وضع داكن
19-04-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 098 - الدعاء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الدعاء هو العبادة :

 أيها الأخوة الكرام؛ استراحة لدرس واحد بين دروس العقيدة.
 بعض الأحاديث الشريفة من كتاب إتحاف المسلم بما في الترغيب والترهيب من صحيح البخاري ومسلم، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم:

(( لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ. مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي. فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدّعَاءَ ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

أيها الأخوة؛ قد يغيب عن معظم المؤمنين أن الدعاء هو العبادة، وأن العبادات في مجملها لو طغت لكانت الدعاء، فأنت في الحج تدعو، ماذا تفعل في الحج؟ ماذا تفعل في السعي؟ وفي الطواف؟ وفي مزدلفة؟ وفي عرفات؟ وفي المشعر الحرام؟ ماذا تفعل؟ تدعو، وماذا تدعو في الصلاة؟

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾

[سورة الفاتحة : 5-7]

 كأن الدين في مجمله اتصال هذا المخلوق الضعيف الحادث بخالق الكون، بالمطلق، بصاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى، هذا الاتصال يتم عن طريق الدعاء، وما من تفسير واضح من قوله تعالى:

﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾

[سورة المعارج : 23]

 أفضل من الدعاء، إنك تصلي دائماً الصلوات الخمس، و المطلوب منك أن تكون مع الله بالدعاء، إن دخلت إلى بيتك وإن خرجت منه، وإن أقدمت على عمل، في صحتك وفي مرضك، في طعامك وشرابك، في زواجك، في كل مناسبات حياتك، هناك أدعية دعا بها النبي عليه الصلاة والسلام وسنّ لنا الدعاء بها، إذاً الدعاء هو الصلة.

 

من لوازم الدعاء الوجود والسماع والقدرة والمحبة :

 لكن أيها الأخوة يجب أن نعلم علم اليقين أنه لمجرد أن تدعو الله فأنت موقن بوجوده، وموقن بأنه يسمعك، وموقن بأنه قدير على أن يلبي طلبك، وموقن بأنه يحبك، فالوجود والسماع والقدرة والمحبة من لوازم الدعاء، لذلك الذي لا يدعو الله عز وجل هذه المعاني غائبة عنه، هي كلها أو بعضها غائبة عنه، قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:

(( من لا يدعني أغضب عليه ))

[العسكري عن أبي هريرة]

 لأنه حرم نفسه كل الخير، وأنت بالدعاء أقوى إنسان، والدعاء سلاح المؤمن، أنت بالدعاء عالم، وبالدعاء قوي، وبالدعاء غني، ومن دون دعاء لست عالماً، ولست غنياً، ولست قوياً، الغنى غنى النفس.
 أيها الأخوة؛ الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح هو العبادة، وفي حديث آخر مخ العبادة، أي أقوى ما فيها، وعظمة الدعاء أنك تستطيع أن تمارسه دون أن تحرك شفتيك.

﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾

[سورة مريم : 3]

