وضع داكن
19-04-2024
Logo
الندوة : 3 - أصول الدعوة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

 الحمد لله الذي دلَّ على وجودِهِ وجودُه ، وأغنى عن شهودِهِ شهودُه ، فهوَ الموجودُ لا يحويهِ مكان ، والقيّومُ الذي تنزّهَ عن الزمان ، تفرّدَ بالوحدانية الأزليّة ، واستأثر بالقُدرةِ الأبديّة، فهوِ الأولُ بِلا ابتداء والآخرُ بِلا انتهاء ، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد الذي بعثهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى رحمةً مُهداةً للعالمين حيثُ يقول سبحانه :

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾

[سورة الأنبياء: 107]

 وما أروعَ تِلكَ الآيات الكريمة التي تُبيّنُ لنا صِفةَ الداعيةِ إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى ومقامَ الداعيةِ المُخلص الذي نذَرَ نفسَهُ للهِ سبحانَه لا يبتغي إلا وجهَ الله :

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فُصّلت: 33]

 أيها الأخوة المشاهدون ؛ السلامُ عليكم ورحمة اللهِ تعالى وبركاتُه ، في هذا اللِقاء معنا ضيفٌ كريم وأخٌ حبيب فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي الأستاذ المُحاضر بكليّة التربية في جامعة دمشق وخطيبُ جامع الشيخ عبد الغني النابلسي رَحِمَهُ الله تعالى ، ولعلَّ الموضوع من خِلال هذهِ التقدمة يتبيّنُ للأخِ المُشاهد وذلك أصول الدعوةِ إلى الله أو الدعوة إلى الله سبحانهُ وتعالى وما ينبغي أن يتحلّى بِه الداعيةُ من صِفاتٍ كريمة ، فأهلاً وسهلاً بضيفنا الكريم .
المذيع :
 ولعلَّ البداية تكون إن شاءَ الله على السؤال الذي نطرحُهُ دائماً وبالأسلوب التقليدي لِمَ اخترنا هذا الموضوع بالذات وهوَ موضوع أصول الدعوة إلى الله سبحانَهُ وتعالى ؟ فضيلة الشيخ محمد راتب يُبيّن لنا سبب اختيارنا العنوان ، وما ينبغي إن شاء الله أن يتحلّى به الداعية من صفاتٍ كريمة .

معرفة كلّ إنسان سِرّ وجودِهِ وغاية وجودِهِ :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمدُ للهِ رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعدِ الأمين ، لعلَّ أهمَ سببٍ دعاني لاختيار هذا الموضوع أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يقولُ في كتابِهِ العزيز :

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فُصّلت: 33]

 لن تجدَ إنساناً أفضل من هذا الذي نقلَ الحقيقة إلى الآخرين ، والنبي عليهِ الصلاة والسلام يقول :

((.... فَقَالَ : أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ فَقِيلَ : يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ : أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ، فَقَالَ : انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَو َاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ، وفي رواية ، خيرٌ لكَ مما طلعت عليهِ الشّمس .))

[الحاكم عن أبي رافع]

 الإنسان يجبُ أن يعلمَ سِرَّ وجودِهِ وغايةَ وجودِهِ ، لو أنَّ إنساناً سافرَ إلى بلد وأقامَ في أحدِ فنادِقها واستيقظ في صبيحة اليوم الأول إلى أينَ يذهب ؟ إذا عَرَفَ سِرَّ وجودِهِ في هذهِ البلدة صحت حركتهُ فيها ، فلو أنهُ جاءَ سائحاً لتوجّه نحوَ المقاصِف والمتنزهات ، لو أنَهُ جاءَ هذهِ البلدةَ تاجراً لتوجّهَ نحوَ المعامل والمؤسسات ، لو أنّهُ جاءَ طالِبَ عِلم توجّهَ نحوَ المعاهد والجامعات ، لا تصِحُ حركةَ الإنسان إلا إذا عَرَفَ سِرَّ وجودِهِ ، والداعيةُ إلى الله عزّ وجل يُعرّفُ الناسَ بِسرِّ وجودِهم وغايةِ وجودِهم ، والإنسانُ حينما تَصِحُ حركتُهُ وتكونُ هذهِ الحركة متوافقةً معَ هدفهِ يسعَدُ في الدُنيا ، فإذا سَعِدَ في الدُنيا بالقُربِ من اللهِ عزّ وجل استحقَّ سعادة الآخرة ، النبي عليه الصلاة والسلام وصفَهُ اللهُ عزّ وجل بأنهُ داعيةٌ إلى الله :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾

[سورة الأحزاب: 45-46]

 بل إنَّ كُلَّ من يتّبِعُ النبي عليهِ الصلاة والسلام ينبغي أن يكونَ داعيةً إلى الله :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[سورة يوسف: 108]

 والدعوةُ إلى اللهِ كما يبدو قد تكونُ فرضَ عين وقد تكونُ فرضَ كِفاية فحينما قالَ اللهُ عزّ وجل :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[سورة العصر: 1-3]

 جعلَ الله التواصي بالحق ربُعَ النجاة ، نجاةُ الإنسانِ بإيمانِهِ بالله وتطبيقِهِ لمنهجِ الله والدعوةِ إلى الله والصبرِ على كُلِّ ما يتحملّهُ في سبيل الله .

الفرق بين الدعوة كفرض عين وفرض كفاية :

 إذاً الدعوة كفرضِ عين أن تدعو إلى اللهِ عزّ وجل في حدودِ ما تعلم وفي حدودِ من تعلم ، هذا فرضُ عين ، أمّا فرضُ الكِفاية : التبحّرُ في العلوم والردُ على الشُبُهات ، هذا فرضُ كِفايةٍ إذا قامَ بِهِ البعض سقطَ عن الكُل قالَ تعالى :

﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[سورة آل عمران : 104]

