ لا تحبه ولا يحبك، أما إذا سمعت عن أخلاقه ، عن استقامته ، عن علمه عن حكمته ، عن تضحيته ، عن حبه للخير ، فالذي تراه لمرة واحدة دون أن تعرف دقائق طبعه ، دقائق سلوكه لا تحبه ، فلذلك إن أردت أن تحب الله عز وزجل فلا من أن تقف ملياً عند أسماء الله الحسنى ، عند كمالاته من أجل أن تحبه ، فالنفوس جُبلت على حب من أحسن إليها ، فالقانون أنك تحب الجمال والكمال والنوال ، فهذه الخصائص الثلاثة مجتمعة بالله عز وجل ، إن الله جميل يحب الجمال ، ذاتٌ كاملة ، إحسانه لا ينقطع .

5 ـ شكره :

 يا أيها الأخوة الكرام: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعم ، يجب أن تشكر نعمة الوجود ، نعمة الإمداد ، نعمة الصحة ، نعمة الحواس نعمة الأعضاء ، نعمة الأجهزة ، نعمة المأوى ، نعمة الزوجة نعمة الولد نعمة السمعة الطيبة ، نعمة أنك حر لست مقيداً ، هذه نعم يجب أن تذكرها من أجل أن تحب الله عز وجل ، فلا بد من مشاهدة بره وإحسانه ، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته ، لابد من أن تذكر أيام الله الأيام العصيبة التي حماك الله فيها ، التي وفقك فيها التي نجاك فيها من ورطة كبيرة ، هذه أيام ، ولكل مؤمن أيام مع الله هذه إن فترت نفسه عليه أن يذكرها ، كي يزداد حبه لله عز وجل .

6 ـ الافتقار إليه :

 الشيء الذي يقربك من الله عز وجل أن تأتيه من باب الانكسار ، أن تأتيه من باب الذل ، فأصحاب النبي رضوان الله عليه ، كانوا متذللين إلى الله فنصرهم الله عز وجل ، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 123 ]

 أما في حنين وهم من هم أصحاب رسول الله وفيهم رسول الله أعجبتهم كثرتهم ، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 25 ]

 فالافتقار إلى الله أحد الأسباب الموجبة لمحبته ، والاعتداد بالنفس بمالك أو بعلمك، أو بسلطانك ، أو بقوتك ، أو بأتباعك ، حجاب بينك وبين الله وهذا يوجب المقت .

7 ـ مجالسة المحبين :

 أيها الأخوة الكرام ، ومن أسباب محبة الله عز وجل الخلوة بها ، وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه .
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ الْوُضُوءِ وَلأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ))

[ أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 أيها الأخوة الكرام ، من الأسباب الموجبة للمحبة ، مجالسة المحبين الصادقين ، والتقاط أطايب كلامهم ، وأن لا تتكلم بحضرتهم إلى إذا رجحت مصلحة الكلام .

8 ـ الالتزام بأمره :

 أيها الأخوة الكرام ، آخر سبب من أسباب محبة الله عز وجل ، أن تتباعد عن كل سبب يحول بين قلبك وبين الله عزّ وجل ، أي شيء يقربك من الله تفعله وأي شيء يبعدك من الله لا تفعله ، هذه أحد أسباب محبة الله عزّ وجل .

رسوخ محبة الله إنما يكون بمتابعة النبي :