مرة كنت في طريقي إلى بلدة في الساحل، أردت أن أصلي، فرأيت جامعاً جميلاً جداً في الساحل، قبيل بانياس، دخلت وصليت فيه، جامع مبني حديثاً، إذ برجل استضافني في غرفته الملحقة بالمسجد، وأعلمني دون أن يكون مفتخراً أنه هو الذي بنى المسجد، لكن ذكر لي قصة بقيت عالقة في ذهني، أنه بعد أن أنهى خدمته الإلزامية لا يملك من الدنيا شيئاً، أعطته أخته سواراً ذهبياً لها وباعه في ذلك الوقت بمئتي ليرة، واشترى بالمئتين بطاقة سفر إلى الخليج، أقسم لي بالله وهو في الطائرة لم يحرك شفتيه، إلا أنه قال في نفسه: إذا أكرمني الله بهذه السفرة فسأبني يا ربي لك مسجداً إلى جانب بيتي، بيته قبل بانياس، وعاش هناك سنوات عديدة وعاد، وقد أكرمه الله عز وجل، لكن الذي يلفت النظر في الأنظمة النافذة أن الجوامع لا تبنى إلا في المدن، أو في أماكن مأهولة بالسكان، وليس هناك أي معنى لبناء مسجد في منطقة زراعية، فحينما تقدم برخصة إلى رئيس البلدية أطلعه على القوانين النافذة، المساجد من أجل أن يعمرها المسلمون لابد من أن تكون في المدن، أو في الأقضية، أو في النواحي، أما في منطقة لا علاقة لها بأي تجمع سكني فلا يوجد رخصة، يقول لي هذا الأخ: توجهت إلى المحافظ ودخلت عليه وقلت له قصتي كذا وكذا، ما الذي ألقاه الله في قلب هذا المسؤول لا يعلمه إلا الله، إلا أنه اتصل برئيس البلدية وقال: أتمنى عليك أن تسمح له ببناء المسجد من دون أن يكون خاضعاً للأنظمة، وبني المسجد، شاهدي من هذا الكلام أقسم لي بالله أنه ما حرك شفتيه:

﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾

[سورة مريم : 3]

 بإمكانك أن تدعو الله وأنت صامت، بإمكانك أن تستعين به، أن تستغفره، أن تلتجئ إليه، أن تناجيه، أن تتوب إليه، أن تصطلح معه فيما بينك وبينه، لذلك الدعاء من علامة إيمان المؤمن، والإنسان أحياناً يعاني ما يعاني من مشكلات لا يعلمها إلا الله، لو علم يقيناً أن الدعاء يحل له كل هذه المشكلات يستخدمه، لذلك الشقي هو الذي لا يدعو الله عز وجل، الشقي الذي ليس بينه وبين الله خط ساخن بالتعبير الحديث، لا يوجد خط ساخن بينه وبين الله، منقطع عن الله، ما الذي يمنعك أن تدعو الله عند كل مشكلة؟

 

الهدف من الدعاء انعقاد الصلة بالله عز وجل :

 أخوتنا الكرام؛ أحاديث غريبة جداً تبدو لكم غريبة:

((يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع))

[ الترمذي وابن حبان في صحيحه عن أنس ]

 من مستوى شسع النعل، إذا ضاعت حاجة لك، إن الله يحب من عبده أن يسأله ملح طعامه، إن الله يحب من عبده أن يسأله حاجته كلها، إن الله يحب الملحين في الدعاء، وكأن الدعاء يعقد لك مع الله صلة، وكأن مضمون الدعاء ليس مطلوباً لذاته، لكن المطلوب أن تنعقد هذه الصلة، كأن ما يسوقه الله للعبد أحياناً من مشكلات من أجل أن يسمع صوته، من أجل أن يسمع صوته الحار، الإنسان أحياناً تفتر عباداته، ويضعف صوته، وتضعف همته، فتأتي المشكلة أحياناً لترفع حرارة العلاقة بين العبد وربه، تأتي المشكلة كي تسوقه إلى باب العبودية، تأتي المشكلة كي يناجي ربه عز وجل، وكأن المصائب نوافذ إلى السماء، وكأن المصائب تزيد علاقة المؤمن بربه.
 إذاً الدعاء هو العبادة، والدعاء مخ العبادة، لكن هذا الذي يعتدي على إنسان ما كائناً من كان، يعتدي عليه بلسانه، أو بيده، أو يبتز من ماله، أو يخيفه، أو يوقعه في حرج، أو يربكه، هذا الذي يعتدي على إنسان آخر، الله عز وجل لا يحبه ولا يستجيب دعاءه، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾

[سورة الأعراف : 55]