 لعلَّ (مِن) في هذهِ الآية تعني التبعيض .
المذيع :
 إذاً نحنُ نفهم من هذهِ الكلمة الطيبة بأنَّ اختيارنا هذا الموضوع هوَ في الواقع فيما نرى من حال المُسلمين اليوم ، حيثُ كَثُرَ الجهل بأصول الدعوة ، حتى أنَّ أُناساً يُمكن أن يحمِلوا شهاداتٍ علميّة ثُمَّ يضعونَ أنفُسهم موضِعَ الدعوةِ إلى الله ، لكن ليسَ كُلَّ من حملَ شهادةً علميّة قادِر على أن يدخُلَ إلى قلوب الناس ، فلذلك القضيةُ ليست قضية شهادة إنما هيَ قضية استعداد ، فقد يكونُ هُناكَ العالِم وليست عِندَهُ القُدرة على الدعوة ، وقد يكونُ هُناكَ إنسان أقلَّ عِلماً ولكن عِندَهُ القُدرة أن يدخُلَ إلى قلوب الناس ، فلذلك كانَ اختيارنا هذا العنوان في الواقع لأننا حريصون الحِرصَ كُلَه لأن ندخُلَ إلى قلوب الناس بالأسلوب النبوي صلى الله عليه وسلم ، لو سمحتم فضيلة الأستاذ محمد راتب الرسول الداعية صلى الله عليه وسلم وقد جاءَ في أثناءِ ذِكرِ الآيات الكريمة في أكثرَ من موطن ربنا ذكرَ النبي عليه الصلاة والسلام بقولهِ :

﴿ ادْعُ ﴾

[سورة النحل : 125]

﴿ وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾

[سورة الأحزاب: 46]

﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾

[سورة النحل : 125]

 هذا الأسلوب النبوي فالرسول هوَ الداعية الأول ، فحبذا لو ألقينا الضوء ولو مواقف بسيطة من حياة المصطفى صلى اللهُ عليه وسلم في أسلوبِهِ بالدعوةِ إلى الله سبحانَهُ وتعالى .

تطبيق منهج رسول الله في الدعوة حتى تستطيع أن تؤتي هذهِ الدعوةَ حقّها :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، نحنُ حينما نقرأُ قولَهُ تعالى :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 هذهِ الباء باءُ السببيّة ، أي بسببِ رحمةٍ استقرت في قلبِكَ يا مُحمد كُنتَ ليّناً لَهم :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 مع أنَهُ نبيٌ مُرسل ، ومع أنَهُ يوحى إليه ، ومع أن اللهَ أيدّهُ بالمعجزات ، مع كُلِّ هذهِ الخصائصِ والميزات :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 إذاً : أُولى صِفات الداعيةِ إلى الله أن يكونَ ليّنَ الجانب يألَفُ ويُؤلَف ، فيما أتصوّر أنَّ للنبي عليه الصلاة والسلام مهمتانِ كبيرتان ، إحدى هاتين المهمتين : التبليغ ، لكنَّ المهمة الأكبر بكثير هيَ : القدوة ، لأنَّ الناسَ يعلّمونَ بعيونِهم لا بآذانِهم ، ولُغةُ العملِ أبلَغُ من لُغةِ القول ، ولا تستطيع أن تُقنِعَ الناسَ بما تقول إلا إذا كُنتَ مُطبقّاً لِما تقول ، وما سببُ تخلّفُ المسلمين إلا حينما يجد المدعوونَ إلى اللهِ مسافةً كبيرةً بينَ ما يقولُ الداعيةُ وبينَ ما يفعل ، إن لم تكُن هُناكَ مصداقيةٌ في الدعوة فلا خيرَ في الدعوة ، فمهمة النبي الأولى هوَ أنَهُ قدوةٌ للناس ذاقَ مُرَّ الحياةِ ، صَبَر ، وأعطاهُ اللهُ المالَ فشَكَر ، ذاقَ النصرَ فدخلَ مكةَ متواضِعاً ، ذاقَ القهر في الطائف فقال : إن لم يُكن بِكَ غضبٌ عليّ فلا أُبالي ، ما من شيء إلا وذاقَهُ النبي ووقفَ فيهِ الموقِفَ الكامل ، فإذا أردنا أن ننجحَ في دعوتِنا ينبغي أن نُتابِعَ النبي عليهِ الصلاة والسلام ، وأيُّ داعيةٍ يُحققُ نجاحاً كبيراً في دعوتِهِ بقدرِ متابعتِهِ للنبي ، هُناكَ نقطةٌ دقيقةٌ جداً تغيبُ عن بعض الدُعاة وهيَ : أنَّ للنبي عليه الصلاة والسلام منهجاً في الدعوة يجبُ أن نبحثَ عن هذا المنهج ، ويجبُ أن نُطبّقَ هذا المنهج حتى نستطيع أن نؤتي هذهِ الدعوةَ حقّها ، وأن نقطِفَ مِنها ثِمارَها ، فالنبيُ عليه الصلاة والسلام يقول اللهُ عزّ وجل يُخاطِبُهُ :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 الذي معهُ كتابٌ ومعجزةٌ وتأييدٌ وعِصمةٌ مكلّفٌ أن يكونَ ليّناً ، فكيفَ بالذي لا يملِكُ كتاباً ولا حُجّةً ولا معجزةً ولا عِصمةً إذا كانَ فظاً ، كانَ مُنفّراً ، بل كانت رِسالتُهُ ليست ناجحةً وكانَ عملُهُ مناقضاً لرِسالتِهِ ؟!!

لن يستطيعَ الداعيةُ أن يُقنِعَ أحداً في الأرض إلا إذا كانَ مُطبّقاً لِما يقول :

 الذي أراهُ أيضاً في هذا الموضوع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كانَ قدوةً لَنا في الدعوة ، وصَبَرَ على من بالَغَ في إيذائه حينما قالَ عليه الصلاة والسلام : "اللهم اِهد قومي فإنهم لا يعلمون" .
 لم يتخلَّ عنهم ودعا لهم واعتذر لَهم ، النبيُّ عليهِ الصلاة والسلام سِرُّ تفوقِهِ في دعوتهِ إلى الله أنَهُ ما أمرَ الناسَ بشيء إلا كانَ أولَ آخذٍ بِهِ ، وما نهاهم عن شيء إلا كانَ أولَ تاركٍ لَه ، كانَ مع أصحابِهِ رضيَ اللهُ عنهم في سفر وأرادوا أن يُعالِجوا شاةً ، فقالَ أحدُهم : عليَّ ذبحُها ، وقالَ الثاني : عليَّ سلخُها ، وقالَ الثالث : عليَّ طبخُها ، فقالَ عليهِ الصلاة والسلام : وعليَّ جمعُ الحطب ، فلما قيل لَهُ : نكفيكَ ذلِكَ يا رسولَ الله ، قالَ : أعلم أنكم تكفونني ولكنَ الله يكرهُ أن يرى عبدَهُ متميّزاً على أقرانِهِ .

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : فَقَالا : نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ ، فَقَالَ : مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي وَلا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا ))

.

[أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُود]

 فكانَ عليهِ الصلاة والسلام قدوةً لأصحابِهِ ، ولن يستطيعَ الداعيةُ أن يُقنِعَ أحداً في الأرض إلا إذا كانَ مُطبّقاً لِما يقول ، نحنُ يُمكن أن نستفيدَ من طبيبٍ من علِمِهِ فقط ولا يعنينا سلوكُهُ ، أكثر العلوم الكونيّة يُمكن أن تستفيدَ من أصحابِها دونَ أن تلتفِتَ إلى سلوكِهم إلا عالِمَ الدين ، إلا الداعيّة ، لا يُمكن أن يُقنِعكَ إن لم يكُن مُطبّقاً لِما يقول .

الدعوةُ إلى الله قوامُها التطبيق :

 حينما لا يُطبّقُ الداعية ما يقول لكَ يخطر على بالك سؤالانِ كبيرانِ وخطيران، الأول : إن لم تستطع أن تُطبّقَ ما تقول فدعوتُكَ ليست واقعيّة فتكلّم بالواقع ، وإن كُنتَ مُقصّراً فلستَ أهلاً أن تدعوَ إلى الله عزّ وجل ، إذاً الدعوةُ إلى الله قوامُها التطبيق ، وهذهِ النصيحةُ الوحيدةُ اليتيمة : إن أردتَ أن تدعوَ إلى الله فاحذر أن يراكَ المدعو في حالةٍ بِخلافِ ما تدعوه ، عندئذٍ تفقِدُ الكلمةُ مصداقيتَها ، الإمامُ عليٌّ كرّمَ اللهُ وجهه يقول :
 " قِوام الدين والدنيا أربعة رِجال : عالِمٌ مستعملٌ عِلمَهُ ، وجاهلٌ لا يستنكفُ أن يتعلّم، وغنيٌّ لا يبخلُ بِمالِهِ ، وفقيرٌ لا يبيعُ آخِرتَهُ بدُنياه ، فإذا ضيّعَ العالِمُ عِلمَهُ استنكف الجاهِلُ أن يتعلّم ، وإذا بَخِلَ الغنيُ بِمالِهِ باعَ الفقيرُ آخِرتَهُ بِدُنيا غيرَه ".
المذيع :
 الحقيقة لو أردنا أن نستعرض فحياة رسول الله صلى اللهُ عليه وسلّم كُلُّها دعوةٌ إلى الله ، والأسلوبُ الأمثل الذي تمثّلَهُ الحبيب المُصطفى صلى الله عليه وسلم تقرأهُ من خِلال المواقف ، وإن سمحَ لي لعلّي أذكر للتذكير عِندما كانَ صلوات الله وسلامُهُ عليه مُسنداً ظهرَهُ إلى الكعبة الشريفة والأصنام كانت حولَها وفوقَها وداخِلَها حتى بَلَغَ عددُها ثلاثمائة وستين صنماً ومع ذلك فيأتيهِ أحدُ أصحابِهِ الكِرام وأظُنُهُ خباب ابنُ الأرت كما جاءَ في الصِحاح ، وقد ضاقت بِهِ الحياة عِندَ اشتداد الأذى ، فَعِندَ ذلك قالَ : يا رسولَ الله ألا تسأل ، سَل لَنا ، ألا تدعو اللهَ لَنا، ويعلمُ أنَهُ لو دعا الرسولَ رَبَّهُ لكانَ الدُعاءُ محلَ الاستجابة من اللهِ سُبحانَه ، ومع ذلك انظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تتعجّلَ الأمةُ جناهَا ومازالَ هذا الجنى فجّاً ولم يُصبح غضّاً طريّاً ، عندَ ذلك قالَ لَهُ : إنَّ الرجُلَ ممن كانَ قبلَكُم يوضَعُ في جِذعِ شجرة ويوضع المِنشارُ في مفرِقِ رأسِهِ فيُفلق فلقتين ويُمشط بأمشاط الحديد ما دونَ لحمِهِ وعظمِهِ لا يصرِفَهُ عن دينِهِ صارف ، ولكنكم تستعجلون ، واللهِ لَيُتِمنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يصيرَ الراكب من صنعاءَ إلى حَضرَموت لا يخشى إلا الله والذِئب على غنمِه .
 أو كما قالَ النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا أسلوب في التعليم لذلك كما تعلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من استعجلَ الشيء قبلَ أوانِه عوقِبَ بِحرمانِه ".
 قاعدةَ أُصوليّة من الحديث الشريف ، فإذاً الرسول علّمنا الصبر وعلّمنا الاحتمال ، وألا نستعجِلَ الأمورَ قبلَ أوانِها وعِندَ ذلك كانَ ما كانَ لِرسول الله ، ومشى عِندَ ذلِكَ الراكب بينَ صنعاءَ وحَضرَمَوت ، لا أقول بينَ صنعاءَ وحَضرَمَوت فقط إنما في كُلِّ أرجاء الدُنيا يسير لا يخشى إلا اللهَ سبحانَهُ وتعالى ، فما أعظمَ النبي صلى اللهُ عليه وسلم الذي ربّاهُ سبحانَهُ وتعالى تِلكَ التربيّة الربانيّة ، فضيلة الشيخ محمد طبعاً الداعية ليسَ كُلُ إنسانٍ كما قُلنا قبلَ قليل مؤهلاً أن يكونَ داعيةً إلى اللهِ سبحانه وتعالى ، فقط يحمل الشهادات الكثيرة العلميّة ولكن ليسَ مؤهلاً أن يكونَ داعيةً إلى الله ، يُمكن أن يتعامَلَ مع القلمِ والقِرطاس ويُقدّمَ نِتاجاً علميّاً طيّباً يضعهُ بينَ أيدي الناس ، لكن يا تُرى هل هوَ مؤهّلٌ أن يكونَ داعيةً إلى الله ؟ هذهِ أمور قد تكون مؤهلة ن مؤهلاتٌ ربانيّة أودعها الله ويُنميها هذا الإنسان ، ما أهمُ الصِفات الذي ينبغي أن يتحلّى بِها الداعيّة ؟

التدرُج هوَ منهجٌ من مناهِج الله عزّ وجل :