 أيها الأخوة الكرام ، رسوخ هذه المحبة وثباتها في قلب إنما يكون بمتابعة النبي عليه الصلاة والسلام في أعماله وأقواله وأخلاقه ، فبحسب هذا الاتباع تثبت هذه المحبة وتقوى ، وبحسب نقصان الاتباع تنقص هذه المحبة وتتلاشى ، هذا الاتباع يوجب المحبة والمحبوبية معاً ، والفرق بينهما كبير ؛ المحبة أن تحب الله أما المحبوبية أن يحبك الله ، أن تكون محبوباً ، فاتباع النبي عليه الصلاة والسلام يوجب المحبة والمحبوبية معاً ، ولا يتم الأمر إلا بهما معاً ، دققوا بهذه الفكرة ؛ كل واحدٍ يقول أنا أحب الله ، لماذا ؟ لأنه خلقني ، ورزقني وزوجني وآواني ، طيب ، العبرة أيها الأخوة ، لا أن تحب الله ، العبرة أن يحبك الله، دعوى محبته سهلة ، بل إن كل إنسان يحب الإحسان ، فإذا أحسن الله إليك تحبه ، وإحسانه مستمر وإحسانه أبدي سرمدي ، لذلك ليس الشأن أن تحب الله ، بل الشأن أن يحبك الله ، ولا يحبك الله عز وجل إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهراً وباطناً وصدقته خبراً ، وأطعته أمراً، وأجبته دعوةً ، وآثرته طوعاً ، وثنيت عن حكم غيره بحكمه ، وعن محبة الخلق بمحبته ، وعن طاعة غيره بطاعته ، وإن لم يكن ذلك كذلك فلا تتعنت وارجع إلى حيث كنت ولتمس نوراً فلست على شيء ، هذا ملخص الملخص .
 إن لم تؤثر هواه على هواك ، ومحبته على محبتك ، وطاعته على طاعة الخلق ، ورضاه على رضى الخلق ، فأنت لست على شيء ومعرفة الحقيقة المرة ، خير من الوهم المريح ، اعرف الحقيقة المرة في الوقت المناسب كي تتلافاها .

العبرة أن يحبك الله :

 أيها الأخوة الكرام ، كل هذه الخطبة لا تخرج عن هذا المحور قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

 الشأن أن يحبك الله ، لا أن تحبه فقط ، أن يحبك هو ، وهو لا يحبك إلا إذا اتبعت سنة نبيه .
 أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى خيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :

 

الإنسان إذا أحبّ الله اطمأنت نفسه :

 أيها الأخوة الكرام ، حقيقة هامشية ، وليست من صلب الموضوع ، الإنسان إذا أحب الله اطمأنت نفسه ، إذا أحب الله والتزم أمر النبي تجلى الله على قلبه ، أنزل على قلبه السكينة ، هذه السكينة ، أو تلك الطمأنينة ، هذا التجلي ، أو هذه الراحة ، أو تلك السعادة سمها ما شئت ، أسماء كثيرة لمسمى واحد ، إن كنت مع الله اطمأن قلبك ، وسكنت أعضاؤك، وارتاحت نفسك ، وسعد قلبك .

الشدة النفسية وراء كل متاعب الجسد :

 أيها الأخوة الكرام ، هذه الحال هي عين الصحة ، كلما تقدم الطب اكتشف أن الشدة النفسية وراء كل متاعب الجسد ، فالإنسان القلق يظهر هذا القلق على أعضائه وعلى أجهزته ، وعلى قلبه وعلى شرايينه ، وعلى ضغطه ، وعلى هضمه وعلى أعصابه ، وعلى عضلاته ، كلما تقدم الطب اكتشف أن وراء أكثر الأمراض شدة نفسية ، ضغط نفسي ، قلق ، خوف من مجهول ، وأنك إذا أحببت الله ، وشعرت أنك تحت مظلته ، في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، شعرت أن الله راضٍ عنك ، أنه يحبك ، هذا شيء يدعو إلى الراحة والسعادة ، والطمأنينة ، وهذا أحد أسباب الصحة .

الراحة النفسية أن يكون الله راضٍ عنك :

 أمر الله أكبر من أن تحصى فوائده ، وإن كان الإنسان يعبد الله تنفيذاً لأمره ومحبة له لكن هذه العبادة تورثه راحة ، لو علمها الملوك لقاتلوا عليها أصحابها بالسيوف ، هذه الراحة النفسية أيها الأخوة يسعى لها كل الناس ، مطلب السلامة والسعادة مطلب كل مخلوق على وجه الأرض .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا علاً صالحاً يقربنا إليك .
 اللهم أصلح لنا ديننا الذين هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين .
 اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك ، أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير

تحميل النص

إخفاء الصور