 المعتدي لا يحبه، وبالتالي لا يستجيب له، لذلك متى تستطيع أن تدعو الله؟ إذا كنت محسناً، متى تستطيع أن تقبل عليه؟ إذا كنت مستقيماً، أي ألا يكون بينك وبين الله حجاب، أن تكون العلاقة طيبة، أن يكون قلبك عامراً بذكر الله، هذه نعمة لا تقدر بثمن، وهذا الذي حمل بعض الشعراء أن يقول:

فليتك تحلـــــــــو والحيــاة مريــــــرة  وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الـذي بيني وبينك عامـــــــر  وبيني وبين العالمين خـراب
إذا صح منك الوصل فالكل هين  وكل الذي فوق التراب تراب
***

 وفي بعض الأبيات الأخرى:

فلو شاهدت عيناك من حسـننــا  الذي رأوه لما وليت عنا لـغيرنــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا  خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طـعم المحبـــة ذرة  عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــا
ولو نسمت من قربنا لك نسـمة  لمـــــت غريباً واشتياقاً لقـــربنـــــــــا
ولو لاح من أنوارنا لك لائــــــــح  تركت جميع الكائنـــات لأجــــــــــلنا
***

الحياة من دون إيمان و اتصال بالله لا طعم لها :

 أيها الأخوة؛ أنا أدعوكم وأدعو نفسي لا أن نجرب، الله عز وجل لا يجرب، الله عز وجل لا يشارط، لا يجرب ولا يشارط، ولكن هذا الذي ذاق ما في الحياة من طعام وشراب و لذائذ ومباهج ومتع، أقول: في الناحية المشروعة، لا أقول في المعاصي والآثام، ألا يذوق مرةً طعم القرب من الله؟
مرةً كنت في استنبول حدثوني عن قصة عجيبة، أن هذا الجسر الذي يعد ثاني أكبر جسر في العالم، والذي يعبره كل يوم ثلاثمئة ألف سيارة، والذي يعد من الجسور العملاقة في العالم، صممه ونفذه مهندس ياباني، وهو أحد خمسة مهندسين في العالم، فلما قصّ الشريط الحريري، وتمّ افتتاحه ألقى بنفسه في البوسفور، شيء عجيب مهندس لامع جداً، متألق جداً، غني جداً، الدنيا كلها بين يديه، ذهبوا إلى غرفته بالفندق فإذا على الطاولة ورقة كتب عليها: ذقت كل شيء في الحياة فلم أجد له طعماً فأردت أن أذوق طعم الموت.
 أيها الأخوة؛ والله ثم والله ثم والله الحياة من دون إيمان بالله، من دون اتصال به، من دون محبة له، من دون إقبال عليه، لا طعم لها، مملة، لكن ما الذي يحصل؟ الإنسان في البدايات لا يوجد عنده شيء، يعيش بالأحلام، يحلم ببيت مستقل، ينام بمكان ضيق، يحلم ببيت خاص له، فيه غرفة نوم، وغرفة ضيوف، وغرفة استقبال، يحلم بزوجة، يحلم بسيارة، يحلم بعمل، يحلم بدخل، يحلم بمكانة، متى تنتهي سعادته؟ إذا حصّلها، فإذا حصّلها كشف تفاهة الحياة، الآن تبدأ متاعبه، حينما تكون أهداف الإنسان مادية لا يمكن أن يسعد، لأنه مادامت هذه الأهداف بعيدة عنه هو حالم بها.
 أذكر أن أحد الأخوة الأطباء كان بفرنسا فلم ودع أستاذه الجراح الكبير، قال له: أنا أهنئك على عودتك إلى بلدك، فأنت هناك أسعد منك هنا، قال له: كيف؟ قال له: نحن حياتنا اكتملت فأصبحت مملة، أما أنتم فتفتحون طريقاً تسرون به، تغرسون شجرة فتكبر.
 معنى ذلك أن الإنسان حينما يحصل أهدافه المادية تنتهي سعادته، هذا عن أهل الدنيا، فإذا شخص ليس له هدف كبير، الدنيا من دون قيم لا تعاش، من دون هدف لا تعاش، والله أكثر شيء لفت نظري حينما سافرت إلى بلاد بعيدة في الغرب، الحياة متوافرة بشكل خيالي، مباهج الحياة، لا يوجد شيء اسمه مدينة وقرية، أي مكان ناء بعيد عن المدن هناك أماكن للبيع فيها ألوان من البضائع يحار العقل فيها، معروضة بشكل يأخذ بالألباب، ومع ذلك الناس في ملل، المادة سريعاً ما تستوعبها، إن استوعبتها انتهت، الآن كل واحد منا ساكن ببيت، الذي لم يكن عنده بيت يحلم ببيت، الذي يسكن ببيت شيء طبيعي جداً، والذي عنده مركبة شيء طبيعي جداً، والمتزوج شيء طبيعي جداً، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تستطيع الدنيا أن تمدك بسعادة متنامية، مستحيل أن تمدك الدنيا بسعادة مستمرة، الدنيا متناقصة، تُمل، بعد حين تمل، لذلك تجد إنساناً بعد سن معينة يشعر بالملل، وبتعبير آخر أشدّ قسوة يَقرف ويُقرف، لا يريد أن يتكلم كلمة، آكل لشبعان، لم يترك مكاناً إلا و زاره، أما المؤمن، والله المؤمن لا يشيخ أبداً، المؤمن أعني ما أقول ولا أبالغ في شباب دائم.
 السبب: أكبر هدف مادي إن حصّلته استوعبته، وأحطت به، واكتشفت تفاهته.