الدكتور راتب :
 شيء رائِعٌ أن نقول إنَّ المعلومات التي يملِكُها الداعيّة هيَ أقلُّ ما في الدعوة ، بل إنَّ من صِفات الداعية القلبَ الكبير الذي يَسَعُ المدعوين ، من صِفات الداعيّة الخُلُقُ العظيم القويم الذي يجذِبُ الناسَ إليه ، من صِفات الداعيّة الحِكمةُ في تصريف الأمور ، أي ليسَ بحكيم من لم يُدارِ من لا بُدَّ من مُداراتِه ، واللهُ سبحانهُ وتعالى علّمنا في تحريم الخمر كيفَ أن التدرُج هوَ منهجٌ من مناهِج الله عزّ وجل ، النبي عليه الصلاة والسلام كانَ رحيماً بمن معهُ فحاطِبُ بنُ بلتعة كما تذكُرون ارتكب خيانةً عُظمى في كُلِّ المفاهيم القديمة والحديثة ، نقلَ خبراً إلى أعداء النبي أنَهُ سيغزوكم فخُذوا حِذرَكُم ، فلمّا استدعاه وجاءَ النبي بالكتاب ، في فتحِ مكّة ، فلمّا جاءَ النبيُّ بالكتاب واستدعى حاطباً وقال : ما هذا يا حاطِب ؟ فقالَ عمر رضيَّ اللهُ عنه : دعني أضرِب عُنُقَ هذا المُنافق ، فقالَ عليهِ الصلاة والسلام : لا يا عُمر إنَهُ شَهِدَ بدراً .
 هذا الوفاء الذي لا يوصف وفاءٌ ما بَعدَهُ وفاء ، إنَهُ شَهِدَ بدراً ، يا حاطِب ما حَمَلَكَ على ما فعلت ؟ قالَ : واللهِ يا رسولَ الله ما كفرتُ ولا ارتددت ولكنني لصيقٌ في قُريش ، أردتُ بِهذا العمل أن أحمي أهلي ومالي ، فاغفر لي ذلِكَ يا رسولَ الله ، فما كانَ من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن قالَ لَهُ : إنيّ صدّقتُهُ فصدّقوه ولا تقولوا فيهِ إلا خيراً ، ويومَ جاءهُ سعدُ بنُ عُبادة قالَ : يا رسولَ الله إنَّ قومي وجدوا عليكَ في أنفسِهم ، قالَ : أينَ أنتَ مِنهُم يا سعد ؟ قالَ: ما أنا إلا من قومي ، قالَ : فاجمع لي قومَك ، فجمعهُم وعَلِمَ أنَهم تأثّروا من توزيع الغنائم ، فكانَ عليهِ الصلاة والسلام في هذا الموقف أقوى رجُلاً في الجزيرة العربية ، دانت لَهُ الجزيرةُ من أقصاها إلى أقصاها ، هذا بعدَ فتحِ مكّة وبعدَ معركةِ حُنين ، كانَ من المُمكنِ أن يُلغي وجودَهم كما يفعلُ البعض ، كانَ من المُمكن أن يهدِرَ كرامتهُم فيقول : مُنافِقون ، كانَ من المُمكن أن يُهمِلَهُم ، كانَ من المُمكنِ أن يُعاتِبَهم لِصالحِهِ ، الذي لا يُصدّق أنَهُ جمَعَهُم وذكّرهُم بفضلِهم عليِهِ قالَ :

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ ، قَالَ : فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إلا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي ، قَالَ : فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ ، قَالَ : فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ ، قَالَ : فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ : قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأنْصَارِ ، قَالَ : فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ، قَالُوا : بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ ، قَالَ : ألا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ؟ قَالُوا : وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ ؟ قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلا فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ . . .))

[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ]

سمو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم :

 مرةً علّقتُ على هذهِ القِصة وقُلت : كانَ اللهُ في عونِ كُتّابِ السيرة ، هذهِ القِصّة أينَ يضعونَها ؟ مع حِلمِهِ أم مع وفائِهِ أم معَ رحمتِهِ أم معَ حُسنِ سياستِهِ ؟

وأجمَلَ مِنكَ لم تر قطُّ عِينـــي  وأكملُ مِنكَ لم تلِد النســـاء
خُلِقتَ مُبرأ من كُلِّ عيــــــــــــــبٍ  كـأنّكَ قد خُلِقتَ كما تشاءُ
***

 حُقَّ لأصحابِهِ أن يهيموا حُبّاً بِهِ ، هذهِ بعضُ مواقف النبي عليهِ الصلاة والسلام في الدعوة ، انتقدوه وهوَ في أعلى درجات القوة ماذا فعل ؟ ذكّرَهم بفضلِهم عليه ، حاطِبُ بن بلتعة ارتكبَ خيانةً عُظمى فتفهّمَ موقِفَهُ وعفا عنهُ وأنهضَهُ ، وقالَ بعضُ كُتّاب السيرة : " إنَّ عُمر رضيَّ الله عنهُ نَظَرَ إلى الذنب فرآهُ خيانةً عُظمى لكنَّ النبي عليهِ الصلاة والسلام نَظَرَ إلى صاحِبِ الذنب فرأى ذلِكَ وعثةَ راكِبٍ أرادَ أن يُنهِضَهُ مِنها " ، وهذا الذي فعَلَهُ النبي عليه الصلاة والسلام قلبٌ كبير :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم : 4]

 النبيُ عليه الصلاة والسلام كانَ أعلَمَ العُلماء ، وكانَ أفقهَ الفُقهاء ، وكانَ قائِدَ جيشٍ وقائِدَ أُمةٍ ، وكانَ مُتكلّمِاً من الطِراز الأول ، وكانَ قاضيّاً وكانَ مُجتهداً ، وحينما أثنى اللهُ عليه قالَ :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم : 4]

 سِرُّ ذلك أنَّ هذهِ الميزات إذا أودعها اللهُ في الإنسان يرقى بِها عِندَ الناس وعِندَ الخلق أمّا حينما يكبحُ الإنسانُ ميولَهُ ويستقمُ على أمرِ ربِهِ ويُعطي من ذاتِ نفسِهِ لخلقِ الله كُلَّ شيء عندئذٍ يرقى إلى الله عزّ وجل ، من هُنا حينما أرادَ اللهُ أن يمدَحَهُ قالَ " وإنكَ لعلى " ، و(على) تُفيدُ الاستعلاء أيّ مُتمكّن :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم : 4]

المذيع :
 شَكَرَاً لكم ، لكنّ أشرتُم إلى نٌقطةٍ جداً جداً هامّة وهيَ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الداعيّة لَهُ شخصيّةٌ أخرى هي شخصيّة القاضي ، ففي موضِع القضاء شيء وفي موضِع الدعوةِ شيء آخر ، ولعلي أقول هذا مما يَصِلُ ويترامى إلى سمعِنا أنَّ أحياناً بعضَ الدُعاة إن صحَّ التعبير أنَهُم دُعاة يقفونَ على المِنبرِ مثلاً أو يقفونَ بينَ الناس بدلاً من أن يُعلّموا الناسَ أُمورَ دينِهم بالأسلوب النبوي ، وإذا بِكَ تراهُم جعلوا من أنفسهم قُضاة ، فأخذوا بعدَ ذلك حُكم الكُفر والإيمان ، فُلان كافر ، فُلان مؤمن ، أولئك كَفَرَةَ ، أولئك مؤمنون ، حتى في الأمور التي نعتبِرُها أُموراً تحسينيّة ، أو مِنَ السُنن المُستحبّة إذا فرضنا أنَّ إنساناً لم يفعلها قد لا يكون من الإنكار ، لا ، قد يكون من التهاون دعنا نُسميه ، فعِندَ ذلِك حَكَموا عليه وعلى الناسِ أمامَهُم هؤلاءِ كَفَرَةَ ، هؤلاءِ فَسَقَةَ ، يا أخي الدعوة ليست قضاءً لذلك أنتم ونحنُ دعاةٌ ولسنَا قُضاة ، فهذا ما أقولُهُ دائماً : بدلاً من أن تُسفّهَ الناس وقد يكون هُناكَ من الناس من عِندَهُ استعداد وهوَ مستعدٌ أن يستوعب وعِندَهُ استعداد إلى أن يُترجِمَ ما يستمع إليه ، لكِنَهُ قد يكونُ جاهِلاً هذا الإنسان ، فلذلك لم يُعلّمهُ إنسان فعلّمُهُ أنت واتركه أن يحكُمَ على نفسِه فأنتَ داعية ، أمّا أن تقِفَ على المِنبِر تُرغي وُتزبد وتُصِمُّ آذانَ الناس بالكلام وبعدَ ذلِكَ بالتكفيرِ والتسفيه ، ما هذا أسلوب الداعيّة ، ما عَهِدنا هذا لسيدنا رسول الله صلى لله عليه وسلم حتى مع أعدائه الذين كانَ ينفُذُ إلى قلوبِهم ويدخلُ إلى مجتمعاتِهم الوثنيّة ، ما كانَ أن يقولَ لهم إلا أن قولوا لا إله إلا الله ، واستطاع النبيُ صلى الله عليه وسلم أن يُخرِجَ بإذن الله تعالى من هؤلاء القوم من أثنى عليهم ربُنا في مُحكمِ كِتابِه في آياتٍ كثيرة ، مِنها ما جاءَ في سورة الفتحِ وغيرها ، أثنى عليهم ربُنا سبحانَهُ وتعالى ، كيف ؟ هل كانَ الرسول يقول أنتم كَفَرَة ، أنتُم إلى النار ، لا ،بل كانَ صلى اللهُ عليهِ وسلم يدعوهُم إلى اللهِ تعالى حتى إذا أحسّوا فِعلاً ومسَّ الإيمانُ شِغافَ قلوبِهم واستقر فيها عِندَ ذلِكَ أدرَكوا عَظَمَة الدين وهذا الإسلام ، فشَكَرَ اللهُ لكم هذهِ اللفتة الطيبة التي ينبغي أن نقولها خاصّة لِخُطباء الجمعة .

الدعوةُ إلى الله من خصائِصِها الاتّباع :

الدكتور راتب :
 أُريد أن أٌعقّبَ تعقيباً إن شِئتُم ، أعتقدُ اعتقاداً جازِماً أنَّ تقييمَ الأشخاص من شأنِ اللهِ وحدَهُ ، النبيُ عليه الصلاة والسلام كانَ مع أصحابِهِ في بيتِ أبي السائِب الذي توفاهُ اللهُ عزّ وجل ، فسَمِعَ كلمةً من وراءِ الحِجاب ، تقول امرأة : هنيئاً لكَ أبا السائِب لقد أكرمكَ الله ، فقالَ عليه الصلاة والسلام : فما أدراكِ أنَّ اللهَ أكرَمَهُ ؟ قولي : أرجو اللهَ أن يُكرِمَهُ وأنا نبيٌ مُرسل لا أدري ما يُفعلُ بيّ ولا بِكُم .
 إذاً تقييمُ الأشخاصِ من شأنِ اللهِ وحدَهُ ، هُناكَ قاعدة أخرى ألا نُكفَّرَ بالتعيين ، لا نقول : فُلان كافر ، نقول من قالَ كذا فقد كَفَر ، دونَ أن نذكُرَ اسماً إطلاقاً ، من قالَ كذا فقد كَفَر، ولِبعض العُلماءِ جزاهم اللهُ خيراً مقولةٌ رائعة : " ما كُلُ من وقعَ في الكُفرِ وقعَ عليهِ الكُفرُ"، فهذا الأعرابي الذي كانَ في الصحراء على ناقةٍ عليها طعامُهُ وشرابُهُ وشردت عنهُ وأيقنَ بالهلاك فبكى حتى أدركَهُ النُعاس فنام فأفاقَ فرأى الناقة فقال : يا رب أنا ربُكَ وأنتَ عبدي ، اختلَّ توازنُهُ، فهذهِ المقولة هل تجعلُهُ كافراً ، قالَ كلمةَ الكُفرِ ولكن ما كُلُ من وقعَ في الكُفرِ وقعَ عليهِ الكُفرُ ، إلا أنني أشعرُ أنَّ هُناكَ دعوةً إلى الله خالصة وهُناكَ دعوةً إلى الذات ، الدعوةُ إلى الله من خصائِصِها الاتّباع ، والدعوةُ إلى الله من خصائِصِها التعاون مع الدُعاة الآخرين ، والدعوةُ إلى الله من خصائِصِها الاعتراف بفضل الآخرين أمّا الدعوةُ إلى الذات من خصائِصِها الابتداع، يجبُ أن تأتيَ بجديد لتقول أنا واحد وليسَ معي أحدٌ غيري ، ومن خصائِصِها المُنافسة لا التعاون ، ومن خصائِصِها إنكارُ فضل الآخرين ، لذلك فيما أنا أعتقد اعتقاداً جازماً أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ بمُفردِهِ بينما أُمتهُ معصومةٌ بمجموعِها ، فكُلُ مُسلمٍ تفوّقَ في جانب وغابَ عنهُ جانب ، فالدُعاة إلى الله مجتمعين متكاملون ، والدُعاةُ إلى الله مجتمعون معصومون، وهذا يقودُنا إلى ما يُسمّى بالإجماع السكوتيّ ، أنتَ حينما تُلقي كلمة أو تُلقي خُطبة أو تُؤلّف كتاباً ولا أحد يعترض هذا إجماعٌ سكوتيّ من قِبَلِ مجموع المسلمين ، وقد نفى النبي عليه الصلاة والسلام أن تجتمعَ أُمتُهُ على ضلالة ، فالدعوةُ إلى الله من خصائِصِها الاتّباع وقد قيل هُناك ثلاثُ نصائح تُكتبُ على ظُفر : اتّبع لا تتبع ، اتضع لا ترتفع ، الورع لا يتّسع .
المذيع :
 شَكَرَ اللهُ لكم على هذا العطاء الطيّب ، ولعلنا لو سمحَ لي الأستاذ الكريم محمد راتب بعدما استعرضنا هذهِ النُقاط وهيَ شجرات ، الحقيقة لا نستطيع أن نستوعب لكن إن دلّت تدُلُنا على عظمةِ هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذهِ التربية التي تفرّدَ بِها في هذهِ المدرسة النبويّة التي لم تشهدُ البشريّةُ مثلَها ولن تشهد ، فمُحمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم الداعية ربُنا هوَ الذي هيأهُ لم تُهيئهُ مدرسة ، ولا معهد ، ولا جامعة ، وأصحابُهُ رِضوان اللهِ عليه الذين عاشوا في هذهِ المدرسة النبويّة الربانية كانوا أوعيةً أقول ربانية لأنها أوعيةٌ فِعلاً تلقّت عن الله سبحانَهُ وتعالى فاستوعبت ثُمَّ ترجمت لا لنفسِها فحسب إنما كذلكَ ترجمت للعالِمِ أجمع ، فيعجبُ العالم عِندما يرى هذهِ الأمة في تِلكَ الحقبة الزمنية القصيرة من عُمُرِ الزمان وإذا بالإسلامِ ينتشر شرقاً وغرباً وفي كُلِّ معظمِ أصقاع الدُنيا ، كيفَ يا تُرى ؟ لم يكُن هُناك وسائل كالوسائل التي نعيشُها، لم يكُن لديهم من أدوات الطِباعة وغيرِها الذي نشهدهُ اليوم ، لم يكُن لديهم ما لدينا الآن من كُلِّ الأمور المُيّسرة للوصولِ إلى الناس كهذا الجهاز الذي نتعامل معه ، ومع ذلك وإذا بِنا نستمع ونقرأ على صفحات التاريخ كيفَ استطاعوا أن ينشروا الإسلام في شرقي آسيا ، في معظم أصقاع الدُنيا إلى شمالِ أوروبا وغيرها ، إن دلَّ هذا في الواقع على شيء فهو يدل علىَ الصدقُ والإخلاص مع الله تعالى ، حيثُ تعلّمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب الدعوة الأمثل ، فلعلنّا نحن وقد طرحنا في صفات الداعيّة ما هيَ الأساليب ، هُناك وسائل وهُناك أساليب ، ما الأساليب التي ينبغي أن يتعّرفَ إليها الداعيّة ثُمَّ يسلُكُها في دعوته ؟