بطولة كلّ إنسان أن يكون هدفه أكبر من كل وقته وطاقته :

 الآن المال بالبدايات أعظم شيء بحياة الجاهل، بمنتصف الحياة شيء لكنه ليس كل شيء، قبل الموت لا شيء، هذه حقيقة المال، والمرأة، والمنصب، والشهادة، والمتع، لكن هذه الأهداف المادية الكبرى حينما تحيط بها تفقد قيمتها، لا تسعد بها إلا إذا كانت بعيدة عنك، ما دامت بعيدة فأنت في الأحلام، تجد الشاب أحياناً أحد أسباب تألقه أنه يعيش بالأحلام، لكن بعد أن تحدد أهدافه كلها، هذا بيته، وهذه زوجته، كان يحلم بغير هذا النوع، هذا بيته، وهذه زوجته، وهذا دخله وانتهى، شيء ممل، الحياة من دون هدف لا تعاش، أكثر شيء لفت نظري في بلاد الغرب أن الإنسان بلا هدف، يأكل، ويشرب، وينام.
حدثني أخ في دار العجزة بفرنسا، أجروا مقابلة إذاعية مع هؤلاء العجزة قال لي: شيء غريب أول شخص مئة و عام، الثاني مئة و عامان، الثالث ثمانية و تسعون، معمرون، فأهم سؤال جاءت الإجابة عنه متشابهة؛ ماذا تريد من الحياة؟ قال له: أريد أن أموت، هدفه الأكبر الموت، لأنه قد ملّ.
الآن أدخل بعالم الدين، أدخل بعالم العلم، تجد المؤمن والله كأنه شاب، هدفه هو الله، فكل بطولتك أن يكون الهدف أكبر من كل وقتك، وأكبر من كل طاقتك، الهدف هو الله، فالمؤمن في شباب دائم، هدفه أن يعمل الأعمال الصالحة، هدفه أن يوسع دائرة الحق، هدفه أن يقدم خدمات لبني البشر، هدفه أن يكون قريباً من الله عز وجل، كلام دقيق دقيق الحياة من دون هدف لا تعاش، هذا الكلام أصبح له معنى آخر، يقول لك الآن من دون مكيف لا تعاش، كنا بقيم أصبحنا بمكيف.
 مرة اطلعت على دعاية موضوعة بأكبر محل، رجل طويل عريض أكل قطعة بسكوت، ماذا قال؟ تنسيك الدنيا، يوجد سخافات بالحياة، وأشياء الإنسان أكبر من هذا بكثير.
 أيها الأخوة؛ لذلك البطولة أن يكون لك هدف عظيم هو الله عز وجل، أو خدمة الخلق من جنس الهدف الأول، أو إحداث شيء، لذلك الإنسان يموت ويحيا ولا أحد يعلم لا بحياته، ولا بموته، لأنه تافه، ما قدم شيئاً، لذلك أبلغ كلمة كما قيل: إن الصحابة الكرام واحد بألف، وإن المؤمنين المتعبين في آخر الزمان الألف كأف، ما عمل عَملاً بحياته، أحياناً تجد شخصاً ما ترك درساً، ما قدم شيئاً بحياته، هذا يسمونه: أدمن على حضور الدروس إدماناً، لكن لم يقدم شيئاً، فأنت حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
 فيا أخي الكريم؛ أن يكون هدفك الله عز وجل لا تشعر بالوقت، أحد كبار العلماء مشى في الطريق - رحمه الله- رأى مقهى فيه أناس يلعبون النرد، قال: يا سبحان الله! ‍لو أن الوقت يشترى من هؤلاء لاشتريناه منهم، تجد المؤمن بحاجة إلى يكون الوقت مئة ساعة، بحاجة إلى أن يكون الوقت عشرة أضعاف، حتى ينجز ما في نفسه، تجد علماء كباراً تركوا مؤلفات بالمئات.
 هناك عالم قسمت أوراق صفحات مؤلفاته على عمره فكان نصيب كل يوم من تأليفه تسعين صفحة، أنت تستطيع أن تقرأ عشر صفحات كل يوم دائماً؟