من أساليب الصحابة الكِرام أنهم كانوا قدوةً لمن حولَهم :

الدكتور راتب :
 تقصدون القنوات التي يُمكن أن تجريَ الدعوة من خِلالِها .
المذيع :
 يوجد أسلوب ويوجد وسيلة كما تعلمون ، الوسيلة تِلكَ الأجهزة التي نتعامل معها وتعددت ، كانَ المِنبَر على عهد رسول الله ، هذهِ وسائِل ، لكنّ الأساليب ، هُناك أسلوب قد يكون فيه القهر والعُنف ، وقد يكون هُناك أسلوب هوَ الأسلوب النبوي صلى الله عليه وسلم ، نحنُ ذكرنا في أثناءِ حديثِنا عدداً من أساليب الرسول في الدعوة مع كُلِّ موقفٍ يتخذُ أسلوباً ، يأتي الأعرابيّ من الصحراء فيُعلّمُهُ الإسلام بأسلوب يتميّزُ عن غيرَه ، الأعرابي الذي بالَ في المسجد هاجَ وماجَ الصحابة فإذا برسول الله بالأسلوب الأمثل دعاهُ إلى الله تعالى وعلّمَ أصحابَه، أيضاً المرأة التي تأتي إلى رسول الله تعالى تشتكي ظُلمَ زوجِها لَها وقهرَهُ لَها ، النبي يتعاملَ معها بأسلوب آخر .
 إذاً الداعية ينبغي أن يكون على درايةٍ بالأسلوب حتى يعطي لِكُلِّ إنسانٍ وفي كُلِّ موقفٍ الأسلوب الذي يتعامل بهِ مع الناس ، فحبذا لو ألقينا الضوء وقد ذكرنا هذا نحن في أثناء حديثنا .
الدكتور راتب :
 الصحابة الكِرام كما تفضلّتم قبلَ قليل تفهمّوا دعوة النبي عليه الصلاة والسلام وتمثّلوها ، وكانَ من أساليبهم أنهم كانوا قدوةً لمن حولَهم ، فسيدنا عُمر رضيَ الله عن عُمر كانَ إذا أرادَ إنفاذَ أمرٍ جمعَ أهلَهُ وخاصّتَهُ وقالَ : إني قد أمرتُ الناسَ بكذا ونهيتُهم عن كذا والناسُ كالطير إن رأوكم وقعتُم وقَعوا ، وأيمُ الله لا أُوتيّنَ واحدٌ وقعَ فيما نهيتُ الناسَ عنه إلا ضاعفتُ لَهُ العقوبة لمكانِهِ منّي ، فصارت القرابةُ من عُمر مصيبة ، سيدُنا عُمر أرادَ أن يُضحّي بإنسان كبير أفضلَ من أن يُضحّي بمبدأ ، جاءَهُ ملك جَبَلَة بن الأيهم ، وأعلَنَ إسلامَهُ ، وهذا يُعدُّ كسباً كبيراً ، فكانَ هذا الملك يطوفُ حولَ الكعبة ، داسَ بدويٌّ من فزارةَ طَرَفَ رِدائهِ ، فما كانَ من جَبَلَةَ إلا أن التفت إليه ولَطَمَهُ لطمةً هشّمت أنفَهُ ، شكاهُ هذا الفزاريُّ إلى سيدنا عُمر ، أحد الشُعراء المُعاصرين نَظَمَ هذا اللِقاء بقصيدةٍ شعريّة :
 قالَ سيدُنا عُمر يُخاطِبُ جَبَلَةَ أرضِ الفتى لابُدَّ من إرضائِهِ ، مازالَ ظِفرُكَ عالِقاً بِدِمائِهِ ، أو يُهشمنَّ الآن أنفُك وتنالَ ما فعلتهُ كفُك ، قالَ : كيفَ ذاكَ يا أمير هوَ سوقةٌ وأنا عرشٌ وتاج ؟ كيفَ ترضى أن يَخِرَّ النجمُ أرضاً ، قالَ : نزوات الجاهليّة ورياحُ العُنجهيّة قد دفناها أقمنا فوقَها صرحاً جديداً ، وتساوى الناسُ أحراراً لدينا وعبيداً ، فقالَ جَبَلَةَ : كانَ وهماً ما جرى في خَلَدَي أنني عِندَكَ أقوى وأعزّ أنا مرتدٌّ إذا أكرهتني ، فقالَ عُمر : عُنُقُ المُرتد بالسيفِ تُحزّ ، عالمٌ مبني كُلُ صدعٍ فيه بِشبا السيفِ يُداوى وأعزُّ الناسِ بالعبدِ بالصعلوكِ تساوى .

انطلاق الإسلام إلى أرجاءِ الأرض بالمبادئ و المصداقية و التطبيق :

 بهذهِ المبادئ وهذهِ المصداقيّة وهذا التطبيق الحازِم انطلق الإسلام من مكةَ المُكرّمة إلى أرجاءِ الأرض ، فلو أنَّ الصحابةَ الكِرام فَهِموا الإسلام كما نحنُ نفهَمُهُ اليوم ، جلوس وعدم تطبيق دونَ أن يكون في جوهرِهِ واللهِ ما خرجَ الإسلام من مكةَ المُكرّمة .
 سيدنا عُمر جمعَ أحد وُلاتهِ وسألَهُ : ماذا تفعل إن جاءكَ الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ قال : أقطع يدهُ ، قال : إذاً فإن جاءني من رعيّتِكَ من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك ، يا هذا إنَّ الله قد استخلفنا عن خلقِهِ لِنَسُدّ جوعَتَهُم ، ونستُرَ عورتَهُم ، ونوّفِرّ لهم حِرفتَهُم ، فإن وفيناهُم ذلك تقاضيناهُم شُكرَها ، إنَّ هذهِ الأيدي خُلِقت لِتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعةِ عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعةِ قبلَ أن تشغلها بالمعصية ، ويومَ رأى إبلاً ثمينة قال : لِمن هذهِ الإبل ؟ قالوا : هيَ لابنكَ عبد الله ، قالَ : ائتوني به ، فلما جاؤوا بهِ قالَ : ما هذهِ الإبل ؟ قالَ : هيَ لي اشتريتُها بمالي وبعثتُ بِها إلى المرعى لتسمن ، فماذا فعلت ؟!! ما فعلَ شيئاً ، قالَ : ويقول الناسُ اسقوا هذهِ الإبل فهيَ لابن أمير المؤمنين ، ارعوا هذهِ الإبل فهيَ لابن أمير المؤمنين ، وهكذا تسمنُ إبِلُكَ يا ابن أمير المؤمنين ، أعلِمتَ لماذا هيَ سمينة ؟ بِع الإبل وخُذ رأسَ مالِك ورُدَّ الباقي لبيت مال المسلمين .
 حينما ربّى النبي أصحابَهُ بأسلوب التطبيق العملي ، بأسلوب الأخذ الحازم بتعاليم الدين ، عندئذٍ قطفَ الصحابةُ ثِمارَ هذا الدين ، لأنَهُ حينما يهونُ أمرُ الله علينا نهونُ على الله ، ربُنا عزّ وجل يقول :

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[سورة النور: 55]

 أمّا الردُّ الثاني :

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾

[سورة مريم: 59]

معظم الناس يستطيعون الحديث عن المُثل العُليا ولكن قِلّة قليلة يعيشونِها :

 لو أردتُ أن أُوجز كلامي ما أجد من وسيلةٍ أو أسلوب كما تفضلّتُم ناجحٍ في أن تفعلَ ما تقول ، إنَّ معظم الناس يستطيعون الحديث عن المُثل العُليا ولكنَّ قِلّةً قليلة يعيشونِها ، ومن هُنا كانت حياة الأنبياء إعجازاً ، وكانَ عملُهم عظيماً ، يوجد آلاف الكُتّاب الذين ملؤوا المجلدات بالفضائل والحِكم ، نحنُ لسنا بحاجة إلى أكثر من مجتمع مسلم ، نحنُ بحاجة إلى مسلم يتحرّك ، قالوا : الكون قرآنٌ صامت ، والقرآنُ كونٌ ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي ، يتحرّك ، فنحنُ ينقصُنا التطبيق ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال :

(( لن تغلب أمتي من اثني عشر ألفاً من قلة ))

[الجامع الصغير]