قيمة الإنسان بعلمه و بما أنعم الله عليه من أعمال صالحة :

 لذلك أيها الأخوة؛ هذه البركة كلمة يفهمها الناس أنها كلمة عامية، هي كلمة إسلامية، وكلمة قرآنية، وكلمة نبوية، بارك الله لك في عمرك، كيف؟ أي في وقت محدود تقوم بأعمال كبيرة جداً، الدليل: أن النبي الكريم نبينا عليه الصلاة والسلام إنسان، جاء إلى حياة تضج بالمعاصي، والآثام، والظلم، والكفر، والقهر، وكل الموبقات، ممكن إنسان لوحده بربع قرن أن يقلب وجه الكرة الأرضية؟ لذلك أقسم الله بعمره الثمين قال له:

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[سورة الحجر : 72]

 أنا لا أقول تكون علماً من أعلام المال، ليس هذا هو القصد، ولا علماً من أعلام القوة، هؤلاء بحسب النصوص لا شأن لهم عند الله عز وجل، أعطى المال لمن لا يحب، أعطاه لقارون، أعطى الملك لمن لا يحب، أعطاه لفرعون، ولكن الذين أحبهم ماذا أعطاهم؟ أعطاهم العلم والحكمة.

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة القصص : 14]

 والله أيها الأخوة كلما قرأت هذه الآية أشعر بفضل الله عز وجل.

﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

[ سورة النساء : 113]

ما قولك بتسعمئة مليون يعبدون البقر في شرق آسيا؟ بتسعمئة مليون أخر يعبدون إلهاً منحوتاً من حجر؟ ما قولك بملايين يعبدون الجرذان؟ عندي تحقيق صحفي من مجلة رصينة جداً مع التصوير يعبدون الجرذان، ولهم معابد، شعوب تعبد الشمس، شعوب تعبد القمر، شعوب تعبد الحجر، شعوب تعبد موج البحر، ما قولك؟ فإذا سمح الله لك أن تعبده وهو خالق السموات والأرض، وسمح لك أن تتبع منهجه، فهذه نعمة لا تقدر بثمن، أي الدعاء يجب أن يقيم علاقة حارة ساخنة بينك وبين الله، والدعاء لا يكلف إلا قلباً مخلصاً، ولساناً ذاكراً.
 سيدنا عمر بن عبد العزيز استقبل وفد الحجازيين، إذ بغلام صغير يتقدمه، غضب قال له: يا غلام اجلس وليقم من هو أكبر منك سناً، ابتسم الغلام قال: أصلح الله الأمير المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، فإذا وهب العبد لساناً ذاكراً، وقلباً حافظاً، فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة من هو أحق منك بهذا المجلس.
 أي قيمة الإنسان بعلمه، قيمته بفصاحة لسانه، قيمته بأخلاقه، قيمته بماله، قيمته بما أنعم الله عليه من أعمال صالحة، لكن بعصور التخلف الأخلاقي قيمته بمركبته، قيمته بمساحة بيته، قيمته بمكان بيته، قيمته بمتاع الحياة الدنيا.
 لذلك يقول سيدنا علي كرم الله وجهه: "في آخر الزمان قيمة الرجل متاعه".
 لكن قيمة الرجل في الحقيقة ما يحسن.

 

العلم و العمل قيمتان للترجيح بين البشر :

 القرآن الكريم حينما أعطانا مقاييس للترجيح بين خلقه نرى أن من هذه المقاييس العلم:

﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾

[سورة المجادلة : 11]

 من هذه المقاييس العمل:

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

[سورة الأنعام : 132 ]

 إذاً نريد أن يكون محور هذا الدرس الاستجمامي من بين دروس العقيد أن الهدف يحدد سعادتك، إذا كان هدفك هو الله عز وجل فأنت شاب دائماً، والشاب لا يشيخ، أما إذا كان هناك أهداف أرضية فالأرضية تستوعب وتنهي سعادة الإنسان، ولحكمة بالغة بالغة بالغة أراد الله ألا تكون الدنيا ممدة للإنسان بسعادة مستمرة، طبعاً مستحيل أن تكون متنامية، ومستحيل أن تكون مستمرة، إنها متناقصة.

 

سلعة الله غالية :

 أيها الأخوة؛ يقول عليه الصلاة والسلام:

((لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ. مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ " يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي. فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدّعَاءَ ))

 الله عز وجل سلعته غالية، بمعنى دعوته أنت مرة واحدة، الله يمتحن إلحاحك، يمتحن صبرك، يمتحن معرفتك به، يمتحن حسن ظنك به، فإذا ما استجاب أنت راض وأنت صابر؟ دعاء رسول الله بالطائف والله ما من دعاء نحتاجه اليوم كهذا الدعاء، قال:

((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس ))

[الطبراني عن عبد الله بن جعفر]

هل يوجد بتاريخ المسلمين عصر كانوا أهون على العالم من هذا العصر؟ يموت إنسان من الطرف الآخر ديته خمسمئة مليون ليرة سورية؟! ملياران و سبعمئة مليون دولار قيمة تعويضات الطائرة التي أسقطت في إيرلندا، يموت الآلاف المؤلفة، طائرات تسقط بفعل عدواني، قيمة المسلم صفر، ليس له قيمة، فلذلك: هان أمر الله عليهم فهانوا على الله.
 أيها الأخوة؛

(( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس ))

 يا رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى صديق يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟
 ألا ترون أحياناً أن أمور المسلمين بيد أعدائهم؟ ألا ترون أن الكفار لهم عليهم ألف سبيل وسبيل؟ هذا واقع، لا تستطيع أن تهرب منه، إذاً لماذا نحن كذلك؟ قال له: ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، أي هذه الشدة التي سقتها لي في الطائف إذا كانت تعبر عن غضب عليّ فأنا أعتذر إليك، ولك العتبى حتى ترضى، وإن كانت لا علاقة لها بغضبك عليّ فأنا لا أبالي بها، لكن عافيتك أوسع لي، انظر إلى الأدب، هذا الدعاء دعاء النبي في الطائف يحتاجه المسلمون اليوم، فالإنسان خرج من بيته ودخل لعمله، دخل لبيته، ارتدى ثياباً جديدة، أكل طعاماً، هناك إنسان لا يأكل، على السيروم فقط، إنسان قد يشتهي أكلة رخيصة جداً ممنوع عنها، فالله عز وجل حينما يراك تشكره ويراك معه في الدعاء، هناك نشاطات يقوم بها الإنسان كل يوم، من أبلغ هذه النشاطات الاستيقاظ، استيقظت كان عليه الصلاة والسلام يقول:

(( الحمد لله الذي ردّ إليّ روحي ))

 أحياناً الإنسان ينام ولا يستيقظ، مست زوجته يده وجدتها باردة، وجدته ميتاً، ينام لا يستيقظ، النبي كان يقول " الحمد لله الذي ردّ إليّ روحي، وعافاني في بدني، وأذن لي بذكره " معاني قد لا ننتبه لها، عافاني في بدني، ردّ إليّ روحي، أذن لي بذكره.
 إنسانة تاب الله عليها بعد أن كانت في العمل الفني، قالت كلمة في شريط يلفت النظر، قالت: أنا أول يوم أستيقظ على صلاة الفجر بعد أن كنت آتي إلى البيت لعشرين سنة ماضية بعد الفجر.
 عافاك في بدنك، واستيقظت على صلاة الفجر، وأذن لك بذكره.

 

السّعادة و اللّذة :

 أيها الأخوة؛ لعل أبرز موضوع عولج في هذا اللقاء الطيب هو أن تبحث عن هدف عظيم تسعى إله، عندئذٍ تبقى شاباً طوال حياتك، وعندئذٍ تسعد، أنا ذكرت قضية قبل أيام أنه إن أردت لذائذ الدنيا لن تستطيع تحصيلها دائماً، لأنه اللذائذ تحتاج إلى وقت وصحة ومال، ودائماً تنقصك واحدة، في البداية لا يوجد مال، يوجد صحة ووقت، في منتصف الحياة لا يوجد وقت، يوجد مال وصحة، بالنهاية لا يوجد صحة يوجد مال ووقت، إن أردت لذائذ الدنيا لن تحصلها كما تتمنى، الدنيا تغر، وتضر، وتمر، الدنيا جيفة طلابها كلابها.
 ضربت مرة مثلاً أن شخصاً جلس في ظل حمار في يوم من أيام الحر الشديدة، فقام ليشرب جاء إنسان وجلس مكانه، قال له: هذا المكان مكاني، مكانك، لا، مكاني، تلاسنوا ارتفع صوتهم، تشادوا، تضاربوا، قام ومشى الحمار.
والله قبل أيام كنت في بلد مجاور، أوقفنا المركبة في ظل باص كبير، فإذا بالباص يمشي بعد دقيقة، لم نستفد شيئاً، هذه الدنيا كظل الحمار سريعاً ما يتحول، ثمانية آلاف دعوى شطبت لموت أحد الطرفين، يدخل بخصومة إما أن يلحق أو لا يلحق، فهذه الدنيا جيفة طلابها كلابها، هي دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له، وأبلغ مثل تدخل على تعزية تجد بيتاً ثمنه يقدر بثمانين مليوناً، الذي دفن في الباب الصغير مثلاً كان هو صاحب هذا البيت، هو رتبه، هو زخرفه، هو عمل الجبصين، هو اشترى الأثاث، أين هو الآن؟ الدنيا تخسرها في ثانية واحدة، أنا ما وجدت إنساناً أعقل ممن يعمل لساعة اللقاء مع الله عز وجل.
 فيا أيها الأخوة؛ اللذائذ مستحيلة التحقق كما تظنون، أما السعادة فنابعة من الداخل، ووسائلها كلها بيدك، هي طاعة لله عز وجل، لهذا قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[سورة الأحزاب : 71]

الإنسان بالدعاء أقوى و أسعد إنسان :

 أبرز شيء بالدرس أن تختار هدفاً عظيماً كأن تتعرف إلى الله، وأن تدعو إليه، وأن تسعى إلى الجنة، عندئذٍ تغدو الدنيا تافهة في نظرك، مثلاً إذا أدى طالب امتحاناً بالجامعة، بأعلى مستوى وسيأخذ الامتياز، دخل للمقصف أكل شطيرة لم تعجبه، لا يتأثر لأن هدفه كبير، لذلك إذا كانت الدنيا هدف الإنسان بعد تحقق ما يريد يغدو عنده كل شيء تافهاً، أما إذا هدفه لم يتحقق فالدنيا عنده ماحقة وساحقة، والدعاء مخ العبادة، أنت بالدعاء أقوى إنسان، أنت بالدعاء عالم، أنت بالدعاء موفق، أنت بالدعاء سعيد، أنت بالدعاء محفوظ، أنت بالدعاء منصور، أنت بالدعاء تحقق كل أهدافك.
 فيا أيها الأخوة؛ موضوع الدعاء أتمنى أن ينتقل من حديث يقال في درس إلى ممارسة يومية مع الله عز وجل، وأنا أعتقد لا يوجد شخص من الأخوة الحاضرين إلا ويتكلم لنا عن عدة قصص في علاقته مع الله عز وجل، حينما تدعوه ويستجيب لك تزداد عقيدتك وتقوى، لأنه سميع مجيب، وحينما يستجيب لك تزداد ثقة به، وتزداد محبة له.

الدعاء ينقل الإنسان نقلة نوعية في معرفة الله و في محبته :

 أخواننا الكرام؛ الدعاء ينقلك نقلتين نوعيتين، ينقلك نقلة نوعية في معرفة الله، ونقلة نوعية في محبته، ينقلك نقلة نوعية في محبته، ونقلة في معرفته، وإذا إنسان لا سمح الله ولا قدر بحالة صعبة جداً دعاء الفجر ثابت بالحديث الصحيح:

(( إن الله تعالى يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الآخر، نزل إلى السماء الدنيا فنادى هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر ))

[مسلم عن أبي هريرة ]

 ولما جاء هارون الرشيد إلى الحرم المكي والتقى بعالم كبير قال له: سلني حاجتك؟ قال له: والله إنني أستحي في بيت الله أن أسأل غير الله، سكت، التقى معه خارج الحرم، قال له: سلني حاجتك؟ قال له: والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها؟ فلما ألح عليه قال له: أدخلني الجنة، وأنقذني من النار، قال له: هذا ليس لي، قال له: إذاً ليس لي عندك حاجة.
 النبي حينما طلب سيدنا ربيعة أن يسأله حاجته، قال له: أمهلني يا رسول الله؟ فقال له: ماذا كان يا ربيعة؟ قال له: أسألك أن أكون رفيقك في الجنة، قال له: من علمك هذا؟ قال له: والله ما علمنيه أحد، لكنني رأيت أن الدنيا زائلة، أنا معك في الدنيا، ولكن ليس لي مقام أن أكون معك في الآخرة، فأنزل الله آية في هذا الموضوع:

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ﴾

[سورة النساء : 69-70]

 أتمنى على الأخ الكريم أن تكون أهدافه كبيرة، أما هذه الدنيا والله أيها الأخوة فلا تزيد عن لقمتين تأكلهما، لو معك ألف مليون، بذلتك كم كُم لها؟ ثلاثة أكمام؟ أربعة أكمام؟ على كم سرير تنام؟ كم حذاء تلبس؟ خمس فردات؟ الدنيا لها سقف.

(( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ))

[ البخاري عن عبد الله بن محصن ]

تحميل النص

إخفاء الصور