 المسلمون اليوم يتجاوزون الألف مليون والمئتين ، مليار ومئتا مليون مسلم ، وقد لا نجد ما يدعو أن تكون كلمتهُم هيَ العُليا .
المذيع :
 سيّدي ونحنُ نتكلَم عن موضوع الأساليب ، لو أردنا أن نستعرض لوجدنا أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي آتاهُ اللهُ تعالى الحِكمة ، فالأساليب في الدعوة إلى الله كثيرةٌ وكثيرة ، لِذا عندما نقرأ السيرة النبوية ، وأقول مع الأسف الشديد ، قد نقرأُ هذهِ السيرة النبوية ولا نستطيع ترجمة هذهِ السيرة النبوية في حياتِنا اليوميّة وخاصّة في سبيل الدعوة ، أقول على سبيل المِثال : عندما كانَ المسلمون في شِدّة ، بلغت القلوب الحناجر وظنَّ بعضُهم بالله الظنون ، وابتلي المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديداً كما جاءَ في غزوة الأحزاب وفي سورة الأحزاب ، عندَ ذلك يأتي في هذهِ الآونة وفي هذهِ الشّدة رجلٌ ما كانَ يظن أن يأتي في هذا الوقت ، كما تعلمون دائماً من طبيعة الإنسان أن ينظر إلى الطرف الغالب للمغلوب ، الناس أصبحَ في ظنِهم أنهم قد غُلِبوا من قِبِل الأعداء عِندما تكاثروا وتضافروا جميعاً مع شذّاذ الآفاق من اليهود ، عِندَ ذلك يأتي هذا الرجل نعيم بن مسعود الأشجعيّ ، فنعيم عِندما جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقرؤها البعضُ النُّعَيم وأظُنُ أنها الأصح بفتح العين ، على كُلِّ حال الأسماء توقيفيّة كما تعلمون ، عندئذٍ أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم متسللاً ثم قال له : يا رسول الله إني قد دخلتُ الإسلامَ ولا أحدَ يعلمُ بإسلامي ، الرسول صلى الله عليه وسلم ما قالَ لَهُ : من أنت ؟ أو استصغر شأن هذا الرجل ، إنما جنّدَه النبي صلى الله عليه وسلَم بأسلوب جديد ، الحربُ خُدعة، خذّل عنّا إن استطعت ، وهكذا جاءَ بأسلوب جديد في مجال الحرب ، في مجال ميدان المعركة، وهكذا إذا أردنا أن نستعرض وقد ذكرنا منذُ قليل كما تفضلتُم كيفَ كانَ صلى الله عليه وسلم يأتيه الرجلُ البسيط الذي لا يعرِفُ من الإسلامِ شيئاً : يا مُحمد دخلتُ في الإسلام قُل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنهُ أحداً بعدَك ، أنا لا أُريد أن أسألَ لا فقيهاً ، ولا من يُعقّدَ عليَّ الإسلام ، ولا يقول الإسلام تَبِعات كبيرة وخطيرة ، أنا أُريد الإسلام بهذا اليُسر ، ماذا قالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم ؟ عبارتان مختصرتان حولَ قوة البلاغة النبوية ، قالَ : قُل آمنتُ بالله ثُم استقم ، إيمان واستقامة .
 شاهدنا أخي الكريم وأقولُ هذا لِكُل الدعاة في كُلِّ مكان فيما ينبغي أن نتعلّم من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أسلوب وأساليبَ الدعوة حيثُ يُعطونَ للناس ، أنا على سبيل المِثال أكونُ خطيباً في الجامع مثلاً أو في مسجد فأرى الناس في هذا المسجد عدداً كبيراً من المُثقفين ، يُمكن أن أرتقي أنا بالأسلوب ، وأرتقي أيضاً باللغة ، ويُمكن أن أطرح نقاطاً ، يُمكن أن أستنبِطَ نُقاطاً قد لا ألجأُ إليها في مسجدٍ آخر أو جامعٍ آخر لأنني أرى هذا المستوى غير ذلك المستوى ، هذا ينبغي الداعية فيما ينبغي في أن يجعلَ من نفسِهِ داعيّةً يتخذ الأسلوب المناسب ، في نقطة قضية الوسائل ، طبعاً الشيخ محمد كانت الوسائل الموجودة في أيام وعهد رسول الله ومن بعده كذلك أيضاً كانت محدودة ، لعلَّ المِنبر واحداً مِنها ، ولعلَّ المسجدَ كذلك أيضاً في اللقاءات المعهودة المعروفة المتوارثة ، ولعلَّ أيضاً المراسلة كانت إحدى الوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم ، هُناك الأن مستجدّات ، وأفرزت الحضارة أو المدنيّة الحديثة اليوم تقنيات وعِلم ، وهذا التلفاز الذي نتعامل معه واحدٌ من تِلك ، فلو أنّا ألقينا الضوء على وسائل اليوم في الدعوة الحديثة وحُكم الشرع في استخدامِها .

البِدعةُ في الدين مرفوضة أمّا البِدعةُ في اللغة فمستحبّة :

الدكتور راتب :
 حينما نستخدم الوسائل الحديثة نكونُ قد وظفناها في الحق ، وأيُّ شيء متعّنا اللهُ بِهِ وسخّرَهُ اللهُ لَنا هوَ سُلّمٌ نرقى بِهِ أو دركاتٌ نهوي بِها ، فالوسائل حياديّة لا يُمكن أن تأخذ حُكماً شرعياً مستقلاً عن وظيفتِها ، وحضرتكم تعلمون أنَّ البِدعةَ في اللغُة هيَ كُلُ شيء جديد ، البِدعةُ في الدين مرفوضة :

(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ يَقُولُ : مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ، وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ ، ثُمَّ يَقُولُ : بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ . . . . . . ))

[ مسلم والنسائي واللفظ له عن جابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]

 أمّا البِدعةُ في اللغة فمستحبّة ، وهيَ موقوفةٌ على نوع استخدامِها فالآن مثلاً شريط الكاسيت لَهُ أثر كبير جداً ، يعني إذا الإنسان في وقتٍ لا يستطيع أن يفعل فيه شيئاً مثل وقتُ قيادة السيارة يُمكن أن يستمع إلى شريط ويزدادُ عِلماً ، ولا سيّما أنَّ الإنسان يتنقّل لمسافاتٍ طويلة كُلَّ يوم ، هُناك وقتُ الرياضة يُمكن أن تستمع في أثناء الرياضة اليوميّة إلى شريط وتستفيد ، فالشريط لَهُ ميزات كبيرة جداً ، أنَهُ لا يحتاج إلى وقت خاص لمتابعتِهِ ، هناك أوقات من الممكن أن تؤدي بِها عملاً آخر وتستمع إلى الشريط ، والوقت في هذهِ الأيام ضاقَ ، ضاقَ كثيراً ، فالناس يُريدون أكبر النتائج بأقلِّ الوسائل ، فالشريطُ أحد هذهِ الوسائل ، ولعلَّ هذهِ الندوات أيضاً يستمعُ إليها الناس وهم يُشاهِدونَها ولها فائدة كبيرة ، ولعلّها إذا كَثُرت توسعت وقللت من المواد التي لا تنفع الناس ، فكُلُ وسيلةٍ منحنا اللهُ إيّاها أو سَخَرَها لَنا ينبغي أن نوظّفَها في الحق ، والوسيلة حياديّة ليسَ لَها حُكم شرعي منفصل عن نوع استخدامِها ، كيفَ نستخدِمُها يكونُ حُكمُها الشرعي .
المذيع :
 الحقيقة الوسائل كثيرة ، وهُناك طبعاً الشيء المقروء والشيء المذكور والمنظور ، فالمُهم ليسَ العِبرة بالوسيلةِ ونوعِها بالقدرِ ما هوَ النيّة في استخدامِها ، لأنَّ بعض الأخوة كما سمعتُ ونُقلَ إلي بأنَّ أُناساً يقفونَ على المِنبر مثلاً فيُحرّمون جهاز التُلفاز تحريماً قطعيّاً ، أو تحريمَ استخدامِهِ وإدخالِهِ البيت ، فأنا أقول يا أخوتي : ينبغي عليكم أن تُراعوا الظرف ، وينبغي عليكم أن تُوجّهِوا هذا الجهاز باستخدامِهِ فيما يُعرض وب

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور